حقوق الإنسان من منظور عالمي (إضاءات على طوفان الأقصى)

اللقاء السابع من ملتقى التحولات والقضايا العالمية

مقدمة د. نادية مصطفى للقاء:

وصلنا إلى اللقاء السابع والأخير من ملتقى التحولات والقضايا العالمية المعاصرة: والذي تقدمه د. أميرة أبو سمرة – أستاذ مساعد العلوم السياسية بكلية الاقتصاد والعلوم السياسية – جامعة القاهرة،  الخميس 7 مارس 2024.

الملتقى بلقاءاته السابقة انقسم إلى قسمين؛ قسم خاص بالخصائص/ الملامح الكبرى للتحولات العالمية التي تجري على مستوى نظمي، وقسم ثان يركِّز على أهمِّ القضايا العالمية المعاصرة، ويناقش كيف نقترب منها من منظورات حضارية مقارنة، استدعاءً للمنظور الحضاري الإسلامي ومقارنة بالمنظورات الأخرى التي أدْلت بدلوها في مجال العلاقات الدولية حول هذه القضايا العالمية المعاصرة، منها القضايا التقليدية الخاصة بالصراعات المسلَّحة والصراعات الحدودية.

وقضايا جديدة، والتي كانت جديدة فعلًا في بداية التسعينيات حين بدأ يبرز هذا النوع من القضايا الخاصة بالمرأة وحقوق الإنسان والبيئة والجريمة المنظمة والتجارة العالمية واللاجئين والهجرة والأقليات…، وكانت في وقتها جديدة لأنها لا تتَّصل بالدول القومية والسياسات الرسمية فحسْب، ولكنها قضايا تتَّصل بالإنسان مباشرة، والتفاعلات حولها أوسع بكثير من التفاعلات الرسمية، وتنضم فيها التنظيمات المدنية عبر الإقليمية وعبر القومية في محاولات للضغوط على السياسات الرسمية وعلى السياسات الأممية، حيث تحاول الأمم المتحدة منذ بداية التسعينيات تقنين هذه الموضوعات وتصْدر مواثيق خاصة بهذه القضايا، وفي قلب كل هذه القضايا التي دخل فيها الإنسان فلا بدَّ أن تدخل الثقافة والدين والحضارة والقيم والأخلاق والتقاليد، وتدخل فيها فواعل متعدِّدة المستويات دون الدولة القومية أو فوق القومية وفي قلب كل هذه الأمور الإنسان.

وبالتالي كان اختيارنا أن نبدأ هذه السلسلة بهذا الموضوع عن حقوق الإنسان من منظور عالمي، وهو موضوع متعدِّد الفروع المعرفية وتدرسه دراسات مختلفة، وندرسه من مدخل العلاقات الدولية باعتبارها قضية عالمية معاصرة.

وننوِّه أيضًا على الجهد العلمي السابق في هذا الموضوع.. حيث قام مركز الدراسات الحضارية وحوار الحضارات في العام 2008 أثناء رئاستي له بالتعاون مع منتدى القانون الدولي تحت رئاسة د. محمد شوقي، بتنظيم مؤتمر يمكن أن نصفه بأنه شبه دولي بمناسبة 60 عامًا لصدور الميثاق العالمي لحقوق الإنسان، وصدر عنه في جزئين كتاب: الإعلان العالمي لحقوق الإنسان: حقوق الإنسان بين النظرية والتطبيق، فضلا عن التدريس في القضايا العالمية المعاصرة، وكانت د. أميرة أبو سمرة ضلعًا أساسيًّا فيه في كلية الاقتصاد والعلوم السياسية، وقضية حقوق الإنسان والقضايا المنبثة عنها كانت في صميم هذه القضايا تدريسًا وبحثًا ونشرًا. وبعد 30 عامًا من انفجار الاهتمام بهذه المنطقة المعرفية / الفكرية / السياسية / التطبيقية. تقدِّم لنا د. أميرة عرضًا ربما يتجاوز هذه الذاكرة التاريخية وينقلنا إلى الجديد فيها.

مداخلة د. أميرة أبو سمرة

تطرح غزة نفسها كقضية حقوق إنسان بامتياز، فغزة قضية تتعلق بحقوق المرأة وحقوق الطفل، وتمس الحق في بيئة نظيفة والحق في المياه والغذاء، وهي قضية تمس منظومات القوانين والأعراف الدولية الرافضة للإبادة الجماعية والإبادة الثقافية والتعذيب والتهجير القسري، وقضية حقوق النازحين واللاجئين،  وقبل هذا كله هي قضية حق شعب في تقرير مصيره والتحرر من الاحتلال.

ومن ثم فقضية غزة تمسُّ كلَّ ما يُسَمَّى “حقوق إنسان” في منظومة حقوق الإنسان العالمية التي كفلها القانون الدولي عبر مواثيق وعهود ومؤسسات وأعراف لا حصر، ومع ذلك تستمر الحرب لأشهر طويلة (ستة أشهر حين إلقاء هذه المداخلة) ويقف الجميع بين متفرج ومتواطئ ومتخاذل. فكان السؤال لماذا تقف غزة خارج مظلة حقوق الإنسان الدولية؟ لماذا لا تحظى بأي حماية رغم وجود منظومة متراكمة ومتكاملة وموثقة من حقوق الإنسان يعتبر كثيرون  وجودها بمثابة سمة مميزة لنظامنا الدولي المعاصر منذ نهاية الحرب العالمية الثانية؟

وللإجابة على سؤال لماذا تستبعد غزة من مظلة الحماية التي تكفلها منظومة حقوق الإنسان؟ نطرح سؤالين:

– السؤال الأول: ما هي الحقوق؟

– السؤال الثاني: من هو الإنسان؟

ربما يجيبنا تقرير لمنظمة العفو الدولية إحدى المنظمات الحقوقية غير الحكومية الكبرى على مستوى العالم على السؤال الأول. يرصد التقرير إنجازات المنظمة في العام 2022، لعل من أبرزها: الضغط للإفراج عن معلم مسجون بتهمة سب الذات الإلهية – الضغط للإفراج عن محتجزين من قبل حركات دينية متطرِّفة – التعجيل بمحاكمة قتلة شاب أمهق – الضغط على الحكومة الإسرائيلي لدفع تعويضات لأسرة طفل فلسطيني مات متأثِّرًا بـ”معاملة قاسية” تعرَّض لها عند إحدى نقاط التفتيش – الضغط من أجل “فتح” التحقيق في مقتل شيرين أبو عاقلة – حملات ضغط من أجل إلغاء عقوبة الإعدام في عددٍ من الدول – تشريع حق الإجهاض في المكسيك والأرجنتين – السماح بزواج المثليِّين في سويسرا وسلوفينيا.

ومن ثم يوحي الخطاب السائد عن حقوق الإنسان في أحيان كثيرة وكأنها قد أصبحت منحصرة في حقوق الاستثناءات!! الأكيد هو أننا أمام قضايا حقوق إنسان فردية، تتعامل مع البشر على اعتبارهم أفرادا وتغفل قضايا أكثر كلية وأكثر عمقا تمس صميم وجودهم الإنساني والحضاري والثقافي، وبالتالي فهناك قدر من تفريغ قضية حقوق الإنسان من مضامينها الكبرى، والاحتفاظ بالمضامين الفردية الفرعية بشكل كبير. ولهذا، ولما كانت قضية غزة هي قضية وجود إنساني وحضاري وثقافي بدا وكأن الخطاب الحقوقي “السائد” بنزعته الفردانية غير مؤهل للتعامل معها.

وهو ما ينقلنا للسؤال الثاني الذي تستغرق الإجابة عليه الشق الأكبر من هذه المداخلة: من هو الإنسان الذي يتمتع بحقوق للإنسان؟

كنا لفترات طويلة ننشغل بإشكالية الخصوصية في مواجهة العالمية، ولعل هذه كانت إشكالية أساسية من الإشكاليات التي تناولتها دراسات مؤتمر حقوق الإنسان الذي أشارت إليه أ.د. نادية مصطفى في تقديمها لهذه المداخلة. كان السؤال المتكرر هو إلى أي مدى تعبر منظومة حقوق الإنسان عن عالمية حقيقية وإلى أي مدى تتعارض مع خصوصيات ثقافية في آسيا أو العالم الإسلامي أو غيرهما. وإذا كان هذا السؤال لا زال مطروحا في كل مرة تصطدم فيها مساعي تعميم منظومة حقوق الإنسان مع خصوصيات ثقافية بعينها، إلا أن اليوم في ظل مراجعات نقدية للعلوم الاجتماعية من دوائر غربية وشرقية تتكشف لنا تدريجيًا الحاجة إلى سؤال آخر ألا وهو: من هو الإنسان الذي يتمتع بحقوق الإنسان ابتداء؟  

نقطة البداية عادة في تعريفنا للإنسان في عالمنا الحداثي المعاصر تكون مع التجربة الاستعمارية. فالتجربة الاستعمارية أنتجت تعريفًا خاصًا للإنسان قامت على أساسه بعملية ممنهجة من نزع الآدمية (dehumanization) عن البعض. فمن خلال ممارسات مثل العبودية، وتسخير العمالة، والفصل العنصري، ونهب الثروات، وسرقة الممتلكات، وممارسة العنف الممنهج نزع الاستعمار صفة الآدمية عن المستعمرين، وحل محلهم كآدمي وحيد مكتمل الآدمية.

فهل انتهت هذه الممارسة من نزع الآدمية بنهاية الاستعمار؟

هناك شواهد كثيرة تقول بأنها لم تنتهي، وأننا لا زلنا نعيش في عصر من نزع الآدمية عن البعض والاحتفاظ بها للبعض الآخر. لا تتساوى حياة البشر في قيمتها على أي حال من الأحوال، تستباح دماء وأعراض وأموال البعض بحجة حماية أمن البعض، ففي حين ما بلغ عدد القتلى في حادثة تفجير برجي التجارة العالمية في عام 2001 في أمريكا نحو 3000 مدني، بلغ عدد القتلى من المدنيين في الحرب الأمريكية على الإرهاب -التي شنت بحجة حماية الأمريكان من هذا الإرهاب- في العراق وسوريا وحدهما قرابة 350 ألف نسمة خلال الفترة من 2003 إلى 2023، ناهيك عما خلفته الحرب الأمريكية من الملايين من النازحين ومئات الآلاف ممن قتلهم سوء التغذية ونقص الرعاية الصحية وانعدام مياه الشرب الآمنة، وذلك وفق تقرير لقناة الجزيرة نشر في عام 2023. وبينما نؤمن أن قتل نفس بريئة ولو واحدة هو جريمة في حق الإنسانية جمعاء، يبدو أن الولايات المتحدة وحلفاءها لا يزنوا النفوس البشرية بنفس الميزان.

مثل هذه الشواهد ومئات غيرها دفع البعض للحديث عن هيراركية عنصرية وعرقية كامنة خلف واقعنا الدولي المعاصر وقوانينا الدولية المعاصرة والسياسات الخارجية للقوى الكبرى تتضافر كلها لتكرس وتحصن الهياكل الفكرية التي أوجدها الاستعمار، حتى وإن اختفى الاستعمار كظاهرة مادية أو عسكرية من حياتنا.

تتوقف عند هذه المسألة دراسة ترى الهيراركية العرقية كـ”عرف خفي أو مسكوت عنه في العلاقات الدولية” رغم ما تعتبره الدراسة من أن العرق (أو العنصر) race هو متغير أساسي مؤثِّر في التفاعلات والعلاقات الدولية. أوحى السكوت عن هذا المتغير وكأن العالم الذي تشكَّل بعد حركات التحرُّر ليس عالمًا من الاستعلاء الغربي، وكأننا عندما تخلَّصنا من الاستعمار تخلَّصنا معه من الاستعلاء الغربي واستبدلْنا عالمنا بعالَم آخر يتساوى فيه الجميع. بل وأوحت مفاهيم مثل السيادة والاستقلال الدولي بأن الدول كلها سواسية، دولة أفريقية سوداء لها نفس الحق في التصويت في الجمعية العامة كدولة أوروبية سوداء، فأين المشكلة؟

تؤكد هذه الدراسة المشار إليها أن المشكلة تكمن في مسألتين:

  • المسألة الأولى هي أن من هو تحت خط اللون الأبيض under the color line، هذا الخط الفاصل بين من هو أرقى ومن هو أدنى، يتم تصويره دائما وكأنه إنسان غير كامل الإنسانية.

ويذكرني هذا بموقف مر بي في جلسة في أحد المؤتمرات الدولية. كان موضوع الجلسة العدالة في العلاقات الدولية، وطُرحت مسألة بوتين ودخوله أوكرانيا. وكان تعليقي هو أن بوتين استخدم نفس تعريف العدالة الغربي حين اجتاح أوكرانيا عسكريا حيث العدالة هي ما يعتبره الأقوى عادلا. وهو ما ظهر في تصريح وزير الخارجية الروسي حين قال تعليقا على العدوان الروسي على أوكرانيا فلتعتبروا روسيا أمريكا أو لتعتبروا أوكرانيا العراق.

فجاء رد أحد الأساتذة الغربيين بصرامة أنه لا يمكن أن نقارن بين أوكرانيا والعراق بحال، لأن العراق ليست دولة ديمقراطية أما أوكرانيا فهي دولة ديمقراطية، فكأن غياب معيار الديمقراطية -الذي جعل العراق غير شبيهة بالغرب- جعل استباحة الإنسان العراقي مقبولة. وكأن من المقبول أن أتغاضى عن حقوقك كإنسان لمجرد أنك تعيش في دولة غير ديمقراطية حيث لا تكتمل عناصر إنسانيتك إلى بتشابهك الكامل مع الغرب. هكذا يترجم عدم التطابق بين الغربي وغير الغربي على أنه عدم كمال ونقصان.

فكأن كل الفرق بين الاستعمار وما بعد الاستعمار، هو أننا بدلا من أن نجبر على القبول بأن الغرب أرقى بفعل العبودية أو البروباجندا الإمبريالية أو الفصل العنصري، سنجبر على الانصياع والقبول بأن هذا الغربي أرقى بفعل ما يدعي أنه حققه من تحديث وتمدن وتنمية وتحول الديمقراطي وغيرها على الجميع أن يسير خلفه لتحقيقها.

لهذا وجد البعض الهيراركية العنصرية حاضرة في مفاهيم وتفاعلات وسياقات دولية عديدة.

كالحوكمة الرشيدة حيث هناك نموذج أوروبي مثالي على الجميع أن يحذو حذوه.

– أو اتفاقيات مركز القوات (Status of forces agreement) وهي لا تحصِّن فقط الجندي الأوروبي والأمريكي من أن يخضع للمساءلة، ولكنها تؤكِّد أيضًا ضمنا على فكرة دونية المؤسَّسات والجهات القضائية غير الأوروبية وعدم صلاحيتها لمحاكمة أبناء الغرب.

أو نظام روما الأساسي الخاص بالمحكمة الجنائية الدولية: حيث كل الجرائم التي يوليها نظام روما الأساسي تبدو وكأنها صممت لتتشابه مع نوعية الجرائم التي ترتكب في أثناء الحروب الأهلية في الدول النامية، لكن تعريف نظام روما للجرائم ضد الإنسانية يكاد لا يفسح مساحة تذكر لجرائم من قبيل الفصل العنصري أو الاستعمار أو تلويث البيئة وهو نمط الجرائم الذي تتورط فيه الدول الغربية عادة.

ونجد هذه الهيراركية العنصرية حاضرة في مفهوم كمسئولية الحماية: والذي يعتبره البعض أقرب ما يكون إلى شكل من أشكال العلاقات الأبوية التي طالما عبر عنها الاستعمار بالانتداب والوصاية وغيرهم، إذ يحمل في طياته فكرة أن الدول غير الغربية لا تحمي شعوبها بدرجة كافية، وأن هناك من عليه أن يتدخَّل نيابة عنها. ليست المشكلة في مبدأ مسئولية الحماية بالتأكيد في ترويجه لأهمية نصرة المستضعفين، لكن المشكلة الحقيقية هي أن ممارسة المبدأ محملة بتناقضات مخيفة، فأن تتدخل القوى الغربية الكبرى -تدخلا انتقائيا- لحماية من تراه مستحقا للحماية هو أمر مقبول، ولكن أن تنتفض الشعوب بنفسها من خلال مقاومة مسلَّحة لرفض شكلٍ من أشكال الظلم الواقع عليها، وأن تحمي نفسها وتنهض بالسلاح لتدافع عن المياه والحياة والأرض كحماس أو الحوثيين فهذا أمر غير مسموح به يستجلب معه بالضرورة كل اتهامات التطرف والإرهاب.

– أمثلة وفيرة على هذه الهيراركية العنصرية تحضر في خطابات دونالد ترامب وأمثاله من الشعبويين. فالرئيس الأمريكي السابق الذي يرى أن الدول الإفريقية ليست سوى مقالب للقمامة، تساءل في خطاباته بأريحية كاملة: لماذا على الولايات المتحدة أن تستضيف المهاجرين من الدول الإفريقية أو هايتي أو السلفادور، لماذا لا تستقبل المهاجرين من النرويج؟

ونرى هيراركية عنصرية في موقف بلجيكا التي عبَّرت عن “أسفها” لتعرض الكونغو لتجربة استعمارية أليمة (كانت بلجيكا تمارس في استعمارها للكونغو وغيرها أقصى درجات الوحشية والتفرقة واستغلال الثروات)، إلا أنها لم ترى في هذه التجربة ما يستدعي الاعتذار ناهيك عن دفع تعويضات لما ألحقته بالكونغو من أضرار طويلة المدى.

وغيرها الكثير والكثير من الأمثلة.

  • المسألة الثانية هي أن من يعيش أسفل هذا الخط الفاصل بين من هو أرقى ومن هو أدنى، عادة ما ينظر إليه على أنه عدواني وعنيف ومصدر للتهديد والاستقرار ولا يُؤمن جانبه.

تتردد لهذا فكرة الغضب الإسلامي في الكتابات الغربية فيظهر وكأنه غضب غير مبرَّر، ومدعاة لممارسة العنف ضدَّ المسلمين أنفسهم، ليس فقط لتأديبهم ولكن لمحوهم وإبادتهم وكأنهم ليسوا بشرًا كاملين. وهو ما يفسِّر حجم العنف الذي يمارَس ضدَّ بشرٍ، سواء كانوا محبوسين في جوانتانامو أو محاصرين بلا سُبُلِ عيش وأطفال رضع في غزة. وتفسر هذه المسألة حديث الغرب عن الخطر الأخضر تارة وعن الخطر الأصفر تارة أخرى، وتعامله مع العالم من حوله وكأنه مصدر للتهديد مستمر.

  • ترتبط في هذا السياق الهيراركية العرقية بالهيراركية المعرفية. فالغرب الأرقى حضاريا هو بطبيعة الحال الأرقى معرفيا.

– من هنا تثير الأدبيات مفاهيم الإبادة المعرفية (Epistemicide) والعنصرية المعرفية (بل وتحديدا الإسلاموفوبيا المعرفية) التي تتعرض لها شعوب العالم غير الغربي، كأن الرؤية الغربية للعالم والإنسان والطبيعة من حوله هي الرؤية الوحيدة الموجودة، بينما الكثيرون أصبحوا يدركون أن الحق الأول الذي يجب أن يكون مكفولا للبشر هو حقهم في الوجود المعرفي والأنطولوجي، وحقهم في الإجابة على أسئلة الوجود الكبرى إجابة مقنعة لهم، حقهم في الاختلاف وفي التمتع بالاحترام رغم هذا الاختلاف.

أستدعي مرة أخرى تجربة شخصية لشرح هذه المسألة. ففي محاضرة عن نقد الاتجاهات النقدية المتصاعدة في العلاقات الدولية وجدت الأستاذ المحاضر وهو أحد أعلام العلاقات الدولية البريطانيون يؤكد بثقة أن حقل العلاقات الدولية ليس بحاجة إلى الاتجاهات النقدية المتنامية فيه، وذلك لأن الحقل ببساطة نشأ نقديا منذ يومه الأول، نشأ كمشروع نقدي، تحرُّري انعتاقي. أما تفسيره لهذا فهو أن حقل العلاقات الدولية منذ نشأته  هو مشروع نقدي إذ قام بنزع القداسة عن كل شيء وإخضاع كل المسلمات للتفكير وإعادة التفكير. فالمقدسات حسب تعبيره مصيرها إلى الانقراض وكل من يؤمن بها مصيره  إلى الانقراض أيضًا.

هذه الفكرة الاستعلائية تفسر نظرة الكثيرين لكلِّ من يحمل دينًا نظرة دونية محملة باستشعار التهديد والشك.

وهو ما دفع حميد دبارشي -الإيراني- إلى كتابة دراسته متسائلا: هل يستطيع غير الغربيين التفكير؟ Can non-Europeans think?، لافتا النظر لهذا الاحتكار الذي تمارسه الأطروحات الغربية الاستعلائية لحق الشعوب في إنتاج طرقها في التفكير وطرقها في الحكم على الأمور وعلى خيريَّتها وشرِّها انطلاقًا من مرجعيَّاتها المعرفيَّة الأصلية.

إن ما نتحدَّث عنه هو حق الشعوب في الحفاظ على ثقافتها وعلى رؤيتها للعالم ورؤيتها المعرفية، ليس من منطلق حقِّها في التحجُّر في الماضي وإنما من منطلق حقِّها في النموِّ والتطوُّر وفق خصوصية ثقافية، وأن تبحث في تراثها عن حلول لواقعها ومشكلاته وتناقضاته وتُنقب عن المُهمل في هذا التراث، وكلها حقوق تمَّ تجاوزها بالفكرة الاستعمارية.. التي فَرَضَتْ عليها أن تسير على المسار الذي وضعَه الاستعمار لكي تصبح دائمًا وأبدًا الطرف الأضعف في المعادلة، الطرف الذي لم تكتمل إنسانيَّته بعد.

تأخذ التحيزات المعرفية صورًا عديدة أخرى منها أن تنتزع قضايا المرأة من سياقها الحضاري أو الثقافي الذي تنتمي إليه. فيتم وضع جميع النساء في سلة واحدة، وكأن قضايا المرأة في كل مكان هي قضايا المرأة البيضاء الغربية التي تنتمي إلى الطبقة المتوسِّطة. ومنها حتى أن توضع النساء غير الغربيات كلهن في سلة واحدة في مواجهة المرأة الغربية. ففكرة وضع الجميع في سلة واحدة هي فكرة استعلائية تقوم على أن الجميع غير الغربي متشابه، وفيها مبالغة في التعميم في التشابه الثقافي بين كل من هو ليس غربي.. وكأن المرأة الأفريقية هي نفسها المرأة في الدول النامية هي نفسها المسلمة!

تقدم المرأة الفلسطينية نموذجا فريدا يستعصي على أطروحات حقوق المرأة الليبرالية والاشتراكية استيعابه. تقاوم المرأة الفلسطينية حين تهب أبناءها الكثر للموت واحدا تلو الآخر في سبيل الوطن والمقدسات، وتقاوم حين تتشبث بالأرض رغم القذائف الصاروخية والقنابل، وتمرض وتسعف وتعلم وتحفظ القرآن تحت أصوات القصف التي لا تنقطع. تتحدى المرأة الفلسطينية مساعي التنميط وتقدم نموذجها الفريد في تحد هام لمنظومة حقوق إنسان استعلائية ترسم مسارات محددة للرقي والتحضر.

وقد يفرض سؤال نفسه في هذا السياق: أليست الليبرالية الكامنة خلف منظومة حقوق الإنسان تخبرنا أن البشر سواسية؟ فما هو مصدر هذا التناقض بين الواقع وتطبيق منظومة حقوق الإنسان. يخبرنا تتبع تطوُّر حقل العلاقات الدولية أنه تحت تأثير هيمنة النموذج المعرفي العلماني الوضعي المادي حدثت قطيعة بين القيم والعلاقات الدولية لسنوات طوال امتدت إلى ثمانينيات وتسعينيات القرن الماضي وترددت على مدارها مقولات عن أن العلم هو بالضرورة علم خال من القيم وأن الدول محكومة في علاقاتها الدولية بمصالح وحسابات رشيدة للمكاسب والخسائر المادية بغض النظر عن الاعتبارات الأخلاقية أو الإنسانية. ومن ثم حصل ما يشبه القطيعة بين القيم الليبرالية التي تتحدَّث عن حياة فُضلي وبين العلاقات الدولية، نظرية وممارسة. ومن ثم لم يُترك من الليبرالية في العلاقات الدولية سوى استعلائها حين دمجت في منظومة مادية مصلحية نفعية يعظم فيها كل طرف مصلحته بلا ضابط أخلاقي أو رابط إنساني إلى حد اكتسبت معه الليبرالية صفة النفعية فأصبحت تسمى صراحة بالليبرالية النفعية في أدبيات العلاقات الدولية utilitarian liberalism.

لا نتحدَّث في حقل العلاقات الدولية عن الليبرالية التي تروج لقيم الحرية والتعددية التي يتحدَّث عنها أصحاب النظرية السياسية -على كلِّ مآخذنا عليها وعلى كلِّ مشاكلنا مع فكرة التذرير “بمعنى التعامل مع الفرد كذرة وحيدة بلا سياق اجتماعي أو ثقافي يفرض عليه التزامات ويخصص له حقوقا”- فلو كانت الليبرالية تروج لحرية وتعددية حقيقيتين على المستوى الدولي لربما جلبت قدرا من النفع للبشرية. لكن مشكلتنا في العلاقات الدولية مع ليبرالية تخدم غاية الاستعلاء الغربي وتكفل استمرارية الامتيازات التي يتمتع بها العالم الغربي في عالمنا المعاصر (ليبرالية نهاية التاريخ) وتحجر على معارف الآخرين ورؤاهم للعالم، ومن ثم تظهر محملة بتحيزات ضد رؤى العالم غير الغربي إلى حد قد تدافع معه عن حرية الفرد في أن يتخلص من العبودية للإله، ولكنها لا تكفل له حرية أن يكون عبدا للإله وأن يسترشد في حياته العامة برؤية للوجود غير تلك الرؤية الليبرالية العلمانية المادية دون أن تصمه بالتخلف أو الرجعية.

من هذا المنطلق تشكل غزة تحديا للمنظومة الاستعمارية الاستعلائية الممتدة في واقعنا، تقدم لها نموذجا بديلا. فغزة تقدم نموذجا للمقاومة الحضارية التي تتحرك على أرضية الدين والإنسانية، وتساهم فيها المرأة إلى جوار الرجل في الصمود والحفاظ على الأرض والمقدسات، وتخلق تعريفا جديدا للبطل غير تعريفات السوبرمان والرجل الوطواط، وتدافع بصلابة عن حق الجميع في الحياة والكرامة والحرية.

وهو ما ينقلنا إلى مسألة أخرى تتمثل في أن الإرث الاستعماري جعل الكثير من الشعوب التي تعرَّضت للتجربة الاستعمارية أسيرة كراهية الذات واحتقارها، تدرك ذاتها وكأنها لا تستحق أن تعاملَ معاملة الآدمي الكامل. وإلا كيف نفسر خطاب يتردد بين جنبات مجتمعاتنا العربية يلوم المقاومة ويحملها مسئولية العدوان الإسرائيلي “الخامس” على غزة بدلا من لوم الذات عن تقاعسها في ردع هذا العدوان، كيف وصل بنا الحال لأن نلوم المقاوم الذي ثار ضدَّ الطغيان والاستبداد والاستعمار وضدَّ نزع آدميَّته وآدميَّة شعبه؟ أو كيف نفسر مسارعة البعض لمد جسور برية لتوصيل المواد الغذائية لإسرائيل في وقت تحاصر فيه إسرائيل الشعب الفلسطيني بحملة من التجويع نادرا ما شهد مثلها التاريخ، أو حتى كيف نفسر موقف القاضية الأوغندية في محكمة العدل الدولية التي انفردت دونا عن قضاة فرنسا وألمانيا وأمريكا وحتى دونا عن القاضي الإسرائيلي ذاته بالتصويت لصالح إسرائيل في القضية المرفوعة ضدها من جنوب إفريقيا؟؟

في تجربة اجتماعية عن “استشعار الألم” لاحظت التجربة أن الأفراد بشكل عام يتعاطفون بطبيعة الحال بشكل أكبر مع ألم الأفراد الذين ينتمون إلى نفس جماعتهم. لكن الغريب في الأمر هو أن التجربة ذاتها حين أُجريت على مجموعة من السُّود في الولايات المتحدة الأمريكية، وجد أنهم يتعاطفون مع من يتعرَّض للتعذيب من البيض أكثر مما يتعاطفون مع السود أنفسهم.

إن ما قام الاستعمار به هو أن أوصل الشعوب لمرحلة من التشوُّه الداخلي جعلها تقبل عملية نزع الآدمية عنها.

هكذا ورثت الشعوب المستقلة من الاستعمار وورث نظامنا الدولي فيما يبدو تعريفات متحيِّزة لإنسان دون الآخر، وهي تحيزات مركَّبة فيها الأبيض أرقى من الأسود، والغربي أرقى من غير الغربي، والغني أرقى من الفقير، والعلماني أرقى من الديني، إلخ.. ولا يتمتع فيها الناس بذات الدرجة من الحرية أو الحقوق أو الكرامة الإنسانية على نحو دفع البعض للحديث عن الحاجة إلى تحرير الإنسان من الاستعمار decolonize the human.

فالحقيقة أن البشر لم يكونوا سواسية يوم الإعلان عن الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، ولا يزالون كذلك حتى يومنا هذا.

  • هذا السياق كله يعيدنا إلى سؤال: لماذا صارت غزة خارج منظومة حقوق الإنسان؟

لأنها ببساطة ليس لديها حقوق ولا تستأهل صفة الإنسان وفق هذه المنظومة المركبة لتعريف الحقوق وتعريف الإنسان، لأنها في الواقع تشكل تحديا حقيقيا جادا لهياكل فكرية استعمارية استعلائية نفت الإنسانية عن البعض واحتفظت بها للبعض الآخر ومنحت بعض الحقوق وسلبت حقوقا أخرى ربما أهم.

 

يبدو الطرح الحضاري قادرًا على تجاوز الكثير من عيوب هذه الفكرة الحداثية الاستعمارية التي ابتُلينا بها:

  • مفهوم الإنسان في الطرح الحضاري الإسلامي:
  • الأرض هي محل استخلاف الإنسان، ومحل لعمرانه، بل ومحل لخضوعه للابتلاءات، فمقبول للإنسان البشر الذي يخضع لإله أن يتعرَّض لابتلاءات وهو الذي لا يتصوَّر نفسه إلهًا يجب أن يجري الكون وفق إرادته.
  • بنفس هذا المنطق تتصور الرؤية الحضارية علاقة مساواة وتكافؤ بين البشر كافَّة. كما يوجد بها ميزان مقاصدي للحكم على الأولويَّات، فلا تقدَّم مصلحةٌ اقتصاديةٌ على كرامة إنسانية، ولا يُقَدَّمُ بقاء الأقوى على بقاء سائر البشر. كما تعطينا الرؤية الحضارية منطلقًا لاعتبار المآلات، وفكرة المآلات تضع منظومة حقوق الإنسان في مأزق؛ في كونها قائمة على الفردانية.. واستعلاء غربي على الآخر، فهناك مآلات مخيفة على المدى البعيد لهذه الفكرة على البشرية.
  • نستدعي كذلك كلام أ.د. منى أبو الفضل في تعاملها مع المرأة والرجل من منطلق مفهوم النفس الواحدة، كيف أوقفت الجميع على أرضية واحدة في مواجهة التكليف الإلهي، واستدْعت الآيات التي تتحدَّث عن التقْوى كمعيار للتمايُز أمام الله، بشكل يُناقضُ مفهومَ السلطة المركزي في الفكرة النسوية الذي يتمحور حول وجود هيراركيَّات، وأن هناك من هو أفضل من الآخر وأن هناك من ليس بالبشر الكامل.
  • من هنا يطرح أ.د. عبد الوهاب المسيري أهمية الركيزة، أهمية وجود نقطة ارتكاز يمكن أن ننطلق منها نحن البشر سواسية نتواصل من خلالها وهي الإله، بحيث يكون الحق حقًّا، والعدل عدلًا، والظلم ظلمًا، في كل السياقات، ولا يتمُّ استثناءُ أحدٍ من هذه المنظومة.

 

ختاما نقول أن غزة تمثِّل معضلةً وجوديةً لهذا الطرح الغربي الاستعماري الاستعلائي الذي امتدَّ لسياقات ما بعد الاستعمار. أصبح على الغرب اليوم أن يقف أمام نفسه ويعترف بأنه استولى على الأرض بالتحايُل وبالإكراه والإجبار، ونشر الأمراض والأوبئة، وحرم الشعوب من الطعام والماء النظيف تماما كما يفعل اليوم المستعمر الصهيوني، أصبح على الغرب أن يقر أنه أيضا  ادَّعى أن الأرض بلا شعب، ووصل لكندا ومناطق في أمريكا على حساب سكَّانها الأصليِّين، وجلب المستوطنين حتى فاقت أعدادهم أعداد سكَّان البلاد الأصليِّين، واختطف الأطفال ليغرس فيهم أفكارًا مشوَّهة، وتعمَّد إفقار هذه الشعوب وحرمانها من حقها في أن يكون صاحبُ الأرض هو المزارع والصانع والتاجر في بلده. إن غزة هي أزمة لا يمكن حلُّها إلا إذا تَمَّ حَلُّ هذه المعضلة الاستعمارية الكبرى التي نعيشها من هياكل استعمارية ترى أنَّنا لا نستحقُّ الحياة كبشر كاملين على هذه الأرض، وهي نموذج لن يدعمه سوى أحرار العالم في الغرب والشرق الباحثين عن الحرية والعدالة للبشر، كل البشر، حتى لا نرى أنفسنا بعد مرور أكثر من 75 سنة على الإعلان العالمي لحقوق الإنسان وقد عدنا لنطالب بالحق في الحياة والحق في الكرامة والحق في أن نكون من نريد أن نكون!!

 

حقوق الإنسان من منظور عالمي (إضاءات على طوفان الأقصى)

د. أميرة أبو سمرة – أستاذ مساعد العلوم السياسية بكلية الاقتصاد والعلوم السياسية – جامعة القاهرة

اللقاء السابع: الخميس، 7 مارس 2024 

يمكن مشاهدة المحاضرة من خلال هذا الرابط

إعداد تقرير اللقاء : الزهراء نادي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى