عرض العدد التاسع من حولية «أمتي في العالم» غزة بين الحصار والعدوان

مقدمة:

في أعقاب الهجوم المعجز في السابع من أكتوبر 2023 “طوفان الأقصى”، الذي شنَّته كتائب القسام – الجناح العسكري لحركة حماس؛ شن الاحتلال الصهيوني هجومًا واسعًا؛ هو الأعنف والأكثر وحشية في تاريخ الحروب ضد قطاع غزة بالمقارنة بالحروب السابقة، والتي بلغت ستة حروب، ورغم تباعد السنوات ما بين أول حرب خاضها الاحتلال ضدَّ القطاع متمثِّلة في حرب “الرصاص المصبوب / الفرقان، 2008 / 2009[1]، وبين الحرب الحالية “طوفان الأقصى / السيوف الحديدية 2023 / 2024“؛ فإن هناك ترابطًا متعدِّد الأبعاد -لا زالت تظهر تجلياتها ودلالاتها الحضارية- بين سلسلة الحروب التي خاضها الاحتلال ضدَّ القطاع، وكأننا حينما نجول بين القراءات والرؤى التي تناولت ذلك الحدث السابق فإنما نُجَلِّي ما كان مستترًا فيها أو أقل بروزًا بالحدث اللاحق، لتصبح مرآة العدوان الحاضر كاشفةً بشكلٍ فَجٍّ لتلك الأبعاد الكامنة والمشاهد الملتبسة في العدوان الماضي، وليتجلَّى فيهم مساران مستمرَّان ومتقابلان: عدوان قديم متجدِّد، ومقاومة باسلة صامدة متقدِّمة.

وبحكم جوهر فكرتها القائم على العناية بأحوال الأمة الإسلامية وموقعها في العالم ومستجدَّات أحوالها وقضاياها وما يشتمل ذلك عليه من أبعاد حضارية واستراتيجية؛ قدَّمت حولية “أمتي في العالم” في عددها “التاسع” ملفًّا خاصًّا تحت عنوان “غزة بين الحصار والعدوان: قراءة في الدلالات الحضارية” حول العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة (2008/2009) الذي كان مركزيًّا وكاشفًا عن تطوُّرات أوضاع الأمة العربية والإسلامية، ذلك العدوان الذي جاء ضمن حلقة في سلسلة من العدوان المتَّصل على عالمنا العربي والإسلامي.

وتأتي هذه الورقة لعرض ذلك العدد من “أمتي في العالم” الذي تناول ذلك العدوان ضمن أقسام خمسة دارتْ حول: عالم الأفكار – عالم الأحداث – عالم المؤسسات، وتطورات ما بعد العدوان، ثم ما استجدَّ بعد مرور عام على تلك الحرب، وذلك من خلال: تناول خلفية ذلك العدد الخاص، ثم تقديم عرض عام لموضوعات ذلك العدد، ثم التركيز بشكل مخصوص في عالم أفكاره حول ذلك العدوان.

أولًا- خلفية العدد: الحدث – الآلية – المنهجية

أُفْرِدَ هذا العدد من “أمتي في العالم” لتناول العدوان الإسرائيلي على غزة في أواخر ٢٠٠٨ وأوائل ٢٠٠٩، وهذا باعتباره حدثًا كاشفًا عن أوضاع الأمة الإسلامية والعربية وموقعها في النظام الدولي، حيث الوعي بأن ذلك العدوان هو حلقة في مسلسل الحصار الإسرائيلي الممتد، فضلا عن إدراك أن الأبعاد الحضارية والثقافية بدلالاتها غير بعيدة عن هذا المشهد، وأن تلك الأبعاد التي رصدتها العديدُ من الأوراق خلال ذلك العدد نجد أنها تتجدَّد وبشكلٍ أوضح في “طوفان الأقصى 2023”.

جاء هذا العدوان 2008-2009 في أعقاب صدام بين مسار التسوية ما بعد أوسلو وما أحدثته من تحوُّلات في السلطة الفلسطينية على رأسها رفض خيار المقاومة المسلَّحة، وبين مسار المقاومة المسلَّحة المتصاعد والمتجدِّد تَوَلَّدَ من رَحِمِ الانتفاضة الفلسطينية، كما أنه جاء في أعقاب حملة أمريكية على دول العالم العربي والإسلامي تحت دعوة مكافحة الإرهاب، ومع تصاعدٍ لمكانة وأدوار قوى إقليمية مثل تركيا وإيران، صاحبتها حالة من الهوان العربي في التصدِّي والتصدُّر لأزمات أمَّتنا بفاعلية واستقلال.

جاء هذا العدد ضمن سعيٍ للمراكمة والمقارنة فيما حدث من مستجدَّات بالعدوان على غزة من خلال القراءة في الدلالات الحضارية للأحداث، وهو بمثابة مدخل جديد للقراءة السياسية في ذلك الوقت في ظلِّ إعادة تعريف “السياسي”، وفي ظلِّ رَدِّ الاعتبار للأبعاد القيمية في الدراسات السياسية دون تفريط أو إفراط في المثالية أو الواقعية، وهذه المنهجية أصيلة في أعمال المنظور الحضاري وحولية أمتي في العالم، والتي دَرَجَتْ على الاقتراب من القضايا والمستجدَّات بتفعيل وتشغيل دراسة العلاقة بين الأبعاد الثقافية والسياسية من منظور مقارن، ومن ناحية أخرى فإن أحداث الصراع العربي الإسرائيلي قد حازتْ نصيبًا أكبر من الاهتمام في التفعيل والتشغيل، وكيفية قراءة الأحداث السياسية من رؤية حضارية تحرص على تفكيك حالة الاختزال والتركيز في الصراع على أبعادها المتعدِّدة ودلالاتها.

ثانيًا- قراءة إجمالية في موضوعات حولية غزة

وكما سبق الذكر فإن هذا العدد من حولية أمتي في العالم ينقسم إلى أربعة أجزاء، الجزء الأول عن عالم الأفكار والرؤى: حيث تناولت دراسة “د. سيف الدين عبد الفتاح” معركة الذاكرة الحية وصراع المعاني، مؤكِّدًا أن المقاومة عملية معرفية وثقافية وفكرية واجتماعية وسياسية واقتصادية شاملة حضارية في محتواها، وحضارية في مقاصدها، تملك عناصر تمكينها من المفاهيم الحرة التي تشكِّل أساس خطابها للأمة. ثم قدَّمت “د. نادية مصطفى” قراءة حضارية للعدوان، وركَّزت على أربعة مشاهد: مشهد المظاهرات عربيًّا وإسلاميًّا وعالميًّا تضامنًا مع غزة، ومشهد النظام العربي، ومشهد مقاومة فلسطين في غزة، ومشهد أركان الأمة الثلاثة (تركيا – إيران – مصر) وتطورات موقفها من القضية الفلسطينية. ثم أعمال ندوة “كيف نقرأ مشهد العدوان على غزة” التي عقدها مركز الدراسات الحضارية وحوار الثقافات بكلية الاقتصاد والعلوم السياسية في الثاني من فبراير ٢٠٠٩ لتقدم رؤى قانونية وعسكرية وسياسية وحضارية للعدوان.

أمَّا الجزء الثاني من الحولية فَضَمَّ عالم الأحداث: خرج هذا الجزء من أعمال مؤتمر “العدوان على غزة: خريطة الحدث والدلالات الحضارية” الذي عقده مركز الحضارة للدراسات السياسية بالتعاون مع مركز الدراسات الحضارية وحوار الثقافات في كلية الاقتصاد والعلوم السياسية في ٢١-۲۲ أبريل ۲۰۰۹، والذي قدَّم فيه مجموعة من الباحثين تقارير ترصد العدوان ومواقف كل من الداخل الفلسطيني، والعالم العربي، والأمة الإسلامية، والمواقف الغربية والشرقية، وفي تلك الدراسات يتَّضح التباين في المواقف وردود الفعل من الدوائر المختلفة دعمًا للقضية أو إسرائيل.

وفي الجزء الثالث “عالم المؤسسات”،  تم تناول مواقف كلٍّ من جامعة الدول العربية ومنظمة المؤتمر الإسلامي والأمم المتحدة وأجهزتها المختلفة، وحلف الناتو. ومواقف المؤسسات الدينية الإسلامية، والطوائف المسيحية في مصر وفلسطين ولبنان وسوريا وكذلك الكنيسة البريطانية والفاتيكان. ودور المؤسسات المدنية من حقوقية وإغاثية ونقابات مهنية واتحادات نوعية على المستوى العالمي والإقليمي والقطري في التعامل مع العدوان وآثاره. ويبدأ محور الرأي العام والبعد الاقتصادي برصد المظاهرات التي جرت احتجاجًا على العدوان على غزة بمختلف أشكالها، مصريًّا، وعربيًّا، وإسلاميًّا، وعالميًّا، بالإضافة إلى الدلالات والأبعاد الاقتصادية للعدوان.

ثم يأتي الجزء الرابع من متابعة الحولية لتطوُّرات ما بعد العدوان على غزة، من حيث متطلبات الإعمار. والحوار (الفلسطيني -الفلسطيني) تحت وطأة الشروط الخارجية. ومستقبل مبادرة السلام العربية بعد الحرب على غزة. ومسار توجُّه يهودية إسرائيل وأهدافه وتداعياته.

أما الجزء الخامس والختامي فقد ناقش “ماذا بعد عام من العدوان الإسرائيلي على غزة؟”: وقد تناول الأبعاد المتعلقة بالدور المصري واستمرار حصار غزة بين المواقف الإسرائيلية والحوار (الفلسطيني – الفلسطيني) آن ذاك.

ثالثًا- الحصار والعدوان بين أوراق عالم أفكار الحولية

وكما سبق الذكر، فعلى الرغم من مرور ما يقرب من خمسة عشر عام على عدوان 2008-2009 إلا أن الكثير من المواقف والتداعيات ما زالت كما هي، خاصة ما يتعلَّق بعالم الأفكار في هذا العدد؛ فنجد أن الدراسات فيها تتجاوز حدود الزمان وتركِّز على جوهر أبعاد القضية الفلسطينية، ولذلك يركز هذا العرض على تلك الدراسات ومضمونها، ومن تلك الدراسات:

  • افتتاحية العدد للمستشار طارق البشري: العدوان على غزة (الحرب الثانية عشر)

قدَّمت هذه الافتتاحية قراءةً استراتيجيةً مهمَّةً لأبعاد الحرب من خلال محاور ما زالت تمثِّل ركيزة إطار فكري واستراتيجي ومدخلًا لفهم طبيعة هذا الصراع مع الكيان المحتل وتشابكاته الاستراتيجية بالداخل والخارج، ولقراءة حالة العدوان الصهيوني الأمريكي المستمرة على الأمة العربية والإسلامية وفي القلب منها القضية الفلسطينية، من خلال أربعة محاور، بدأ في أولها بتناول الأهمية التاريخية لبلاد الشام لمصر وللتاريخ المصري مستعرضًا تاريخ التهديدات والأخطار التي أَتَتْ لمصر من بوابتها الشمالية الشرقية، مؤكِّدًا على أن أمن مصر القومي يبدأ من خارجها وتحديدًا من بلاد الشام ومن جنوبها في السودان.

وفي ثاني محاوره استخرج البشري قراءةً نافذةً حول حقيقة أطراف هذا الصراع وتلك الحروب التي تخوضها إسرائيل في المنطقة وأنها في حقيقتها هي حروب أمريكية قبل أن تكون إسرائيلية، وعدَّ الحرب التي كانت يغطِّيها ذلك العدد من الحولية “حرب 2008” هي الحرب “الثانية عشر” من الولايات المتحدة الأمريكية ضدَّ العرب، وذلك ما تكشَّف بشكلٍ فَجٍّ في الحرب الحالية “طوفان الأقصى 2023” من أن إسرائيل لا تعدُّوا عن كونها ولاية أمريكية وقاعدة متقدِّمة لمصالحها، فحروبها هي بالأساس حروب أمريكية.

وفي المحور الثالث ركَّز البشري على توصيف وتوضيح أبعاد حروب التحرير والمقاومة الشعبية وملاءمتها للصراع مع هذا الاحتلال الاستيطاني عن تلك الحروب بالجيوش النظامية حيث إن الحروب مع هذا المحتل بالجيوش النظامية تضمن تفوُّقه نظريًّا لتحالفه العسكري الاستراتيجي مع قوة متقدِّمة تكنولوجيًّا وعسكريًّا على كافَّة الدول العربية، وبالتالي تصبح المقاومة الشعبية وحروب التحرير والتي تتشابه مع نظائر سابقة في الجزائر وفيتنام هي الأنسب في مواجهه هذا المحتل.

أما المحور الرابع فتناول البشري حالة المراوحة في قوى المقاومة وتموضعها في الداخل الفلسطيني وفي الخارج بدول الجوار وما نتج عنه من مخاوف من محاولات أن تستوعبَ منظمة التحرير ضمن دول الجوار التي تتواجد فيها، فضلًا عن تأثُّرها بتوازنات الحكومات العربية وسياساتها الخاصة، ومع انتقال الحالة المقاومة من الخارج إلى الداخل لتتحوَّل تلك المخاوف من هيمنة الخارج إلى مشكلة مع الداخل مسبِّبة حالةً من النزاع والتبايُن والانشقاق والشقاق بين من يركِّز على الخارج ومن يركِّز على الداخل، وبين من يحمل السلاح ومن يتبنَّى الخيارات السلميَّة لأن الرؤية مختلفة والأوضاع مختلفة والإمكانيات مختلفة والأدوات مختلفة، وكل ذلك يؤدِّي إلى سياسات متباينة ومتصادمة.

  • دراسة: معركة الذاكرة وصراع المعاني

تناول د. سيف الدين عبد الفتاح في دراسته، دور المفاهيم المحورية في عملية بناء الهُوية واعتبارها انعكاسًا للجوهر الحضاري، وقرَّر أن أول عَرَضٍ لتراجُع الأمم فكريًّا ومعرفيًّا وثقافيًّا يكون في مفاهيمها، وتصبح المفاهيم السائدة أداةً للتشتُّت والتشرذُم، وأننا في حاجة لفقه الكلمات يحدِّد المواقف ويحرِّر الأحكام.

وفي سياق تناول حروب المعاني والمفاهيم وانطلاقًا من مقولة د. حامد ربيع أن التاريخ والنماذج التاريخية معمل تجارب وذاكرة حضارية حيَّة؛ قدَّم د. سيف قراءةً تحليليةً لفهم “الشرق الأوسط الكبير” بدءًا من الاحتكاك الإسلامي مع الغرب والذي كانت له سمات ودلالات مهمة أنموذجية يمكن استخلاصها من المرور على مراحل ثلاث سابقة، بالإضافة إلى المرحلة الراهنة الرابعة. ”
إن عالَم اليوم في “أمتي” لم يعتبر درس التاريخ؛ فظل هؤلاء المتغلِّبون يمثلون نموذج “ملوك وحكام الطوائف”، ويحملون كل سيئات النموذج، ولم يقدموا حتى ما قدمه أمراء التغلب في تاريخنا حينما اضطلعوا ونهضوا بحماية الأمة أربطةً وثغورًا

“الحالة الأولى: تتمثَّل في “الحالة الأندلسية”، والحالة الثانية: ويمكن تسميتها “بالحالة الصليبية”؛ وهي اللحظة الثانية الكبرى للاحتكاك مع الغرب، الحالة الثالثة: “الحالة العثمانية”، ”
إن بعضًا من “أمتي” لا يَعُون الدرس، ولا يتخذون العبرة من الخبرة والفكرة، ما بالهم لم يتعرفوا على درس مصطفى صادق الرافعي حينما بحث في متتابعات منظومة السُّنن فوجد أن “أصغر خَـرْق يَعنِي أوسعَ قَـبْر”؟

“الحالة الرابعة وهي الراهنة: “الشرق الأوسط”. أما المشروعات التي تحمل شعار “الشرق الأوسط” فقد برزت تاريخيًّا لتعبِّر عن هدف السيطرة على المنطقة بأشكال وأساليب تختلف حسْب الزمان والمقام، وحالة المقاومة لتوابع ذلك المفهوم المتمثِّل في دخول كافَّة قواه الشعبية والسياسية “بيت الطاعة الأمريكي”، جلعت الغرب يقلبون موازين اللغة والكلمات فيُسمون كلَّ مقاومةٍ إرهابًا، وكل ممانعةٍ عنفًا وكراهيةً، وكلَّ مواجهة حالة من عدم الواقعية.

وخلص إلى القول بأنه ما ذَلَّتْ لغةُ شعبٍ إلَّا ذَلَّ، ولا انحطَّت إلَّا كان أمرُه في ذهابٍ وإدْبَارٍ. ومن هذا يفرض الأجنبي المستعمر لغتَه فرضًا على الأمة المستعمرة ويركبهم بها ويشعرهم عظمته فيها، فيحكم عليهم أحكامًا ثلاثةً في عمل واحد، أما الأول تحبس لغتهم في لغته سجنًا مؤبَّدًا، وأما الثاني فالحكم على ماضيهم بالقتل محوًا ونسيانًا، وأما الثالث فتقييد مستقبلهم في الأغلال التي يصنعها، فأمرهم من بعدها لأمره تبع، إنه السند الحضاري الموصول: الذاكرة واللغة والمعاني.”
الوعي الحضاري في مكوناته لا يكون إلا بمعرفة الخصوم ومن الوعي أن تنزل كل خصم منزلته، وأن تعرف أصول منازلته،

  • دراسة: قراءة (حضارية) في مشاهد أربعة من الحرب العدوانية على غزة

وقدمت د. نادية مصطفى قراءة حضارية للعدوان على غزة، وركَّزت هذه القراءة على مشاهد أربعة: أولها مشهد المظاهرات على كلٍّ من الصعيد العربي والإسلامي والعالمي تضامنًا مع غزة وضدَّ إسرائيل، مبرزةً دورَها في بيان توجُّهات الشعوب؛ وهو توجُّه تمَّ حصاره وتقْييدُ سُبُلِ الإعلان عنه وسبل تفعيله وحمايته، وأكَّدت على أن المظاهرات هي مؤشِّر عن حال “الأمة”.

أما المشهد الثاني: النظام العربي في مرآة غزة الكاشفة عن توجهه مع خيار التسوية السلمية على حساب خيار المقاومة، وبحثت فيه كيف توارى مصطلح “الصراع العربي-الإسرائيلي” عن الخطاب العام العربي وقفز بدلًا منه مصطلح “القضية الفلسطينية”. كما تناولت حالة الانكماش التي أصابت الاستراتيجية الوطنية المصرية والعربية لداخل حدودها الوطنية واقعة في أَسْرِ مفهوم “المصلحة الوطنية أولًا” ومتتبِّعة مسيرة ذلك الانكماش في ضوء مراحل الصراع ومحاولات التسوية، ويمكن مقارنة التوجُّه بمواقف النظام العربي مع العدوان الحالي على غزة منذ أكتوبر 2023.

أما المشهد الثالث؛ فأكَّدت فيه على أن فلسطين والمقاومة من ثوابت ذاكرة الأمة عبر قرن، وأن تاريخ المشروع الصهيوني تجاه فلسطين ثم على أرضها، اقترن وانجدل عبر أنماط ثلاثة تقوِّي بعضها بعضًا وهي تشكِّل تاريخ فلسطين المعاصر (وفي قلبه تاريخ القدس) وتاريخ الأمة العربية والإسلامية. وهذه الأمور الثلاثة هي: المساندة والتحالف بين المشروع الصهيوني ومشروع الاستعمار والهيمنة الغربية من ناحية، ومن ناحية أخرى ظهور التواطؤ والتخاذل والانقسام، ثم تصاعدهم التدريجي في الصفوف العربية والإسلامية خلال جهود نصرةِ الشعب الفلسطيني أو مساندته أو التضامن معه، ومن ناحية ثالثة استمرار مقاومة الشعب الفلسطيني.

أما المشهد الرابع؛ فركَّزت فيه على دور أركان الأمة الثلاثة (تركيا وإيران ومصر)، فالصراع مع إسرائيل يكشف ويتحدَّى ويختبر حسابات المصالح الوطنية والقومية من ناحية، وكذلك توازنات القوى الإقليمية والعالمية من ناحية أخرى، وأخيرًا مفهوم الجوار الحضاري (بين أركان الأمة الإسلامية الثلاثة: تركيا، وإيران، ومصر).

وخلصت إلى أنه في ضوء الاستدعاء السريع للذاكرة التاريخية الحضارية عن نمط العلاقة بين أركان الأمة الثلاثة، وعلى ضوء القضايا الكبرى التي يطرحها نمط التفاعلات المعاصر بينها، وعلى ضوء بعض الملامح الكبرى عن سلوك كلٍّ منها خلال العدوان على غزة، فإن غزة كانت بمثابة مرآة كاشفة لهذه المشاهد ومفصلًا نوعيًّا في الصراع العربي الإسرائيلي والقضية الفلسطينية ودوائرها الحضارية، وما زالت حتى يومنا الحالى وما بعد طوفان الأقصى.

  • رؤى للعدوان من مداخل متنوعة:

وفي نهاية عالم الأفكار تأتي أعمال ندوة “كيف نقرأ مشهد العدوان على غزة” التي عقدها مركز الدراسات الحضارية وحوار الثقافات بكلية الاقتصاد والعلوم السياسية في الثاني من فبراير ٢٠٠٩ لتقدِّم رؤى قانونية وعسكرية وسياسية وحضارية للعدوان:

  • عن القانون الدولي والمقاومة قدَّم د. محمد شوقي رؤية قانونية للعدوان، فَنَّدَ فيها دعوى حقِّ إسرائيل في الدفاع عن نفسها، وأوضح أن مبدأ الدفاع الشرعي في القانون الدولي لا يكون إلا في مواجهة عدوان، في حين أن إسرائيل هي المعتدي، فضلا عن أن الذي يدافع عن نفسه يجب أن يكون رَدُّهُ متناسبًا بين فعل الدفاع وفعل العدوان، فلا يُقابله بإجرام ووحشية تتجاوز الاعتداء، وأكَّد أن الاحتلال الإسرائيلي في حَدِّ ذاته اعتداء وعدوان مستمرٌّ بحكم كونه دولة احتلال، مشيرًا إلى أنه ما من منظمة دولية واحدة -بدءًا بالأمم المتحدة مرورًا بكلِّ المنظمات الإقليميَّة المعنيَّة- إلا وقد أقرَّت الحقَّ لكلِّ حركات التحرُّر والمقاومة الشعبية في حمل السلاح.
  • وفي رؤية عسكرية؛ يرى العميد صفوت الزيات أن العدوان على غزة “عملية الرصاص المصبوب” لم تَعُدْ حربَ دولةٍ ضدَّ دولةٍ، وأنَّنا منذ مطلع العام 2000 في حروب عسكرية بين دولة وجماعات مقاومة أو تمرُّد، وأن جماعات المقاومة على الرغم من أنها تمتلك أنظمة تسليح متواضعة وتدرك تمامًا استحالة النصر العسكري على الطرف الآخر، فإن شكل النصر يكون سياسيًّا على الطرف الآخر؛ حيث إن حركات المقاومة بما أنها تدرك استحاله النصر العسكري فإنها تقرِّر أن تتبع حروب الجيل الرابع وهي حروب العصابات في المدن أو حرب تمرُّد عصر المعلومات، ويكون التركيز فيها من جانب الطرف الأقوى على التدمير، بينما يكون تركيز الطرف الأضعف على عقلية صانع القرار السياسي، مستهدفة الضغط على عقليَّته وإفقاده إرادة الحرب، ويخلص إلى أن إسرائيل لم تحقِّق أهدافَها من العدوان.
  • ومن المنظور السياسي؛ استعرض د. مصطفى علوي العدوان الإسرائيلي على غزة في إطار التطور العام للصراع والمسار العام لتطور السياسة الإقليمية وأنه امتداد لسياسات إسرائيل بحق الشعب الفلسطيني، وأن الاعتبارات السياسية والإقليمية كانت تجبر العدو على التهدئة وقبول مسار التفاوض تحت سقف حل الدولتين، كما ركَّز على قيود الواقع الإقليمي والدولي: حيث الانقسام العربي والانقسام الفلسطيني ووجود عناصر استمرارية في الاستراتيجية الأمريكية تتعلَّق بحماية الدولة الإسرائيلية وهذه العناصر لن تتغيَّر ولو بعد مائة عام، مختتمًا ورقته بأنه في إطار حالة الانقسام العربي يسود منهج الاختزال للقضية الفلسطينية في قضية غزة واختزال قضية غزة في قضية المعابر.
  • وفي ختام هذا الجزء من أوراق عالم الأفكار؛ بَلْوَرَ د. سيف الدين عبد الفتاح رؤيةً حضاريةً في النظر إلى العدوان تُؤَسِّسُ “المفهوم الحضاري” وهو الأنساق التي تتعلَّق بالمعرفة وبالتفكير والتدبير والقيم ورؤى العالم، وأن حالة العدوان هي حالة بغي على الحضارة والعمران. وحالة المقاومة هي حالة حضارية وسُنة ماضية ما دام العدوان. وذلك البُعد الحضاري يبرز مستوى معالجة التحديات؛ وعلى رأسها تحدِّي العدوان واستجابة المقاومة ضمنَ امتداداتهما الحضارية، ومن هذه المستويات: أهمية الأبعاد الثقافية والقيمية والفكرية والمعنوية في تحليل التحديات والاقتراب منها بالدراسة والبحث، وشمول الرؤية الكلية التي تأخذ في اعتبارها صعوبة الفصل بين التحديات المختلفة واستطراق عملية التأثير بين التحديات المتنوِّعة، ودراسة طبيعة الأبعاد والروابط والعلاقات الحضارية ضمن سياق البحث في ذاكراتها التاريخية، ورؤيتها الواقعية، واستشراف مستقبلها، وإمكانات المقارنة بين الأنساق الحضارية المختلفة، وإمكانات بناء أصول الفقه الحضاري بما يحرِّك نظرة واقعية قيمية للتحديات، ومواكبة طبيعة التطوُّرات الحضارية والانتقال إلى “طور الحضارة العالمية” بِغَضِّ النظر عن تقويمنا لها.

كما أوضح أن هناك أربعة أبعاد أساسية بها يتشكَّل المفهوم؛ وهي: البعد المرجعي (الجذور والأصول) وبه يأخذ الفكر أصالته، والبعد المنهجي الموضوعي (أصول المنهاجية) أي خضوع الفكر لمبادئ وقواعد وضوابط منهجية موضوعية تجعله متَّسقًا في بنائه ووظيفته، والبعد الواقعي الاجتماعي (اعتبار الواقع) بالقدرة على الاستجابة له ولملابساته وتحوُّلاته وتغيُّراته الجزئيَّة والكلِّيَّة الشكليَّة والمضمونيَّة. والبعد العالمي الإنساني (العالمية والأنسنة) ومعناه أن تُدرس الأفكار وتُحلل المشكلات في عمقها الجغرافي العالمي الإنساني.

أمَّا عن التحدِّي الحضاري والاستجابة الحضارية: فإن التحدِّي الحضاري بالنسبة للبشرية اليوم هو إيجاد النظم القيمية الأخلاقية والروحية والأطر السياسية والقانونية التي تمكِّن الحضارة التي أصبحت عالميةً من حَلِّ التناقضات المتبقِّية من مرحلتها القومية ومن آثار رؤى العالم الضيِّقة والأنانية، وهو يشكِّل تحديًا للإسلام لتقديم البديل العالمي، وتقديم التنمية والتقدُّم والنهضة والمقاومة من منظور جديد. كما تحدث عن أن اللحظات الكاشفة في تاريخ الأمة لا يمكن أن تُؤتي أُكُلَهَا في التأثير في الأمة إلا أن تتحوَّل إلى لحظات فارقة تفرِّق بين مرحلة مَضَتْ وأخرى آتية، وذلك لا يمكن أن يحدث إلا بسُننه الشرطية القابلة للفعل والتفعيل والفاعلية، وبامتلاك الشرط التأسيسي بامتلاك “الإرادة”، وأن يستند إلى عناصر تأسيسية وبنية أساسية من “العُدَّةِ” والاستعداد والإعداد.

وفي الختام وبعد مرور خمسة عشر عامًا على العدوان الإسرائيلي على غزة في 2008، فهل هناك فارق بين العدوانين؟ إن الإجابة على هذا السؤال يمكن اختصارها بأنه لا فارق جوهري في الاستراتيجيات والمواقف والتحالفات للأطراف المختلفة، وإنما الفارق يكمن في كلمات ثلاث: التطرف والإعجاز والأمل، فالعدوان الإسرائيلي أصبح أكثر تطرُّفًا وفجاجة في استخدام عنفه، وإن لم تتغيَّر أهدافه ووسائله وتحالفاته. والتخاذل العربي والإسلامي أيضًا أصبح أكثر تطرفًا وفجاجة بين دعم رسمي للعدوان وتخاذل في نصرة غزة وشعبها، بل والمشاركة في القتل والتنكيل والتجويع. والإعجاز في المقاومة والصمود من غزة ومجاهديها، والأمل في حركة دافعة ناتجة عن استثنائية واستمرار المقاومة متمثِّلة في طوفان الأقصى، حركة قادرة على الدفع بالأمة الإسلامية نحو مزيد من النصرة ومزيد من القوة.

______________

هوامش

[1] د. سيف الدين عبد الفتاح، د. نادية مصطفى (إشراف عام)،  أمتي في العالم: غزة بين الحصار والعدوان، العدد التاسع، (القاهرة: مركز الحضارة للدراسات السياسية، 2010)، متاح عبر الرابط التالي: https://2u.pw/A6FA9Kxi

  • نُشر عرض الكتاب في فصلية قضايا ونظرات- العدد الثالث والثلاثون- أبريل 2024

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى