أفريقيا في عالم متغير: بين التحولات الداخلية والخارجية *

يموج عالم اليوم بتغيرات كبرى على كافة الأصعدة، وتتفرق حوادثه ونتائجها، وفي وسط كافة تلك التغيرات تقع قارة أفريقيا، تأثيرًا وتأثرًا، بين تحولات سياسية واستراتيجية في النظام الدولي ليس آخرها الحرب الروسية الأوكرانية، أو تحولات اقتصادية عالمية تتفاقم منذ ظهرت جائحة كوفيد 19، وتحولات قاريّة داخلية تشهدها دول القارة مختلفة المستويات: اقتصادية وسياسية وأمنية واجتماعية وصحية وثقافية.

وفي إطار سلسلة أحوال العالم التي بدأتها “قضايا ونظرات” منذ مطلع العام 2022، تجدر الإشارة إلى أن  القارة الأفريقية لم تغب بتحولاتها وإشكالياتها عن اهتمامات مركز الحضارة للدراسات والبحوث متابعةً ودراسةً وتحليلًا، فقد تم إفراد العديد من التقارير والدراسات في فصلية “قضايا ونظرات” وفي كتاب “أمتي في العالم” لدراسة أحوال أقاليم القارة ودولها وسياسات الدول الكبرى والعالم الإسلامي تجاهها[1]، وكذا القوى الشرقية الصاعدة[2]، أو دراسة قضايا وأزمات تواجه العديد من دول القارة[3].

لقد كان ملف العدد الأول من “قضايا ونظرات” عن التطورات في أفريقيا وقضاياها في عام 2016، ونعود  اليوم لنركز في ملف هذا العدد في عام 2022 على أهم التطورات التي شهدتها قضايا القارة وأزماتها عبر خمس سنوات مضت؛ سواء أكانت تتعلق بالشئون الداخلية لدول القارة، أو على صعيد علاقاتها مع الخارج والتدخلات الخارجية في قضاياها وأزماتها.

ينظر هذا العدد إلى أفريقيا نظرة كلية؛ نظرة تأخذ في الاعتبار الثقل الإسلامي للقارة، حيث تتراوح نسبة المسلمين في القارة حول نصف عدد سكانها، وتعتمد هذه النظرة على تقديم نماذج مقارنة من دول القارة وقضاياها وعلاقاتها بالخارج، وذلك لتوضيح التطورات والاختلافات في قضايا وأزمات وعلاقات القارة، في عالم تتزايد تغيراته على مستويات كلية وجزئية، على مستوى النظام الدولي وفاعليه، أو التحديات التي تواجه دول العالم سواء صحية أو اقتصادية وسياسية.

فرص وأزمات وقضايا القارة ودولها متعددة ومتنوعة؛ مما يصعب معه إشتمال عدد واحد لكل تلك الإشكاليات والقضايا، وعليه، يركز هذا العدد على أهم القضايا التي تهدد القارة ودولها خاصة القضايا النوعية الحيوية (المياه والغذء) والصحية والبيئية والثقافية، فضلا عن السياسية والاقتصادية والأمنية، والتفاعلات الإقليمية بين دول القارة خاصة عبر المنظمات الإقليمية التي تتعدد اليوم داخل القارة، في تداخل مع السياسات الخارجية للقوى الكبرى وعالم المسلمين تجاه القارة.

⁕⁕⁕⁕⁕

زاوية النظر الأولى لقارة أفريقيا هي القضايا ذات الأولوية للقارة  نفسها ككل؛ ومنها قضايا تتعلق بالأمن الإنساني كالصحة والغذاء، وقضايا تتعلق بالأمن الاقتصادي كالنفط وقضايا المياه التي تخص بعض الأقاليم مثل قضية سد النهضة.

وتعد أزمة الغذاء إحدى تبعات الأزمة الاقتصادية العالمية الممتدة من ثلاثة عقود، ثم الآن من تبعات الحرب الروسية الأوكرانية وتداعياتها على مستوى العالم، إلا أن أزمة الغذاء تأخذ منحى أخطر من ذلك  في القارة الأفريقية؛ نتيجة موجات الجفاف التي أصابت بعض أقاليم القارة: مثل القرن الأفريقي هذا العام مما يضع دوله أمام شبح المجاعة خاصة مع تزايد الصراعات في المنطقة، وكذلك إقليم غرب أفريقيا حيث لا يختلف الوضع؛ فالجفاف واضطراب حصص المياه أثرا على قدرة  الدول -مثل مالي والنيجر- على إنتاج الغذاء مما يضع ملايين الأشخاص في غرب أفريقيا في خطر المجاعة.

أما الأزمات الصحة التي تواجه أفريقيا فدائما ما تأتي في الخلف أو الأدنى من الاهتمامات العالمية الحقيقية، فعلى سبيل المثال: لم يظهر مرضُ جدري القرود على سطح الاهتمامات العالمية إلا عندما انتقلت مناطق انتشاره خارج القارة؛ إلى أوروبا والولايات المتحدة الأمريكية، وما وضع وباء كوفيد 19 من ذلك ببعيد؛ حيث رفضت الدول المتقدمة توزيع لقاحات كورونا خارج حدودها إلا بعد الاكتفاء الذاتي ليجري توزيع الفائض من تلك اللقاحات أو الذي أوشكت صلاحيته على الانتهاء مما وضع دول القارة في مأزق حقيقي، في غياب مفهوم واضح لـ”العالمية” ينطبق على قضية “الصحة العالمية”.

ويعد النفط الأفريقي إحدى أهم القضايا الاقتصادية التي تهم القارة؛ إذ يظهر تنافس حالي بين الدول الأوروبية والصين على النفط الأفريقي، خاصة مع أزمة الروسية الأوكرانية والبحث عن بدائل للنفط الروسي، فما الذي يحمله صعود الاهتمام بالنفط الأفريقي على الساحة بالنسبة للأفارقة أنفسهم، وهو الذي لم يحمل تنمية إلى القارة بقدر الصراعات المسلحة والفساد؟

وتعاني القارة من أزمة مياه ممتدة في مختلف الدول، خاصة مع تكرار موجات الجفاف التي تصيب مناطقها، والصراعات على أحواض الأنهار، مما يزيد من حالة الصراع على المياه، ولعل أبرز الصراعات الحالية هو الصراع على نهر النيل؛ حيث أخذ سد النهضة حيزًا كبيرًا من النقاشات والجدالات بين دول الحوض خاصة مصر والسودان وإثيوبيا، وربما هدأ الحديث عن السد نسبيا بعد تصاعد الصراع في الداخل الأثيوبي، إلا أن القضية في حد ذاتها بعيدة عن الوصول إلى حلول مرضية لجميع الأطراف.

⁕⁕⁕⁕⁕

القضية الأخرى ذات الأهمية بالنسبة للنظر لأفريقيا وتقع بين الداخل والخارج تتعلق بالمنظمات الإقليمية ودورها في القارة؛ وعلى رأسها الاتحاد الأفريقي الذي يواجه العديد من التحديات لتفعيل دوره ومعالجة العديد من الأزمات والقضايا داخل القارة؛ ويمكن قياس مدى نجاح الاتحاد في تحقيق أهدافه من خلال مقارنة دوره في غئتين من القضايا الأساسية لدول القارة؛ وهما: الأولى- القضايا الأمنية والعسكرية وخاصة التدخلات العسكرية الخارجية وتعامل الاتحاد الأفريقي معها، الثانية- تعامل الاتحاد الإفريقي مع الثورات والانقلابات العسكرية والتوجه نحو الديمقراطية في القارة.

وفي هذا الإطار تضم القارة عددًا من المنظمات الإقليمية ذات الاهتمام الاقتصادي بالأساس، وقد زاد عددها في العقود الماضية على وجه الخصوص؛ مثل: الكوميسا، والإيكواس، والساداك، وعلى مدار العقود نتج عنها العديد من الاتفاقات والمعاهدات الاقتصادية؛ الأمر الذي يطرح التساؤل عن نتائج وجودها وجهودها على اقتصادات الدول الأعضاء في تلك المنظمات، خاصة مع تفاقم وتوالي الأزمات الاقتصادية العالمية.

⁕⁕⁕⁕⁕

إن التدخلات والسياسات الخارجية للدول الكبرى تجاه القارة وأقاليمها ودولها واحدة من أهم الإشكاليات المستديمة التي تواجه العديد من الدول الأفريقية؛ حيث يبرز ويتسع تنافسٌ شديدٌ بين القوى الكبرى القديمة كالولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد الأوروبي وتلك الصاعدة مثل روسيا والصين، على النفوذ في القارة والنفاذ إلى مقدراتها الاقتصادية، وتكشف المقارنةُ بين تلك القوى وسياساتها عن اختلاف الأهداف والأدوات والمناطق والدول ذات الاهتمام، وعن وضعية القارة المكلومة بين الوحوش المفترسة في الغابة العالمية.

فمع بداية العام الحالي على سبيل المثال، بدأت رئاسة فرنسا للاتحاد الأوروبي، وقد وضعت القيادة الفرنسية أمامها ابتداءً الكثير من الملفات منها السياسات الأوروبية تجاه أفريقيا، وكانت تلك السياسات قد بدت في حالة من التخبط خاصة بعد ظهور منافسين آخرين للدخول في علاقات مباشرة مع أفريقيا مثل الصين وروسيا وإيران وتركيا، وتجمدت بعض تلك السياسات مع جائحة كوفيد 19. أما على صعيد السياسات الأمريكية تجاه أفريقيا فقد شهدت تراجعًا خلال إدارة ترامب، ثم انخرطت إدارة بايدن في مواجهة جائحة كورونا وتداعياتها الداخلية، مما استدعى تركيزًا على القضايا الداخلية الأمريكية، غير أن هذا التراجع لا يعني بالضرورة أن الولايات المتحدة تخلت عن دورها في القارة؛ فما الجديد في السياسة الأمريكية تجاه القارة؟

ومن الشرق وكما تقدمت الإشارة، تتنافس كل من روسيا والصين في تقديم بدائل لأفريقيا عن الغرب المتراجع بقواه وبرؤيته الاستعمارية لقضايا القارة؛ بدائل تحمل أجندتها الخاصة ومصالحها وأهدافها، وتتعامل بقواها الناعمة أحيانًا وبالتسرب الاقتصادي تارة أخرى، والمحصلة استمرار وقوع أفريقيا في قلب التنافس متعدد ومتسع الجهات، باعتبارها منطقة صراع حول النفوذ والموارد والاستثمارات.

أما على صعيد المنطقة العربية، فلدول شمال أفريقيا العربية اهتمام خاص بشأن أفريقيا جنوب الصحراء؛ فهي الجوار والمجال الحيوي الجنوبي بما يحمله ذلك من مصالح وتهديدات وتحديات، وقد تراجع التوجه العربي نحو القارة الأفريقية على مدار العقود الماضية، وعلى العكس من ذلك تصاعد التوجه الإسرائيلي للقارة الأفريقية وانتقل من تحركات وسياسات غير معلنة إلى علاقات وسياسات معلنة، حتى وصل الأمر إلى طلب إسرائيل الانضمام بصفة مراقب إلى الاتحاد الإفريقي وتم تعليق ذلك الطلب في قمة الاتحاد الأخيرة في فبراير 2022.

وعلى صعيد ثالث، نجد أن جوار المنطقة العربية المتمثل في كل من إيران وتركيا له توجهه ومصالحه العديدة في القارة الأفريقية، وتقوم سياسة الدولتين على تعزيز نفوذهما داخل القارة بأدوات متعددة منها الجانب الديني.

 

__________________

*مراجعة: مدحت ماهر

[1] انظر التقارير التالية:

– شيماء بهاء، السياسات التركية والإيرانية في أفريقيا، ؟، قضايا ونظرات، العدد الأول، مارس 2016، متاح عبر الرابط التالي: https://cutt.us/eoRff

– د. محمد عاشور، ثمار شد الأطراف: سياسة إسرائيل تجاه أفريقيا، قضايا ونظرات، العدد الثامن، يناير 2018، متاح عبر الرابط التالي: https://cutt.us/9vv2s

– د. عبير إبراهيم يونس، د. مادي إبراهيم كانتي، السياسات الأوروبية في ساحل الصحراء.. ما بين الإرث الاستعماري وأمن الاتحاد الأوروبي (مالي والسودان نموذجًا)، قضايا ونظرات، العدد الخامس والعشرين، أبريل 2022، متاح عبر الرابط التالي: https://cutt.us/emkvR

[2] مروة يوسف، الصين في أفريقيا: تكالب من نوع جديد، أم شراكة حقيقية؟، قضايا ونظرات، العدد الأول، مارس 2016، متاح عبر الرابط التالي: https://cutt.us/eoRff

[3] انظر التقارير التالية:

– د.محمد عاشور، سد النهضة: تحولات وتحديات، قضايا ونظرات، العدد الأول، مارس 2016، متاح عبر الرابط التالي: https://cutt.us/eoRff

– د.حمدي عبد الرحمن، تحولات ظاهرة اللجوء الدولي في أفريقيا، قضايا ونظرات، العدد الثاني، يونيو 2016، متاح عبر الرابط التالي: https://cutt.us/hwfCm

– ماهيتاب منتصر، الأقليات المسلمة والهوية الدينية أثناء الحرب الأهلية في جمهورية أفريقيا الوسطي، قضايا ونظرات، العدد الرابع، يناير 2017، متاح عبر الرابط التالي: https://cutt.us/1cYcT

– سارة أبو العزم، نيجيريا ومالي: بين الاقتصاد والحرب على الإرهاب، قضايا ونظرات، العدد السابع عشر، أبريل 2020، متاح عبر الرابط التالي: https://cutt.us/YBmlw

– مروة يوسف، الصومال وحالة غياب الدولة وتجدد الصراع، المرجع السابق.

 

فصلية قضايا ونظرات- العدد السابع والعشرون ـ أكتوبر 2022

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى