ثنائية الفقر والاستبداد في أفريقيا المسلمة

مقدمة

إن موضوع الخطاب السائد حول الفقر وثقافته في الواقع الأفريقي المسلم لا يزال مهيمنًا ولا يتوقع حسمه في الوقت الراهن. ويرتبط مفهوم ثقافة الفقر culture of poverty باسم أوسكار لويس Oscar Lewis الذي كتب ونظَّر عن المفهوم في ستينيات القرن الماضي[1]. ويلاحظ أن هذا المفهوم يسود في المجتمعات التي تتسم بالخصائص التالية: ارتفاع معدلات البطالة بين السكان، وازدياد الضغط على عمليات تراكم الثروة والملكية، والشعور الشخصي بالنقص والدونية من جانب الأفراد الذين يعيشون في المجتمعات الفقيرة والمهمشة.
ولا شك أن التداعيات المترتبة على نمط حياة الفقر تفضي إلى تكريس نهج الهزيمة الذاتية وهو ما يعوق مسيرة السعي نحو التحرر والانعتاق. وربما يعزى ذلك إلى أن عقلية الفقر والوهن التي يحكمها عادة اليأس والقنوط. كما أن الفقراء لا يستطيعون التخطيط للمستقبل على المدى البعيد؛ فغاية همهم السعي الدؤوب نحو تحقيق مطالب آنية متمثلة في الحصول على الغذاء والمأوى[2].
ويرى أوسكار لويس أنه إذا سادت “ثقافة الفقر” بين المجتمعات الفقيرة فإنها تمثل إستراتيجية للمواجهة والتعامل مع الفقر نفسه ولا تشكل بحد ذاتها سببًا لتفشي الفقر في تلك المجتمعات. وعلى الرغم من أن تلك الثقافة تصاحب الفقراء حيثما وجدوا فإنها تختلف من حيث المعايير والمقاييس بحسب اختلاف الحالات والمناطق في مختلف أنحاء العالم. يصبح من الضروري إذن أن نطرح عددًا من التساؤلات لعل أبرزها ما يلي: هل يعد الفقر مسؤولية الفقراء أنفسهم؟ ومن الذي يسهم في إدامة واستمرار الفقر بحسبانه نمط حياة للفقراء؟
وبينما يوجد اعتقاد جازم بأن عقلية الفقر والوهن يتم تكريسها بل وتوريثها للأجيال القادمة فإنه من اللافت أن نمط الاستبداد والقهر في أفريقيا المسلمة قد أدى إلى خلق حالة أقرب ما تكون إلى نمط “العبودية المختارة” التي تحدث عنها إتيين دي لابواسيه في كتاب له يحمل نفس الاسم صدر أول مرة عام 1562[3].
ومنذ نحو خمسين عامًا خلت كانت الأجواء في المجتمعات الأفريقية كافة والمسلمة منها بخاصة مفعمة بالآمال بعد التحرر من نير الاستعمار الغربي. وكان على النخبة الأفريقية الوطنية أن تعمل جاهدة من أجل تدعيم ركائز قوتها السياسية. بيد أن التحدي الأكبر الذي واجه الدولة ما بعد الاستعمارية في أفريقيا قد تمثل في إشكالية تحويل بنيتها الهيكلية، التي قامت على أساس التخصص في إنتاج المواد الأولية، وتطوير اقتصادها الوطني من خلال تنويع قطاعاته المختلفة لتحاكي تلك الموجودة في الدول المتقدمة.
وإذا كانت الدول الآسيوية قد واجهت نفس التحديات إلا أن النتيجة في كلا الحالتين لم تكن واحدة. فالتجارب الآسيوية في التنمية تظهر نجاح دول شرق وجنوب شرق آسيا في تحقيق قفزات اقتصادية هائلة بحيث أصبح العالم اليوم يتحدث عن قصص نجاح آسيوية كبرى. أما حالة أفريقيا فإنها أكثر تعقيدًا، إذ يبدو أن دولها تحركت وهي في وضع الوقوف على أحسن الأحوال، أو أنها تحركت إلى الوراء في الأغلب الأعم[4].
ولعل مقارنة حالة غانا وكوريا الجنوبية، حيث كانا على نفس الدرجة من النمو الاقتصادي في أعوام الستينيات من القرن الماضي، تظهر حقيقة الفجوة التي حدثت لاحقًا بين التجربتين الآسيوية والأفريقية. ففي عام 1965 كان معدل كل من الدخل الفردي والصادرات لكل شخص في غانا أعلى مما هو عليه في كوريا. بيد أن الصورة سرعان ما تغيرت تمامًا وانقلبت الأمور رأسًا على عقب حيث تجاوزت معدلات النمو الكورية نظيرتها في غانا مئات المرات. ولعل ذلك الوضع يطرح سؤالا منطقيًا مفاده لماذا تقدمت آسيا وتأخرت أفريقيا؟ وينطبق ذلك على كل حال على أفريقيا المسلمة.
وتحاول هذه الورقة بلورة بعض المفاهيم والإشكاليات العامة المرتبطة بتطور المجتمعات المسلمة في أفريقيا مثل ثقافة الفقر وواقع الاستبداد، وإشكالية العلاقة بين الداخلي والخارجي ثم تطرح في محور ثانٍ بعض مشاهد تلك الثنائية بين الفقر والاستبداد كما جسدتها الفترة من أواخر عام 2009 وطيلة عام 2010.

أولا- جدلية العلاقة بين الفقر والاستبداد:

في عام 1988 أصدر المفكر الفرنسي المعروف رينيه ديمون كتابًا بعنوان “البداية الخاطئة في أفريقيا” وصف فيه حالة فشل الأنظمة الوطنية في الدول الأفريقية في تحقيق التنمية والنهضة المنشودة، وهي الغاية التي مثلت أجندة مرحلة ما بعد الاستقلال[5].
لقد كانت التنمية مخيبة لآمال وطموحات الشعوب الأفريقية حتى أنه نظر إلى أعوام الثمانينيات من القرن المنصرم باعتبارها عقدًا ضائعًا للتنمية الأفريقية، ولعل تلك البداية الخاطئة تتكرر عند متابعة وتقويم خبرة أكثر من عقدين من التحول الديمقراطي في أفريقيا. إذ لا يزال كثيرُ من الدول الأفريقية بعيدا كل البعد عن بناء مؤسسات ديمقراطية حقيقية رغم وجود إصلاحات سياسية واجتماعية تنال من أسس التسلط والاستبداد.
فثمة انتخابات تعددية وتنافس حزبي ومؤسسات ذات طابع ديمقراطي ودرجات غير مسبوقة من الانفتاح السياسي، ورغم ذلك فإن بعض الدراسين ممن نحوا منحى كارل شميتر يصف تلك التحولات الليبرالية بأنها زائفة وغير حقيقية.
ولا تزال أفريقيا تعاني من صراعات اجتماعية ممتدة كتلك التي تشهدها السودان وتشاد والصومال وحالة الاحتقان الشديدة بين إثيوبيا وإرتيريا. ولم يقف الأمر عند هذا الحد إذ ظهرت صراعات أخرى جديدة اختلفت من حيث حدتها وكثافتها كما حدث في ساحل العاج منذ عام 2002 عندما شهدت البلاد نزاعًا مسلحًا أفضى إلى انقسامها من الناحية الواقعية إلى قسمين. وقد ازدادت الأمور سوءًا بعد ظاهرة عسكرة السياسة مرة أخرى لتصبح أحد أبرز ملامح التطور السياسي في القارة السمراء[6].
وفي تفسيره لأزمة أفريقيا المستعصية يطرح المفكر الجنوب أفريقي موليتسى مبيكي عاملين أساسيين يساعدان على الفهم والتفسير؛ أولهما يتمثل في سوء إدارة النخب الوطنية الأفريقية الحاكمة للفائض الاقتصادي في مجتمعاتها على مدى العقود الخمسة الماضية، والثاني يتمثل في عمليات السلب والنهب التي تقوم بها القوى الدولية لموارد أفريقيا وثرواتها الطبيعية. فقد قامت النخب الحاكمة في الدول الأفريقية بعد الاستقلال وبمساعدة من الدول الغربية، باستغلال قوتها السياسية الطاغية من أجل تحسين أوضاعها المعيشية والوصول بها إلى حالة تضاهي وضع الشرائح الاجتماعية العليا في الغرب.

ثانيًا- إشكالية العلاقة بين الداخلي والخارجي:

لقد لجأت الدولة الأفريقية ما بعد الاستعمارية إلى فرض الأيديولوجية التنموية التي تقوم على ترابط العمليتين السياسية والاقتصادية، كما أنها احتفظت بكثير من ملامح الفترة الاستعمارية، ولا سيما سياسات القمع والإكراه المادي. وكان واضحًا أن “التنموية” هي مجرد تبرير للتسلطية والطغيان السياسي. وعليه فإن أغلبية الشعوب ممن تمت تعبئتهم ضد الاستعمار أصبحوا بمعزل عن المشاركة السياسية الحقيقية، كما أن مؤسسات المجتمع المدني المتمثلة في الأحزاب والنقابات والتنظيمات الشعبية قد حرمت من فرص التعبير عن نفسها، أو على الأقل تم إدماجها في مؤسسات وهياكل الدولة ذاتها، أما قيادات المعارضة فقد تم التخلص منها[7].
ونظرًا لزيادة اندماج أفريقيا في الاقتصاد العالمي، وعجز الدولة التنموية عن توفير الاحتياجات الأساسية للشعوب الأفريقية، بسبب انهيار أسواق المواد الخام في منتصف السبعينيات فإن الدولة الأفريقية عانت من أزمات خانقة، بسبب تنامي الهويات العرقية، والإقليمية، والدينية التي نازعت الدولة من أجل البقاء. لقد أضحى وجود الدولة الأفريقية بحد ذاته محل شك ونزاع، ولنذكر -على سبيل المثال- الكونغو، والسودان، والصومال، وسيراليون. وثمة مطالب شعبية متزايدة بضرورة إيجاد أسس جديدة للحكم في أفريقيا تعلي من تمكين الشعب، ومحاسبة القادة الفاسدين[8].
ويمكن بالاستناد إلى خبرة الممارسة السياسية للدولة الأفريقية في مرحلة ما بعد الاستعمار أن نشير إلى عدد من المؤشرات التي أسهمت في تآكل شرعية تلك الدولة، وشيوع ظاهرة الصراعات وعدم الاستقرار السياسي في المجتمعات الأفريقية، وذلك على النحو التالي:
– الاتجاه نحو تأسيس نمط من الحكم الشخصي الذي يعطي أهمية كبرى لدور شخص الحاكم في النظام السياسي.
– ضعف المؤسسات التشريعية والقضائية وعدم قيامها بالوظائف المنوطة بها دستوريًا، بحيث أنها أصبحت أداة طبيعية يستخدمها النظام الحاكم للحصول على الدعم والتأييد السياسي.
– اللجوء إلى استخدام سياسات القمع والعنف لتحقيق أهداف النظام السياسي بدلا من الاعتماد على سياسات الإقناع والرضا الشعبي.
– الربط بين المنصب السياسي العام وتحقيق الثروة والمكانة في المجتمع، وهي الظاهرة التي أطلق عليها (جان فرنسوا بيار) سياسة ملء البطون، بحيث أضحت النخبة الحاكمة تمثل فئة اجتماعية متمايزة في سياق الانقسامات المجتمعية[9].
– غياب التقاليد والأسس الواضحة التي تحكم عملية الخلافة السياسية، وهو الأمر الذي أدى إلى تبني الوسائل غير السلمية مثل: الانقلاب، والاغتيال، والحرب الأهلية في عملية نقل السلطة.
– تبني صيغ المنهج الفوقي في التغيير السياسي، وعادة ما كان ذلك يتم من خلال عمل انقلابي، أو الوصول إلى السلطة عن طريق حركة تحرير مسلحة، أو فرض قناعات أيديولوجية من جانب شخص الحاكم.
ويرى بعض الدارسين أن تخلف أفريقيا ما هو إلا نتاج للآثار المدمرة التي تمارسها قوى العولمة على التنظيمات السياسية والاقتصادية الأفريقية. لقد أدت العولمة إلى تراجع سلطة الدولة المركزية في أفريقيا، ولا سيما السيطرة على أدوات القهر المادي في المجتمع. في ذات الوقت تمثلت ملامح الاستجابة السياسية لتأثيرات العولمة في ظهور حركات وتنظيمات إثنية ودينية تتحدى سلطة الدولة الأفريقية، سواء على المستوى القومي أو المحلي.
أضف إلى ذلك فإن السياسات الاقتصادية الليبرالية التي اتبعت في الثمانينيات والتسعينيات من القرن الماضي أدت إلى زيادة معدلات البطالة وسوء توزيع الموارد والدخول، وهو ما خلق البيئة المناسبة لتزايد الجريمة، وانتشار الفساد والسوق السوداء، وتهريب الأسلحة والمخدرات. وليس بخافٍ أن هذا السياق هو الذي يفسر ظهور الأشكال والأنماط الجديدة من الحروب الأهلية، والعنف السياسي الذي تشهده النظم السياسية الأفريقية.
لقد ظن البعض أن انهيار جدار برلين قد يمثل لحظة تاريخية مهمة يمكن للأفارقة من خلالها أن يحافظوا على استقلالهم ويجعلوا قارتهم بعيدة عن أعين الطامعين والمستغلين. بيد أن القارة أضحت مرة أخرى ساحة للتنافس الدولي بين القوى التقليدية الكبرى، مثل بريطانيا وفرنسا والبرتغال وقوى أخرى جديدة فاعلة مثل الولايات المتحدة والصين والهند وحتى البرازيل[10].
ولا شك أن هذه القوى التي دفعت شعارات التدخل الإنساني والشراكة الاقتصادية تتحرك بالأساس من منظور مصلحتها القومية الذاتية. ولعل أكبر مثال على ذلك مأساة رواندا عام 1994 حينما وقف العالم كله ساكنًا وأغمض عينيه وكأن شيئًا لم يحدث.
اليوم لا تزال أفريقيا تعاني وطأة التدخل الأجنبي، فما الذي تغير إذن؟ إنها القوى الكبرى التي تحتل القائمة بالنسبة لمصالحها في القارة. فقد تم تحدي نفوذ وتأثير القوى الاستعمارية السابقة من قِبل فاعلين جدد على التراب الأفريقي أمثال الصين والولايات المتحدة والهند. لقد دافع البعض عن هذا النفوذ المتنامي للقوى الدولية في أفريقيا بحسبانها أحد مظاهر العولمة الجديدة، وهو ما يعني عولمة القارة الأفريقية حيث أنها لا تستطيع الفكاك منها.
ومع ذلك فإن ثمة جدلا واسعًا بين الكتاب الأفارقة ومن شايعهم في الغرب بأن ما يحدث الآن هو “تكالب استعماري جديد” من أجل الحصول على الثروات والموارد الطبيعية الأفريقية. وإذا قبلنا بهذه الرؤية تصبح القوى الدولية الجديدة في القارة بمثابة قوى استعمارية حقيقية وإن جاءت في ثياب أخرى تظهر عكس ما تبطن.

ثالثًا- نماذج وحالات:

1- بوكوحرام وإشكالية الديني والسياسي في نيجيريا

يبدو أن نيجيريا التي يثقل كاهلها مشاكل الفقر والبطالة والعنف المسلح والفساد كانت على موعد مع نمط آخر من التوترات والاحتجاجات الدامية. إذ تمكنت مجموعات من الشباب المسلحين الذين يتبنون نفس منهج وفكر “طالبان” من أخذ قوات الشرطة على غرة، والدخول معهم في مصادمات أوقعت العديد من القتلى في صفوف الجانبين.
وتنذر هذه المواجهات التي قادها أعضاء جماعة “بوكو حرام” Boko Haram في عدد من الولايات الشمالية، بأن نيجيريا مقبلة بلا شك على مرحلة جديدة من العصيان الديني والاجتماعي[11].فما هي الأسباب المباشرة وغير المباشرة التي تقف وراء هذه الموجة المختلفة من العنف الديني؟ وما هي دلالات وتأثيرات ذلك على مستقبل الدولة الوطنية في نيجيريا؟ وهل يخرج ذلك التأثير ليمتد عبر دول الجوار الأفريقية؟ وربما يمكن الحديث في هذه الحالة عن “أفرقة” ظاهرة طالبان بما يعنيه ذلك أن ينحى الخطاب الإسلامي في أفريقيا منحى سلفيًا محافظًا ومعاديًا لمؤسسات الدولة المدنية الحديثة!

الأسباب المباشرة

ترجع حركة العصيان الديني التي شهدتها ولايات بوتشي وكانو ويوبي وبورنو في الشمال النيجيري إلى قيام السلطات المحلية في بوتشي باعتقال بعض قادة حركة “بوكو حرام”، ومن المعروف أن هذه الحركة التي تعني بلغة الهوسا تحريم التعليم الغربي، قد ظهرت إلى الوجود عام 2002 وتزعمها الأستاذ محمد يوسف.
ونظرًا لعدم وجود معلومات كافية عن الحركة وأهدافها فقد لجأت بعض التقارير والتحليلات إلى إطلاق تسميات عدة عليها، مثل طالبان نيجيريا أو جماعة الهجرة أو أهل السنة والجماعة. ولعل هذه التسميات تعكس في جوهرها إشكالية المشابهة بين ما يحدث في شمال نيجيريا وبين نماذج أخرى مثل طالبان أفغانستان أو الشباب المجاهدين في الصومال. وعلى أية حال فإن الجماعة استطاعت أن تستقطب معظم أعضائها من الشباب المتعلم، الذين ينتسبون إلى أسر عريقة من حيث مكانتها الاجتماعية وثقافتها الإسلامية الواسعة.
وترمي جماعة بوكو حرام إلى تطبيق الشريعة الإسلامية بصورة صحيحة وإقامة مجتمع إسلامي خالص في شمال نيجيريا، بالإضافة إلى تحريم التعليم الغربي. وطبقًا لرواية أحد قادة الحركة عام 2005 السيد أمينو تاشين ليني، فإنهم يسعون إلى إقامة حكومة إسلامية على نمط الإمارة الإسلامية في أفغانستان، وذلك من خلال استخدام أدوات العصيان المسلح وتطهير المجتمع من مظاهر الكفر والفجور.[12]
ويرى أفراد الجماعة أن المجتمع النيجيري غارق في الفساد الأخلاقي والسياسي، وعليه فإن أفضل شيء للمسلم المتدين هو الهجرة من مجتمع الخطايا والفساد إلى مكان يمكن أن تتحقق فيه العدالة الإسلامية، والحصول على الرزق الحلال. ولذلك أطلق البعض عليهم اسم جماعة الهجرة.
ويبدو أن هذه الأهداف النبيلة لم تثر للوهلة الأولى أي إنذار أو مخاوف عندما هاجر أعضاء الجماعة من مايدوجوري Maiduguri إلى المنطقة المحيطة بمدينة كاناما Kanamma في ولاية يوبي من أجل “العيش في سلام والانشغال في الدراسة وأعمال الزراعة”، وهو ما يعني تحرير أنفسهم من عبء التعامل مع المجتمع النيجيري المذنب.
ومن اللافت للنظر أن الجماعة بعد هجرتها إلى كاناما أسست قاعدة لها قرب الحدود مع النيجر، وأطلقت عليها اسم أفغانستان. ولعل أحد مكامن الخطورة في هذا التطور الذي شهدته الساحة النيجيرية هو وجود جماعات راديكالية أخرى تؤمن بإقامة الدولة الإسلامية عن طريق الثورة والعنف المسلح، ونعني بذلك حركة إخوان نيجيريا بزعامة الدكتور إبراهيم الزكزاكي[13].

الأسباب غير المباشرة

يمكن القول بأن وضع حركة العصيان المسلح لجماعة بوكو حرام في إطارها النيجيري العام يطرح جملة من القضايا والعوامل التي من خلالها يمكن تقديم رؤية أكثر شمولية وعمقًا للتفسير والتنبؤ. ومن ذلك[14]:
1- إشكالية الديني والسياسي: إذ يمكن النظر إلى نيجيريا باعتبارها نموذجًا مصغرًا للواقع الأفريقي العام، وما ينطوي عليه من تعدد في الأديان والأعراق والثقافات. وطبقًا لبعض التقديرات الحديثة، يبلغ تعداد البلاد نحو 140 مليونًا نصفهم من المسلمين ونحو 40% من المسيحيين، في حين لا يزال نحو 10% يؤمنون بالديانات التقليدية. وقد أضحى الخطاب الديني بشقيه الإسلامي والمسيحي بعد الاستقلال أحد أدوات التعبئة والتنافس على السلطة، وهو ما أضفى على علاقة الدين بالسياسة طابع التعقيد والتشابك الشديد في ظل الانقسام الحاد الذي تطرحه الخبرة النيجيرية.
ومن الملاحظ أن ثلث الولايات النيجيرية الـ36 قد أقرت وطبقت الشريعة الإسلامية في العِقد الماضي، وعليه فإن مطالبة بوكو حرام بتوسيع نطاق تطبيق الشريعة ما هو إلا صرخة احتجاج ضد منظومة القيم السائدة والتي تعكس واقعًا إثنيًا منقسمًا.
2- تأثير الخطاب السلفي المعاصر: يمكن أن نجد بعض التأثيرات الفكرية والحركية لما تشهده الساحة النيجيرية اليوم في تقاليد خطاب الشيخ أبو بكر جومى الذي شغل منصب كبير القضاة في الشمال النيجيري، وحركته الدينية التي أسسها في السبعينيات وهي جماعة إزالة البدعة وإقامة السنة.
ومن اللافت للنظر أن هذه الجماعات دخلت في صدام ومواجهات فكرية مع الطرق الصوفية التي تعد أبرز مكونات النسيج الديني للمجتمع المسلم في نيجيريا. وعليه فإن هذا الموروث الفكري والحركي للتقاليد السلفية في الشمال النيجيري وبعض دول الجوار في الغرب الأفريقي كان له ولا شك تأثير بالغ على خطاب بعض حركات الاحتجاج الإسلامي الراهنة في نيجيريا. وربما يفسر ذلك لجوء البعض إلى إطلاق اسم أهل السنة والجماعة على حركة بوكو حرام.
3- فساد مؤسسات الدولة النيجيرية. لقد أضحت الدولة النيجيرية التي عانت من تدخلات العسكر في السياسة واستغلال الوظيفة العامة لتحقيق التراكم الرأسمالي، أقرب إلى نموذج الدولة الفاشلة. فالدولة رغم ثروتها النفطية الهائلة تعاني من انتشار الفقر والبطالة وسوء توزيع الثروة. وقد دفع ذلك بالبعض إلى حمل السلاح والدخول في مواجهة عنيفة مع السلطة الحاكمة. ويمكن الإشارة في هذا الخصوص إلى جماعات المعارضة المسلحة في دلتا النيجر الغنية بالنفط.
ويلاحظ المشاهد لأي مدينة نيجيرية من تلك المدن التي وقعت فيها أعمال العنف أعداد خريجي المدارس الثانوية والجامعات العاطلين عن العمل والذين يتسكعون في الطرقات. وفي المقابل فإن ثمة أقلية متميزة تتباهى بمظاهر الثراء الفاحش حيث تمتلك السيارات الفارهة والبيوت المنيفة. وباختصار فإن المجتمع المحلي في نيجيريا يفتقد القيادة الوطنية الصالحة والتي تمتلك رؤية للمستقبل[15].
4- المؤثرات الخارجية: لا شك أن بروز بعض نماذج الإسلام السياسي المعادية للغرب ولمؤسسات الدولة المدنية الحديثة والمطالبة بتأسيس دولة الإمارة الإسلامية وفقًا لرؤية إسلامية معينة مثل نموذج طالبان والشباب المجاهدين، قد ألهم عددًا كبيرًا من الشباب النيجيريين الذين عبروا عن استيائهم من واقعهم المعاش بالانخراط في حركات العصيان الديني. لم يكن بمستغرب إذن أن يجد خطاب تنظيم القاعدة بزعامة أسامة بن لادن أو خطاب طالبان آذانًا صاغية من قِبل شباب كثر في الشمال النيجيري.
وصفوة القول أن جذور حركة العصيان المسلح التي قام بها شباب بوكو حرام في شمال نيجيريا، ترجع إلى الواقع السياسي والاقتصادي والاجتماعي الذي يشهده المجتمع النيجيري منذ الاستقلال.
إذا كان الرئيس النيجيري الراحل عمر يار عودة قد أمر قواته بتعقب أفراد العصيان الديني والتخلص من تهديدهم، فإن ذلك الحل الأمني لن يفلح في القضاء على خطر هذه الجماعات الإسلامية الراديكالية. فحركة بوكو حرام هي في جوهرها تعبير احتجاجي من قبل الشباب النيجيري على سوء وتردي الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية التي تشهدها نيجيريا منذ الاستقلال. يعني ذلك أن عدم الاستقرار السياسي وسيادة نمط العنف المسلح في نيجيريا، مرتبطان بفشل الدولة الوطنية في تنفيذ برامجها التنموية والإصلاحية.
وربما يشير البعض إلى الفساد وسوء الإدارة كأحد عوامل انتشار الفقر في نيجيريا التي تعد ثامن أكبر دولة مصدرة للنفط في العالم. ومنذ عشر سنوات خلت تنفس النيجيريون الصعداء بعد التخلص من حكم العسكر والانتقال إلى الحكم المدني؛ حيث اعتقدوا بأنهم إزاء مرحلة جديدة تتسم بالمساءلة والشفافية. بيد أن كلا من الرئيسين السابقين أولسيغون أوباسنجو وعمر يار عوده لهما ارتباطات قوية بالمؤسسة العسكرية، وهو ما أدى إلى تقويض الآمال الخاصة بالتخلص من ثقافة الاستبداد في المجتمع النيجيري.
يدفع ذلك كله إلى القول بإمكانية أن تتحول نيجيريا إلى مسرح أفريقي آخر تنتشر فيه أعمال الفوضى والعنف المسلح، عندئذ يصبح الحديث عن الدراما النيجيرية الجديدة أمرًا لا مفر منه. لكن تبقى انعكاسات تردي الأوضاع في نيجيريا على جوارها الجغرافي في الغرب الأفريقي الذي يتميز بوجود أغلبية مسلمة، وبوجود بعض ملامح تشابه مع الفشل النيجيري. فهل يمكن الحديث عن تأثير العدوى ومن ثم انتقال نموذج طالبان نيجيريا إلى دول أخرى مثل النيجر وتشاد. ربما يعزز من ذلك القول بوجود بعض المواطنين التشاديين ضمن صفوف حركة بوكو حرام.
وعلى أية حال فإن بعض التقارير والتحليلات تقف عند مظاهر الحدث، وتحصر نفسها في إطار التسميات والمشابهات مثل التحذير من مخاطر طالبان وتنظيم القاعدة أفريقيًا.
بيد أن الرؤية الصحيحة -كما أسلفنا القول- تضع هذه الظاهرة الدينية في سياقها الاجتماعي والسياسي والاقتصادي العام في نيجيريا. إننا وبإيجاز شديد أمام أحد تجليات فشل مشروع الدولة الوطنية في نيجيريا وكثير من مناطق أفريقيا بعد الاستقلال.

2- شباب المجاهدين ونموذج الدولة الفاشلة

بينما كان عشاق كرة القدم العالمية يتابعون بشغف بالغ المباراة الختامية بين إسبانيا وهولندا مساء الأحد الموافق 11 يوليو/تموز 2010، هزت العاصمة الأوغندية كمبالا أصوات انفجارات مرعبة لم تعهد البلاد مثلها منذ سنوات طويلة. وقد نجم عن هذه التفجيرات العنيفة مقتل نحو (74) شخصًا وجرح مثل هذا العدد، وهو ما يجعل هذا الحدث هو الأسوأ في تاريخ أوغندا الحديث[16].
على أن ارتباط هذه التفجيرات بعناصر تنظيم القاعدة التابعة لحركة الشباب المجاهدين -التي تكاد تسيطر على معظم أرجاء الصومال- يطرح العديد من التساؤلات حول الأبعاد والدلالات التي يعكسها هذا التطور الفارق في المشهد الصومالي، إذ يلاحظ أن تفجيرات أوغندا تمثل أول عمل عنيف تقوم به حركة الشباب الصومالية خارج نطاقها الوطني الصومالي حتى بمعناه الكبير.

محاولة للفهم والتفسير

لم يكن مثل هذا الهجوم مستبعدًا على الإطلاق من قبل أي متابع لتطورات الأوضاع في منطقة القرن الأفريقي. فقد دأب قادة وشيوخ الحركات الجهادية في الصومال منذ عامين على دعوة المجاهدين إلى استهداف مواقع مختارة داخل الأراضي الأوغندية والبوروندية، نظرًا لمشاركة هذين البلدين في قوات حفظ السلام الأفريقية العاملة في الصومال (أميسوم)[17].
وعادة ما يُنظر في خطب وأدبيات حركة الشباب الصومالية إلى كل من أوغندا وبوروندي وإثيوبيا على أنها تمثل “بلاد الكفر” في أفريقيا. وبعد انسحاب القوات الإثيوبية من الصومال أوائل عام 2009 انصب جام غضب المجاهدين الصوماليين على أوغندا بحسبان أنها تساهم بالنصيب الأكبر في قوات حفظ السلام الأفريقية في الصومال (نحو 2700 جندي أوغندي). وعليه فلم يكن مستغربًا أن يعرب الشيخ يوسف شيخ عيسى أحد قادة الشباب عن سعادته بوقوع هجمات كمبالا؛ حيث قال أمام وفد من الصحفيين: “إن أوغندا واحدة من أبرز أعدائنا، وإن ما يبكيهم يسعدنا”.
على أنه من الملاحظ قبل هجوم كمبالا أن تهديدات الشباب المجاهدين لم تكن تؤخذ على محمل الجد، باعتبار أن نطاق عمليات مجاهديهم لا تتجاوز الأراضي الصومالية. ولا أدل على ذلك من أن الشيخ مختار روبو أبو منصور قد دعا صراحة في الخامس من يوليو 2010، أي قبل أيام قلائل من هجوم كمبالا، كل المقاتلين المسلمين في كافة أنحاء العالم إلى مهاجمة سفارات كل من أوغندا وبوروندي في العواصم العالمية.
وبدهي أن موقف الشباب المجاهدين يستند إلى مبررات أيديولوجية ووطنية من وجهة نظرهم؛ إذ تمثل القوات الأفريقية في مقديشو العقبة الوحيدة أمامهم للسيطرة على كامل الصومال وإعلان دولة الإمارة الإسلامية، فحكومة الشيخ شريف شيخ أحمد تبدو عاجزة ومنقسمة على نفسها، وهي فوق ذلك كله حبيسة ضاحية واحدة من ضواحي مقديشو، وتحيط بها القوات الأفريقية من كل صوب وجهة.
وعلى أي حال فإن توقيت ومكان تفجيرات أوغندا يدعو إلى إقامة علاقة ارتباطية بينها وبين إعلان دول الهيئة الحكومية للتنمية -المعروفة باسم إيغاد- والتي تضم ست دول في شرق أفريقيا أثناء قمتها الأخيرة في أديس أبابا عن التزامها بزيادة عدد القوات الأفريقية العاملة في الصومال بنحو ألفي جندي، وعليه فإن حركة الشباب المجاهدين أرادت توجيه رسالة تحذيرية لكل دول الجوار الأفريقية بعدم التورط عسكريًا في الشأن الصومالي.
لقد بات واضحًا من نجاح تخطيط وتنفيذ عملية كمبالا، إضافة إلى ما أحدثته من تداعيات وتأثيرات، أن حركة الشباب المجاهدين باتت قادرة على تهديد منظومة الأمن الإقليمي في منطقة القرن الأفريقي، من خلال استهداف أمن دول الجوار الأفريقية. وربما يعزى ذلك لأكثر من عامل واحد؛ فقد استطاعت الحركة زيادة وتنويع مصادر تمويلها من خلال ابتزاز رجال الأعمال والشركات التجارية والحصول على بعض موارد الموانئ، وتحويل جانب كبير من المساعدات الإنسانية لصالحها، ومن جهة أخرى تستفيد حركة الشباب من تعاونها مع بعض الجماعات الجهادية المسلحة في اليمن.
ويلاحظ أن مصادر التمويل المادية الأخرى للشباب المجاهدين تشمل بعض دول الجوار الأفريقية والعربية، بالإضافة إلى الجاليات الصومالية في الخارج، كما تعمد الحركة كذلك إلى تجنيد مزيد من الشباب داخل الصومال وخارجه.

الأبعاد والدلالات

قد يميل البعض إلى تصوير تفجيرات أوغندا بأنها مجرد عمل إرهابي حتى يتم استخدامها مبررًا ومسوغًا للحملة التي تروج لها الولايات المتحدة الأميركية باسم الحرب ضد الإرهاب[18]. إلا أن رد فعل الحكومة الأوغندية بأنها لن ترضخ للتهديد أو الترهيب، وأنها عازمة على الاستمرار في قوات حفظ السلام الأفريقية بالصومال، يدفع إلى ضرورة التركيز على الأبعاد الأخرى لهذه التفجيرات ولاسيما تلك المتعلقة بالأمن الإقليمي في منطقة شرق أفريقيا بمعناها الواسع. وهنا تمكن الإشارة إلى عدد من الملاحظات المهمة:
1- لقد استطاعت حركة الشباب المجاهدين أن توجه رسالة قوية إلى دول الجوار الأفريقية والمؤسسات الدولية المنخرطة في الشأن الصومالي بضرورة الابتعاد وعدم تدويل القضية الصومالية، إذ أن تهديدات الحركة اكتسبت -ولأول مرة- نوعًا من المصداقية. وربما يفكر البعض الآن في مصداقية التهديدات التي أطلقتها القاعدة عام 2007 باستهداف القوات الدولية العاملة في إقليم دارفور، وإذا علمنا مدى ضعف وهشاشة الدول الأفريقية فإن مثل هذه التهديدات سوف تكون مبررًا كافيًا لامتناع هذه الدول عن تقديم الدعم والمساعدة في عمليات إحلال السلام وإعمار الصومال، نظرًا للكلفة السياسية والأمنية التي ينطوي عليها مثل هذا التورط في الملف الصومالي[19].
2- يمثل الهجوم على أوغندا فرصة مناسبة لضرورة التأكيد على البعد الإقليمي والدولي للصراع في الصومال، فقد أرادت حركة الشباب من تنفيذ هذا الهجوم التعبير عن إحباطها من الإستراتيجيات الإقليمية والدولية التي تعاطت مع الملف الصومالي منذ البداية؛ حيث اتسمت الحلول الدولية والإقليمية للدراما الصومالية بعدم الفهم وعدم الإدراك الواعي لطبيعة النزاع وأسبابه الحقيقية، ولا أدل على ذلك من القرار الإثيوبي غير المدروس بغزو الصومال أواخر عام 2006. وعليه فإن هذا الهجوم يمثل درسًا مهمًا حول أهمية بناء منظومة أمنية متكاملة تشمل كافة الأطراف والقوى الفاعلة في دول المنطقة.
3- يطرح هجوم أوغندا كذلك العديد من التساؤلات حول طبيعة الصراعات التي شهدتها العديد من الدول في مرحلة ما بعد الحرب الباردة، وهو ما يشير إلى ضرورة مراجعة مفهوم وجدوى حفظ السلام الدولي. لقد اتسمت هذه الصراعات البينية داخل الدول، والتي تتجاوز في كثير من الأحيان حدودها الإقليمية، بوجود جماعات وتنظيمات فاعلة غير الدول تستطيع أن تشكل تهديدًا حقيقيًا للأمن الأفريقي. وتعطي الصومال مثالا واضحًا في هذا السياق. وعليه فإن إرسال قوات دولية لحفظ السلام في مثل هذه السياقات والمواقف يعد أمرًا غير ذي جدوى إذا لم يتم البحث في الأسباب الحقيقية المفضية للصراع.
4- إن حقيقة ما يجري في الصومال هي أنه حرب شاملة أقرب ما تكون إلى الحالة العبثية التي وصفها المفكر البريطاني جون هوبز بأنها “حرب الكل ضد الكل”. وعليه فإنه لا يمكن فهم طبيعة وجود قوات حفظ السلام الأفريقية في الصومال، إذ ليس ثمة سلام لكي يحفظ، والمثير للاستغراب كذلك أن خيار التدخل العسكري غير قادم. وفي اعتقادي أن الدرس الذي طرحه إقليم أرض الصومال -الذي أعلن استقلاله من طرف واحد عام 1991- يمثل نموذجًا مهمًا في كيفية بناء توافق وطني صومالي دون تدخلات خارجية[20].
5- تحتاج الأطراف الإقليمية والدولية اليوم أكثر من أي وقت مضى إلى إعادة النظر والتفكير في مبدأ التدخل الدولي لأغراض إنسانية وأمنية، وذلك على ضوء الفشل في الخبرة الصومالية. فقد وقعت أخطاء واضحة في تجربة التدخل الأممي في الصومال منتصف التسعينيات من القرن الماضي، تارة تحت غطاء “اليونوسوم”، وتارة أخرى تحت غطاء قوات إعادة الأمل للصومال بزعامة الولايات المتحدة الأميركية.
فالمجتمع الدولي بحاجة ماسة إلى صياغة إستراتيجية متكاملة ذات أبعاد سياسية واقتصادية وأمنية للتعامل مع الملف الصومالي، بهدف بناء السلم والأمن في كافة أنحاء الصومال. ويعني ذلك ببساطة شديدة أن التعامل مع ما يمكن أن نسميه “المرض الصومالي” ينبغي أن يتجاوز مرحلة الوقوف عند الأعراض مثل القرصنة وانعدام الأمن وانتقال عدواه إلى دول الجوار، وعوضًا عن ذلك يتم التعامل مع الأسباب الحقيقية المفضية إلى هذا المرض.
بالإضافة إلى الأبعاد السابقة، فإن تفجيرات أوغندا تحمل دلالتين أساسيتين لهما تأثير واضح على مستقبل الصومال والمنطقة عمومًا؛ أولاهما أن الحكومة الصومالية الانتقالية قد أضحت عاجزة تمامًا وفي حالة موت سريري، فمؤسساتها بما فيها البرلمان تكاد لا تؤدي عملها الروتيني، أضف إلى ذلك أنها تعاني من أزمة شرعية وأزمة قيادة، ففي 17 مايو 2010 أدى صراع السلطة مع رئيس الوزراء إلى استقالة رئيس البرلمان. أما الدلالة الثانية فإنها ترتبط بالاتحاد الأفريقي ودول الجوار؛ حيث أصبح الجدل الدائر هنا يشير إلى الحكمة من الاستمرار في دعم حكومة صومالية ضعيفة ومنقسمة على نفسها. وعليه يصبح السؤال المطروح متعلقًا بجدوى استمرار قوات حفظ السلام الأفريقية في ظل عدم وجود أفق واضح لعملية سياسية وسلمية فاعلة في الصومال.

الغياب العربي

لعل ما يثير الدهشة والاستغراب أن العالم العربي -الذي فشل في التعاون مع أزماته التي تنال مناطق القلب فيه مثل فلسطين والعراق- يكاد يهمل أطرافه في الصومال والسودان ليتركها تسير في طريق المجهول[21].
لقد حاول الجميع أن يجرب حظه مع المعضلة الصومالية، حتى تركيا استضافت هذا العام مؤتمرًا دوليًا حاشدًا من أجل إعادة إعمار الصومال، أما نحن العرب فجعلنا نصب أعيننا دائمًا المثل العامي الدارج “أذن من طين وأخرى من عجين”، وأصبح الملف الصومالي على خطورته -كما هو الحال بالنسبة للملف السوداني- لا يتجاوز نطاق التصريحات والبيانات المكررة من قِبل القادة والمسؤولين العرب.
أحسب أن منطقة شرق أفريقيا تشهد اليوم تغيرات جيواستراتيجية خطيرة سوف تفضي في الأجل القصير إلى إعادة رسم خريطة المنطقة، وهو ما يؤثر يقينًا على الأمن القومي العربي. فالاستفتاء المقرر في جنوب السودان أوائل العام القادم أغلب الظن أنه سوف يؤدي إلى دولة جنوبية تميل من حيث الهوى والجغرافيا إلى الارتباط بمنظومة شرق أفريقيا، كما أن تفجيرات أوغندا سوف تعزز من تصميم دول شرق أفريقيا على تقوية توجهاتها الاندماجية الخاصة بالتكامل الإقليمي لمواجهة هذه التهديدات الأمنية الخطيرة.
فأين العرب من كل هذا؟ أظن أن الاكتفاء بدور المتفرج سوف يجعلنا دائمًا خارج هذه التفاعلات والتطورات التي تجري من حولنا.

3- الانتخابات وشرعنة الاستبداد

ارتبطت الانتخابات التنافسية دائما بمفهوم الحكومات النيابية في الفكر السياسي الغربي الحديث، إذ تشير كتابات كبار الساسة والمفكرين أمثال جيمس مادسون وتوماس جيفرسون وجون ستيوارت مل إلى أن المسألة الانتخابية تقع في منطقة القلب من النظام السياسي الديمقراطي، بيد أن الانتخابات تسهم كذلك في إضفاء الطابع المؤسسي على جوهر الديمقراطية، وهو حكم الشعب لنفسه.
ورغم ذلك كله فإن إجراء الانتخابات بحد ذاته لا يكفي مسوغًا للقول بوجود نظام ديمقراطي حقيقي. وقد اتسم الجدل حول دور ووظيفة الانتخابات في إطار عمليات التحول والانتقال إلى الديمقراطية في النظم غير الغربية بعد نهاية الحرب الباردة بسيادة النزعة التشاؤمية التي ترى في الانتخابات مجرد وسيلة لإضفاء الشرعية على النظم الأوتوقراطية والمستبدة[22].
إن مؤشر الانتخابات العامة يمثل دليلا محدودًا للغاية على حالة الديمقراطية واحترام الحقوق المدنية للمواطنين في معظم البلدان الأفريقية، فالمعيار الكمي الذي يعتمد على عدد مرات توجه الناخبين إلى صناديق الاقتراع في السياق الأفريقي يعد مضللا. إذ شهدت السنوات الأخيرة قيام العديد من الحكومات الأفريقية بسرقة إرادة الناخبين من خلال أعمال التزوير وتغيير النتائج العامة. وسوف نحاول في هذا المقام إبراز التجربة الأفريقية، على ضوء حالتي مصر وساحل العاج، حيث أضحت العملية الانتخابية بلا اختيار حقيقي، وهو ما أفقدها جانب التنافس الحر من حيث المبنى والمعنى[23].

الانتخابات السيئة

يمكن التمييز بين نمطين أساسيين من الانتخابات في الواقع الأفريقي العام والمسلم منه بخاصة: النمط الأول ويمثل نمط الانتخابات التنافسية السلمية التي يطلق عليها عادة الانتخابات “الجيدة”؛ فقد شهدت بعض الدول الأفريقية في العقد الأخير توجهات عامة نحو زيادة معدلات التنافسية الانتخابية، وهو ما يعني تعزيزًا للتوجه نحو الديمقراطية، فقد أضحت أحزاب المعارضة تمتلك قاعدة صلبة في الممارسات السياسية بما يمكنها من طرح البديل المناسب لأحزاب ظلت تمسك بتلابيب السلطة منذ الاستقلال الوطني.
وتعطي انتخابات غينيا كوناكري عام 2010 نموذجًا مهمًا لهذه الانتخابات الجيدة، فقد جاءت هذه الانتخابات بعد انقلاب عام 2008 ومحاولة اغتيال زعيم المجلس العسكري موسى داديس كامارا في ديسمبر 2009. وبعد شهور من التوتر والاضطراب تمكن مرشح المعارضة الفا كوندي من الفوز بمقعد الرئاسة في الجولة الثانية التي عقدت في 7 نوفمبر 2010.
أما النمط الثاني فهو يمثل الانتخابات “السيئة” غير التنافسية، التي هي أبعد ما تكون عن معايير الشفافية والنزاهة، إن الانتخابات في هذه الحالة يستخدمها حكام مستبدون غطاءً لاكتساب الشرعية.
ولنضرب على ذلك بعض الأمثلة؛ ففي أغسطس الماضي حصل الرئيس الرواندي بول كاغامي على نسبة 93% من إجمالي الأصوات في الانتخابات الرئاسية ليحتفظ بمقعد الرئاسة فترة أخرى. وفي بوروندي المجاورة لم يجد الرئيس بيير نيكورونزيزا من ينافسه في ظل مقاطعة أحزاب المعارضة لانتخابات الرئاسة. وفي الانتخابات الإثيوبية لم تتمكن أحزاب المعارضة من الفوز إلا بمقعدين فقط من إجمالي عدد مقاعد البرلمان البالغة 547 مقعدا، وهو ما يعني هيمنة حزب رئيس الوزراء ميليس زيناوي على مقاليد الحكم بلا منازع.

مصر وساحل العاج نموذجًا

يبدو أن ثمة نوعًا من المشابهة بين الحالتين المصرية والعاجية من حيث بنية نظام الاستبداد والمطالب الشعبية المنادية بالتغيير؛ ففي مصر علقت الجماهير آمالها على شخص “المخلِّص” أو المنقذ، وهو الدكتور محمد البرادعي، الذي عاش سنوات طويلة خارج مصر، فأصبح بمنزلة المرشح الافتراضي على ضوء حالة الضعف والانقسام التي تعاني منها الأحزاب والمنظمات السياسية الشرعية في مصر، وذلك في مواجهة تغول واستبداد الحزب الوطني الديمقراطي الحاكم.
وربما يطرح زعيم المعارضة العاجية الحسن وتارا نموذجًا مشابهًا إلى حد ما لتجربة البرادعي المصرية، فقد شغل وتارا عدة مناصب في البنك الدولي، وعاد إلى بلاده لتبوء منصب رئيس الوزراء في آخر حكومة للرئيس الراحل هوفيه بوانيه، ولكنه حينما تطلع إلى منصب رئيس الدولة واجهته عقبات جمة، حيث استبعد من حلبة المنافسة الرئاسية عام 2000، بحجة أن أحد أبويه ينحدر من بوركينافاسو. وقد أسهم ذلك في الزج بالبلاد في آتون الحرب الأهلية في العام 2002. ومع أن الحرب الأهلية في ساحل العاج قد وضعت أوزارها في العام 2004 لم يوقع اتفاق السلام بين طرفي الصراع إلا في العام 2007، وقد تأجلت الانتخابات منذ ذلك الحين أكثر من ست مرات.
ويبدو أن الرئيس لوران غباغبو لم يقدر طبيعة وحجم المعارضة الشعبية له، إذ إنه بعد إعلان نتائج جولة الإعادة بينه وبين الحسن وتارا في 2/12/2010 لم يقبل بهذه النتائج ورفض تسليم السلطة للرئيس المنتخب الذي حظي بدعم المجتمع الدولي. ولعل هذا الموقف من غباغبو يكرس تقسيم الدولة إلى شمال وجنوب[24].
ولم تقتصر سرقة إرادة الناخبين على الحالة العاجيّة، إذ عكست الانتخابات البرلمانية المصرية الأخيرة خطة محكمة من النظام الحاكم لاستبعاد جماعة الإخوان المسلمين وتيارات المعارضة الحقيقية، وذلك بغية التمهيد للانتخابات الرئاسية القادمة عام 2011.
إن تجربة كل من مصر وساحل العاج، بغض النظر عن اختلاف السياق المجتمعي، تفصح عن ثقافة الاستبداد ورفض التغيير الديمقراطي، بحجة أن البدائل التي تطرحها المعارضة غير شرعية وتهدد الاستقرار وأمن البلاد، فالإخوان المسلمون في مصر يمثلون من منظور السلطة جماعة محظورة خارجة عن الشرعية وتهدد استقرار وأمن البلاد، وقد خضع محمد البرادعي لعملية تشويه مهينة من مؤيدي الحزب الوطني الحاكم. وفي السياق العاجي نظر إلى الحسن وتارا بأنه أجنبي ودخيل على البلاد.

انتخابات بلا اختيار

ربما تلجأ كثير من النظم الحاكمة إلى آلية الانتخابات لتحقيق بعض المقاصد العامة، لعل من أبرزها أولا إضفاء قدر من الليبرالية على نظام الاستبداد دون تغيير جوهر الوضع القائم، فأفريقيا تشهد نحو عشرة رؤساء في السلطة منذ أكثر من عشرين عاما[25]، وقد أجرى هؤلاء انتخابات تعددية (صورية) مكنتهم من الاستمرار في السلطة. وعادة يعتمد هؤلاء الرؤساء على أساليب متعددة، منها قمع أو حظر أحزاب المعارضة، أو الدفع بأحزاب المعارضة القائمة لمقاطعة الانتخابات، وكذلك السيطرة على وسائل الإعلام وموارد الدولة وتسخيرها لخدمة النظام الحاكم. وثمة من يذهب إلى ترويع وترهيب الناخبين واللجوء إلى عمليات تزوير واسعة النطاق.
أما المقصد الثاني فيتمثل في إضفاء الشرعية على نظم جاءت إلى السلطة بشكل غير شرعي، فقد شهدت أفريقيا منذ العام 2008 انقلابات عسكرية ناجحة في كل من موريتانيا وغينيا ومدغشقر والنيجر. وعادة يقوم العسكر بإطلاق الوعود من أجل إجراء الانتخابات والعودة للحكم المدني.
يشير المقصد الثالث إلى تأسيس نمط من العائلية السياسية المهيمنة التي يخلف الابن من خلالها أباه في رئاسة الدولة، ويمكن أن نشير هنا إلى أمثلة جمهورية الكونغو الديمقراطية حيث جاء جوزيف كابيلا إلى الحكم خلفًا لوالده لوران كابيلا، وتوغو التي شهدت انقلابًا عسكريًا عام 2005 في أعقاب وفاة الرئيس أياديما حيث جاء الجيش بابنه فوري أياديما ليتقلد زمام الأمور في البلاد خلفًا لوالده، وحينما ازدادت المعارضة في الداخل والخارج لهذا الإجراء غير الدستوري ما كان من النظام الحاكم إلا أن يجري الانتخابات ويكتسب شرعية الوجود. أما المثال الثالث فهو الغابون حيث إن وفاة الرئيس عمر بونغو بعد نحو (42) عامًا في السلطة قد أفضت إلى انتخاب ابنه علي بونغو في انتخابات شابتها أعمال تزوير وعنف واسعة النطاق[26].
إذا كانت أفريقيا قد شهدت في السنوات العشر الأخيرة وجود نماذج ناجحة لانتخابات تنافسية وسليمة ودون مساعدة من المجتمع الدولي مثل حالات جنوب أفريقيا وبتسوانا وغانا، فإنها شهدت مع ذلك حالات متعددة للانتخابات السيئة التي شهدت أعمال عنف واسعة النطاق، كما هو الحال في كل من زيمبابوي وكينيا، أو اتسمت بالتزوير وإعادة إنتاج نظام الاستبداد مثل حالات إثيوبيا وبوروندي ورواندا ومصر.
لقد رأى توماس جيفرسون أنه دون الاعتراف بقيمة وأهمية حقوق الإنسان، يصبح من اليسير على الحكومات أن تنكر الحقوق الأخرى أيضا، وهو ما يفضي إلى تدمير آمال وتطلعات الشعوب في كل مكان.
إننا ونحن نناقش من خلال هذا المنبر ما إذا كانت بعض الدول مستعدة للديمقراطية، يجب علينا أن نعترف بدءا بمركزية ومحورية الديمقراطية والانتخابات الحرة في الحفاظ على حقوق الإنسان. وكما لا يزال الملايين يحرمون من حقهم في التعبير والتنقل أو التجمع بحرية أو الحصول على محاكمة عادلة فإن هناك الملايين أيضا يحرمون من الحق في المشاركة في اختيار حكومات بلدانهم.
إن الانتخابات الراهنة في أفريقيا لا تؤدي وظيفتها المرجوة نظرًا لطبيعتها الرمزية وكيفية إجرائها، إنها ليست حرة ولا نزيهة كما لا يتم الكشف أبدًا عن نتائجها الحقيقية. والقضية الأساسية هي أن فكرة الانتخابات تُفرض في كثير من الأحيان على الحكومات من الأمم المتحدة والدول المانحة، ولذلك فإن النخب الحاكمة تجري هذه الانتخابات ليس من منطلق الإيمان بأهميتها ولكن لأن عليهم القيام بها.
وعندما تبدأ الحملات والدعايات الانتخابية نشاهد الوجه القبيح للتخويف والقمع والمضايقات التي تتعرض لها أحزاب المعارضة ومؤيدوهم، وهو ما يؤدي غالبا إلى سفك الدماء. ورغم ذلك كله ليس أمام الشعوب المستضعفة من خيار آخر سوى التمسك بالانتخابات وإن كانت معيبة. وأعتقد اعتقادًا قويًا أنه بمرور الوقت ودورية إجراء الانتخابات ومع تطور المجتمعات، تصبح ديمقراطية العملية الانتخابية نتيجة حتمية.

على سبيل الختام: هل يمكن لأفريقيا المسلمة التحرر من ثقافة الفقر؟

تخيلت بعد عودتي من إحدى العواصم الأفريقية أن الدول المانحة قررت فجأة قطع المعونات التنموية عن أفريقيا، ولا أدري لماذا جال بخاطري في نفس اللحظة أحد شخصيات رواية الأديب النيجيري الأشهر شينوا أتشيبي وهو يقول: “إن الخيط الذي يجمع بين الشعوب الأفريقية قد تمزق إربًا إربًا، وهو ما جعل الأشياء تتهاوى”[27]. ولا يخفى أن الأوضاع في أفريقيا المسلمة من نيجيريا إلى السودان لا تزال تستمر في التداعي والانحدار، فما الذي تغير إذن في أفريقيا المسلمة بعد نحو خمسين عامًا من التحرر من ربقة الاستعمار؟
لقد حصلت أفريقيا مجتمعة خلال تلك الفترة من الدول الغنية على نحو أكثر من تريليون دولار كمساعدات تنموية، ورغم ذلك فإن معدلات الفقر في تصاعد، ومعدلات النمو في انخفاض مطّرد. وطبقًا لبعض التقديرات فإنه خلال الفترة بين عامي 1970 و1988، والتي تمثل ذروة تدفق المساعدات على أفريقيا، ارتفعت نسبة الفقر في أفريقيا من 11 إلى 66%، وهو ما يعني أن نحو 600 مليون أفريقي باتوا يرزحون تحت خط الفقر وفقًا للتصنيف الدولي[28].
والتساؤل المحوري هنا يتعلق بإمكانيات تحرر أفريقيا من النمط التقليدي المعتمد على المساعدات الغربية في إحداث نهضتها وتطورها، وهل ثمة بديل أفريقي معتمد على الذات؟ وهل يمكن للأفارقة العيش في عالم يخلو من المساعدات التنموية؟

المساعدات الجيدة والمساعدات الضارة

يمكن الحديث عن أنماط ثلاثة من المساعدات الخارجية هي: نمط المساعدات الإنسانية أو الغوْث الطارئ الذي يقدم في أوقات الأزمات والكوارث الكبرى مثل الزلازل والفيضانات والحروب الأهلية، ونمط المساعدات الخيرية التي تقوم بها منظمات وجمعيات طوعية وخيرية، أما الثالث فهو نمط المساعدات المنظمة التي يقدمها المانحون الدوليون سواء على أساس ثنائي حيث تقدمها حكومة إلى حكومة أخرى، أو على أساس جماعي كتلك المساعدات التي تقدمها المنظمات والمؤسسات الدولية المانحة[29].
وإذا كانت هناك فوائد لا تنكر للغوْث الإنساني الطارئ، فإن ثمة انتقادات عديدة توجه لأعمال الإغاثة والمساعدات الخيرية كتلك المتعلقة بسوء الإدارة وارتفاع التكلفة ومحاولة تنفيذ أهداف معينة ولا سيما من قِبل الدول التي تنتمي إليها تلك المنظمات الخيرية.
وتفصح تجارب منظمات المساعدات الدولية عن تبديد معظم أموال المساعدات قبل وصولها إلى مستحقيها، وتشير بعض التقديرات إلى أن كل 13 دولارا يتم جمعها في الخارج لا يصل منها سوى دولار واحد فقط إلى أفريقيا. ويرجع ذلك إلى عدة أمور منها ارتفاع رواتب ومزايا العاملين في صناعة المساعدات، حيث إنها تخلق فرص عمل مهمة في الدول الغربية، كما أن معدات وأدوات الإغاثة يتم شراؤها من الغرب[30].
وعليه فإن تجارة المساعدات تؤدي في نهاية المطاف إلى إثراء الغرب وإفقار أفريقيا، بما يعني أن المساعدات الخارجية أضحت جزءًا من الداء الأفريقي عوضًا عن أن تكون الدواء الشافي.
ويُذكر أنه خلال الفترة بين عامي 1970 و2002 اعتمدت دول أفريقية كثيرة، مثل بوركينافاسو ورواندا والصومال ومالي وتشاد وموريتانيا وسيراليون، في تغطية نحو 70% من إجمالي نفقاتها العامة على المساعدات الخارجية، وذلك طبقًا لمؤشرات أصدرها البنك الدولي.
وتؤدي المساعدات في معظم الأحيان إلى تفشي الفساد في المجتمع الأفريقي، ولعل المثال الأبرز هنا يتمثل في حالة جمهورية الكونغو الديمقراطية (زائير سابقًا) وهي دولة غنية بثرواتها الطبيعية، إذ استطاع الرئيس الراحل موبوتو سرقة ما يعادل الديون الخارجية للدولة والبالغة نحو خمسة مليارات دولار. ولم يهتم موبوتو بالدخول في مفاوضات مع الدول المانحة لتخفيف حدة الديون عن كاهل مواطنيه، قدر اهتمامه بتأجير طائرة كونكورد لتقل ابنته إلى ساحل العاج حيث جرت مراسم زفافها هناك. وتبدو الأرقام مذهلة ويصعب تصديقها عن حقيقة الفساد في أفريقيا، إذ يتم تحويل ما يعادل عشرة مليارات دولار سنويًا إلى خارج القارة نتيجة معاملات فاسدة.
ونظرًا لأن المساعدات الخارجية تحوَّل بشكل مباشر إلى الحكومات الأفريقية، فقد أصبح الاستيلاء على السلطة في الواقع الأفريقي أمرًا مربحًا ويستحق الصراع من أجل الوصول إليه. وعلى سبيل المثال حينما منح قائد التمرد في سيراليون منصب نائب رئيس الدولة في مفاوضات للسلام، لم يقبل به إلا بعدما أعطي ولاية الإشراف على قطاع تعدين الماس في البلاد. ومن هنا فإن المساعدات الخارجية قد تكون أحد العوامل الرئيسية المفضية إلى عدم الاستقرار الاجتماعي وربما إلى الحرب الأهلية.
وفي كثير من الأحيان أسهمت تدفقات أموال المساعدات في إحداث ما يطلق عليه اسم “المرض الهولندي”، الذي يعني أن تدفق رأس المال بكميات كبيرة يمكن أن يؤدي إلى تدمير قطاع الصادرات في الدولة، وهذا ما أحدثته بالضبط المساعدات في بعض الدول الأفريقية حيث ارتفعت أسعار المنتجات المحلية مما جعلها غير تنافسية في مجال التصدير.

أفريقيا والتحرر من المساعدات الخارجية

ليس هناك من أفق واضح على طريق النهضة والتقدم في أفريقيا إلا التحرر من ربقة المساعدات الخارجية، فالأفارقة ظلوا لعقود طويلة كصغار الطيور التي تقبع في أعشاشها فاتحة أفواهها لكل من يقترب منها ويلقي إليها بأي شيء، بيد أنه في نهاية المطاف تكبر هذه الصغار وتطير معتمدة على نفسها في الحصول على أقواتها. وعليه فقد آن الأوان للأفارقة أن يقفوا على أقدامهم ويعتمدوا على أنفسهم في الكفاح من أجل الحياة.
وتطرح دامبيسا مويو في كتابها المهم عن “المساعدات المميتة” أربعة مصادر بديلة للتمويل بالنسبة للاقتصادات الأفريقية، يمكن الاعتماد عليها حتى يمكن اتقاء الجوانب السلبية لسياسة المساعدات الخارجية[31].
ويتمثل البديل الأول في اتباع الحكومات الأفريقية نموذج القوى الآسيوية الصاعدة من خلال إصدار السندات. ومن المتعارف عليه اقتصاديًا أن السند يعني وعدًا من الحكومة بإعادة الدفع للمقرض بزيادة فائدة متفق عليها. وتهدف الحكومات عادة من وراء إصدار مثل تلك السندات للمستثمرين الأجانب إلى المساعدة في تمويل برامج التنمية بما في ذلك مشروعات البنية الأساسية والتعليم والرعاية الصحية. أضف إلى ذلك أن الأموال التي يتم الحصول عليها من تلك السندات يمكن استخدامها في تغطية النفقات اليومية الأساسية للحكومات الأفريقية.
ويشير البديل الثاني إلى ضرورة تشجيع الصينيين على المزيد من الاستثمارات المباشرة في مجالات البنية الأساسية الأفريقية. وطبقًا للتقديرات فقد استثمرت الصين في أفريقيا نحو 900 مليون دولار عام 2004 مقابل 20 مليونا عام 1975؛ فبنت الطرق في إثيوبيا وأنابيب النفط في السودان وخطوط السكك الحديدية في نيجيريا ومحطات الكهرباء في غانا.. وتلك أمثلة محدودة على الوجود الصيني الكبير في أفريقيا. وقد شهدت السنوات الخمس الماضية هجومًا صينيًا منظمًا على القارة الأفريقية كما لو كانت الصين تخطط لأن تكون القوة الأجنبية الوحيدة المهيمنة فيها خلال القرن الحالي.
كما يطرح البديل الثالث إمكانية إنعاش البديل الزراعي في أفريقيا ولا سيما المحاصيل النقدية من خلال ضغط الحكومات الأفريقية لتحقيق هدف تحرير التجارة العالمية. عندئذ يمكن للولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي واليابان أن ترفع الدعم الممنوح لمزارعيها، وهو ما يمكّن الدول الأفريقية من زيادة صادراتها الزراعية.
أما البديل الرابع فيقتفي أثر تجربة “بنك غرامين” التي ابتدعها عالم الاقتصاد البنغالي محمد يونس والتي حاز بمقتضاها على جائزة نوبل، ويتمثل إبداع محمد يونس في تمكنه من إقراض الفقراء الذين لا يمتلكون أي ضمانات، لكنهم يمتلكون الثقة والاعتماد المتبادل. وقد لاقت تجربة هذا البنك نجاحًا واسعًا خارج نطاق بنغلاديش، حيث طبقتها بشكل أو بآخر أكثر من أربعين دولة حول العالم.

آفاق المستقبل

لعل السؤال الذي يطرح نفسه الآن في الجدل الأفريقي حول التنمية المستدامة هو: ما الذي نجحت فيه الصين بأفريقيا وفشل فيه الغرب؟ لقد جاءت المساعدات الغربية إلى أفريقيا دون النظر إلى ما تخلفه من نتائج وآثار. نجم عن ذلك إثراء النخب الأفريقية واستبعاد العامة والفقراء من عوائد هذه المساعدات، وربما يفسر ذلك حالة عدم الاستقرار السياسي والاجتماعي في البلدان الأفريقية على مدى العقود الماضية. أما الصين فتنظر إلى الأمور بمنظور المصلحة والمنفعة المادية، ولذلك فهي ترسل الأموال إلى أفريقيا وتنتظر المقابل.
وعليه تصبح المعادلة كالتالي: يحصل الأفارقة على الوظائف والطعام والطرق وتتحسن طرائق معيشتهم، وفي مقابل ذلك تحصل الصين على النفط والمواد الخام والمكانة والنفوذ الاقتصادي. وقد دفع ذلك البعض إلى القول بأن التحسن الاقتصادي الذي ينعكس على حياة المواطن العادي يعد أكثر أهمية من مجرد إجراء انتخابات دورية ووجود تعددية حزبية.
ويتوقف المضي قدمًا في طريق المستقبل الأفريقي على أمرين: أولهما التخلي عن نمط التنمية المعتمد على المساعدات الخارجية، وإعادة التفكير الجدي في البدائل الأفريقية لتمويل مشروعات التنمية المستدامة. إن أفريقيا بحاجة ماسة اليوم إلى تفعيل شعار “حلول أفريقية لمشكلات أفريقية”. ولا شك أن ذلك يتطلب درجة عالية من الوعي وحالة من الإبداع حول ما يصلح وما لا يصلح للتنمية في أفريقيا.
أما الأمر الثاني فهو أقرب إلى مقولة “المستبد العادل”، فأفريقيا بحاجة إلى نمط من الحكومات القوية التي تستطيع دفع عجلة النمو الاقتصادي والاستقرار الاجتماعي أكثر من حاجتها إلى مجرد انتخابات شكلية وأحزاب “ورقية” قد لا تغير شيئًا من طبيعة المعادلة السياسية القائمة.
علينا أن نتذكر أنه قبل ثلاثين عامًا كانت معدلات النمو الاقتصادي في بعض الدول الأفريقية مثل ملاوي وبوروندي وبوركينافاسو تفوق تلك التي حققتها الصين آنذاك. وليس بخافٍ أن هذه المعجزة الصينية لا تعزى إلى المساعدات الخارجية وإنما إلى سياسات الاستثمار الأجنبي المباشر ونمو قطاع الصادرات. وأحسب أن على أفريقيا التعلم من الخبرة الآسيوية وتدع عنها وزر نمط التنمية الغربية المفروض من الخارج.
*****

الهوامش

[1] Oscar Lewis. La Vida: A Puerto Rican Family in the Culture of Poverty, San Juan and New York. New York: Random House, 1966.
[2] تتجسد تأثيرات ثقافة الفقر في انتشار مجموعة من القيم السلبية في المجتمع مثل السلبية والفساد وغياب الروح الوطنية. انظر في ذلك:
Robert Dibie, The Politics and Policies of Sub-Saharan Africa. Lanham: Univ. Press of America, 2001, p. 106.
[3] ترجع قيمة هذا الكتاب إلى أنه يعد من أفضل النصوص السياسية والفكرية في التاريخ الأوروبي التي قامت بتشريح مفهوم الطغيان ودور العامة من الناس في تكريس وديمومة الطغيان في المجتمع. انظر: أتين دي لابويسيه، العبودية المختارة، ترجمة مصطفى صفوان، القاهرة: مكتبة مدبولي، 1990.
[4] Moeletsi Mbeki, Architects of Poverty: Why Africa’s Capitalism needs Changing, Pan Macmillan South Africa, 2009
[5] Rene Dumont,False Start in Africa, Earths can Pubns Ltd; 2nd edition, 1988.
[6] حمدي عبدالرحمن، الصراعات العرقية والسياسية في أفريقيا: الأسباب والأنماط وآفاق المستقبل، مجلة قراءات أفريقية، العدد الأول، أكتوبر 2004.
[7] حمدي عبدالرحمن، أفريقيا وتحديات عصر الهيمنة، القاهرة: مكتبة مدبولي، 2009.
[8] كانت النتيجة الحتمية لهذه الممارسات التي تعبر عن عجز الدولة الأفريقية في مرحلة ما بعد الاستعمار تتمثل في زيادة حدة الفقر في أفريقيا، إذ أن القارة التي تحتضن 10% من سكان العالم يوجد بها نحو 300 مليون فقير، يتوقع أن يصل هذا الرقم إلى 400 مليون عام 2015 انظر:
Arne Bigsten and Abebe Shimeles, Can Africa Reduce Poverty by Half by 2015? The Case for a Pro-Poor Growth Strategy, Development Policy Review, vol. 25, no.2, 2007, pp.147-166.
[9] جان فرانسوا بايار، سياسة ملء البطون، دار العالم الثالث، 1993.
[10] لمزيد من المعلومات حول ظاهرة التكالب الدولي الجديد على أفريقيا انظر:
George Frynas and Manuel Paulo, A New Scramble for African Oil? Historical, Political, and Business Perspectives, African Affairs (London) 106 (423): 229-251.
[11] انظر في ذلك:
Adesoji, Abimbola, The Boko Haram Uprising and Islamic Revivalism in Nigeria, in: Africa Spectrum, vol. 45, no.2, pp. 95-108. and Onuoha, Freedom C., The Islamist challenge: Nigeria’s Boko Haram crisis explained, African Security Review, vol.19, no.2, pp.54-67.
[12] Joe Boyle, Nigeria’s ‘Taliban’ enigma, available at: http://news.bbc.co.uk/2/hi/africa/8172270.stm.
[13] John N. Paden, Faith and Politics in Nigeria: Nigeria as a Pivotal State in the Muslim World, Washington, D.C.: United States Institute Of Peace Press, 2007.p.35.
[14] راجع وقارن:
Abdulrahman Mele, BOKO HARAM: A New Face of Militancy in Nigeria, at: http://www.hotneus.com/boko-haram-a-new-face-of-militancy-in-nigeria.html.
[15] Mohammed Salisu, Corruption in Nigeria, Lancaster: Dept. of Economics, Management School, Lancaster University, 2000.
[16] Anneli Botha, Are the Ugandan Terror Attacks a Sign of Things to Come from al Shabaab?, Pretoria: Institute of Security Studies, 14 July 2010
[17] عبد الرحمن إبراهيم دريه، تفجيرات كمبالا.. دلالات ومآلات،
http://www.somaliatodaynet.com/port/2009-04-24-18-19-57/17-2009-04-15-02-16-23/1380-2010-07-21-08-53-47.html.
[18] انظر على سبيل المثال:
Michael Wilkerson, Uganda’s War on Terror Comes Home: Somalia’s radicals strike back, Foreign Policy, JULY 12, 2010.
[19] Somalia dilemmas, changing security dynamics, but limited policy choices, Pretoria: Institute of Security Studies, ISS Paper 218, October 2010.
[20] حمدي عبدالرحمن، تطورات القضية الصومالية وأزمة النظام العربي، القاهرة: مجلة آفاق أفريقية، العدد 26 خريف 2007
[21] حمدي عبد الرحمن، رهانات الحرب والسلام في الصومال، القاهرة: مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية، ملف الأهرام الاستراتيجي، المجلد 115، العدد 171- مارس 2009
[22] Said. Adejumobi, Elections in Africa: A Fading Shadow of Democracy, In Government and Politics in Africa: A Reader, ed. Okwudiba Nnoli. Harare, Zimbabwe:AAPS Books, 2000. pp. 242–261.
[23] The power of the angry voter: Even bad elections are better than none, The Economist, Jul 22, 2010.
[24] David Zounmenou and Issaka K. Souaré, What Way Out of the Post-Election Imbroglio in Cote d’Ivoire? Pretoria: ISS News, 07 December 2010.at: http://www.issafrica.org/iss_today.php?ID=1077
[25] انظر وقارن: حمدي عبدالرحمن، الانتخابات والمساءلة الاجتماعية في أفريقيا، مجلة الديمقراطية، المجلد 10 (39)، 2010.
[26] لمزيد من التفصيلات انظر: حمدي عبدالرحمن، العائلية السياسية وأزمة الشرعية في أفريقيا، مجلة الديمقراطية، المجلد 10، عدد 37، 2010.
[27] Chinua Achebe, Things Fall Apart. African writers series. Oxford: Heinemann Educational, 2000.
[28] انظر: حمدي عبدالرحمن، تحديات العمل الخيري الإسلامي في أفريقيا (رؤية إستراتيجية)، مجلة مداد لدراسات العمل الخيري، العدد الأول 2010، ص ص، 67-101.
[29] حول مفهوم المساعدات الخارجية وتطوره انظر:
Roger Riddell, Does Foreign Aid Really Work? Oxford: Oxford University Press, 2007.pp 17-30.
[30] يقول تشارلز وارلدج Charles Worledge أحد مسئولي شركة شحن Sealift الناقل الرئيسي لبرنامج الغذاء الأمريكي ضد الجوع: “لقد كنت أعتقد أن هذه المساعدات الغذائية هي عمل خيري.. إنها ليست كذلك. إنها مجرد تجارة”. لمزيد من التفصيلات انظر: المرجع السابق، ص 89.
[31] Dambisa Moyo, Dead Aid: Why Aid Is Not Working and How There Is a Better Way for Africa, Farrar, Straus and Giroux, 2009.

نشر في حولية أمتي في العالم، عدد 2011

للتحميل اضغط هنا 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى