مستقبل محور المقاومة وسيناريوهات التوسُّع الإقليمي للحرب

مقدمة:

بحلول الشهر السادس على عملية “طوفان الأقصى“، وما تلاها من حرب الإبادة الجماعية التي تشنّها دولة الاحتلال على غزّة، والانتهاكات الصارخة ضد سكان الضفة الغربية من قبل المستوطنين وقوات الاحتلال، تقف المنطقة اليوم على شفا حرب إقليمية واسعة، يُعلن الجميع عدم رغبتهم في اندلاعها، ولكن تدفع لها وحشية الاحتلال وأهدافه التي تُعتبر خطوط حمراء بالنسبة لإيران ومحورها في المنطقة. كذلك يدفع إليها تخبط الإدارة الأمريكية وقصر نظرها الاستراتيجي، ففي الوقت الذي تُعلن عدم رغبتها في توسيع نطاق الحرب، فإنها تأخذ خطوات تؤجج من الصراع وتُرغم حلفاء المقاومة الفلسطينية على التدخل وتوسيع نطاق الحرب، تلك الخطوات من قبيل عدم رغبة واشنطن في قرار وقف إطلاق نار دائم في مجلس الأمن على الرغم من الإجماع الدولي بشأن ضرورة الأمر[1]، حتى انتهى المطاف -تحت وطأة تفاقُم المأساة الإنسانية في غزة- بامتناع واشنطن عن التصويت على قرار مجلس الأمن الداعي لوقف إطلاق النار، ما سمح بتمرير القرار.

هذا فضلًا عن تعزيز واشنطن لتواجدها العسكري في المنطقة حمايةً لمصالحها ومصالح إسرائيل، وهو تواجد يُشعل الصراع، ويؤدي إلى ردود عسكرية من مجموعات منضوية في محور المقاومة كالميليشيات السورية والعراقية التي قامت بتوجيه ضربات للقوات والقواعد الأمريكية، وتحركات جماعة “أنصار الله” في اليمن ضد السفن الإسرائيلية أو المتجهة للموانئ الإسرائيلية، والتي ما لبثت أن صعدت من هجماتها لتشمل السفن الأمريكية والبريطانية التي شنت عدوان عسكري على قوات الحوثيين، وفي مرحلة لاحقة أعلن زعيم جماعة أنصار الله عبد الملك الحوثي توسيع نطاق العمليات العسكرية للجماعة لتشمل المحيط الهندي وطريق رأس الرجاء الصالح، بعد أن كانت الجماعة تقصر عملياتها على البحر الأحمر وخليج عدن.

كل هذا، وإن كانت ما تزال ضربات في المناطق الرمادية، فإنها تُعزز من قيام حرب إقليمية واسعة، في ظل التطورات المتلاحقة. ووفقًا لذلك، فإن هذه الورقة تهدف إلى الإجابة على عددٍ من الأسئلة، هي: ما هو محور المقاومة؟ هل هو تحالف سياسي بين جماعات تتشارك رفض الهيمنة الأمريكية الصهيونية على المنطقة؟ أم هو أقرب إلى مشروع إقليمي إيراني طائفي؟ وما هي ردود فعل المحور على عملية طوفان الأقصى؟ وما مستقبل هذا المحور في ظل الأفعال وردود الأفعال الإسرائيلية والغربية على الجماعات والدول المنخرطة في ذلك التحالف؟ وما هي سيناريوهات التوسع الإقليمي للحرب؟

أولًا- محور المقاومة: مشروع إيراني طائفي، أم تحالف سياسي مضاد للولايات المتحدة وسياساتها في المنطقة؟

تثور تساؤلات عدة حول الأبعاد القيمية والحضارية للسياسة الخارجية الإيرانية في المنطقة[2]، وترتكز هذه التساؤلات حول إمكانية قيام طهران بدورٍ في نصرة شعوب المنطقة المستضعفة ضد السياسات الاستعمارية الغربية والصهيونية، بينما هي في الوقت نفسه تُمارس سياسات طائفية إقصائية، داخل إيران وخارجها؟ وإلى أي مدى تتسق الشعارات التي ترفعها طهران ومحورها مع السياسات التي تنتهجها في المنطقة؟

وتتعدد الإجابات عن هذه الأسئلة بتعدد وجهات النظر المدافعة والرافضة بشأن الأهداف الإيرانية، من السكوت عن الأمر وعدم التطرق إليه، أو تعليل بعض الأحداث والسياسات بذرائعٍ شتى؛ يأتي على رأسها مواجهة النفوذ الأمريكي والغربي وحلفائه في المنطقة وفرض معادلات جديدة في طبيعة الاشتباك مع دولة الاحتلال[3]. هذا في مقابل إدانة السياسات الإيرانية كافة باعتبارها سياسات طائفية، والتشديد على كون الجماعات المنضوية في “محور المقاومة” ما هي إلا جماعات “أخذت وضعًا استراتيجيًا يقوم على مفهوم «الدفاع المتقدم» عن الدولة الإيرانية”[4]، فضلًا عن الترويج لسياسات ما يُسمى “محور الاعتدال“، والتي تتلخص في إقامة تحالف عربي إسرائيلي ضد إيران وحلفائها وأي قوة إقليمية تُعارض سياسات ذلك التحالف الذي تعمل واشنطن على إعداده منذ فترة حتى تتخفف من أعباء الدفاع عن حلفائها في المنطقة وتتفرغ لمواجهة الصين[5].

وقبل الخوض في هذه التقييمات/ التحيزات علينا تعيين المقصود بمفهوم محور المقاومة.

برز عدد من المفاهيم من قبيل محور المقاومة أو محور الممانعة، وهي مسميات تُدلّل على تحالف نشأ من دولتين –إيران وسوريا– وعددٍ من التنظيمات المسلحة من دون الدولة. تذهب بعض الدراسات إلى أن أول من “استخدم المفهوم كان الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصر الله، وعدد من المسؤولين الإيرانيين ومن قادة حزب الله، وبعض وسائل الإعلام المؤيدة لهذا المحور (قناة الميادين، وجريدة الأخبار، وقناة المنار)[6].

يذهب سعيد الصباغ إلى أن محور المقاومة الإسلامية يُمثل تجسيدًا لمقاربة إيران الأيديولوجية في المنطقة، والتي تشمل “كل نظام أو منظمة أو جماعة أو طائفة تقف إلى جانب إيران في رفض الهيمنة الأمريكية على المنطقة، ومقاومة الاحتلال الإسرائيلي للأراضي العربية[7].

أما جان فيليب ليفيف وفرانشيسكا فاتوري فذهبا إلى أن “محور المقاومة” جاء كرد فعل على خطاب حالة الاتحاد الذي ألقاه الرئيس الأمريكي جورج دبليو بوش في 29 يناير 2002 –والذي ندد فيه بـ “محور الشر” الذي شكلته إيران والعراق وكوريا الشمالية– ويُعبر عن نية دفاعية وطموحات طهران التوسعية[8].

نستطيع القول إن مفهوم “محور المقاومة” أو “محور الممانعة” يُشير إلى تحالف أيديولوجي وسياسي واسع يضم جماعات أقرب للأذرع الإيرانية في بلدانها، ومجموعات أخرى تحظى باستقلال تام عن إيران وباقي محور المقاومة، ومجموعات أخرى تُشارك إيران في رسم سياسات مشتركة في المنطقة، كما سيتضح في أجزاءٍ تالية من التقرير.

كما أنه تحالف نشأ وتوسع نتيجة الفراغ العربي الذي أعقب اتفاقيات السلام العربية الإسرائيلية بدءًا باتفاقية كامب ديفيد في 1978، التي أخرجت مصر من دائرة الصراع والتي ما لبثت دول وجماعات أخرى حذت حذوها من دول المواجهة خاصةً الأردن ومنظمة التحرير الفلسطينية. الأمر الذي دفع بهذا المحور إلى التشكل، وكانت بدايته بتعزيز العلاقات بين طهران ودمشق منذ عام 1980[9]، أعقب ذلك قيام الدولتين بدعم وتشكيل جماعات انضوت تحت لواء المحور، كان أبرزها جماعة حزب الله اللبناني التي نشأت عقب الفراغ الذي تركته منظمة التحرير بعد أن تم إبعادها من لبنان عام 1982[10].

منذ ذلك الوقت، شكلت إيران ميليشيات مسلحة ودعمت أخرى في العراق وسوريا واليمن، وفي شهادة شديدة الأهمية كتبها الجنرال في الحرس الثوري الإيراني حسين همداني في مذكراته “رسائل الأسماك“، تكشف لنا جانبًا هامًا عن الأذرع الإيرانية التي تم تشكيلها في الساحة السورية عقب التدخل الإيراني لصالح نظام بشار الأسد ضد الحراك الشعبي.

ففي تلك الشهادة يتضح الفارق بين الجماعات المتحالفة سياسًا في إطار المحور، والأذرع والمجموعات الأيديولوجية التي انضوت في التحالف نتيجة الدعم المالي كميليشيا “فاطميون الأفغانية” و”زينبيون الباكستانية” التي عملت بشكل مباشر تحت إمرة فيلق القدس في معظم المعارك التي خاضها الجيش السوري في حلب ومناطق دير الزور[11].

وفي تحليلٍ آخر، تذهب الباحثة المختصة في الشؤون الإيرانية فاطمة الصمادي إلى أن: “في واحدة من زوايا المعالجة تحتاج قضية “الميلشيات الشيعيّة” التي ترعاها إيران، إلى دراستها بصورة أبعد من توصيفها بـ “مجموعات تتلقى المال وتندفع للقتال بحكم الحاجة والفقر واللجوء”، أو حصر فيلق “فاطميون” في قالب واحد، وتصويرهم بأنهم “لاجئون أفغان مُعدمون تستغل إيران حاجتهم”، لأنه وعلى الرغم من وجاهة هذا الربط ووجود ما يسنده، إلا أنه يتغافل ويُسقط البعد العقائديّ والالتزام الذي يبدو جليًا في أحاديث قادته، بل وفي الجمل والتعابير اللفظية التي تصدر عن عائلات المنتمين له، وطريقة لباس نسائهم[12].

فيما يتعلق بجماعة الحوثي “أنصار الله” في اليمن، فإن علاقتها بإيران شديدة الالتباس والغموض. ذهبت هيلين لاكنر إلى أنه على مدار العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، خلال الحرب بين الحوثي ونظام علي عبد الله صالح، عمد الأخير إلى تصوير الحوثي كمخلب قط إيراني لتأمين الدعم من واشنطن والرياض، على الرغم من ذلك رفضت واشنطن تلك المزاعم واعتبرتها محاولة مخادعة من حكومة صالح. على النقيض من ذلك، وخلال العقد الثاني من القرن، تقبل واشنطن نفس الادعاءات التي رفضتها في السابق، وتصور الحوثي كذراع إيراني في المنطقة وجماعة إرهابية[13].

يظل مدى نفوذ أو هيمنة إيران على الجماعات المنضوية داخل محور المقاومة سؤالًا كبيرًا بحاجة إلى دراساتٍ معمقة[14]. ففي الوقت الذي افتخر فيه القائد السابق لقوات الحشد الشعبي العراقية أبو مهدي المهندس بكونه جنديًّا من جنود قاسم سليماني القائد السابق لـ “فيلق القدس” في الحرس الثوري الإيراني[15]، نجد أن قيادات المقاومة الفلسطينية يتعاطون كحلفاء مع إيران وليس كتابعين، وهو ما تجلى في موقفهم من الثورة السورية عندما دعموا الاحتجاجات وقوات المعارضة ضد وحشية قوات الأسد والقوات الشيعية التابعة لمحور المقاومة، الأمر الذي قلص الدعم المقدم لهم من قبل طهران[16].

بعد عملية طوفان الأقصى، وما أعقبها من مساندة عسكرية مختلفة من المجموعات المنضوية في محور المقاومة، نفت إيران إصدار أوامر بشن هجمات على القوات الأمريكية في العراق وسوريا والأردن والبحر الأحمر، قائلة إن كل فصيل في “محور المقاومة” يعمل بشكلٍ مستقل لمواجهة “العدوان والاحتلال[17].

خلاصة الأمر، فإن الدور المهم الذي لعبته إيران ومحور المقاومة كان بمثابة سد الفراغ الذي تركته القوى العربية والذي لو كان استمر لأدى إلى إنهاء القضية الفلسطينية؛ كون إيران دخلت إلى المنطقة عقب اتفاقيات السلام العربية الإسرائيلية وإبعاد منظمة التحرير من لبنان عام 1982. عملت إيران على تدعيم قوى المقاومة التي ظهرت لسد الفراغ في لبنان -حركة أمل وحزب الله- كما ساندت قوى فلسطينية أخرى منها الجهاد وحماس.

ثانيًا- محور المقاومة واختبار وحدة الساحات:

مثلت عملية طوفان الأقصى مفاجأة لإيران[18] وباقي أطراف محور المقاومة[19]، كما مثلت مفاجأة لباقي الأطراف الإقليمية والدولية، كما بدا من التصريحات الرسمية؛ يرجع ذلك إلى الحفاظ على سرية العملية وتحقيق مبدأ المفاجأة، أو لأن إيران لم يكن لها أي علاقة بتلك الهجمات سواء تعلق الأمر بالتوقيت أو غيره[20].

بالرغم من ذلك، كان تعاطي محور المقاومة مع الأمر نشطًا، وإن لم يأتِ على مستوى الحدث أو بالدرجة التي أرادتها منه قيادة المقاومة في القطاع فضلًا عن الجمهور العربي[21]. برز ذلك في رد فعل طهران على الحدث؛ حيث ثمنت جميع المستويات الدينية والسياسية والعسكرية العملية، وعبروا عن دعمهم لها وهنأوا الفلسطينيين عليها، لكن دون اتخاذ إجراءات ملائمة للتطورات[22]. فقد أعقب هذا انخراط إيراني على الصعيد الدبلوماسي في الأزمة قام به وزير الخارجية الإيراني “حسين أمير عبد اللهيان” ومندوب طهران في الأمم المتحدة “علي كريمي مقام”؛ استهدفت إيران من هذه التحركات -كما جاء في تصريحات مسؤوليها- إيقاف الحرب الوحشية على القطاع دون توسيع نطاق الحرب، وتصحيح صورة المقاومة التي كانت قد تعرضت لحملة تشويه صهيونية وغربية شديدة، فضلًا عن رفض التهجير القسري وإغاثة أهل القطاع عبر إدخال المساعدات الإنسانية[23].

لم يُثمر الجهد الدبلوماسي الإيراني عن شيء، لذلك وجدنا أن الأصوات العسكرية تعالت مُحذرةً من مغبة الهجوم البري على القطاع، كما جاء في تصريحات نائب القائد العام للحرس الثوري العميد علي فدوي، الذي توعد من أسماهم “خبثاء العالم” حال القيام بأي خطوة حمقاء من قبيل الغزو البري، مشددًا على “.. إنهم سيواجهون هزيمة مدوية، وسيتلقون ردًا يبعث على الندم من محور المقاومة[24]. وهو ما شدد عليه القائد العام للحرس الثوري اللواء حسين سلامي، الذي اعتبر أن الهجوم البري على القطاع سيكون مستنقعًا يبتلع جنود الاحتلال[25].

هذه الرسائل الإيرانية ترافقت مع تصعيد عسكري من قبل أذرعها/ حلفائها في المنطقة ضد أهداف داخل الأراضي المحتلة وضد القوات الأمريكية في العراق وسوريا، حيث أعلنت وزارة الدفاع الأمريكية “بنتاجون”، عن تعرض قواتها لـ 13 هجومًا في كلٍ من سوريا والعراق، تم تنفيذها بطائرات بدون طيار وصواريخ[26]. وهو ما تطلب ردًا أمريكيًا محسوبًا، مع التأكيد على عدم رغبة واشنطن في التصعيد[27]. على الجانب الآخر، عبرت طهران على عدم رغبتها في توسيع نطاق الحرب في المنطقة، على لسان وزير خارجيتها، في 26 أكتوبر 2023، في كلمة له أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة حول غزة، معبرًا على استعداد طهران للاضطلاع بدورٍ جدي، وقال إن قادة حماس مستعدون للإفراج عن الأسرى بوساطة إيرانية[28].

سبق ذلك انخراط عسكري من حزب الله اللبناني في الحرب منذ اليوم الثاني لمعركة طوفان الأقصى، والتي استهلها الحزب بقصفٍ صاروخي لمواقع عسكرية إسرائيلية تقع ضمن الأراضي اللبنانية المحتلة في مزارع شبعا وتلال كفر شوبا[29]. منذ ذلك الوقت، وحتى يومنا هذا، يتبادل الحزب وجيش الاحتلال الضربات التي يهدف منها الحزب إلى تخفيف الضغط عن المقاومة في قطاع غزة بسحب عدة ألوية من جيش الاحتلال لحماية المستوطنات في الشمال، فضلًا عن إثارة مسألة تحرير الأراضي اللبنانية المحتلة، وعلى الجانب الآخر، يهدف الاحتلال من العمليات العسكرية إلى ردع الحزب وتجاوز خطوط الاشتباك التي تم تثبيتها في المعارك السابقة.

وقد جُوبه هذا التصعيد بتصعيد مضاد من تل أبيب وحلفائها الغربيين خاصةً واشنطن ولندن، تمثل في استهداف قيادات بارزة في الحرس الثوري الإيراني وفي محور المقاومة، ففي 25 ديسمبر 2023، اغتالت إسرائيل رضي موسوي المسؤول المباشر عن تنسيق ودعم محور المقاومة[30]. في الأسبوع التالي، اغتالت الشيخ صالح العاروري نائب رئيس حركة حماس وقائد الحركة في الضفة الغربية في الضاحية الجنوبية ببيروت، وكان العاروري بمثابة الوسيط الرئيسي بين حركة حماس وباقي أطراف محور المقاومة خاصةً إيران وحزب الله[31]. بعد يومين من اغتيال العاروري، قامت الولايات المتحدة باغتيال مشتاق طالب السعيدي المعروف بـ “أبو تقوى” القيادي في حركة النجباء العراقية، وهي إحدى الفصائل الرئيسية في الحشد الشعبي، وهي فصيل محسوب على إيران إلى جانب حزب الله العراق[32]. أعقب ذلك قيام إسرائيل باغتيال قائد قوة الرضوان الخاصة في حزب الله “وسام الطويل”[33]، وقيام القوات الأمريكية والبريطانية بالهجوم على منشآت عسكرية تابعة لجماعة الحوثي في اليمن[34].

يهدف الحلفاء الغربيين لإسرائيل، وخاصةً واشنطن، إلى ردع حلفاء حماس في محور المقاومة والدفاع عن قواتهم ومصالحهم في المنطقة، إلى جانب إتاحة الوقت لإسرائيل حتى تُحقق أهدافها في قطاع غزة بتصفية المقاومة وإرجاع أسراها. وتنصب استراتيجية الولايات المتحدة على تحقيق تطبيع عربي إسرائيلي، خاصةً مع الدول الخليجية، وهو التحالف الذي سوف توكل له واشنطن تأمين مصالحها ومصالح حلفائها بالمنطقة، حتى يتثنى لها التركيز على التهديدات الإقليمية والدولية الأخرى، سواء تحدّثنا عن إيران أو روسيا أو الصين[35].

ثالثًا- تصعيد جبهات وخفض أخرى:

لم تُسفر الجهود الغربية الدبلوماسية والعسكرية، حتى أوائل فبراير 2024، عن ردع فصائل محور المقاومة؛ فلا الجهود الفرنسية ولا الأمريكية التي يقوم بها مبعوث الرئيس الأمريكي آموس هوكستين[36] نجحت في وقف التصعيد بين حزب الله وقوات المقاومة ودولة الاحتلال. بل إن الضربات التي شنتها القوات الأمريكية البريطانية على المواقع العسكرية لجماعة الحوثي أدت إلى تصعيد عمليات الجماعة في البحر الأحمر وخليج عدن.

لكن على العكس من ذلك، أدى الهجوم الذي شنته جماعة “حزب الله العراق”، في 28 يناير 2024، بطائرة مسيرة على موقع عسكري أمريكي (البرج 22) قرب الحدود الأردنية (وأودى بحياة 3 جنود أمريكيين، وجرح عشراتٍ آخرين)، أدى إلى تعليق الجماعة عملياتها ضد القوات الأمريكية بعد ضغوطٍ مارستها عليها الحكومة العراقية وفصائل في الحشد الشعبي وقائد فيلق القدس إسماعيل قاآني[37]. بعد هذا الهجوم وخشية رد الفعل الأمريكية، وجهت الجماعة عناصرها إلى ممارسة ما أسمته “الدفاع السلبي” بشكلٍ مؤقت في حالة تعرضهم لأي هجوم أمريكي[38].

تُشكل المحددات الوطنية لكل جماعة من جماعات محور المقاومة مدى وطبيعة انخراطها في الهجوم على إسرائيل وداعميها. ففيما يتعلق بحزب الله، نجد أنه قد عمل على حصر الحرب بحيث تصبح الخسائر في نطاقه بيئته الحاضنة حمايةً لباقي لبنان؛ كون الحزب يأخذ شرعيته من حماية لبنان وعدم تعريضه لمخاطر حرب شاملة تُفاقم من أزمات مواطنية المعيشية خاصةً من هم ضد أجندة الحزب. كذلك، فإن فصائل محور المقاومة العراقية يقع عليها ضغوط من الفصائل المنخرطة في الحشد الشعبي والبعيدة بشكلٍ ما عن الأجندة الإيرانية، ما يُسموا الشيعة العرب، وهؤلاء لم ينخرطوا في عمليات عسكرية ضد القوات والمصالح الأمريكية، ولكنهم دعوا لمساندة المقاومة والشعب الفلسطيني دون تعريض العراق لمواجهة مع القوات الأمريكية التي يسعى الجميع لإخراجها من العراق بطرقٍ شتى.

في هذا السياق، كانت جماعة الحوثي أكثر حريةً في تعاطيها العسكري مع القوات الأمريكية والبريطانية والمصالح والأهداف الإسرائيلية المدنية والعسكرية؛ كون الظهير الشعبي للجماعة بل والمحيط القبلي داعم لعملياتها بشكلٍ حاسم، فضلًا عن أن المتابع لتنامي قوة الجماعة منذ حروبها مع حكومة علي صالح منذ العقد الأول في القرن الحادي والعشرين، وكذلك الحروب التي خاضوها ضد “التحالف العربي” السعودي الإماراتي، يلحظ أن الجماعة تُراكم القوة خلال هذه الحروب وتخرج منها أشد بأسًا وبتحالفاتٍ قبلية أكبر.

إن ردود الأفعال العسكرية والدبلوماسية من قبل محور المقاومة التي تلت عملية طوفان الأقصى عملت على تثبيت منطق “وحدة الساحات“، لكنها لم تصل إلى مستوى إطلاق الحرب الشاملة والمشتركة. يرجع ذلك إلى عدة أسباب منها: غياب التنسيق بين أطراف المحور لإطلاق العملية حفاظًا على السرية، والسبب الأهم هو أن إيران والجماعات المنخرطة في المحور تقوم استراتيجيتها على الحروب اللامتماثلة ذات النفس الطويل والضرب فيما يُسمى “المناطق الرمادية” التي لا تُشعل حربًا إقليمية واسعة تستدرج فيها إسرائيل واشنطن لمواجهة إيران بشكلٍ مباشر، كون هذا يُنذر بتهديد وجودي للنظام الإيراني.

خاتمة- سيناريوهات التوسع الإقليمي للحرب:

على الرغم من ذلك “الصبر الاستراتيجي” الذي تُمارسه إيران وكذلك حزب الله، الذي اعتبر أمينه العام حسن نصر الله أن أداء الحزب لم يصل إلى “مرحلة الانتصار بالضربة القاضية لكننا ننتصر بالنقاط”، إلا أنه أكد في الوقت ذاته أن الجبهة اللبنانية “هي جبهة تضامن مع غزة، وتتطور وتتحرك تبعًا للتطورات هناك… كل الاحتمالات في جبهتنا اللبنانية مفتوحة”، لافتًا إلى أن “سلوك العدو إزاء لبنان هو محدد لتحركاتنا، وهذا سيُعيدنا إلى قاعدة المدني مقابل المدني”[39].

يكمن خطر توسيع الحرب وفتح عدد من الجبهات، وصولًا لمرحلة حرب شاملة، في مواصلة إسرائيل لتجاوز خطوط حمراء وهي كثيرة، منها: ضرب إيران بشكلٍ مباشر وعلني، وكذلك توجيه ضربة عسكرية في العمق اللبناني. تعمل الإدارة الأمريكية الضعيفة على كبح جماح الحكومة الإسرائيلية عن تجاوز هذه الخطوط، لكن تقوم إسرائيل بين الفينة والأخرى بالتصعيد وتجاوز قواعد الاشتباك، سواء بتوجيه ضربات ضد أهداف مدنية وعسكرية لحزب الله في خارج خط المواجهة وفي العمق اللبناني، أو بقيامها بسلسلة اغتيالات ضد قادة كبار في الحرس الثوري.

إن استمرار إسرائيل في توجيه مثل هذه الضربات دون قدرة حلفائها على إثنائها عنها، سوف يدفع إيران وحلفاءها في محور المقاومة إلى الرد، كون استمرار طهران ومحورها في الردود المنخفضة أو توجيه الضربات في “المنطقة الرمادية” التي استخدمتها إيران لتجنب حرب شاملة تصبح آخذة في التضييق؛ خاصةً في ظل احتمال أن تؤدي هذه الردود إلى أزمة في شرعية المحور أمام جماهيره وحلفائه.

  • ومع ذلك، فمن السابق لأوانه استنتاج أن هذه المنطقة الرمادية آخذة في التلاشي، حيث يمكن أن تُناور إيران عن طريق خفض حدة جبهات وتصعيد أخرى بالتعاون مع حلفائها في المحور. لكن المفارقة هنا أن استمرار هذه الاستراتيجية يتوقف على قدرة الإدارة الأمريكية في الضغط على إسرائيل لقبول وقف إطلاق النار في غزة، وعدم تجاوزها لقواعد الاشتباك المعمول بها مع حزب الله وقوات فيلق القدس في سوريا.

________________

هوامش

[1] The war in Gaza and beyond.. At a moment of military might, Israel looks deeply vulnerable, The Economist, 21 March 2024, Accessed at: 21 March 2024, 05:00, available at: https://2u.pw/dsWfi429

[2] شيماء بهاء الدين، المشروع الإقليمي الإيراني في ضوء الحرب على غزة.. هل من مسار لتوازن القوى بين العرب وإيران؟، مركز الحضارة للدراسات والبحوث، 29 يناير 2024، متاح عبر الرابط التالي: https://2u.pw/ga0T1zF6

[3] محمد نادر العمري، محور المقاومة.. النشأة والتطوّر ووحدة المصير، الميادين، 05 يوليو 2021، متاح عبر الرابط التالي: https://2u.pw/raC45.

[4] عبد المنعم سعيد، إقليم الدول والميليشيات؟!، الشرق الأوسط، 06 مارس 2024، متاح عبر الرابط التالي: https://2u.pw/c646u6pD.

[5] وليد فارس، محور الاعتدال في الشرق الأوسط وأميركا في العام 2021، إندبندنت عربية، 24 نوفمبر 2020، متاح عبر الرابط التالي: https://2u.pw/nCmmpCrU.

[6] قاسم قصير، وحدة الساحات أو وحدة الجبهات أو محور المقاومة: بين الشعارات والوقائع، مؤسسة الدراسات الفلسطينية، 20 نوفمبر 2023، متاح عبر الرابط التالي: https://www.palestine-studies.org/ar/node/1654679.

[7] سعيد محمد الصباغ، العمق الاستراتيجي الإيراني بمنطقة الشرق الأوسط.. دراسة حالة محور المقاومة الإسلامية، مجلة رسالة المشرق، مركز الدراسات الشرقية، مجلد 37، العدد 1، 2022، ص13.

[8] Jean-Philippe Lefief, Francesca Fattori, What is Iran’s ‘Axis of Resistance’ against Israel and the United States?, Le Monde, 06 December 2023, Available at: https://2u.pw/OouqvCLG.

[9] Jubin Goodarzi, Syria and Iran: Diplomatic Alliance and Power Politics in the Middle East, (New York: Tauris Academic Studies, 2006), p. 13.

[10] جوزيف ضاهر، الاقتصاد السياسي لحزب الله اللبناني، ترجمة: علاء بريك هنيدي، (الجيزة: دار صفصافة للنشر والتوزيع والدراسات، 2022)، ص ص 38–50.

[11] ما المليشيات والجماعات المسلحة الموالية لإيران في العراق وسوريا؟، بي بي سي عربي، 28 أكتوبر 2023، متاح عبر الرابط التالي: https://www.bbc.com/arabic/articles/c99q0wwvwreo.

[12] فاطمة الصمادي، زوايا أخرى لدراسة ظاهرة الميلشيات الشيعية وعلاقتها بإيران، معهد العالم للدراسات، 28 يناير 2018، متاح عبر الرابط التالي: https://alaalam.org/ar/politics-ar/middle-east-ar/item/637-693280118.

[13] هيلين لاكنر، أزمة اليمن الطريق إلى الحرب، ترجمة: دينا جميل، (القاهرة: دار المرايا للإنتاج الثقافي، الطبعة الأولى 2019)، ص152.

[14] محمد صالح صدقيان، “محور المقاومة”.. حروب بالوكالة أم دكاكين سياسية أم اتحاد مصالح؟، 180 بوست، 24 ديسمبر 2023، متاح عبر الرابط التالي: https://180post.com/archives/42211.

[15] قتل المهندس مع سليماني في غارة أمريكية على مطار بغداد مطلع العام 2020.

[16] حماس تقول علاقاتها مع ايران تضررت بسبب الحرب في سوريا، رويترز، 19 يونيو 2013، متاح عبر الرابط التالي: https://www.reuters.com/article/idUSCAE9B2VUP/.

[17] Cassandra Vinograd, Iran Denies Ordering Drone Strike as Biden Weighs a Response, The New York Times, 29 January 2024, Available at: https://2u.pw/ZOClulWa.

[18] خامنئي ينفي صلة إيران بطوفان الأقصى ويصفه بالزلزال المدمر، الجزيرة نت، 10 أكتوبر 2023، متاح عبر الرابط التالي: https://2u.pw/1ysZ3bU.

[19] نصر الله: قرار «طوفان الأقصى» فلسطيني 100٪، الشرق الأوسط، 03 نوفمبر 2023، متاح عبر الرابط التالي: https://2u.pw/MWV5pUS.

[20] إبراهيم بامطرف وعاصم الخضمي، إيران وطوفان الأقصى: التضحية بالجندي للحفاظ على القلعة، كارنيجي، 18 يناير 2024، متاح عبر الرابط التالي: https://carnegieendowment.org/sada/91415.

[21] رسالة صوتية لقائد القسام لإطلاق عملية “طوفان الأقصى”، الجزيرة نت، 07 أكتوبر 2023، متاح عبر الرابط التالي: https://2u.pw/Fpv5a1fw.

[22] محمد علي إسماعيل، مواقف الدول والمنظمات الإسلامية غير العربية من العدوان على غزة، مركز الحضارة للدراسات والبحوث، 22 أكتوبر 2023، متاح عبر الرابط التالي: https://2u.pw/jaHcgs1.

[23] محمد علي إسماعيل، تطورات مواقف الدول والمنظمات الإسلامية غير العربية من العدوان على غزة.. في الفترة من 19 وحتى 27 من أكتوبر 2023، مركز الحضارة للدراسات والبحوث، 30 أكتوبر 2023، متاح عبر الرابط التالي: https://2u.pw/FfvHLd1f.

[24] نائب قائد حرس الثورة: أية خطوة صهيونية حمقاء ستجابه برد حازم من المقاومة، قناة العالم، 23 أكتوبر 2023، متاح عبر الرابط التالي: https://cutt.us/i7JP4.

[25] قائد الحرس الثوري الإيراني: إذا أقدم الصهاينة على هجوم بري في غزة فسيدفنون فيها، الجزيرة الإخبارية، 26 أكتوبر 2023، متاح عبر الرابط التالي: https://cutt.us/Uw0Dw.

[26] ELLEN MITCHELL, US troops in Iraq, Syria attacked 13 times in past week, Pentagon says, The Hill, 24 October 2023, Available at: https://cutt.us/t0p21.

[27] Eric Schmitt, U.S. Strikes Iranian-Linked Targets in Syria, The New York Times, 26 October 2023, Available at: https://cutt.us/NEktv.

[28] أمير عبد اللهيان يدعو واشنطن لوضع حد للإبادة الجماعية في فلسطين، قناة العالم، 26 أكتوبر 2023، متاح عبر الرابط التالي: https://cutt.us/Sg4aB.

[29] رابحة سيف علام، أين يقف حزب الله من “طوفان الأقصى”؟، موقع مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية، 08 أكتوبر 2023، متاح عبر الرابط التالي: https://2u.pw/mFMbmvIY.

[30] رضي موسوي.. قيادي بفيلق القدس الإيراني اغتالته إسرائيل في سوريا، الجزيرة نت، 26 ديسمبر 2023، متاح عبر الرابط التالي: https://2u.pw/r11HWVnM.

[31] سعيد السني، صالح العاروري لماذا اغتالته إسرائيل.. وما التداعيات لهذه الجريمة؟، الجزيرة نت، 03 يناير 2024، متاح عبر الرابط التالي: https://2u.pw/SzRgGwYX.

[32] مَن أبو تقوى الذي قُتل بضربة أميركية في بغداد؟، الشرق الأوسط، 04 يناير 2024، متاح عبر الرابط التالي: https://2u.pw/zjGMQ3A.

[33] إسرائيل تعلن وقوفها وراء اغتيال القيادي بحزب الله وسام طويل، سكاي نيوز عربية، 09 يناير 2023، متاح عبر الرابط التالي: https://2u.pw/YMH03Gv8.

[34] Eric Schmitt and Helene Cooper, U.S. Missiles Strike Targets in Yemen Linked to the Houthi Militia, The New York Times, 11 January 2024, Available at: https://2u.pw/Z8sqmbli

[35] محمد أبو رمان، النظام الإقليمي الجديد في “اليوم التالي” للحرب، العربي الجديد، 13 فبراير 2024، متاح عبر الرابط التالي: https://2u.pw/tRSmbVDf.

[36] حسن أيوب، هوكستين: I am the king of Lebanon، 180 بوست، متاح عبر الرابط التالي: https://180post.com/archives/43438.

[37] لماذا تعلّق «كتائب حزب الله» العراقية هجماتها على القوات الأميركية؟، الشرق الأوسط، 31 يناير 2024، متاح عبر الرابط التالي: https://2u.pw/6QVktoCB.

[38] كتائب حزب الله العراقية تعلن وقف هجماتها على القوات الأميركية، الشرق، 30 يناير 2024، متاح عبر الرابط التالي: https://2u.pw/KxuSjpA.

[39] نصر الله: انخرطنا في الحرب من البداية ومستمرون فيها، الجزيرة نت، 3 نوفمبر 2023، متاح عبر الرابط التالي: https://2u.pw/tv52T33t

  • نُشر التقرير في فصلية قضايا ونظرات- العدد الثالث والثلاثون- أبريل 2024

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى