المنظمات الدولية والحرب على غزة بين الحسابات السياسية والإنسانية

مقدمة:

منذ بدء معركة طوفان الأقصى في السابع من أكتوبر 2023 وقيام المقاومة بهجومها المستحق العادل الذي مثل نقطة فارقة في مسار القضية الفلسطينية بل وفي مسار ومستقبل الأمة بأكملها، يتكبد الفلسطينيون خسائر فادحة على كل المستويات بين تزايد مستمر في أعداد الشهداء ومزيد من الخراب والدمار والاعتقالات والإعدامات وشتى صور الجرائم البشعة في ظل حالة من الشلل العالمي نحو اتخاذ خطوات فاعلة لوقف هذا العدوان الصهيوني الذي لا يوجد في قواميس الحرب ما يصف ممارساته سوى أنه يقوم بإبادة جماعية في قطاع غزة منتهجًا في ذلك أشنع وأبشع الوسائل مخترقًا بذلك القانون والمواثيق الدولية.

وفي ظل هذا المشهد ومجرياته وتداعياته، يأتي السؤال المباشر حول دور المنظمات الدولية والحقوقية وموقفها مما يحدث من عدوان غاشم وخرق واضح لمبادئها ومواثيقها التي تنادي بحقوق الإنسان وبحقوق الشعوب في تقرير مصيرها. ومن ثم يأتي هذا التقرير لتسليط الضوء على دور المنظمات الدولية العالمية والإقليمية تجاه الحرب على غزة ورصد ما قامت به من أعمال خلال الفترة ما بين السابع من ديسمبر وحتى السابع من مارس 2024، وما يتفرع عن ذلك من تساؤلات تتعلق بفاعلية هذا الدور وتأثيره والتحديات التي تواجهه، وذلك في إطار المصالح والأولويات التي يسير وفقا لها عمل هذه المنظمات، وأخيرا نقف عند تأثير هذه الحرب على عمل هذه المنظمات مستقبلا.

أولا- المنظمات الدولية بين الواقع والمأمول:

إذا أردنا الوقوف على الدور الذي تقوم به المنظمات الدولية تجاه العدوان الإسرائيلي على غزة الذي لا يزال مستمرا منذ السابع من أكتوبر، نجده يدور في مجمله حول الشجب والإدانة ورصد الانتهاكات وذلك ضمن سلسة طويلة من القرارات والتوصيات القانونية والسياسية، إلى جانب بعض التوصيات والأعمال الإغاثية المحدودة. وذلك في ظل ارتكاب الكيان الصهيوني مختلف أشكال الجرائم بحسب تعريف القانون الدولي؛ ومنها: قتل المدنيين، وقصف المنشآت السكنية والمستشفيات والجامعات والمدارس والمساجد والكنائس وكل ما هو محمي بموجب القانون الدولي بمعنى أنه غير قابل لأن يكون هدفًا عسكريًا، بالإضافة إلى جريمة التهجير القسري سواء بشكل مباشر أو غير مباشر بقصف الأماكن التي يعيش فيها السكان وجعل الحياة غير ممكنة فيها، بقصف منابع المياه ومولدات الكهرباء والحصار وغير ذلك من انتهاكات؛ وسواء تم بأن نزح الناس من هذه المناطق إلى أخرى أكثر أمنا، أو بتوجيه رسائل مباشرة لسكانها بضرورة مغادرتها إلى كما فعل الاحتلال.

وهذا التهجير القسري للسكان جريمة حرب تخالف أحكام اتفاقية جنيف؛ حيث تحظر اتفاقية جنيف لعام 1949 الحصار العقابي والعقاب الجماعي، واحتجاز الرهائن، والتعذيب، والمعاملة القاسية واللاإنسانية، واستهداف المدنيين والبنية التحتية المدنية، والتهجير القسري للسكان المدنيين، كما تطالب جميع الأطراف بضمان حصول المدنيين على الغذاء والماء والضروريات اللازمة للبقاء على قيد الحياة أثناء النزاع، وضمان قدرتهم على مغادرة مناطق النزاع بأمان والعودة إلى ديارهم، ومن ثم تعتبر انتهاكات هذه المحظورات والالتزامات جرائم حرب[1]، بل إبادة جماعية لا غبار عليها وذلك بحسب تعريف كريج مكايبر -مدير مكتب المفوض الأعلى لحقوق الإنسان بنيويورك- في نص استقالته اعتراضا على موقف الهيئات الأممية الذى ذكر فيه أن ما يحدث هو “إبادة جماعية كلاسيكية”[2].

وفي هذا السياق سوف نتوقف عند بعض المنظمات الدولية التي تبرز صلتها من الناحية القانونية والسياسية بحالات الحرب ومخلفاتها الإنسانية بشكل عام وبالقضية الفلسطينية بشكل خاص وذلك على المستوى العالمي والإقليمي، لتسليط الضوء على دورها في هذه الحرب.

أ. المنظمات العالمية

  1. الأمم المتحدة

من المعلوم أن الأمم المتحدة تعد المنظمة الدولية الأكبر في العالم المعنية بحفظ السلام العالمي عن طريق التعاون الدولي والأمن الجماعي[3]، وفي ظل هذا الهدف ننظر إلى ما قامت به الأمم المتحدة من دور تجاه ما يحدث في غزة. وتجدر الإشارة إلى أن هذه الحرب ما هي إلا حلقة في سلسة من عدوان الكيان الصهيوني على الفلسطينيين دون أن يكون هناك قرار حاسم من قبل الأمم المتحدة ومجلس الأمن يتم تنفيذه بفاعلية لصالح الفلسطينيين؛ فبالعودة لما يقرب من سبعة عقود، سنجد أنه منذ عام 1948 لم يلتزم الكيان الصهيوني بأي من قرارات الأمم المتحدة المتعلقة بفلسطين. فمنذ ذاك الحين اتخذ مجلس الأمن سلسلة من القرارات المتعلقة بالشأن الفلسطيني، باعتباره المسئول عن حفظ السلام والأمن الدوليين، كان آخرها القرار رقم 2334 في 23 ديسمبر 2016؛ إذ تبنى المجلس بأغلبية كبيرة قرارًا يدين الاستيطان الإسرائيلى، ويطالب بوقفه في الأراضي الفلسطينية المحتلة، بينما استمر الكيان في السياسات العدوانية بحق الشعب الفلسطيني، هذا إلى جانب مئات القرارات من الجمعية العامة للأمم المتحدة، وكذلك مجلس حقوق الإنسان، بالإضافة إلى فتوى محكمة العدل الدولية بشأن تشييد الجدار داخل الأراضي المحتلة[4].

أما فيما يتعلق بهذه الحرب، فيظهر دور الأمم المتحدة خلال الفترة محل الدراسة من خلال الآتي:

  1. القرارات السياسية والتوصيات القانونية

– في الثاني عشر من ديسمبر اعتمدت الجمعية العامة للأمم المتحدة قرارا يطالب بالوقف الإنساني لإطلاق النار والإفراج الفوري عن جميع الرهائن وضمان وصول المساعدات الإنسانية إلى غزة، وذلك بأغلبية 153 عضوا ومعارضة 10 وامتناع 23 عن التصويت.[5]

– اعتمد مجلس الأمن الدولي القرار رقم 2720 في 22 ديسمبر بتأييد 13 عضوا وامتناع الولايات المتحدة وروسيا عن التصويت، الذي دعا إلى “اتخاذ خطوات عاجلة للسماح فورا بإيصال المساعدات الإنسانية بشكل موسَّع وآمن ودون عوائق وتهيئة الظروف اللازمة لوقف مستدام للأعمال القتالية”.[6]

– في 20 فبراير استخدمت الولايات المتحدة حق النقض (الفيتو) ضد مشروع قرار جزائري في مجلس الأمن الدولي حظي بتأييد 13 دولة يدعو لوقف فوري لإطلاق النار ويرفض التهجير القسري للسكان المدنيين الفلسطينيين، ويكرر مطالبة جميع الأطراف بالامتثال لالتزاماتها بموجب القانون الدولي ويطالب بالإفراج الفوري وغير المشروط عن جميع الرهائن والدعوة إلى وصول المساعدات الإنسانية بشكل كامل وسريع وآمن ودون عوائق إلى قطاع غزة[7].

  1. الأعمال الإغاثية والإنسانية

– قامت كبيرة منسقي الإغاثة وإعادة الإعمار بزيارة غزة في 17 يناير لبحث مسألة تعزيز دخول المساعدات إلى القطاع وذلك بموجب الولاية الممنوحة لها من مجلس الأمن الدولي، لبحث كيفية تيسير وتسريع جميع مجالات المساعدة التي يحتاجها المدنيون في غزة.[8] وفي هذا السياق قال ستيفان دوجاريك المتحدث باسم الأمم المتحدة إن 1.2 مليون شخص قد تلقوا شكلا واحدا على الأقل من أشكال المساعدات وتم تنفيذ نصف عمليات توزيع المساعدات تلك في رفح، و21٪ في خان يونس في الجنوب، ووصل ربع المساعدات تقريبا إلى دير البلح بوسط القطاع فيما توجه 14٪ إلى المحافظات الشمالية.[9]

– قامت البعثات الإنسانية -بحسب تقرير صدر عن مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية في 22 فبراير- بتوصيل كمية من الوقود خلال النصف الأول من شهر فبراير في المناطق الواقعة جنوب وادي غزة، عبر 25 مهمة من أصل 42 مهمة مخططة تطلبت تنسيقا مسبقا مع السلطات الإسرائيلية، أما بالنسبة للمناطق الواقعة شمال وادي غزة فقد سمحت السلطات الإسرائيلية باثنتين فقط من 21 مهمة وقود كان مخططا لها أن تصل في الأسبوعين الأولين من شهر فبراير، الأمر الذي أتاح توصيل 38000 لتر من الوقود بحسب مكتب تنسيق الشؤون الإنسانية، وفي المقابل رُفِض دخول جميع مهمات إيصال الوقود التي كان مقررا إرسالها إلى محطات ضخ المياه ومياه الصرف الصحي في شمال غزة[10].

من ناحية أخرى، قام برنامج الأغذية العالمي في 20 فبراير بتعليق تسليم المساعدات الغذائية المنقذة للحياة -على حد التعبير الذي جاء في التصريح- إلى شمال قطاع غزة إلى حين توافر الظروف التي تسمح بالتوزيع الآمن.[11] ولعل هذا القرار الأخير يطرح تساؤلا مباشرًا حول موقع هذا القرار من الواجب الإنساني الذي يكفله القانون الدولي ومواثيق حقوق الإنسان، وهي تساؤلات تقودنا -بالنظر إلى ما ذكرناه مما قامت به الأمم المتحدة من دور ينحصر في التنديد وبعض الأعمال الإنسانية الإغاثية التي تمثل نقطة في بحر مما يحتاجه شعب غزة- إلى ما تملكه الأمم المتحدة من سلطة وفاعلية وقدرة على تحقيق أهدافها اتساقًا مع مواثيقها. فعلى الرغم من هذه القرارات والإجراءات والتوصيات للأمم المتحدة تجاه هذه الحرب بشكل خاص والقضية الفلسطينية بشكل عام إلا أنها ما زالت لا تتمتع بالفاعلية، كونها عاجزة عن تنفيذها وفرضها على أرض الواقع.

ويرجع هذا بشكل رئيسي إلى طبيعة العمل الهيكلي للمنظمة؛ حيث أن قراراتها تمثل حصيلة تأثير الدول الأعضاء في مجلس الأمن والجمعية العامة، وذلك وفقًا لمصالح هذه الدول والقيم التى تؤمن بها والمساومات التى تتفاوض حولها، بالإضافة إلى أن هناك خللا كبيرًا في ميثاق الأمم المتحدة الذى لم يتغير منذ إنشائها؛ حيث بقيت خمس دول دائمة العضوية في مجلس الأمن تتحكم في جميع القرارات الأممية، وتحديدًا الولايات المتحدة التى وحدها استخدمت هذا الحق في إيقاف تنفيذ ما يقرب من (44) قرارًا منذ عام 1973 وحتى عام 2018 وفقًا لإحصاءات مركز المعلومات الفلسطيني.[12]

لذا، فإن أكبر التحديات التى تواجه الأمم المتحدة واستدامتها كمؤسسة دولية، تكمن في آلية صنع القرار التي تعكس سيطرة وانحيازا كبيرين للكيان الصهيونى، ما يمهد له دائمًا الطريق للإفلات من جرائم الحرب والإبادة.[13]

2- منظمة الصحة العالمية:

  • أصدرت منظمة الصحة العالمية مجموعة من القرارات المتعلقة بضرورة معالجة الوضع الصحي في غزة؛ حيث قام المجلس التنفيذي للمنظمة في 12 ديسمبر 2023 بإصدار قرار بالإجماع يهدف إلى معالجة الوضع الإنساني في غزة، ويدعو إلى “مرور فوري ومستدام ودون عوائق للإغاثة الإنسانية، بما في ذلك وصول العاملين في المجال الطبي”، بالإضافة إلى بعض الزيارات القليلة للقطاع ولبعض المستشفيات في غزة التي قامت بها وفود تابعة للمنظمة؛ ففي 25 ديسمبر قام وفد تابع لمنظمة الصحة العالمية بزيارة مستشفى الأقصى وأعرب عن الحالة السيئة التي يعانيها المرضي من خطورة الإصابات في مقابل نقص الأدوات والمعدات الطبية، وتمكنت المنظمة مع شركائها من زيارة مستشفى الشفاء مع تقديم كمية ضئيلة من الوقود لها، وفي هذا السياق يقول شون كيسي، منسق فريق الطوارئ الطبي بمنظمة الصحة العالمية: “لقد عدت إلى مستشفى الشفاء -أكبر مستشفى في غزة- للمرة الثالثة هذا الأسبوع؛ حيث لا يزال الوضع في المستشفى بائس جدا، ومن الصعب جدا المشي لأن الناس لا يزالون يفترشون الأرض. هناك حالات حرجة، والأطباء والممرضون يعانون للغاية. هذا الفريق الطبي الصغير جدا ليس بوسعه فعل أي شيء لمساعدة كل هؤلاء الأشخاص، إنها حالة من الفوضى المطلقة”.
  • في الخامس من مارس وصلت بعثة أخرى لزيارة مستشفى كمال عدوان ومستشفى العودة في شمال قطاع غزة، والتي كانت -بحسب ممثل منظمة الصحة العالمية دكتور ريك بيبركورن- أول بعثة للمستشفيين منذ أكتوبر 2023، وعلى إثر ذلك قام الوفد بإيصال كمية من الوقود إلى جانب بعض الإمدادات الطبية واصفًا إياها بالضئيلة بالنسبة إلى حجم الإمدادات التي تشتد الحاجة إليها.[14]
  • تشير التقارير أيضًا إلى تقديم المنظمة بعض الإمدادات الطبية لمستشفى ناصر جنوب قطاع غزة في 30 يناير 2024.[15]

3- الأونروا:

تعتبر وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين في الشرق الأدنى “الأونروا” أحد أبرز المنظمات الدولية التي تعمل داخل قطاع غزة، وقد وتأسست في الثامن من شهر ديسمبر سنة 1949، بموجب قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة رقم 302 في دورتها الرابعة؛ أسست لغرض مواجهة تبعات التهجير القسري الذي تعرض له أهالي فلسطين على يد المنظمات الصهيونية بعد حرب 1948، وتعمل الوكالة داخل قطاع غزة على تقديم المساعدات الإنسانية وحماية اللاجئين، عن طريق التعليم والرعاية الصحية والخدمات الاجتماعية، إذ تنتشر العشرات من المدارس التابعة للأونروا في مختلف مناطق القطاع، التي يلجأ إليها النازحون في الأوقات التي تشهد مواجهات بين قوات الاحتلال الإسرائيلي وفصائل المقاومة الفلسطينية.[16]

وخلال الحرب الحالية عملت الوكالة على:

– إدارة مجموعة من مراكز إيواء تضم أكثر من مليون شخص، كما تعمل على تقديم بعض المساعدات الإنسانية والصحية لهم[17]. في حوار أجري مع مديرة التواصل والإعلام بالأونروا جلييت توما سلطت فيها الضوء على المعاناة الهائلة التي يمر بها العاملون في وكالة الأونروا تقول: “إنه أصبح الكثيرون منهم نازحين وقتل منهم عدد كبير منذ تصاعد القتال الذي أعقب الهجمات التي شنتها حركة حماس على إسرائيل في 7 أكتوبر”[18]، كما تعرضت بعض المنشآت التابعة للأنوروا للقصف عدة مرات[19].

وبالنظر إلى هذا التصريح تتبين بقوة منهجية تعامل هذه المنظمات مع القضية الفلسطينية والمساواة بين المحتل الغاصب والمقاوم المدافع عن أرضه، فعلى الرغم من تعرض موظفي الوكالة للقتل والنزوح لا نجد أية إدانة للكيان الصهيوني بل ما يتبادر للذهن من هذا التصريح هو إدانة حركة حماس على فعلها المقاوم وليس القصف الإسرائيلي.

  • وفي نفس السياق تأتي اتهامات من قبل الكيان الصهيوني بمشاركة عدد من موظفي الوكالة في هجمات 7 أكتوبر على إسرائيل، وعلى إثر ذلك قامت تسع دول بقطع تمويلها للوكالة وكان رد فعل الوكالة الفوري هو إنهاء عقود هؤلاء الموظفين فورًا[20].

وهذا مما يظهر بقوة المساحة التي تتمتع بها إسرائيل والسلطة الاستثنائية التي تجعلها فوق كل القوانين والمواثيق، كما يبرز هذا الموقف سرعة استجابة الوكالة للأوامر والادعاءات الإسرائيلية بشكل فوري حتى وإن تعارض ذلك مع الدور الإنساني المنوط بالوكالة. وقد رأينا ذلك أيضًا بوضوح في سرعة إخلاء الوكالة لمقارها في شمال غزة وترك سكانه في ظروف معيشية قاسية والتوجه للجنوب بحسب الأوامر الإسرائيلية[21].

4- اللجنة الدولية للصليب الأحمر:

تعمل اللجنة الدولية للصليب الأحمر في إسرائيل والأراضي المحتلة كوسيط محايد “حسب تعريفها”، وفي هذا الإطار تقوم مهمة اللجنة -من خلال مجموعة من الأنشطة والبرامج- على تحسين الوصول إلى الخدمات الأساسية مثل المياه والكهرباء، والدفاع عن الأفراد والعمل على تأكيد حقوقهم وعدم الانتقاص من كرامتهم.[22]

وبالنظر إلى دور اللجنة الأبرز في هذه الحرب في عملها كوسيط في قضية تبادل الأسرى. فبحسب تصريحات اللجنة في هذا السياق يعد أخذ الرهائن محظور حظرًا تامًّا بموجب القانون الدولي الإنساني، لذا دأبت اللجنة الدولية منذ اليوم الأول لاندلاع هذا النزاع على المطالبة بالإفراج عن جميع الرهائن فورًا ومن دون شروط والسماح لها بزيارة الرهائن للاطمئنان على أحوالهم، وتقديم الرعاية الطبية لهم، وتيسير اتصالهم بعائلاتهم، وبناءًا على ذلك صرحت اللجنة بالتصريح التالي: “لقد أثمرت الاتفاقاتُ السياسية الإفراجَ عن أكثر من 100 رهينة، وبفضل دور اللجنة الدولية بصفتها وسيطًا محايدًا يحظى بثقة طرفي النزاع، عاد هؤلاء الرهائن إلى أكناف عائلاتهم”[23].

واستكمالا لهذا الدور الذي تعتني به اللجنة، صدر بيان للصليب الأحمر 18 يناير يدعو إلى الإفراج غير المشروط عن الرهائن كأولوية، بينما يضغط أيضًا من أجل الوصول إليهم والقدرة على توفير الرعاية الطبية لهم[24].

لعل ما يستوقفنا هنا ما ذكرناه فيما يتعلق باستناد هذه المنظمات إلى منظمومة قيم يمكننا وصفها بالسائلة إن صح التعبير، فعند الحديث عن حرب إبادة يتعرض لها شعب بأكمله من قبل قوى غاصبة محتلة لأرضه –وذلك باعتراف اللجنة نفسها- يتم تسليط الضوء بشدة على معاناة الكيان الغاصب وتصويره في صورة الضحية تبعًا للسردية الإسرائيلية المعروفة، واستخدام ألفاظ تؤكد هذا المعنى “مثل الرهائن”، وبالتالي يكون الحديث عن معاناة صاحب الحق لا قيمة له لأنه في هذه الحال انتفت عنه الصفة التي من أجلها يعاني ويقاوم.

في هذا الصدد، صدر تقرير عن المؤسسة الفلسطينية لحقوق الإنسان تنتقد فيه أداء المنظمات الدولية في غزة (الأونوروا والصليب الأحمر) وتتهمها بالفشل بداعي الحياد، وتشير إلى أوجه التخاذل الكبير من قبل المنظمتين فتذكر أنه عندما اقتحمت قوات الاحتلال المستشفيات والمراكز الطبية طالبت الهيئات الحكومية في غزة المؤسسات الدولية بما فيها اللجنة الدولية للصليب الأحمر بالدخول الى جميع المستشفيات (الشفاء مثال) والاطلاع الميداني لكشف ادعاءات الاحتلال بأنها مقرات عسكرية تتتخذها المقاومة وإعداد تقاريرها حول المستشفيات واطلاع العالم عليها، ولكنها وبداعي الحياد لم تقم بذلك. كما امتنعت اللجنة الدولية عن إجلاء الأطفال حديثي الولادة من مستشفى النصر الذين تُرِكوا دون مرافق على أسرة المستشفى ليتم العثور عليهم بعد ذلك موتى، وعقبت اللجنة على ذلك بأن الوضع الأمني لم يكن يسمح بذلك. هذا فضلا عن تقاعس اللجنة عن تنفيذ مهمتها المتمثلة في إنقاذ حياة المدنيين والنازحين في مراكز النزوح، وحماية المرضى وذويهم من الإعدامات الميدانية التي طالتهم أثناء نزوحهم من المستشفيات بعد أوامر الإخلاء غير القانونية وغير الإنسانية التي أصدرها جيش الاحتلال الإسرائيلي، واستمرار اللجنة الدولية للصليب الأحمر بإطلاق صفة “الرهائن” على الإسرائيليين و”المحتجزين” على الفلسطينيين[25].

وكذلك طالت وكالة الأونروا اتهامات بالتواطؤ والتخاذل، ومن صور ذلك انسحاب الوكالة مباشرة وطوعًا إلى جنوب القطاع منذ أن أمر جيش الاحتلال “الإسرائيلي” أهالي قطاع غزة بالتوجه جنوبًا؛ حيث أخلت الوكالة مراكزها وأوقفت خدماتها، ما أدى إلى حرمان 70٪ من سكان شمال غزة من الخدمات الصحية، وفق ما ذكرت وزارة الصحة الفلسطينية في غزة، مما شكل تماهيًا تامًا مع المخطط “الإسرائيلي” للتهجير، وعلى الرغم من انسحاب الأونروا إلى الجنوب إلا أن ذلك لم يحسّن من ظروف النازحين في جنوب قطاع غزة، فَملاجئ الأونروا تضمّ نحو 600 ألف نازح، بنسبة تفوق قدرتها الاستيعابية بـ 9 مرّات. وفي هذا السياق، أصدرت وكالة الأونروا إشارة بإخلاء خمس مدارس في القطاع تؤوي آلاف النازحين بحجة أن المدارس في خطر وأنّها لا تستطيع حمايتها.

أما على صعيد المساعدات الإنسانية الشحيحة التي دخلت القطاع والتي أناطت الأمم المتحدة الأونروا بتوزيعها، فقد لفت رئيس مكتب الإعلام الحكومي في غزة إلى أن الوكالة احتجزت المساعدات وقامت بتأخير دخول الشاحنات إلى القطاع، وذكر أيضًا أنها تقدم المساعدات للمدارس التي تشرف عليها فقط، دون أن تقدم مساعدات للنازحين خارج مدارسها. وعلى صعيد القطاع الصحي، أشار المتحدث باسم وزارة الصحة في غزة، أشرف القدرة، إلى أن الأونروا تركت ذوي الأمراض المزمنة دون متابعة أو علاج، كما أنها تركت الأطفال دون تطعيم.

وعلى الرغم من هذا الواقع التي تتجلي فيه صور التخاذل الشديد الذي يخدم بلا شك مصلحة الاحتلال تجدر الإشارة إلى أنه على مستوى الأفراد تعرض عدد كبير من موظفي الأنوروا وطواقم الصليب الأحمر إلى الوفاة جراء القصف الإسرائيلي، لكن بالرغم من ذلك، وعلى نسق الإعلام الغربي، تعمد المنظمتان في الأغلبية الساحقة من بياناتهما وتصريحاتهما الإعلامية إلى عدم إدانة الاحتلال بشكل مباشر وتجنب ذكر الجهة التي قصفتهما حيث تكتفي بإدانة الفعل دون الفاعل[26].

5- محكمة العدل الدولية

نلقي الضوء أيضًا على دور محكمة العدل الدولية تجاه الدعوة القضائية التي رفعتها جنوب إفريقيا ضد إسرائيل، وقامت فيها بتوجيه اتهام لإسرائيل بارتكاب جريمة إبادة جماعية ضد الفلسطينيين. وقد أثارت هذه الدعوى انتباه العالم لا سيما في ظل الخصوصية التاريخية التي يتمتع بها كل طرف؛ فالطرف المدعي، وهو جنوب أفريقيا، دولة عانت أعوامًا طويلة بسبب نظام فصل عنصري بغيض، قبل أن يتمكن شعبها من إسقاطه. والطرف المدعى عليه، وهو “إسرائيل”، “دولة” تدعي أنها تمثل يهود العالم أجمع، بمن في ذلك من تعرض منهم لمحاولة إبادة جماعية على يد النظام النازي في ألمانيا، وهو ما جعلها تؤدي دورًا أساسيًا في صياغة اتفاقية الإبادة الجماعية المتهَمة اليوم بانتهاكها[27].

وفي هذا السياق، وفي ضوء الأدلة القوية المقدمة من قبل جنوب إفريقيا، أمرت محكمة العدل الدولية إسرائيل باتخاذ إجراءات لمنع الإبادة الجماعية في غزة والتحريض المباشر عليها؛ حيث رفضت الطلب الإسرائيلي برفض الدعوى التي أقامتها جنوب أفريقيا، وصوتت أغلبية كبيرة من أعضاء لجنة المحكمة المؤلفة من 17 قاضيا لصالح اتخاذ إجراءات عاجلة تلبي معظم ما طلبته جنوب أفريقيا ولكن باستثناء الإجراء الأهم وهو توجيه الأمر بوقف الحرب على غزة.

ونصت على أن تتخذ إسرائيل “كل الإجراءات التي في وسعها لمنع ارتكاب جميع الأفعال ضمن نطاق المادة الثانية من اتفاقية الإبادة الجماعية، وذكرت المحكمة أنها تقر بحق الفلسطينيين في غزة في الحماية من أعمال الإبادة الجماعية، وأضافت المحكمة أن على إسرائيل الالتزام بتجنب كل ما يتعلق بالقتل والاعتداء والتدمير بحق سكان غزة وأن تضمن توفير الاحتياجات الإنسانية الملحة في القطاع بشكل فوري، وبموجب الحكم أيضا يتعين على إسرائيل أن ترفع تقريرًا إلى المحكمة في غضون شهر بشأن كل التدابير المؤقتة[28]. ولكن بالنظر إلى الواقع نجد أن التدابير التي طلبت المحكمة اتخاذها بصورةٍ عاجلة لم تكن كافية لوقف المجزرة المستمرة في قطاع غزة، والمساعدات الإنسانية التي أمرت المحكمة بإيصالها لا تصل بكمياتٍ كافية من أجل وقف المجاعة التي تحيط بالفلسطينيين في غزة، بل وتستمر إسرائيل في ترسيخ الاتهامات الموجهة إليها من خلال إصرارها على الاستمرار في ارتكاب الجرائم بصورة دائمة، لتثبّت الادعاءات التي تتضمنها الدعوى. ومن المعلوم أن قرار المحكمة –وعلى الرغم من كونه لم يتضمن وقفًا لإطلاق النار- لا يمكن أن ينفذ إلا بموافقة مجلس الأمن دون اعتراض أي من أعضائه الخمسة الدائمين وعلى رأسهم الولايات المتحدة التي لن تتردد في استخدام حق النقض (الفيتو) ضد أي إجراء من هذا القبيل.

وفي هذا السياق نستطيع القول إن قرار المحكمة شأنه شأن كل القرارات والتوصيات التي صدرت عن الأمم المتحدة ولم تحمل في طياتها أية فاعلية، وإن كانت هناك أهمية لهذا الحدث على وجه الخصوص فإنها لا تكمن في قرار المحكمة بل تتجلى فيما يحمله الحدث من رمزية وضع إسرائيل التي تمثل رأس جسر العالم الغربي في العالمين العربي والإسلامي في قفص الاتهام بمبادرة من دولة جنوبية، وهو ما يمثل تحولا على عدة أصعدة أهمها تشويه صورة الكيان الإسرائيلي، وتجدد وعي العالم بأحوال منظومات الحكم في العالم، وواقع المؤسسات الدولية، والسياسات الخارجية للدول الكبرى[29].

ب- المنظمات الإقليمية

1- منظمة التعاون الإسلامي:

تعد منظمة التعاون الإسلامي ثاني أكبر منظمة دولية بعد الأمم المتحدة؛ حيث تضم في عضويتها سبعًا وخمسين دولة موزعة على أربع قارات. وبحسب تعريفها وميثاقها فهي تُمثل الصوت الجماعي للعالم الإسلامي وتسعى لحماية مصالحه والتعبير عنها دعمًا للسلم والانسجام الدوليين وتعزيزًا للعلاقات بين مختلف شعوب العالم. وترتبط المنظمة بعلاقات تشاور وتعاون مع الأمم المتحدة وغيرها من المنظمات الحكومية الدولية بهدف حماية المصالح الحيوية للمسلمين، والعمل على تسوية النزاعات والصراعات التي تكون الدول الأعضاء طرفًا فيها. ويستند برنامج عملها إلى 18 مجالا؛ تشمل: قضايا السلم والأمن، وفلسطين والقدس الشريف، والتخفيف من حدة الفقر، ومكافحة الإرهاب، والاستثمار وتمويل المشاريع، والأمن الغذائي، والعلوم والتكنولوجيا، وتغيّر المناخ، والتنمية المستدامة، والوسطية، والثقافة والتناغم بين الأديان، وتمكين المرأة، والعمل الإسلامي المشترك في المجال الإنساني، وحقوق الإنسان والحكم الرشيد وغيرها.[30]

وتمثل دور المنظمة تجاه العدوان الإسرائيلي الحالي على غزة في الآتي:

– رصد الانتهاكات والجرائم عبر مرصد المنظمة الأسبوعي.[31]

– تقديم الأمين العام لمنظمة التعاون الإسلامي، السيد حسين إبراهيم طه، مرافعة شفوية أمام محكمة العدل الدولية في لاهاي، 26 فبراير 2024م؛ استعرض فيها جرائم إسرائيل التي تقترفها في حق الشعب الفلسطيني لاسيما حربها على قطاع غزة، مؤكدًا أن إسرائيل ماضية في تطبيق سياسة الفصل العنصري ضد الفلسطينيين، مؤكدًا أن السلام العادل والدائم والشامل على أساس حل الدولتين هو السبيل الوحيد لضمان أمن واستقرار جميع شعوب المنطقة والحماية من دورات العنف والحرب، مطالبًا كافة الدول بوقف تصدير الأسلحة والذخائر لسلطات الاحتلال التي يستخدمها الجيش والمستوطنين ضد الشعب الفلسطيني، كما أدان الاستيطان المتسارع للقدس الشرقية والهجمات الإسرائيلية التي يتم تنفيذها ضد الأماكن المقدسة الإسلامية والمسيحية في القدس.[32]

– مشاركة الأمين العام للمنظمة في الدورة الاستثنائية للمؤتمر الإسلامي لوزراء الإعلام التي انعقدت في اسطنبول 24 فبراير 2024م تحت شعار “التضليل الإعلامي والاعتداءات التي تقترفها سلطات الاحتلال الإسرائيلي في حق الصحفيين ووسائل الإعلام في الأرض الفلسطينية المحتلة”؛ حيث أكد في كلمته التي ألقاها في الجلسة الافتتاحية للمؤتمر أن ما تشهده الأرض الفلسطينية وخصوصا قطاع غزة من مجازر مروعة تجسد نموذجا للإرهاب المنظم والعنف وجريمة إبادة جماعية يقترفها الاحتلال الإسرائيلي دون رادع سياسي أو ديني أو إنساني أو قانوني، وتستدعي تعزيز الجهود والمواقف من أجل فضح هذه الجرائم وملاحقة الاحتلال الاسرائيلي قانونيا ومساءلته.[33]

بناءًا على ما سبق يظهر عدم اختلاف موقف منظمة التعاون الإسلامي عن مثيلاتها من المنظمات الدولية في الاقتصار على رصد الانتهاكات والتنديد بها، وهو ما يظهر بوضوح عجز المنظمة التي تضم 57 دولة إسلامية عن تحقيق الهدف من إنشائها في منع إبادة شعب غزة المسلم وإرساء السلام والأمن في القطاع، بل لم تستطع المنظمة –على الرغم من وضع القضية الفلسطينية على سلم أولوياتها- كسر الحصار المفروض على القطاع والمساهمة في زيادة دخول المساعدات ومنع حرب التجويع التي يمارسها الكيان الصهيوني على سكان غزة؛ وهذا مما يطرح تساؤلات حول مستقبل المنظمة ومدى فاعليتها.

2- جامعة الدول العربية:

تهدف جامعة الدول العربية بحسب ميثاقها إلى توثيق الصلات بين الدول العربية وصيانة استقلالها والمحافظة على أمن المنطقة العربية وسلامتها في مختلف المجالات السياسية والاقتصادية والثقافية والاجتماعية والصحية. ووفقًا لاتفاقية الدفاع العربي المشترك عام 1950، أقرت الجامعة باتخاذ تدابير ووسائل –بما في ذلك القوة المسلحة– لرد أي اعتداء يقع على دولة من الدول الأعضاء، التي تعد فلسطين منها.[34]

ومن خلال الوقوف على دور جامعة الدول العربية تجاه العدوان الإسرائيلي على غزة في الفترة محل الدراسة، نجد أنه قد اقتصر على شجب للانتهاكات التي يتعرض لها الشعب الفلسطيني على لسان الأمين العام للجامعة أحمد أبو الغيط في اجتماع المجلس في دورته العادية رقم 161 على مستوى وزراء خارجية العرب، إلا أنه لم ينتج عن هذا الاجتماع أية قرارات أو تدابير على أرض الواقع[35].

ثانيا- المنظمات الدولية: مآلات ما بعد الحرب

إن هذه الحرب المستمرة منذ أكتوبر 2023 لها تبعاتها التي ألقت بظلالها على المنظمات الدولية ومستقبلها على عدة مستويات؛ أولا تأتي الآثار الأولية المباشرة المتعلقة بالحرب والدمار، فقد تضرر الكثير من العاملين هذه المنظمات؛ حيث تعرض البعض للقتل أو النزوح جراء القصف الإسرائيلي. كما تعرضت الكثير من المنشآت التابعة للأمم المتحدة والمنظمات والوكالات التابعة لها (مثل الأنوروا) إلى القصف. وبالتالي فالاعتداءات الإسرائيلية المتكررة والحصار المفروض على قطاع غزة كانت له آثاره أيضًا على عمل المنظمات الدولية وساهم في تقويض مهامها في غزة، وبالطبع فإن هذا ليس نتاج قرار إسرائيلي منفرد، ولكنه قرار للدول الغربية الحليفة لها بقيادة الولايات المتحدة الأميركية، تقوم فيه بخرق واضح للقانون الدولي وسيادته التي لطالما نادت به وذلك تحت شعار “حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها”.[36] وبالتالي تصبح المنظمات الدولية بمثابة أدوات ووسائل لا تنفك عن الهيمنة الأميركية ومصالحها.

على صعيد آخر وأهم، يأتي الأثر الأكبر الذي طال المنظمات الدولية من هذه الحرب والمتمثل في كثرة التساؤلات المثارة حول فاعليتها ومصداقيتها والنهج الذي تسير عليه، خاصة وقد ساهمت هذه الحرب في تشويه كبير لصورة المنظمات الدولية وسيادة القانون الدولي. فالأمم المتحدة باعتبارها المنظمة الأكبر عالميًا التي تأسست بعد الحرب العالمية الثانية وكان السبب الرئيسي وراء تأسيسها “منع الحروب وتهديدات السلام، وحفظ السلام والأمن الدوليين”، تُتهَّم اليوم بالانحراف عن هدفها الأساسي، وعدم القدرة على التعبير عن الواقع العالمي.

فقد أظهرت الحرب في غزة أن الأمم المتحدة مجرد مجموعة عاجزة من الدول، تخضع لقيادة الولايات المتحدة، ومن ثم فإنها في نظر الشعوب فشلت في تأدية واجبها وحان وقت تغييرها ومراجعة دورها، ومن تُمثِله في الحقيقة، فليس هناك دولة واحدة تمثّل ملياري مسلم في مجلس الأمن، الذي يمكن إبطال جميع قراراته بصوت دولة واحدة تستخدم حق النقض، كما لا توجد دولة تمثل صوت قارة أفريقيا التي يبلغ عدد سكانها 1.2 مليار نسمة، وكذلك لا يوجد من يُمثل 550 مليون شخص يعيشون في أميركا اللاتينية، وهذا الظلم تجلت انعكاساته في العديد من القضايا مثل: رواندا، البوسنة، كوبا، أفغانستان، والعراق، وأخيرًا غزة. وقد رأينا كيف قامت الولايات المتحدة بتهميش بقية العالم؛ برفضها طلب 153 دولة عضوا في الأمم المتحدة إعلان وقف إطلاق النار لمنع قتل المدنيين في غزة[37].

إن العالم اليوم يتساءل بسخرية عن مستوى العجز الذي تظهر به المنظمات الدولية وقدرتها في تقديم حد أدنى من العمل الذي يحسن من صورتها، كأن تقوم بفرض ممرات آمنة لإيصال المساعدات الإنسانية للمنكوبين في غزة، أو تنظيم عملية تسلُّم المساعدات وفحصها وتوزيعها، وإرسال وفود دولية للتحقيق في جرائم الإبادة الجماعية والأعمال البربرية الهمجية التي يقوم بها جيش الاحتلال الصهيوني.

لقد كشفت هذه الحرب أيضًا عن ازدواجية المعايير العالمية، وفي هذا السياق يقول الرئيس بايدن في كلمته بمناسبة مرور عامين على حرب روسيا في أوكرانيا: “سيواصل بوتين نشر الموت والدمار إذا لم يدفع ثمن ما يقوم به”، أما الدمار الذي يقوم به الكيان الصهيوني فليس بدمار في نظر الولايات المتحدة والنظام العالمي الذي تتزعمه، رغم أنه تسبب في خمسة أشهر فقط بأكثر من خمسة أضعاف الضحايا المدنيين الأوكرانيين الذين سقطوا في عامين على أيدي القوات الروسية! وبالتالي فإن حرب الإبادة الجماعية في غزة، لم تُبقِ شيئًا من المصداقية للولايات المتحدة ومن ورائها المنظمات الدولية التي تقوم الولايات المتحدة بتجاوزها متى تشاء وتعود إليها متى تشاء باعتبارها القوة العالمية الرائدة والممول الرئيسي لمنظومة الأمم المتحدة، ومن ثم فإن هذه الحرب لم تبقِ لها ما تدافع به عن أهمية الحفاظ على هذا النظام -الذي يفترض أنه نظام قائم على قواعد- أمام المطالب التي تدعو إلى إسقاطه، فمنطق القوة السائد لا يعترف إلا بلغة المصالح فقط، حتى لو خالف النظام والقوانين[38].

أما بخصوص المنظمات الإقليمية المعنية بالعالم العربي والإسلامي، فلا تختلف كثيرًا عن الأمم المتحدة والمنظمات التابعة لها من حيث الفاعلية؛ فمنظمة التعاون الإسلامي التي تعد ثاني أكبر منظمة بعد الأمم المتحدة، تضم البلدان التي تعاني من الأزمات في جميع أنحاء العالم “دول العالم الإسلامي”، سواء حروب أو فقر أو تدنٍ في مستوى التعليم وغيره، وكذلك جامعة الدول العربية؛ وقد أكدت حرب غزة حالة الشلل التي تعاني منها تلك المنظمات؛ فقد كان من المفترض أن تتخذ منظمة التعاون الإسلامي موقفًا فعالا يثمر حلا على أرض الواقع، لكن ذلك لم يحدث.

وقد ازدادت المناقشات حول جدوى هذه المنظمات بعد الإبادة الجماعية في غزة، حينما اجتمعت منظمة التعاون الإسلامي وجامعة الدول العربية معًا في الرياض في نوفمبر 2023، واعتقد البعض أن المجتمعين سيتّخذون موقفًا مشتركًا هذه المرة من أجل غزة، لكن للأسف لم يتم قبول اقتراح فرض عقوبات مشتركة وحظر وعزلة على إسرائيل بسبب بعض الأصوات، ومع تهديد نتنياهو قبل اللقاء: “إذا كنتم تريدون حماية مصالحكم فابقوا صامتين”، لم يتمكنوا من اتخاذ قرار.

والآن، أصبح الملايين من المسلمين الذين يقفون مع غزة، من ماليزيا إلى البوسنة، يشككون في منظمة التعاون الإسلامي التي تمثلهم، ولا يثقون بها[39].

خاتمة:

لقد حاول هذا التقرير الوقوف على دور المنظمات الدولية تجاه العدوان الإسرائيلي على غزة ورصد ما قامت به في الفترة بين السابع من ديسمبر وحتى السابع من مارس 2024، وتسليط الضوء على بعض دلالات هذا الدور الذي كان -بحسب ما ذكرنا- محصورًا في توصيات وتنديدات بالحرب ونداءات متكررة بوقفها. لكنها في مجملها لم تفضِ إلى منع أو حتى تقليل جرائم الكيان الصهيوني الذي يقوم بإبادة شعب غزة، هذا بالإضافة إلى أن بعض المساهمات والأعمال الإغاثية التي قدمتها بعض المنظمات كانت محدودة جدا بالنسبة إلى ما كان يقدم لقطاع غزة قبل الحرب فضلا عن ما تحتاجه بعد دمار الحرب الذي يزيد الحاجة أضعافًا.

فمما سبق طرحه نستطيع القول إن هذه الحرب البشعة التي تعج بجرائم الحرب قد أظهرت بوضوح محدودية دور المنظمات الدولية بما لا يتناسب مع حجم هذه الحرب إلى حد وصفها بالعجز وفقدان الفاعلية، وكذلك بما لا يتسق مع أهدافها ومواثيقها إلى حد يفقدها المصداقية. فعلى الرغم من كثرة التصريحات والقرارات التي تستنكر أفعال الكيان الإسرائيلي –كما تستنكر هجمات السابع من أكتوبر- إلا أنها لم ترقَ لتغيير أي شيء في واقع معاناة هذا الشعب.

ولعل التحدي الأكبر أمام هذه المنظمات والنظام العالمي برمته والذي جلته هذه الحرب، يكمن فيما ذكره البروفيسور مايكل لينك -المقرّر السابق الخاص للأمم المتحدة المعنيّ بحالة حقوق الإنسان في الأراضي الفلسطينية المحتلة 1967؛ حيث قال أنه لا يوجد احتلال في العالم الحديث قد خصص له القانون الدولي مساحة شبيهة بتلك التي يحظى بها موضوع فلسطين، ولا توجد قضية في الأمم المتحدة صدر حولها عدد القرارات التي اعتمدتها المنظمة بشأن فلسطين، وأشار إلى أن المفارقة تكمن في نجاح إسرائيل، بدعم قوي من الولايات المتحدة الأميركية، في تهميش القانون الدولي باطراد، ومن ثم فإن الحالة في فلسطين خير مثال على أن القانون الدولي أقرب إلى السلطة منه إلى العدالة[40].

وهذا يقودنا بالطبع لمساءلة منظومة القيم التي تحكم هذه المنظمات والتي تفتقد المعيارية القيمية المطلقة التي تعمل على تحقيق العدل ورفض الظلم؛ فعندما نتحدث عن منظمات ترى المقاومة إرهابًا، فإن التعويل على قدرتها في تقديم قرارات عادلة يعد محض هراء. وهذا بدوره يقودنا إلى السؤال عن مستقبل هذه المنظمات في ضوء ما أبرزته هذه الحرب من ضعفها وعجزها، والذي يعود إلى النهج الذي يسير عليه النظام العالمي اليوم بزعامة الولايات المتحدة ولا تحكمه منظومة قيم معيارية مطلقة بل ازدواجية معيارية تستند إلى منطق القوة؛ فقد كشفت هذه الحرب الطبيعة الخبيثة للسرد الخطي للتاريخ الذي يفترض أنه يؤدي إلى التقدم والسلام. بل إن ما يشهده العالم اليوم من حرب وحشية يعد علامة صارخة على تآكل الهيمنة المعيارية الغربية، فهذا النظام الذي سعت الدول الغربية في إنشائه في أعقاب الحرب العالمية الثانية من خلال إنشاء المنظمات الدولية وتحديد القواعد وإرساء مواثيق حقوق الإنسان، وبناء نظام عالمي أكثر سلمية، فشل مهندسوه في كثير من الأحيان في الارتقاء إلى مستوى هذه المعايير، بل كانت هذه المؤسسات بمثابة أدوات لتعزيز الهيمنة الغربية.[41]

وفي ظل ما يشهده العالم من تحولات نتيجة صعود القوتين الروسية والصينية، فإن السيناريوهات المحتملة في المستقبل في ظل تراجع التفوق المعياري والصراع الهوياتي العميق الذي يعيشه العالم تبقى مفتوحة، وهو ما قد يفتح بابًا للعالم الإسلامي للاصطفاف وفرض وجوده وتقديم رؤيته القيمية العالمية التي تحمل الحق والعدل من جديد[42].

____________

هوامش

[1] Susan Akram, “The failures of the UN in the Israel-Palestine conflict”, Open Global Rights, 22 January 2024, available at: https://shorturl.at/yzIX1

[2] شيماء الشرقاوي، “العدوان على غزة وازدواجية المعايير في المؤسسات الدولية”، جريدة الشروق، 16 نوفمبر 2023، متاح عبر الرابط التالي:

https://shorturl.at/nBDY6

[3] الأمم المتحدة، الجزيرة، 16 ديسمبر 2014، متاح عبر الرابط التالي: https://shorturl.at/oBHS3

[4] شيماء الشرقاوي، “العدوان على غزة وازدواجية المعايير في المؤسسات الدولية” جريدة الشروق، مرجع سابق.

[5] الجمعية العامة تعتمد قرارا بشأن التصعيد في غزة وإسرائيل، يطالب بوقف إنساني لإطلاق النار، الأمم المتحدة، 12 ديسمبر 2023، متاح عبر الرابط التالي: https://shorturl.at/hlMN4

[6] الامم المتحدة، مجلس الأمن الدولي يعتمد قرارا حول توسيع وصول المساعدات إلى غزة، 22 ديسمبر 2023، متاح عبر الرابط التالي:

https://t.ly/baBZk

[7] الولايات المتحدة تستخدم الفيتو ضد مشروع قرار يطالب بالوقف الإنساني لإطلاق النار في غزة، الأمم المتحدة، 20 فبراير 2024، متاح عبر الرابط التالي: https://news.un.org/ar/story/2024/02/1128592

[8] كبيرة منسقي الإغاثة وإعادة الإعمار في غزة تزور القطاع لبحث تعزيز تدفق المساعدات، الأمم المتحدة، 17 يناير 2024، متاح عبر الرابط التالي:

https://t.ly/4yi3E

[9]جهود أممية حثيثة للتصدي لخطر حدوث مجاعة في غزة، الأمم المتحدة، 23 يناير 2024، متاح عبر الرابط التالي:  https://t.ly/00Azd

[10] الأمم المتحدة: السلطات الإسرائيلية تسمح بمهمتين فقط من 21 لتوصيل الوقود إلى شمال وادي غزة، الأمم المتحدة، 22 فبراير 2024، متاح عبر الرابط التالي: https://t.ly/zBJCs

[11] برنامج الأغذية العالمي يعلق توصيل المساعدات المنقذة للحياة إلى شمال غزة، الأمم المتحدة، 20 فبراير 2024، متاح عبر الرابط التالي: https://rb.gy/nkie6w

[12] شيماء الشرقاوي، “العدوان على غزة وازدواجية المعايير في المؤسسات الدولية”، مرجع سابق.

[13] المرجع السابق.

[14] بعثة أممية تكشف أوضاعا صعبة شمال غزة: أطفال يموتون جوعا وشح حاد في الإمدادات الطبية، الأمم المتحدة، 5 مارس 2024، متاح عبر الرابط التالي: https://shorturl.at/amIP5

[15] توصيل إمدادات طبية إلى مستشفى ناصر وتعطل المساعدات الغذائية، الأمم المتحدة، 30 يناير 2024، متاح عبر الرابط التالي:

https://shorturl.at/afQZ6

[16] المنظمات الدولية العاملة في قطاع غزة، تي آر تي عربي، 1 نوفمبر 2023، متاح عبر الرابط التالي: https://shorturl.at/psIZ3

[17] في ظل تحديات غير مسبوقة، الأونروا مستمرة في خدمة النازحين في غزة، الامم المتحدة، 14 فبراير 2024، متاح عبر الرابط التالي: https://shorturl.at/quvx6

[18] مسؤولة الإعلام بالأونروا: الصراع في غزة يخلّف دمارا وتهجيرا وحزنا غير مسبوق، الأمم المتحدة، 23ديسمبر 2023، متاح عبر الرابط التالي:

https://shorter.me/Dc3L6

[19] قصف منشأة تابعة للأونروا تؤوي نازحين في خان يونس، الأمم المتحدة، 24 يناير 2024، متاح عبر الرابط التالي: https://shorter.me/yPaFt

[20] مساعدات الأونروا المنقذة للحياة قد تتوقف بسبب تعليق تمويلها من عدد من الدول، الأمم المتحدة، 27 يناير 2024، متاح عبر الرابط التالي: https://shorter.me/hGl8b

[21] ملاك سلوم، “تواطؤ الأونروا والصليب الأحمر مع الاحتلال”، القوس، 18 نوفمبر 2023، متاح عبر الرابط التالي: https://shorter.me/B6gmM

[22] إسرائيل والأراضي المحتلة، اللجنة الدولية للصليب الأحمر، متاح عبر الرابط التالي: https://shorter.me/hTtwm

[23] اللجنة الدولية للصليب الأحمر تشعر بقلق بالغ إزاء أرواح وأحوال الرهائن المحتجزين في غزة، اللجنة الدولية للصليب الأحمر، 14 فبراير 2022، متاح عبر الرابط التالي: https://shorter.me/klSds

[24] Jamey Keaten, “Snubbed by Netanyahu, Red Cross toes fine line trying to help civilians in Israel-Hamas conflict”, AP NEWS, 18 January 2024, available at: https://shorter.me/HX0ZW

[25] تقرير حقوقي ينتقد أداء منظمات دولية في غزة ويتهمها بالفشل بداعي الحياد، شاهد، متاح عبر الرابط التالي: https://shorter.me/MvTsZ

[26] ملاك سلوم، “تواطؤ الأونروا والصليب الأحمر مع الاحتلال”، مرجع سابق.

[27] حسن نافعة، “قراءة في حكم محكمة العدل الدولية ضد إسرائيل”، ميادين، 1 فبراير 2024، متاح عبر الرابط التالي: https://shorter.me/bsydh

[28] العدل الدولية تفرض تدابير مؤقتة على إسرائيل ولا قرار بوقف الحرب، الجزيرة، 26 يناير 2024، متاح عبر الرابط التالي: https://shorter.me/Kf-MA

[29] نور الدين اسكندر، “عن العدالة الدولية والمحكمة”، ميادين، 3 فبراير 2024، متاح عبر الرابط التالي: https://shorturl.at/mrKU1

[30] تاريخ المنظمة، منظمة التعاون الإسلامي، متاح عبر الرابط التالي: https://rb.gy/sj5yhm

[31] التقرير الأسبوعي لمرصد منظمة التعاون الإسلامي لجرائم إسرائيل ضد الفلسطينيين، منظمة التعاون الإسلامي، 27 فبراير 2024، متاح عبر الرابط التالي: https://shorter.me/igrro

[32] أمين عام منظمة التعاون الإسلامي يقدم مرافعة أمام محكمة العدل الدولية في لاهاي حول القضية الفلسطينية، منظمة التعاون الإسلامي، 26 فبراير 2024، متاح عبر الرابط التالي: https://shorturl.at/xCSTY

[33] أمين عام المنظمة يدعو إلى تعزيز الجهود والمواقف لفضح جرائم الإبادة الجماعية التي يقترفها الاحتلال الإسرائيلي وملاحقته قانونيًا، منظمة التعاون الإسلامي، مرجع سابق.

[34] محمد عبدالعاطي، جامعة الدول العربية: المبادئ والأهداف، الجزيرة، 10 مارس 2004، متاح عبر الرابط التالي: https://shorturl.at/cuUX4

[35] انطلاق أعمال الدورة الـ161 لمجلس جامعة الدول العربية على مستوى وزراء الخارجية، وكالة وفا للأنباء والمعلومات الفلسطينية، 6 مارس 2024، متاح عبر الرابط التالي: https://rb.gy/tk5jcl

[36] عبدالنبي العكري، حرب غزه وتقويض دور منظمات الأمم المتحدة، دلمون بوست، 12 نوفمبر 2023ن متاح عبر الرابط التالي:

https://shorter.me/BNQO4

[37] كمال أوزتورك، “حان وقت تغيير المؤسسات”، الجزيرة، 20 ديسمبر 2023، متاح عبر الرابط التالي: https://shorter.me/AcMwi

[38] محمود عبدالهادي، هل تكون غزّة المسمار الأخير في نعش النظام العالمي”، الجزيرة، 7 مارس 2024، متاح عبر الرابط التالي: https://shorter.me/qy1zW

[39] كمال أوزتورك، “حان وقت تغيير المؤسسات”، الجزيرة، مرجع سابق.

[40] ندوة “الأمم المتحدة وفلسطين” تجمع على فشل المنظمة الدولية تجاه الفلسطينيين، المركز العربي للابحاث ودراسة السياسات، 24 أكتوبر 2023، متاح عبر الرابط التالي: https://shorter.me/zw__Y

[41] Murat Yesitas, Gaza and the collapse of Western normative hegemony, SETA, 9 November 2023, available at:

https://shorter.me/utASb

[42] Ibid.

  • نُشر التقرير في فصلية قضايا ونظرات- العدد الثالث والثلاثون- أبريل 2024

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى