العالم الثالث في النظام الدولي لما بعد الحرب الباردة: خريطة أنماط الصراعات وأدوات التدخلات الخارجية (1991- 2011)

أولا- العالم الثالث: فاعل في النظام الدولي وموضوع للتفاعلات في ظل القطبية الثنائية(1)

1- وزن العالم الثالث ودوره كفاعل في ظل القطبية الثنائية:
في ظل القطبية الثنائية المحكمة لم يبرز دور مؤثر للعالم الثالث بالنسبة لهيكل النظام الدولي وحالته. ومع ذلك، كانت حركات التحرر الوطني –منذ نهاية الحرب العالمية الثانية- أحد عناصر الحرب الباردة بين القوتين الأعظم وأحد عناصر التوتر داخل الكتلة الغربية أي بين الولايات المتحدة والدول الاستعمارية الكبرى.
ولكن ومنذ مؤتمر باندونج 1955، ومع تزايد حركات الاستقلال، أخذ يتزايد بروز دور العالم الثالث الذي حاولت دوله أن تأخذ طريقًا ثالثًا بين الكتلتين المتصارعتين. ولقد أثر هذا الدور في هيكل النظام حيث تحرك به نحو المرونة، إذ لعب العالم الثالث –إلى جانب عوامل أخرى- دورًا في انتقال النظام الدولي إلى مرحلة القطبية الثنائية المرنة.
وتجسد هذا الدور على صعيد حركة عدم الانحياز التي مرت بتطورات مهمة، فلقد ُرسيت جذور هذه الحركة في منتصف الخمسينيات أي في ظل اشتداد الحرب الباردة، ثم بدأت فعليًا في أوائل الستينيات ومارست دورًا نشطًا طوال العقد ذاته. حيث حاولت التخفيف من حدة انقسام العالم حول القضايا المهمة المتنازع عليها بين القطبين. ولقد نجحت في دور الوسيط في بعض الأزمات كما برز تأثيرها بدرجة أكبر في الأمم المتحدة.
ولكن ومنذ بداية السبعينيات، تراجعت تدريجيًا الأهمية السياسية لحركة عدم الانحياز؛ نظرًا للتطورات الدولية التي أرست حالة الانفراج الدولي ونظرًا للتفاقم في مشكلات دول العالم الثالث الاقتصادية. ولذا؛ أخذت دول العالم الثالث تنشط على الصعيد الاقتصادي وتحول اهتمام حركة عدم الانحياز إلى المطالبة بما يُسمى “النظام الاقتصادي العالمي الجديد”، ومن ثم برز الاهتمام بحوار الشمال –الجنوب، وحوار الجنوب -الجنوب.
هذا، وتجدر الإشارة إلى أن الحركة الجماعية على الصعيدين السياسي والاقتصادي واجهت تحديات عدة مبعثها الاختلافات بين دول العالم الثالث، فضلا عن تأثيرات التدخلات الخارجية، ما أثار التساؤلات عن مدى فاعلية حركة العالم الثالث كفاعل.
2- تطور وضع العالم الثالث كموضوع للتنافس العالمي في ظل القطبية الثنائية:
في حين ظل للقوانين الأعظم مناطق نفوذ مباشرة (أوربا الشرقية والغربية) لا يمكن لإحداهما مناوءة الأخرى عليها دون أن تثير مخاطر ومواجهة مباشرة، فلقد كان العالم الثالث هو ساحة التنافس بينهما بدرجات مختلفة وأدوات متعددة مما أثر على استقرار مناطق العالم الثالث المختلفة: لماذا؟ وكيف؟
أضحى العالم الثالث ساحة للحرب الباردة نظرًا للتطور الكبير في التسلح النووي وتوازن الرعب النووي والردع المتبادل. وهي الأمور التي كانت تحول دون القوتين الأعظم والمخاطرة بحرب مباشرة بينهما قد تتحول إلى حرب نووية تنال مما يسمى “السلام الكبير”.
ولذا؛ أدارت القوتان الحرب بينهما –بصورة غير مباشرة- على أراض العملاء والحلفاء. ولقد ساعدت ظروف وأوضاع هذه الدول –أي دول العالم الثالث- على هذه التدخلات الخارجية وعلى هذا التنافس والصراع من أجل النفوذ. فإلى جانب أزمة الشرعية وأزمة بناء الدول الحديثة، كانت الصراعات الإقليمية والمشاكل الاقتصادية تربة خصبة لتورط القوى الخارجية وتدخلاتها (ما هي؟).
ومع ذلك، فإن هذا التنافس وهذا التورط الخارجي قد مر بعدة مراحل من حيث الأدوات ودرجة الحدة، وذلك في ظل التطور في العلاقة بين القوتين الأعظم من حالة الحرب الباردة إلى الانفراج إلى تصفية الحرب الباردة. ففي البداية، احتدمت المواجهة والتنافس بين القطبين على جذب أكبر عدد من الدول إلى معسكر كل منهما ولاعتناق أيديولوجيته، ومع بداية مناخ الانفراج وانخفاض حدة الحرب الباردة استمرت المنافسة ولكن في إطار من التشاور والاتصال للسيطرة على الأزمات من ناحية مع محاولة الاتفاق من ناحية أخرى –ولو ضمنيًا- حول بعض المناطق حيث لا تتضارب بشدة مصالح القطبين. وأخيرًا، وفي مرحلة تصفية القطبية الثنائية والحرب الباردة، حدث تراجع محسوب للدور السوفيتي في العالم الثالث -وذلك في ظل سياسات جورباتشوف- وهو التراجع الذي أفسح السبيل أمام “انفراد الدور الأمريكي”.
هذا، ولقد كانت الصراعات الإقليمية والمحلية –بدرجاتها المختلفة- من أهم المجالات التي ظهر على صعيدها دور التدخلات الخارجية (سنعرض في البند الثاني خريطة لأنماط الصراعات). وفي المقابل، استطاعت دول العالم الثالث استغلال حالة الحرب الباردة لانتزاع المساعدة العسكرية والاقتصادية أو تعبئة المساندة في الصراعات التي تتورط فيها، إلا أن بداية الانفراج قيد من فرص هذه المناورة وأضحى على دول العالم الثالث أن تدفع ثمنًا مرتفعًا للتأييد والمساندة التي تنتظرها من إحدى القوتين العظمتين، وازدادت القيود في ظل تراجع الدور العالمي للسوفيت في مرحلة تصفية والقطبية الثنائية.
3- العالم الثالث في مرحلة تصفية القطبية الثنائية:
وفي مرحلة تصفية القطبية الثنائية، وفي ظل ما يُسمى “النظام الدولي الجديد”، حدث تحول جذري في وضع ودور العالم الثالث ومن ثم في طبيعة ما يثيره من قضايا ومشكلات دولية. فهل كان الاتجاه نحو مزيد من الفرص والمكاسب للعالم الثالث أم نحو مزيد من القيود والتهميش؟
أ- في مرحلة تصفية القطبية الثنائية أدرك جورباتشوف، على ضوء رؤيته للعلاقة بين الإصلاح الداخلي والتغيير في سياساته الخارجية كيف يجب على الاتحاد السوفيتي أن ينفذ تراجعًا محسوبًا عن التدخل في الصراعات الإقليمية في العالم الثالث وعن مساندة النظم العملية والحليفة فيه، حيث أضحى هذا التدخل وهذه المساندة يستنزفان من الموارد أكثر مما يحققان من مكاسب بالنسبة للاقتصاد السوفيتي المثقل بالأعباء وكذلك بالنسبة للإيديولوجية السوفيتية المتهاوية. ولهذا؛ كانت التنازلات السوفيتية في “العالم الثالث” من أهم مجالات التغيير في السياسة السوفيتية الخارجية في هذه المرحلة.
ومن ناحية أخرى، وفي داخل الولايات المتحدة، ثار جدل حول مدى ما أضحى العالم الثالث يمثله من مكاسب أو تهديدات للمصالح الأمريكية بعد تراجع خطر المنافسة السوفيتية. ففي حين رأى اتجاه أن العالم الثالث لم يعد يمثل مصدرًا لتهديد خطير يقتضي تدخلات مباشرةً، فإن اتجاهًا آخر حذر من أن أوضاع العالم الثالث المتردية مازالت تحمل في طياتها الكثير من التهديد للمصالح الأمريكية مما يفرض استعدادًا للتدخل لتقييد مخاطرها. هذا، ويجدر الانتباه إلى أن مشكلات الاقتصاد الأمريكي وسبل حلها كانت تقع في خلفية الاختلاف بين هذه الاتجاهات حول احتمالات الدور التدخلي الأمريكي العالمي الجديد في مرحلة ما بعد تصفية القطبية الثنائية.
ب- ومع انهيار الاتحاد السوفيتي وانتهاء الحرب الباردة واجه العالم الثالث مرحلة جديدة. هنا، أصبح مصطلح العالم الثالث نفسه يثير أكثر من علامة استفهام حول مصداقيته. ولذا؛ ظهر اتجاه نحو استخدام مصطلح دول “الهامش Periphery”، كما انتشر استخدام مصطلح “الجنوب” في مواجهة الشمال (بعد توحد جناحية الشرقي والغربي عقب انهيار الشيوعية في شرق أوروبا والاتحاد السوفيتي)، كذلك تراوحت الاتجاهات حول وضع العالم الثالث ودوره.
وفي بداية عام 1990، ظهر اتجاه قوي يقول بتهميش العالم الثالث في السياسات الدولية نظرًا لمحورية التطورات التي كانت تجري على الساحة الأوربية. ولكن ومع أزمة الخليج الثانية (احتلال العراق الكويت، ثم حرب تحرير الكويت)، اتضح عدم مصداقية هذه المقولة وتنامت التحذيرات الرسمية وغير الرسمية الغربية –وخاصةً الأمريكية- من مصادر تهديد جديدة تنبع من العالم الثالث وعلى رأسها طموحات بعض القوى الإقليمية للسيطرة على بعض المناطق، مثل العراق.
ولقد حدد الرئيس الأمريكي “بوش الأب” في تصريحاته –حول النظام الدولي الجديد (1990- 1992)- أهداف السياسة الأمريكية وأولوياتها تجاه العالم الثالث ويمكن تلخيصها في المحاور الأربعة التالية: إزالة وتدمير أسلحة الدمار الشامل التي تحوزها بعض دول العالم الثالث وتقييد حصول البعض الآخر على التكنولوجيا المتقدمة في مجال التسليح، حل الصراعات الإقليمية بالطرق السلمية وفي ظل دور الأمم المتحدة، مساندة جهود التنمية الاقتصادية لارتباطها بأوضاع السلام والاستقرار العالمي، نشر قيم الديمقراطية وعملياتها لأنها أساس الحرية والتنمية والاستقرار في العالم.
وبالنظر إلى أوضاع العالم الثالث خلال الأعوام التالية لانهيار الاتحاد السوفيتي، يمكن القول إن انتهاء تنافس القوتين من حوله لم يكن مفتاحًا للاستقرار والسلام والتنمية كما كان يتصور البعض.
فلقد ظهرت أنماط جديدة من الحروب ومظاهر عدم الاستقرار السياسي والتدهور الاقتصادي في أرجاء هذا العالم (كما سنرى في البندين الثاني والثالث). بعبارة أخرى، تأكدت مصداقية الآراء التي قالت بأن النظام الدولي الجديد سيكون له تداعيات سلبية على الدول النامية سواء في علاقاتها بالدول المتقدمة أو في علاقاتها ببعضها البعض. وهذه التداعيات سياسية، واقتصادية وعسكرية: فإن انتقاء الصراع الإيد\يولوجي بين الشرق والغرب ترتب عليه التقليل من الأهمية الاستراتيجية لبعض الدول وبالتالي فقدانها أحد وسائل التأثير التي كان بإمكانها استخدامها في ظل الحرب الباردة، هذا ناهيك عن تزايد احتمالات تصاعد الصراع بين الدول النامية. ومن جهة أخرى، لم يوجد ما يدعو للاعتقاد بأنه سيحدث تغير جوهري لتخطي المشاكل الاقتصادية التي تواجهها الدول النامية بل ستتجه أوضاعها لمزيد من التدهور. ومن جهة ثالثة، ظل التنافس على بيع السلاح للدول النامية قائمًا في عالم ما بعد الحرب الباردة ممثلا مصدر عدم استقرار كبير.
هذا، ولقد واجه “النظام الدولي الجديد” بصفةٍ عامة وفيما يتصل بالعالم الثالث بصفةٍ خاصة انتقادات من منظورات عدة. وبالرغم من تنوع مبررات هذه الانتتقادات، فإنها تشترك في سمة عامة وهي التشكك والتخوف من “عالم أحادي القطبية” تواجه فيه الدول الضعيفة هيمنة الأقوى وتزداد فيه الدول الفقيرة فقرًا بحيث ينقسم العالم ليس بين شرق وغرب ولكن بين شمال غني ومستقر وجنوب فقير ومضطرب. وبالفعل، فلقد كانت قضايا المعونة والديون والحمائية التجارية وعوائق التحول الديمقراطي ومشكلاته ومصداقية الأمن الجماعي الذي جسده الدور الجديد للأمم المتحدة، كانت جميع هذه القضايا موضع تقييم من جانب دول العالم الثالث، حكامًا وشعوبًا، وعلى نحوٍ يبين كيف أن العالم الثالث –وعلى عكس الغرب- لم يكسب ولو قليلا– من انتهاء الحرب الباردة. ولكنه ظل يحمل في طياته كثيرًا من احتمالات عدم الاستقرار الدولي والتي تمثل قنابل موقوتة بدأت تنفجر في أماكن عدة ولا يمكن حجب آثارها طويلا عن الغرب. ومن أبرز هذه القنابل تلك المتصلة بالصراعات المسلحة العنيفة ذات الأبعاد العرقية –الدينية، وكذلك تلك المتعلقة بالفقر والتخلف في ظل عواقب العولمة الاقتصادية وتنامي قوة الرأسمالية العالمية. ولقد تبلورت أدوات الغرب وآلياته في مواجهة هذه القنابل، وتمثلت هذه الآليات في مفهوم التدخلات الخارجية تحت ستار الشرعية الدولية، أو في مفهوم تقنين الحركة الدولية في مجالات مهمة اقتصادية واجتماعية وفقًا لما يتماشى مع رؤية الغرب لهذه المجالات ومصالحه فيها؛ ولذا ظهر ما سُمي اتفاقات تقنين العولمة (تحرير التجارة الدولية، حقوق الإنسان…).

ثانيًا- الأمة العربية والإسلامية: التحديات الجديدة في عالم ما بعد الحرب الباردة

خريطة الصراعات وأنماط التدخلات الخارجية:(2)
تقع الأمة العربية والإسلامية دائمًا في قلب التفاعلات العالمية سواء في مرحلة قوتها ووحدتها وصعودها أو في مرحلة جمودها وتخلفها وضعفها وتجزئتها. وإذا كانت المراحل المتعاقبة من تاريخ الأمة تبرز التطور في هذا الوضع سواء كانت الأمة شاهدة أو مشهودة، فإن المرحلة الراهنة من وضع الأمة في النظام الدولي، ابتداءً من نهاية الحرب الباردة وحتى الآن مرورًا بتداعيات الحادي عشر من سبتمبر 2001، تمثل مرحلة من مراحل إعادة تشكيل مناطق الأمة والعلاقات فيما بينها والعلاقات بينها وبين بقية العالم. وهذه المرحلة من إعادة التشكيل ليست إلا حلقة من حلقات سابقة في مسلسل التحول من الشهود إلى المشهودية خلال القرنين التاسع عشر والعشرين، وهي المرحلة التي مارس فيها “الخارج” أو الآخر” أو “الغير” تأثيراته في الأمة وبصورةٍ متصاعدة لا تعكس فقط ما أضحى عليه الخارج من قوة ومكنة، ولكن ما أضحى عليه الداخل من ضعف وتجزئة.
ومن ثم، فإن استعراض خريطة صراعات وقضايا الأمة الراهنة لابد وأن ينطلق من الإشارة إلى التفاعل –غير المسبوق في درجته وطبيعته- بين دوائر متقاطعة ثلاث: داخلية وإقليمية وعالمية. فإذا كان النظام العالمي قد دخل مرحلة تحولية مهمة –منذ بداية العقد الأخير من القرن العشرين- فإن انعكاسات هذه المرحلة على الأمة الإسلامية تتضح في بعض الخصائص الجديدة المتصلة بالأبعاد المختلفة لوضع الأمة في العالم.
هذه الأبعاد هي: عناصر القوة الشاملة، قضايا التطور الداخلي بين إشكاليات الأصالة/ المعاصرة، التقليد/ الحداثة، العلمنة/ الإسلامية، قضايا العلاقات البينية في ظل إشكاليات الوحدة/ التجزئة، الأمة/ الدول القومية، قضايا العلاقات مع النظام الدولي القائم في ظل إشكاليات الاستقلال/ التبعية، العالمية/ الخصوصية، وأخيرًا قضايا الأقليات المسلمة في العالم، حيث إن قضايا الأمة العربية الإسلامية لا تنسحب على دولها فقط ولكن على شعوبها أيضًا.
وبالنظر إلى بعض أهم الخصائص العالمية الجديدة التي تحيط بالأمة العربية والإسلامية وتؤثر في وضعها يمكن التوقف عند الأمرين التالين:
الأمر الأول: تجدد الاهتمام بالأبعاد الثقافية الحضارية في التفاعلات العالمية، وسواء في ذاتها أو من حيث ارتباطاتها بالأبعاد السياسية والاقتصادية بل والعسكرية أيضًا. ولقد امتدت الاختراقات الخارجية الكثيفة والعميقة إلى النطاقات الثقافية والاجتماعية وبدرجات غير مسبوقة.
ولقد أضحت الأمة الإسلامية ساحة لاختبار أسباب هذا التجدد في الاهتمام بالأبعاد الثقافية الحضارية ومؤشراته وآليات إدارته ونتائجه. فعلى سبيل المثال، إذا كانت الصراعات المسلحة التي اندلعت –بعد نهاية الحرب الباردة- قد تركزت في أرجاء العالم الإسلامي، فإن جذورها وتجلياتها الدينية والعرقية والقومية كانت واضحة وجلية. كما أن التدخلات الخارجية في العالم الإسلامي، لم تعد قاصرة على الوسائل التقليدية العسكرية والسياسية والاقتصادية ولكن قفزت على صعيدها أدوات متجددة تتصل بالشأن الثقافي –الحضاري- وعلى نحوٍ مجدول بقوة بالأبعاد السياسية والعسكرية. وليس أدل على ذلك مما يسمى “الاستراتيجية الأمريكية للحرب على الإرهاب”.
الأمر الثاني: ومن خلال التعمق في مفردات الفكر الاستراتيجي الغربي عن وضعية الإسلام والمسلمين في النظام الدولي، وبالنظر إلى أهداف وأدوات السياسات الغربية تجاه عالم الإسلام والمسلمين منذ نهاية الحرب الباردة وحتى الآن، تتضح لنا قواسم مشتركة كبرى. وتشير هذه القواسم إلى أن هناك نمطًا من التأثيرات الخارجية على مناطق العالم الإسلامي من شأنها إعادة تشكيله على أسس جديدة، وذلك باستخدام مجموعة متطورة من الأدوات التدخلية التي تتراوح بين أدوات القوة الصلدة وأدوات القوة الرخوة. وتلعب الولايات المتحدة الأمريكية وبصورةٍ متصاعدة، دورًا ينحو للانفراد بإدارة هذه التدخلات وعلى رأسها العسكرية، وهي ليست بديلا عن القوة الرخوة.
ومن ثم، وإذا كانت السياسات التدخلية الخارجية في العالم الإسلامي تمتد بين عدة مستويات، ابتداءً من النطاقات الحضارية الثقافية المتصلة مباشرةً بمنظومات القيم السياسية (التحول الديمقراطي، وحقوق الإنسان)، والاقتصادية (التنمية الرأسمالية، والاندماج في العولمة الاقتصادية)، إلى التدخلات المباشرة في السياسات على صعيد الصراعات المسلحة التي تندلع على أراضي الدول الإسلامية وفيما بينها، ثم إلى السياسات المتصلة بالأقليات المسلمة بأنماطها المختلفة، إذا كان كذلك فإننا سنقتصر في هذا الموضع على رسم خريطة التدخلات الخارجية في الصراعات المسلحة في محاولة لإبراز أنماط التدخل المختلفة باختلاف هذه الصراعات من ناحية، وقدر التغير الذي أصاب هذه التدخلات بعد الحادي عشر من سبتمبر بالمقارنة بما قبل هذا التاريخ من ناحية أخرى، وما تحمله هذه المقارنات من دلالات ونتائج بالنسبة لدرجة وطبيعة التحديات التي تواجه عالم الإسلام والمسلمين في بداية القرن الواحد والعشرين من ناحية ثالثة. حيث إن الصراعات المسلحة والتدخلات الخارجية فيها ليست إلا بؤرة تصب فيها السياسات التدخلية على الأصعدة الأخرى؛ السياسية والاقتصادية والثقافية.
بعبارة أخرى، فإنه لا انفصال بين القوة الصلدة والقوة الرخوة، فهما يتكاملان بتناغم شديد فيما يتصل بالقضايا الراهنة للعالم الإسلامي.
إذًا ما هي خريطة هذه الصراعات؟ وما هي خصائصها بالمقارنة بالتدخلات الخارجية عقب نهاية الحرب الباردة؟
في نفس الوقت الذي كان يتشكل فيه توازن عالمي جديد –في بداية التسعينيات من القرن الماضي– تشكلت مقدمات صراعات مسلحة متوالية في أرجاء العالم الإسلامي في الخليج وأرجاء أخرى من العالم العربي، في البلقان، في القوقاز، في جنوب شرق آسيا، في شبه القارة الهندية وفي أفريقيا. ومن ثم، تعاقبت طوال التسعينيات حروب في البوسنة، الشيشان، كوسوفا، كشمير، تيمور الشرقية، جنوب السودان، ودارفور، الصومال، ناهيك عن درجات أقل من العنف المسلح، كما حدث في الجزائر عقب إلغاء نتائج انتخابات 1991 التي فازت فيها جبهة الانقاذ الإسلامية، وأيضًا أزمة أكراد تركيا، وما وقع في إقليم سنكيانج، وفي الفلبين، فضلا عن أعمال أخرى للعنف المسلح- سميت أعمال إرهابية- في عواصم عربية وإسلامية.
وإذا كانت هذه الأنماط من العنف المسلح تختلف من حيث جذورها وأسبابها وسياقاتها الوطنية والإقليمية ومن حيث درجة ونطاق العنف المسلح، فلقد عكست أيضًا أنماطًا مختلفة من التدخلات الخارجية في صراعات ذات أبعاد عراقية وقومية ودينية واضحة وصلت إلى أقصاها مع احتلال أفغانستان ثم العراق:
1- لقد اتسم التدخل الخارجي في الصراعات الإقليمية والأهلية –بعد نهاية الحرب الباردة (ما هي؟) – بالتدخلات الجماعية الدولية، بمبادرة وقيادة أمريكية وتحت إطار الشرعية الدولية (الأمم المتحدة) أو تحت أطر أخرى (حلف الأطلنطي). ولقد اقترن هذا النمط بمبررات أساسية، وهي التدخل لحماية حقوق الإنسان لاعتبارات إنسانية، ولحماية نمظومة القيم الغربية، وكذلك التدخل لحماية حق تقرير المصير، ولتخفيف عواقب الحروب على الشعوب. وإذا كانت الأداة العسكرية أداة أساس في تحقيق بعض هذه التدخلات، إلا أنها أُستخدمت بدرجات مختلفة، كما تم إلى جانبها توظيف أدوات أخرى اقتصادية ودبلوماسية. ولقد فجرت هذه الموجة من التدخلات في هذه الصراعات ذات الأبعاد القومية –العرقية- الدينية الواضحة جدالا سياسيًا وفكريًا حول حقيقة الدوافع والمبررات وحول العواقب وخاصةً على سيادة الدول. وأفسح تكرار هذه الصراعات وتكرار التدخلات الدولية في سياقات متنوعة السبيل للمقارنة على نحو يساعد في استخلاص بعض الدلالات حول آثار هذه التدخلات على مصير الدول والشعوب المسلمة. وترجع أهمية المقارنة بين أنماط هذه التدخلات إلى حقيقة مردها أن التغيرات الراهنة في عمليات إعادة تشكيل مناطق العالم الإسلامي منذ نهاية الحرب الباردة كانت ترتهن وتتوقف على حالة توازن القوى العالمية الجديدة الجاري تشكيلها، وعلى وضع “العالم الإسلامي” في مخططات هذه القوى واستراتيجياتها العالمية. ومن ثم، برز سؤال مهم: هل حققت التدخلات حماية حقوق الشعوب أو الدول المسلمة المعنية، أم أن تكييف طبيعة هذه الحماية وسبلها كان يرتهن بقواعد لعبة المصالح الكبرى وليس القيم والاعتبارات الإنسانية؟ ومما لا شك فيه، أن الإجابة على هذا السؤال تزداد وضوحًا مع استدعاء خبرات التاريخ خلال القرنين التاسع عشر والعشرين، حيث إن لجميع هذه الصراعات المذكورة جذورًا تأثرت أيضًا بالتغيرات السابقة في توازنات القوى العالمية وآثارها في مناطق العالم الإسلامي شرقًا وغربًا.
ومع ذلك، فإن المقارنة بين أوضاع التسعينيات الخاصة بحالات: البوسنة، كوسوفا، الشيشان، أكراد تركيا، جنوب السودان، كشمير، تيمور الشرقية، إنما تبين ما يلي: من ناحية، اختلاف الاستجابات الخارجية ما بين مراقبة، وصمت، واحتواء، وحركة فاعلة لتغيير الواقع أو للإبقاء على ما هو عليه، ومن ناحية أخرى التصاعد في درجة انفراد الولايات المتحدة بقيادة التدخلات العسكرية المباشرة، ومن ناحية ثالثة إدارة مشكلات وأزمات الأمة من الخارج ودون مشاركة فاعلة من جانب أطر الحركة الإسلامية الجماعية.
فإذا كان التدخل العسكري باسم الشرعية الدولية وبدرجة كبيرة من السرعة والكثافة وبقيادة أمريكية قد تم خلال أزمة وحرب الخليج الثانية (1990- 1991)، ففي البوسنة: وبالرغم من وضوح العدوان الصربي ووحشيته وسعيه لتغيير الأمر الواقع من خلال سياسة تصفية وإبادة وتطهير عرقي منظمة، فإن التدخل الدولي في إطار الأمم المتحدة استند أساسًا إلى أدوات اقتصادية وسياسية، ولم يصل توظيف الأداة العسكرية إلى ما كان مفترضًا فيه من حيث الحجم والسرعة، فلقد اقتصرت القوات الدولية على مهام حفظ السلام وليس وقف الحرب ولم يتصاعد توظيف الأداة العسكرية (من خلال حلف الأطلنطي) إلا ببطء شديد (حصار جوي، مناطق آمنة) وصولا إلى ضربات حلف الأطلنطي لمواقغ صربية محدودة. ومن وثم لم تكن اتفاقية دايتون إلا تكريسًا للواقع الجديد الذي فرضته القوة الصربية.
وفي حالة كوسوفا: حدث تدخل عسكري كثيف من جانب حلف الأطلنطي بقيادة أمريكية، وهو وإن لم يتأخر –كما حدث في البوسنة- إلا أنه صاحبه تفاقم مأساة شعب كوسوفا الذي عاش –خلال شهور الضربات العسكرية- أكبر عملية تهجير شهدها القرن العشرون، وفي المقابل كانت ضربات الحلف ضد صربيا ضرورة لتحقيق أهداف استراتيجية أمريكية وغربية حيوية في جنوب شرق أوروبا.
أما في الشيشان: فلم يحدث بالطبع تدخل عسكري ضد روسيا أو تدخل سياسي بأدوات ضغط غير عسكرية. ففي مواجهة الاستخدام الروسي العنيف للقوة العسكرية في تدمير جروزني عام 1994 (خلال الحرب الشيشانية- الروسية الأولى) أو في تدمير قواعد المقاومة الشيشانية (خلال الحرب الثانية منذ 1999)، لم تواجه روسيا إلا الإدانات الشفوية الواهية لانتهاكها حقوق الإنسان في الشيشان.
وفي كشمير: وحين اندلعت أزمة صيف 1999 (كارجيل وما تلاها من تطورات) في ظل تداعيات توازن القوى العسكري الجديد بين الهند وباكستان عقب تفجيراتهما النووية في صيف 1998، ثارت التساؤلات حول أهداف باكستان تجاه تدويل القضية وحول مآل الجولة الراهنة من مقاومة مقاتلي كشمير ومطالبهم، ولكن جاءت ردود الفعل السلبية في داخل باكستان تجاه اتفاق واشنطن بين نواز شريف والولايات المتحدة لتبين آثار الضغوط الاقتصادية والسياسية التي مارستها الولايات المتحدة على باكستان بصدد مساندتها لكشمير.
وحول جنوب السودان: استمرت المواجهات بين النظام السياسي (الإسلامي) وبين القوى الغربية. واتخذ التدخل شكل الحصار والعقوبات وشكل توظيف ورقة انفصال الجنوب. وفي ظل الحرب في الجنوب والتوازنات الإقليمية حولها ارتفعت التقارير المهددة بتدخل عسكري دولي لوقف انتهاكات حقوق الإنسان في جنوب السودان، حتى تم توقيع اتفاق السلام، وإعطاء الجنوب مهلة ست سنوات ليقرر بعدها –من خلال استفتاء- مصير علاقاته بالشمال.
وبصدد تيمور الشرقية: ظلت القضية ساكنة منذ عام 1975 وتزامن تفجيرها مع تداعيات الأزمة المالية في جنوب شرق آسيا على الكيان الأندونيسي برمته: النظام الاقتصادي والنظام السياسي ووحدة أراضية والسلام بين طوائفه. وكان قبول الحكومة الأندونيسية بإجراء استفتاء على الحكم الذاتي أو الاستقلال ثم إعلانها قبول الاستقلال ثم قبولها التدخل الدولي والعسكري (في إطار الأمم المتحدة وبقيادة استرالية) لوقف دائرة العنف بين المسلمين والأغلبية المسيحية في الإقليم، كل هذا يقدم مؤشرات عن ماهية الضغوط الاقتصادية والسياسية التي واجهتها اندونيسيا.
وبشأن أكراد تركيا: فخلال تفجر أزمة عبد الله أوجلان ومن ثم الأزمة التركية –السورية 1998 لم تستخدم القوى الأوروبية القضية الكردية في تركيا إلا كذريعة لعدم قبول عضوية تركيا في الاتحاد الأوروبي، ولم يتم الضغط على تركيا بورقة حقوق الإنسان للوصول إلى حلول تفاوضية تحفظ لأكراد تركيا حقوقهم الذاتية، بل إن تركيا أضحت نمذ نهاية الحرب الباردة حصان طروادة الغربي في الشرق الأوسط وآسيا الوسطى والقوقاز. وفي الوقت نفسه استمر توظيف ورقة أكراد العراق والتدخل الدولي باسم الاعتبارات الإنسانية لحمايتهم في شمال العراق، وذلك خلال عملية المواجهة المستمرة مع النظام العراقي منذ عام 1991. ومع تجدد القضية الكردية واتخاذها أبعادًا جديدة في العراق، بعد احتلالها عسكريًا، ظلت توجهات أكراد العراق نحو الاستقلال عاملا مقلقًا للسياسة التركية بشأن مستقبل أكراد تركيا.
جملة القول إن الحالات السابق عرضها تشترك في قسمات عدة منها: أنها قضايا ذات أبعاد قومية أو عرقية أو دينية واضحة الدلالة، أنها ذات جذور تاريخية ممتدة وسبق انفجارها في شكل عنف مسلح في مراحل سابقة، أنها في صميم إعادة تشكيل توازنات مناطق العالم الإسلامي، أنها تعكس قدر التأثر بالتغيرات في التوازنات العالمية، وهي أخيرًا تطرح –بصورة أو بأخرى- قضية العلاقة بين عالم الإسلام والمسلمين وبين القوى الكبرى القائدة للنظام الدولي؛ ولذا فهي من أهم أسباب ومؤشرات تجدد الاهتمام بوزن ودور البعد الثقافي –الحضاري –العقيدي في التفاعلات الدولية بعد نهاية الحرب الباردة، أي بعد نهاية الصراع العالمي بين الأيديولوجيات.
2- وبقدر ما كانت نهاية الحرب الباردة نقطة تحول في ماهية الصراعات الإقليمية أو الداخلية التي قفزت على الساحة العالمية، وعلى نحو استدعى للصدارة مناطق العالم الإسلامي انطلاقًا من أبعاد عرقية أو قومية أو دينية أو مذهبية، بقدر ما كانت أحداث الحادي عشر من سبتمبر 2001 وتداعياتها على الأمة الإسلامية كاشفًا ومؤكدًا لإرهاصات العقد الأخير من القرن العشرين حول ما أضحى عليه وزن البعد الثقافي –الحضاري – العقيدي من محورية في تفسير التفاعلات الدولية من ناحية وحول ما وصلت إليه أطماع الهيمنة الأمريكية بعد سقوط عصر الثنائية القطبية من ناحية أخرى(3).
فلقد كانت الهجمات على نيويورك وواشنطن (بالنظر إلى آليات تنفيذها والجدال حول أهدافها والمنفذين لها) نتاجًا وتعبيرًا في نفس الوقت عن محصلة السياسات الأمريكية العالمية القائدة والموجهة لسياسات العولمة والمحددة لايديولوجيتها. فهي السياسات والإيديولوجيات التي سعت لإعادة تشكيل موازين القوى العالمية والإقليمية بعد نهاية الحرب الباردة وفي ظل منجزات الثورة الاتصالية والمعلوماتية على صعيد القوة الأمريكية، وعلى النحو الذي يرسخ دعائم الهيمنة الأمريكية.
ولقد أكدت تداعيات هذه الهجمات –منذ حدوثها وحتى الآن، مرورًا بكل السياسات الأمريكية التي أعقبتها، والتي توظف كل الأدوات العسكرية والسياسية والاقتصادية والثقافية في تناغم شديد لإدارة ما يسمى الحرب الدولية ضد الإرهاب– أكدت هذه التداعيات أن الأمة الإسلامية قد أضحت في قلب عمليات إعادة موازين القوى العالمية والإقليمية، فلقد أضحى وضع الأمة الإسلامية في بداية القرن الحادي والعشرين ساحة تتجدد حولها وعليها اختبارات مقولات “صراع الحضارات” ومقولات التهديد الإسلامي للغرب، في مقابل مقولات “الحرب الصليبية” والمؤامرات على الإسلام والمسلمين.
وتبرز من قلب هذه المقولات خطورة التحديات الحضارية الثقافية التي أضحت تواجه الأمة من جراء التدخلات الخارجية بقيادة أمريكية. وهي التدخلات التي انكشفت على أكثر من صعيد، لعل من أوضحه –وإن لم يكن أكثره خطورة- التدخل العسكري المباشر.
فمن ناحية: لم يعد التدخل العسكري الأمريكي تدخلا في إطار الشرعية الدولية (الخليج 1991) أو في إطار (حلف الأطلنطي) ودون قرار من الشرعية الدولية (كوسوفا 1999) ولكنه أضحى تدخلا مباشرًا أو منفردًا (العدوان على أفغانستان) أو مباشرًا ومنفردًا وفوق ذلك ضد إرادة الشرعية الدولية (العدوان على العراق واحتلالها). ولقد أضحى خطاب القيادة الأمريكية اليمينية المتحالفة مع اليمين الديني البروتستانتي المتشدد، هو الأمر الذي يبرز ما أضحى عليه التداخل الشديد بين الأبعاد الثقافية –العقدية والأبعاد الاستراتيجية في السياسة الأمريكية تجاه عالم الإسلام والمسلمين. وما زال الجدال دائرًا بين من يرون أن الأبعاد الثقافية –العقدية أضحت محركًا ومحددًا لهذه السياسة ومن يرون أنها ليست إلا حجة أو ذريعة تخفي الدوافع الحقيقية ألا وهي الدوافع الاستراتيجية المتصلة باستكمال حلقات الهيمنة الأمريكية سواء في آسيا الوسطى أو الخليج والشرق الأوسط.
وفي مقابل صعود التدخل العسكري المباشر في حالتي أفغانستان والعراق، وتحت وطأة متطلبات ما يُسمى التحالف مع الولايات المتحدة في حربها ضد الإرهاب الدولي، تراجعت “الاعتبارات الإنسانية وحقوق الإنسان” المتصلة بقضايا الشيشان وكشمير، ناهيك عن حقوق تقرير المصير للشعب الفلسطيني، واحتجبت من جديد قضايا مسلمي سيكيانج والفلبين. وكذلك دخلت القضية الفلسطينية مرحلة جديدة من تطورها منذ اندلاع الانتفاضة الفلسطينية. فإذا كانت هذه القضية والصراع العربي الإسرائيلي بصفة عامة –في قلب سياسات الحرب الباردة وتصفيتها ثم انتهائها طوال نصف قرن– إذا كانت عملية التسوية السلمية قد تم تدشينها في مدريد 1991 ثم تمت إداراتها في ظل انفراد أمريكي وتحالف إسرائيلي أمريكي متنام، فلقد بدأ انهيار عملية التسوية السلمية في ظل إجراء الحرب الأمريكية ضد الإرهاب. حيث تطابقت الخطابات الأمريكية والإسرائيلية وكذلك سياساتهما في مواجهة قوى المقاومة الفلسطينية وضد حق تقرير مصير الشعب الفلسطيني وحتى وصل التحالف إلى ما وصل إليه خلال مشهد العدوان على غزة مرورًا بمحطات أخرى..
ومن ثم، يمكن القول إن التدخلات العسكرية الأمريكية في أفغانستان والعراق ليست إلا وجهًا لعملة وجهها الآخر هو ما يجري في فلسطين. والأركان الثلاثة هي أركان عملية إعادة رسم خريطة قلب العالم الإسلامي بالقوة العسكرية الأمريكية والإسرائيلية. بعبارة أخرى، منذ اليوم الأمريكي 11/9/2001 وما تلاه مباشرةً أي اليوم الأفغاني (7/10/2001) توالت أيامنا ذات الدلالة. فلقد وقع اليوم الفلسطيني مع الاجتياح العسكري الإسرائيلي للضفة الغربية وسلطة الحكم الذاتي الفلسطيني في 28/3/2002 كما وقع يوم مسلمى الولايات المتحدة في 22/3/2002 مع غارة الأجهزة الأمريكية المتضافرة (المباحث الفيدرالية، المخابرات، الجمارك) على مؤسسات إسلامية رائدة في واشنطن وفرجينيا، ثم وقع اليوم العراقي (20/3/2003) ولم تخف جسامة هذه الأيام الكبرى –والتي تجلى على صعيدها تحالف صهيوني أمريكي في أوضح وأعمق درجاته– تداعيات اليوم الأمريكي متعددة الأبعاد في بقية أرجاء الأمة.
من ناحية أخرى: تتعاضد مع العملية العسكرية وتتكامل معها تدخلات أخرى. وهي التدخلات المرتبطة بالأبعاد غير العسكرية لما يُسمى “الحرب ضد الإرهاب”. وهي الأبعاد الخاصة بضغوط إعادة تشكيل المجتمعات العربية والإسلامية تحت مسمى تجفيف جذور ومنابع الإرهاب. وهي الضغوط التي تظهر جليًا في مواجهة الحركات الإسلامية، والمجتمع المدني الإسلامي وخاصةً هيئات الإغاثة الإسلامية، ونظم التعليم الديني. حقيقةً لم تنفصل الأدوات الثقافية عن نظائرها الاقتصادية والعسكرية والسياسية طوال تاريخ تطور الهجمة الأوروبية الحديثة على العالم الإسلامي ولكن بعد إتمام السيطرة على الأرض والثروة أضحت مساحة الثقافة والحضارة مساحة هجوم خطيرة في ظل عمليات العولمة الراهنة التي لا تعكس مجرد تدخلات خارجية ولكن اختراق واجتياح الخارجي للداخلي وللنطاقات الثقافية –الحضارية وبتناغم شديد واندماج واضح مع الأدوات السياسية والاقتصادية والعسكرية للتدخلات. ذلك؛ لأن المرحلة الراهنة من تطور النظام العالمي هي المرحلة التي تقود فيها الولايات المتحدة الأمريكية المعركة باستكمال تنميط العالم ليس اقتصاديًا فقط على النمط الرأسمالي، أو سياسيًا فقط على نمط الديمقراطية البرلمانية ولكن أيضًا في إطار منظومة القيم الأمريكية ولن يكتمل الانتصار الاقتصادي والسياسي دون الثقافي –الحضاري، بل إن الفشل الأمريكي على الساحة الثقافية –الحضارية –من جراء المقومات والمانعات الحضارية– من شأنه أن يحمل إمكانات نمو مراكز قوى عالمية بديلة، وهنا تواجه الأمة ليس تحديات العدوان العسكري المباشر وغير المباشر، ولكن تواجه تحديات: إزالة الضباب عن مفهوم الجهاد، تجديد الخطابات الدينية ونظم التعليم الدينية لحاجاتها لهذا التجديد بغض النظر عن الضغوط الخارجية بصدده، تجديد أهداف الحركة الإسلامية وأدواتها وسبل مشاركتها في التغيير السياسي والمجتمعي، تحديات ألا نجعل تاريخ الحادي عشر من سبتمبر إسارًا لإدراكنا بأننا المتهمون وأن الولايات المتحدة في موقف رد الفعل والدفاع، ومن ثم تأتي تحديات تحرير مدركاتنا ومصطلحاتنا ومفاهيمنا فتستدعي: التحرير، المقاومة، الاستعمار، العدوان في مقابل السائد الآن: الإرهاب، الآخر، السلام، الأقليات.
ومن ناحية ثالثة وأخيرة: قفز إلى دائرة الاهتمامات وضع الأقليات المسلمة في الغرب وهي تختلف عن أقليات أخرى من حيث النشأة ومن حيث طبيعة المشكلات التي تواجهها ومن ثم من حيث مجالات حركتها ومطالبها. فبعد أن أحرز الوجود المسلم في أوروبا والولايات المتحدة خلال العقد الأخير من القرن العشرين -بصفةٍ خاصة– مكاسب جعلته ذي حضور ملموس ويقترب من الاندماج في المجتمعات الجديدة، وبعد أن أضحى يمثل زخمًا في مساندةً لقضايا الأمة وخاصةً جانب الإغاثة الإنسانية ومساندةً لقضايا الشعوب الإسلامية وجانب الدعوة الإسلامية في الغرب، فإذا بأحداث الحادي عشر من سبتمبر تضع على المحك كل هذه الإنجازات بل ويتعرض الوجود المسلم في الغرب لضغوط جديدة. فلقد مثلت الإجراءات الأمنية وسياسات الهجرة الجديدة التي شرعت في تطبيقها الحكومات الغربية تحت مبرر مكافحة الإرهاب، مثلت تحديًا خطيرًا لهذا الوجود، بقدر ما مثلت تحديًا لنموذج الحريات المدنية وحقوق الإنسان في المجتمعات الغربية.
خلاصة القول: تمثل نهاية الحرب الباردة، وأحداث الحادي عشر من سبتمبر والاحتلال الأمريكي للعراق ثلاث محطات أساس اختبرت أنماط التدخلات الخارجية في العالم الإسلامي، سواء تجاه الصراعات المسلحة أو سواء الأبعاد المجتمعية والسياسية الداخلية. ويتضح من الخط العام لتطور هذه التدخلات بأنماطها المختلفة النتائج التالية:
من جهة: اتجهت الولايات المتحدة للانفراد بإدارة الصراعات على النحو الذي يبرز أثر الإدارة الأمريكية في عسكرة السياسة الأمريكية بصورة كبيرة.
ومن جهة أخرى: تمتزج الأبعاد الثقافية-العقدية مع الأبعاد الاستراتيجية التقليدية في خطابات وسياسات الإدارة الأمريكية، على نحوٍ يبين كيف يحتل عالم الإسلام والمسلمين موضعًا في الاستراتيجية الأمريكية العالمية في مرحلة ما بعد نهاية الحرب الباردة والقطبية الثنائية.
ومن جهة ثالثة: يتضح من أنماط التدخل المختلفة مصداقية مقولة المعايير المزدوجة لدى الإدارات الأمريكية المتتالية، وعلى نحوٍ يبين أنه لم يعد مقبولا الحديث عن نظرية المؤامرة، لأن المؤشرات والأدلة الظاهرة من واقع السياسات الغربية المتراكمة هي أصدق تعبيرًا من حديث المؤامرة.
ومن جهة رابعة: لم يعد التحالف الصهيوني الأمريكي قاصرًا على النطاق الفلسطيني والعربي، ولكن اتسع وامتد للنطاقات المجاورة القريب منها والبعيد: التعاون الإسرائيلي مع الصين والهند ليست إلا من قبيل الأمثلة الظاهرة الآن، والتي تجتمع تحت راية ما يسمى “الحرب الدولية ضد الإرهاب”.
ومن جهة خامسة: لا يقتصر التدخل العسكري على نمط التدخل المباشر بالقوة العسكرية، ولكن يتضح أيضًا فيما يتصل بالقيود المتراكمة على تسليح الدول العربية والإسلامية. ولعل الضغوط المستمرة والمتصاعدة على “القدرات النووية الإيرانية” أحدث النماذج الصارخة بعد نموذج “أسلحة الدمار الشامل في العراق”.
ومن جهة سادسة: مشكلات وأزمات الأمة يتم إدراتها من الخارج في ظل سياسات تفكيك العلاقات الإسلامية –الإسلامية، وبعيدًا عن أطر الحركة الإسلامية الجماعية. فإلى جانب ميراث التجزئة القطرية وهو الميراث الأول من الاستعمار تراكمت تحديات العمل الجماعي الإسلامي. وتتجسد هذه التحديات في أشكال عدة مثل: القيود على فعالية منظمة المؤتمر الإسلامي وخاصةً في إدارة أزمات الأمة وصراعاتها، تنازع الأدوار بين دول الأركان الكبرى وهي مصر وإيران وتركيا والسعودية وباكستان وماليزيا، التحالفات مع القوى الأخرى على حساب التحالفات الإسلامية –الإسلامية تعبيرًا عن صراعات المصالح القومية، الاتجاه نحو الانضمام إلى الترتيبات الإقليمية وعبر الإقليمية كبديل عن الأطر الجماعية الإسلامية والعربية القائمة، الصمت أو مراقبة التدخلات الخارجية بأدوات مختلفة في بعض الدول العربية والإسلامية، تحديات تنمية العلاقات عبر القومية لإعادة بناء الوحدة من القاعدة إذا كان يتعذر بناؤها من القمة السياسية.
أخيرًا، فإن تداعيات هذه السلسلة المتتالية من التدخلات، منذ نهاية الحرب الباردة، والتي تجلت على صعيد عالم الأفكار وعالم المؤسسات وعالم الأحداث في الأمة، لتبرز جميعها عمق ما وصلت إليه أزمة المسلمين، وعلى نحوٍ أضحت معه الحاجة ماسة للبحث عن مؤشرات الممانعة والمقاومة في مقابل دعوات الانهزامية باسم العقلانية والرشادة والبراجمانية والواقعية.
ولم تمثل الإدارة الأمريكية مع أوباما، عامل تحول في نمط هذه التدخلات ومآلاتها. إن التفاؤل الكبير الذي أحاط بقدوم هذه الإدارة، وخاصة مع إشارة أوباما إلى حرصه على تحسين العلاقة مع العالم الإسلامي. هذا التفاؤل لم يمكن إثبات مصداقيته إلا على ضوء متابعة قدر التغير مقارنةً بقدر الاستمرارية في السياسة الأمريكية. فكم سيتغير نمط التدخل بقدر ما تتغير أدوات إدارة نفس الأهداف.

والحمد لله
*****

الهوامش:

(*) نشر في مجلة الغدير، عدد سبتمبر 2012.

(1) انظر حول هذه الموضوعات:
– د.نادية محمود مصطفى: القوتان الأعظم والعالم الثالث، مجلة الفكر الاستراتيجي العربي، أكتوبر 1986.
– د.نادية محمود مصطفى: أزمة الخليج والنظام الدولي، (في): د.أحمد الرشيدي (محرر): الانعكاسات الإقليمية والدولية لأزمة الخليج، مركز البحوث والدراسات السياسية، القاهرة، 1992.
– د.ودودة بدران: الرؤى المختلفة للنظام العالمي الجديد، (في): د.محمد السيد سليم (محرر): النظام العالمي الجديد، مركز البحوث والدراسات السياسية، القاهرة، 1993.
– د.عبد المنعم سعيد: النظام العالمي الجديد، مجلة العلوم الاجتماعية، ربيع/صيف، 1991.
– مارسيل مرل: سوسيولوجيا العلاقات الدولية، ترجمة وتحقيق: د.حسن نافعة، دار المستقبل العربي، بيروت، 1986.
(2) انظر حول هذه الموضوعات:
– د.نادية محمود مصطفى: النظام الدولي والمنطقة العربية، (في): تقرير حال الأمة (1992)، مركز الدراسات الحضارية، القاهرة، 1993.
– د.محمد السيد سليم: التحولات الدولية وآثارها على العالم الإسلامي، (في): حسن العليكم (محرر): قضايا إسلامية معاصرة، مركز الدراسات الآسيوية، جامعة القاهرة، 1997.
– د.نادية محمود مصطفى: العولمة والعالم الإسلامي: صعود الأبعاد الثقافية والحضارية، (في): مجموعة مؤلفين: مستقبل الإسلام، دار الفكر العربي، دمشق، 2005.
– د. نادية محمود مصطفى: التحديات السياسية الخارجية للعالم الإسلامي: بروز الأبعاد الحضارية الثقافية، (في): د. نادية مصطفى، د. سيف الدين عبد الفتاح (محرران), الأمة في قرن، عدد خاص من حولية أمتي في العالم، القاهرة: مركز الحضارة للدراسات السياسية، دار الشروق الدولية، 2002 (الكتاب السادس).

(3) انظر:
– العدد الخامس من حولية أمتي في العالم (2001-2002) وجاء مركزًا الضوء على “تداعيات الحادي عشر من سبتمبر على أمة الإسلام”، القاهرة، مركز الحضارة للدراسات السياسية.
– د.نادية محمود مصطفى: أولى حروب القرن الواحد والعشرين: رؤية أولية، مجلة السياسة الدولية، 2003.
– د.نادية محمود مصطفى: جدالات حوار/ صراع الحضارات: إشكالية العلاقة بين السياسي- الثقافي في خطابات عربية وإسلامية، مجلة السياسة الدولية، إبريل 2007.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى