مآلات التطبيع: تقييم الموقف العربي ومآلاته من تطورات القضية على ضوء الطوفان والعدوان

مقدمة:

يدخل أبشع عدوان إسرائيلي على غزة شهره السادس، موقعًا عشرات الآلاف من الشهداء والجرحى. حيث أصبح قطاع غزة مكانًا غير صالح تمامًا للعيش؛ بسبب القصف الإسرائيلي المتواصل لكافة أنحائه والمعارك البرية الجارية بين قوات الاحتلال ومقاتلي المقاومة الفلسطينية، إلى جانب خطر المجاعة الذي راح ضحيته أكثر من ٣٠ شهيدًا[1]، جراء عرقلة إسرائيل دخول المساعدات الإنسانية إلى القطاع ومحاربة عمل المنظمات الإغاثية. كل هذا يحدث منذ شهور ولا تقوم الدول العربية بدورٍ ذي جدوى لمقاومته والذود عن أبناء فلسطين، وما يلقونه من أهوال الموت والحصار والتعذيب.

ويمكن تفسير مواقف جانب من الدول العربية في ضوء اتفاقات التطبيع التي تربطها مع إسرائيل منذ عقود، وواقع ممارسته المتصاعد في الآونة الأخيرة. ذلك الموقف التطبيعي الذي جعل البعض ينظر إلى هجوم المقاومة الفلسطينية على إسرائيل المعروف بـ “طوفان الأقصى” يوم السابع من أكتوبر 2023 باعتباره اعتداء على إسرائيل، وأخرجه من قالب المقاومة المشروعة ضد محتلٍ غاصب يُمارس كافة أشكال السيطرة والإذلال على دولة فلسطين وشعبها ومقدسات المسلمين فيها، وهو نفس الموقف الذي تخرج منه عبارات الشجب والإدانة الباهتة تجاه إحصائيات القتلى والمصابين والنازحين في غزة.

وقد شهد عام ٢٠٢٠ ذروة اتفاقات التطبيع، والتي سُميت باتفاقات إبراهام أو اتفاقات إبراهيم عليه السلام، والتي وقعتها الإمارات والبحرين والمغرب مع إسرائيل. فتصر هذه الدول على الالتزام باتفاقات التطبيع مع إسرائيل؛ لأنها تفترض كونها السبيل الوحيد لإحلال السلام في منطقة الشرق الأوسط. وتحاول هذه الورقة تقييم موقف الدول العربية المرتبطة بإسرائيل باتفاقات تطبيعية تجاه العدوان الجاري على غزة، في ضوء واقع التطبيع مع إسرائيل وما يمكن أن يؤول إليه.

أولا- مسار التطبيع العربي مع إسرائيل:

منذ احتلال إسرائيل لفلسطين عام ١٩٤٨، تبنت الدول العربية رسميًا موقف العداء للدولة الصهيونية التي قامت دون وجه حق على أرضٍ عربية إسلامية، عبر إراقة دماء الفلسطينيين في عددٍ من المجازر الوحشية. ففي عام ١٩٥١، أسست جامعة الدول العربية “مكتب مقاطعة إسرائيل”، وفي عام ١٩٥٤، أُقرّ قانون موحد لمقاطعة إسرائيل، وتبعًا لذلك سنّت كل من الدول العربية، بعد استقلالها، قانونًا يُنظم المقاطعة في قُطرها. فافتُتحت مكاتب للمقاطعة في تلك الدول، كما عُيّن مفوض لمكتب المقاطعة الرئيسي، كان ضمن مهماته وضع لائحة سوداء تُجدَّد مرتين كل عام، بأسماء الشركات الإسرائيلية والشركات التابعة لدولٍ أُخرى، والتي تحتفظ بعلاقاتٍ تجارية مع إسرائيل، بهدف حظر دخول بضائعها، ومقاطعة أعمالها[2].

وبالرغم من قرارات المقاطعة الرسمية، فقد عُقدت عدة لقاءات سرية بين مسؤولين ورؤساء وملوك عرب ونظرائهم الإسرائيليين. وبعد هزيمة يونيو ١٩٦٧، ازداد عدد هذه اللقاءات لأسبابٍ متنوعة، مثل جسّ النبض بشأن نية إسرائيل الانسحاب من الأراضي التي احتلتها في سنة ١٩٦٧، أو في سياق التمهيد لتسويةٍ مُقبلة، أو بسبب التدخل الإسرائيلي في الحروب الداخلية التي حدثت في العالم العربي (المسألة الكردية، والعلاقة مع حزب الكتائب اللبناني). وفي هذه الفترة، كان لملك المغرب دور لافت في تسهيل الاتصالات بين مسؤولين عرب وإسرائيليين، وكان من أهمها لقاء حسن التهامي، مستشار الرئيس أنور السادات، بمسؤولين إسرائيليين، والذي مهّد لاتفاق كامب ديفيد لاحقًا[3].

استمر الوضع على هذا النحو، حتى فتحت مصر طريق التطبيع بتوقيع معاهدتي السلام مع إسرائيل عام ١٩٧٩، على نحوٍ منفرد، من دون اشتراط حل القضية الفلسطينية. ثم وقّعت منظمة التحرير الفلسطينية اتفاق أوسلو مع إسرائيل عام ١٩٩٣، ووقّع الأردن اتفاق وادي عربة مع إسرائيل عام ١٩٩٤[4].

وفي مارس ٢٠٠٢، تبنت قمة بيروت العربية مبادرة السلام التي أطلقتها السعودية؛ حيث عرضت السلام مع إسرائيل، بشرط انسحاب الأخيرة من كل الأراضي العربية التي احتلتها في يونيو ١٩٦٧، بما في ذلك الجولان، والتوصل إلى حلٍ عادل لمشكلة اللاجئين الفلسطينيين وفقًا لقرار الجمعية العامة للأمم المتحدة رقم ١٩٤، وقيام دولة فلسطينية مستقلة عاصمتها القدس الشرقية[5]. ورغم رفض إسرائيل لطلبات قمة بيروت، فقد استمرت العلاقات والاتصالات بينها وبين عددٍ من الدول العربية، بل زادت وتيرتها.

يتضح نمط التقارب المتصاعد بين إسرائيل والدول العربية بشكلٍ جلي، من خلال النظر إلى حجم التبادل التجاري والعلاقات الاقتصادية فيما بين الجانبين. فتُقدر بيانات دائرة الإحصاء المركزية الإسرائيلية، إجمالي الصادرات الإسرائيلية من السلع والخدمات إلى أسواق منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا بنحو ٧ مليارات دولار سنويًا، من بينها أكثر من مليار دولار لدول الخليج العربية[6].

  • اتفاقات إبراهام عام ٢٠٢٠

وقعت كل من الإمارات والبحرين والمغرب والسودان اتفاقيات عُرفت باتفاقات إبراهام في عام ٢٠٢٠، بوساطة أمريكية وقبول مصري. وتختلف هذه الاتفاقيات عن غيرها من اتفاقيات التطبيع سالفة الذكر؛ فاتفاقات إبراهام لا تقتصر على تطبيع العلاقات الرسمية بين النظم الحاكمة، وإنما تهدف إلى مد جذور التطبيع في مجتمعات هذه الدول بشكلٍ تدريجي ومتسارع في الوقت نفسه، لتشمل كل فئات ومكونات المجتمع وأنشطته المختلفة[7]. ومن أجل الحفاظ على زخم اتفاقات إبراهام، تم إنشاء معهد السلام التابع لاتفاقات إبراهام لتعزيز وترسيخ العلاقات بين الدول الأعضاء، ولتحفيز الموقعين المستقبليين[8].

وتعتبر إسرائيل اتفاقات إبراهام إنجازًا استراتيجيًا كبيرًا، حيث تعدت مجرد التطبيع مع هذه الدول العربية، إلى تجسيد مبدأ جديد في العلاقات العربية الإسرائيلية؛ مبدأ “السلام مقابل السلام”، والذي تتجنب فيه إسرائيل تقديم أية تنازلات مقابل التطبيع مع الدول العربية. وهذا ما عبر عنه رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو عام ٢٠٢١، حين قال: “مكنتنا اتفاقيات إبراهام من الخروج من معادلة الأرض مقابل السلام إلى مبدأ السلام مقابل السلام، ولم نخسر شبرًا”[9].

ونتج عن اتفاقات إبراهام أن تحولت الدول المعنية بها (إسرائيل، والإمارات، والبحرين، والمغرب) إلى كتلة اقتصادية آخذة بالتداخل والتعاون الاقتصادي الحثيث والاستثمار المتبادل، لخلق حالة تكون فيها المصالح الاقتصادية للمجتمعات المشاركة على مستوى عميقٍ من التداخل والاعتماد المتبادل؛ بحيث يتحول التطبيع إلى “ضرورة” اجتماعية وليس فقط ضرورة سياسية على مستوى الأنظمة[10]. وبلغ إجمالي التجارة بين إسرائيل ودول الاتفاق ٣.٤٧ مليار دولار في عام ٢٠٢٢، ارتفاعًا من ١.٩٠٥ مليار دولار في عام ٢٠٢١ و٥٩٣ مليون دولار في عام ٢٠١٩.

وفي عام ٢٠٢٢، وُقعت اتفاقية الشراكة الاقتصادية الشاملة بين الإمارات وإسرائيل (CEPA)، وتجري إسرائيل والبحرين حاليًا محادثات حول اتفاقية تجارة حرة أيضًا. وقد فتحت هذه الاتفاقيات إمكانية إنشاء منطقة تجارة حرة إقليمية عبر دول الاتفاق، والتي ستكون أقوى بكثيرٍ من أي اتفاقٍ ثنائي. ووفقًا لتحليل مؤسسة راند، فإن اتفاقية التجارة الحرة متعددة الأطراف بين إسرائيل والإمارات العربية المتحدة والبحرين والمغرب والسودان ستُضيف زيادة في الناتج المحلي الإجمالي لكل دولة تتراوح بين ٣.٣٪ و٧.٢٪، ما قد يُعزز الظهير الشعبي لعملية التطبيع من خلال فرص العمل والاستثمار التي ستتضمنها هذه الاتفاقية[11].

وفي مطلع عام ٢٠٢٣، أعلنت دولة الإمارات أنها ستُدرج الهولوكوست في المناهج الدراسية الوطنية في المرحلتين الابتدائية والثانوية. كما اشتركت المنظمة غير الحكومية Israel-Is والجمعية المغربية Mimouna في تنظيم حدث مخصص لتدريس الهولوكوست في دول اتفاقات إبراهام ودول شمال أفريقيا. وفي حدثٍ مجتمعيٍ آخر، شاركت القنصلية العامة لإسرائيل في الإمارات في مهرجان “مذاق دبي” (أهم مهرجان للطعام في منطقة الخليج العربي) لأول مرة. كما افتتحت الإمارات بيت العائلة الإبراهيمية في أبو ظبي؛ يضم المجمع كنيسة ومسجدًا وأول كنيس يهودي رسمي في البلاد، ويهدف إلى تعزيز التعايش بين الأديان في أعقاب اتفاقيات إبراهام. هذا إلى جانب عددٍ كبيرٍ نسبيًا من الاتفاقات واللقاءات في مجال المال والأعمال بين الدول الموقعة[12].

ثانيًا- موقف الدول العربية المطبعة تجاه طوفان الأقصى والعدوان على غزة:

شنت فصائل المقاومة الفلسطينية في قطاع غزة هجومًا مباغتًا على الأراضي الفلسطينية المحتلة يوم ٧ أكتوبر ٢٠٢٣. وكان على رأس تلك الفصائل حركة المقاومة الإسلامية “حماس”، عبر ذراعها العسكري “كتائب الشهيد عز الدين القسام”، إذ أعلن قائدها العام محمد الضيف أن هذه العملية -طوفان الأقصى- جاءت ردًا على «الانتهاكات الإسرائيلية في باحات المَسْجِدِ الأقصى المُبَارك، واعتداء المُستوطنين الإسرائيليين على المُواطنين الفلسطينيين في القُدس والضّفّة والدّاخل المُحتَل». وردًا على عملية “طوفان الأقصى”، أطلق جيش الاحتلال الإسرائيلي عملية عسكرية ضد قطاع غزة أسماها عملية “السيوف الحديدية”، وبدأها بقصفٍ جوي مكثف على القطاع، لمدة ٢٠ يومًا، تلاها في يوم ٢٧ أكتوبر ٢٠٢٣ بداية الغزو البري بقصفٍ جوي وبري وبحري تركّز خصوصًا في شمال القطاع، ليتسع بعد ذلك، مع التهديد بالاجتياح البري لمدينة رفح التي نزح إليها جراء العدوان أكثر من مليوني فلسطيني، ما يُنذر بكارثة إنسانية هائلة.

وعلى الرغم من استمرار جرائم الإبادة الجماعية التي يرتكبها الاحتلال الإسرائيلي في قطاع غزة ضد الفلسطينيين المدنيين، إلى جانب الحديث عن خطط لتهجير سكان غزة، فإن المطبعين متمسكون بقراراتهم واتفاقاتهم، بغض النظر عما يحدث للفلسطينيين وحقهم في العيش بسلامٍ في دولةٍ مستقلة. ولا تخلو مواقفهم من تصريحاتٍ باردة حول التوصل إلى وقف إطلاق النار في غزة، وحماية المدنيين، واحترام القانون الدولي. هذا في الوقت نفسه الذي يتعاونون فيه مع الاحتلال الإسرائيلي، بل ويمده بعضهم بما يُقيم أوده في هذا العدوان.

هنا تنقسم الدول العربية ذات العلاقات الوثيقة مع إسرائيل إلى جيلين؛ الجيل الأول (مصر، والأردن)، حيث اتسمت علاقاتهما مع إسرائيل بالالتزام الرسمي بين الأنظمة الحاكمة كما اقتصرت على المستويات السياسية والاقتصادية، ولم تصل في أيٍ من مراحل ذروتها إلى المستوى الثقافي والشعبي. أما الجيل الثاني: فهم المطبعون الجدد، الموقعون على اتفاقات إبراهام ومن ينوون الدخول في ركبهم (الإمارات، والبحرين، والمغرب، والسعودية)، حيث تتعمق الصلات التطبيعية بين هذه الدول وإسرائيل، سواء على المستويات الرسمية السياسية والاقتصادية وحتى المستويات التجارية الجزئية والثقافية والتبادل السياحي، إلى أن وصل التطبيع إلى مناهجهم التعليمية بما يُغير في تكوين الشخصية العربية لمواطني هذه الدول -على نحو ما أُشير. وقد اختلفت مواقف هاتين الفئتين تجاه عملية طوفان الأقصى؛ فالفئة الأولى تتسم علاقاتها القوية مع إسرائيل بالخفاء أكثر من العلن بسبب طبيعة الرأي العام لديها الرافض للتطبيع والمؤيد للمقاومة الفلسطينية؛ فيصل التأييد الشعبي للحد الذي دفع مسلح أردني لإطلاق النار على دورية إسرائيلية عند الحدود الأردنية مع الأراضي الفلسطينية المحتلة[13]. وحتى على المستويات الرسمية، لم تدن أي من الدولتين (مصر والأردن) المقاومة الفلسطينية على هجوم ٧ أكتوبر بشكلٍ صريح. كما ترتبط الدولتان بعلاقاتٍ وثيقة مع فصائل المقاومة تسمح لها بلعب دور الوسيط في المحادثات بين المقاومة والاحتلال. أما الفئة الثانية، فقد سارعت بإدانة حماس وفصائل المقاومة على ما اعتبرته “تصعيدًا خطيرًا” في السابع من أكتوبر، كما ينخفض التأييد لدى شعوب هذه الدول تجاه القضية الفلسطينية، ربما باستثناء المغرب، إلى حدٍ كبير. ونتناول فيما يلي مواقف هذه الدول بشيءٍ من التفصيل.

1- الجيل الأول من المطبعين:

أ. مصر

لعبت مصر دورًا دبلوماسيًا أساسيًا لعقودٍ من الزمن في عملية صنع السلام العربي الإسرائيلي، وكسبت تأييد الولايات المتحدة من خلال استخدام مساعيها الحميدة بشكلٍ متكرر للتوصل إلى هدنة بعد الاشتباكات الدورية بين حماس وإسرائيل، وقد شاركت مصر الولايات المتحدة منطق التسوية السياسية القائم على مبدأ حل الدولتين. ولطالما لعبت مصر هذا الدور دون تحمل أعباء ثقيلة جراءه، إلا أن هجوم ٧ أكتوبر، وما تلاه من رد إسرائيلي مدمر، قد غيَّر كل شيء بالنسبة للقاهرة[14] .

من جهة، أُحبط الفلسطينيون في غزة بشدة بسبب تعامل مصر مع الأزمة الإنسانية التي يعيشها القطاع، من خلال أزمة معبر رفح. فلا تمر شاحنات المساعدات منه إلا النذر اليسير جدًا الذي لا يُغطي أكثر من ١٪ من احتياجات غزة، على الرغم من تكدس الشاحنات في مدينة العريش منذ بداية العدوان الإسرائيلي في أكتوبر. وتتبادل مصر وإسرائيل الاتهامات حول مسؤولية تعطيل المعبر؛ فمصر ترى أن المعبر لم يُغلق أبدًا، لكنه يُصبح غير قابل للاستخدام بمعنى أنه غير آمن لعبور الشاحنات بسبب القصف الإسرائيلي؛ حيث تعرض المعبر للقصف المباشر من الجهة الفلسطينية والمسافة بين المدخلين الفلسطيني والمصري. حدث ذلك بعد أن حذرت إسرائيل مصر بشكلٍ صريح بأنه إذا أدخلت إمدادات إغاثية إلى قطاع غزة، فسوف يتم قصف الشاحنات[15]. ثم حمل الفريق القانوني الإسرائيلي مصر قرار إغلاق معبر رفح، وتنصل من أي مسؤولية تتعلق بمنع إدخال المساعدات، وهو ما نفته مصر[16] .

وتظل الحقيقة الماثلة للعيان أن معبر رفح المنفذ الوحيد لغزة، والذي قد يُنقذ حياة عشرات الآلاف من الجرحى ويُطعم مئات الآلاف من النازحين، المعبر الوحيد الذي تُسيطر عليه قانونًا دولة عربية- مصر، مغلق. الأمر الذي يُغضب الرأي العام في غزة والقاهرة على السواء، بل ويرون مصر مشاركة فيما يعانونه.

ومن جهةٍ أخرى، فالتدمير الهائل الذي أحدثته إسرائيل في قطاع غزة، يدفع بالاقتراحات الإسرائيلية بتهجير المدنيين النازحين في رفح إلى سيناء وهو الأمر الذي يُقلق مصر؛ حيث تخشى مصر والفلسطينيون أن يتكرر سيناريو نكبة عام ١٩٤٨، حين طُرد ما بين ٧٥٠ ألف إلى مليون فلسطيني من منازلهم خلال الحرب التي خلقت إسرائيل. وفي ١٨ أكتوبر، رد الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي على مثل هذه الآراء في خطاب ندد فيه بشدة بأي خطط إسرائيلية لترحيل سكان غزة إلى مصر. حيث قال الرئيس المصري: “نحن نرى أن ما يحدث في غزة الآن هو ليس فقط الحرص على توجيه عمل عسكري ضد حماس، إنما هو محاولة لدفع السكان المدنيين إلى اللجوء والهجرة إلى مصر”. وأضاف السيسي: “فكرة النزوح أو تهجير الفلسطينيين من القطاع إلى مصر يعني أن هناك أمرًا مماثلًا سيحدث أيضًا، وهو تهجير الفلسطينيين في الضفة الغربية إلى الأردن، وبالتالي ستكون فكرة الدولة الفلسطينية التي نتحدث عنها والمجتمع الدولي بأكمله يتحدث عنها غير قابلة للتنفيذ لأن الأرض موجودة والشعب لن يكون موجودًا”. وتابع السيسي: “نقل المواطنين الفلسطينيين من القطاع إلى سيناء هو عبارة عن نقل فكرة المقاومة والقتال من قطاع غزة إلى سيناء، وبالتالي تصبح سيناء قاعدة للانطلاق بعمليات ضد إسرائيل، وفي هذه الحالة سيكون من حق إسرائيل الدفاع عن نفسها وعن أمنها القومي فتقوم بتوجيه ضربات للأراضي المصرية”[17].

ومما تجدر الإشارة إليه أيضًا، أن نتنياهو قد تعهد بالحفاظ على السيطرة الأمنية الإسرائيلية على غزة في المستقبل المنظور. وهذا يتضمن فرض سيطرة إسرائيل على ممر فيلادلفيا، وهي المنطقة العازلة على طول الحدود الجنوبية لغزة، والتي تُديرها حاليًا مصر وحماس[18]. وفي المقابل، حذر متحدث باسم الحكومة المصرية من أن سيطرة إسرائيل على الممر يمكن أن تُشكل “انتهاكًا للاتفاقيات والبروتوكولات الأمنية الموقعة بين إسرائيل ومصر”[19].

وفيما يتعلق بسيناريوهات ما بعد الحرب وموضع مصر منها، فتشمل السيناريوهات تلك التي تمت مناقشتها في إسرائيل حول نظام تدعمه قوات دولية من حلف شمال الأطلسي والأمم المتحدة، ونظام تدعمه قوات عربية، وحكومة تكنوقراط، وإعادة السلطة الفلسطينية إلى غزة حتى من دون موافقة حماس.

أما مصر، فهي في ظل الظروف الحالية، مترددة في تولي مسؤولية الأمن في غزة بعد الحرب، أو الإشراف على أي حكومة بعد الحرب، ولا تميل إلى المشاركة في أي قوة دولية منتشرة في المنطقة. كما تستبعد مصر أي وجود عسكري إسرائيلي مستمر في القطاع بعد الصراع، سواء في شكل إعادة احتلال كامل، أو منطقة أمنية، أو حواجز على طول الحدود[20].

وفي ضوء ذلك، يغلب الظن أن “السلام البارد” بين مصر وإسرائيل سيستمر وسيُحاول الطرفان الحفاظ عليه قدر الإمكان. إلا أنه يمكن أيضًا حدوث صدع فيه مع اقتراح خطط على شاكلة تهجير سكان غزة أو محاولات إسرائيل لانتهاك السيادة المصرية أكثر مما قامت به بالفعل حتى الآن بقصف محيط معبر رفح، وبعض النقاط الحدودية مع مصر. في الوقت الحالي، تتبنى مصر نهج الدبلوماسية المكثفة باعتبارها الحل المعقول الوحيد، أكثر بكثير من الحلول غير المعقولة التي تخشى أن تُفرض عليها مع تدهور الوضع[21].

ب. الأردن

منذ يوم ٧ أكتوبر 2023، أصدرت الخارجية الأردنية بيانًا دعت فيه إلى وقف التصعيد. كما أدانت الانتهاكات الإسرائيلية في حق الفلسطينيين والمقدسات الإسلامية والمسيحية، وأكدت على ضرورة حماية المدنيين، ولم تُصرح الأردن بأي إدانة مباشرة لحماس. كما عارضت الأردن، مع مصر، حديث الإسرائيليين عن مخططات لتهجير سكان غزة تحت لافتة “فتح ممرات آمنة للمدنيين”[22].

وفي يوم ١٧ أكتوبر، قصفت قوات الاحتلال الإسرائيلي المستشفى الأهلي العربي “المعمداني” في غزة، ما أشعل الشارع الأردني غضبًا. فانطلقت مظاهرات حاشدة في عمان توجهت نحو مقر السفارة الإسرائيلية على الرغم من خلوها من الدبلوماسيين منذ ٧ أكتوبر “لدواعٍ أمنية”. وأصدر الديوان الملكي بيانًا قويًا وصف القصف الإسرائيلي على المستشفى المعمداني “بالمجزرة البشعة التي لا يمكن السكوت عنها”، وعلى إثره أُلغيت القمة الرباعية، التي كان مزمعًا عقدها في اليوم التالي في عمّان بحضور الرئيس الأمريكي جو بايدن والرئيس المصري عبد الفتاح السيسي والرئيس الفلسطيني محمود عباس، إضافةً إلى ملك الأردن[23].

وقادت الأردن جهودًا دبلوماسية عربية نجحت في استصدار قرار من الجمعية العامة للأمم المتحدة، في ٢٧ أكتوبر، بموافقة أغلبية الدول الأعضاء، حيث دعا القرار إلى هدنة إنسانية فورية ودائمة ومستدامة تُفضي إلى وقف الأعمال العدائية التي تقوم بها إسرائيل. وهو القرار الذي تجاهلته إسرائيل تمامًا، إذ قامت في نفس اليوم ببدء الاجتياح البري لقطاع غزة[24].

هذا، وتبرز احتجاجات الشارع الأردني بقوة في المشهد العربي الحالي؛ حيث لم تتوقف التظاهرات في عمان منذ بدء الحرب في غزة حتى الآن[25]. ويُطالب المتظاهرون بقطع العلاقات بشكلٍ كامل بين الأردن وإسرائيل، بما فيها اتفاقية وادي عربة للسلام الموقعة عام ١٩٩٤، ووقف التبادل التجاري. وتواجه السلطات الأردنية هذه الاحتجاجات بقدرٍ من العنف، حيث تستخدم الغاز المسيل للدموع والضرب بالهراوات لتفريق المتظاهرين، كما اعتقلت العشرات منهم من أمام السفارة الإسرائيلية في أيامٍ متفرقة، إلى جانب شن حملة اعتقالات على نشطاء من داخل منازلهم، معروفين بتأييد القضية الفلسطينية[26].

2- الجيل الثاني من المطبعين (المطبعون الجدد):

أ. الإمارات

كانت الإمارات رائدة قطار التطبيع الجديد بتوقيعها اتفاقات إبراهام لتلحق بها الدول الأخرى الموقعة. ولم تُغير الحرب في غزة من واقع الإمارات وتحالفاتها في شيء؛ حيث يواصل قادتها التأكيد على صحة قرارهم بالتطبيع، وعدم جدوى أية مواجهة مع إسرائيل. ففي يناير ٢٠٢٤، أي بعد ما يقرب من ثلاثة أشهر من بدء حرب غزة، صرح بهذا الشأن المستشار الدبلوماسي الإماراتي أنور قرقاش: “اتخذت الإمارات قرارًا استراتيجيًا، والقرارات الاستراتيجية قرارات طويلة الأمد”، وأضاف أن “مواجهة العالم العربي مع إسرائيل لم تنجح… واختارت الإمارات تطبيع العلاقات، بعد أن قررت أنها لم تعد ملزمة بالتضامن مع الفلسطينيين أو مساعدتهم في الحصول على حقوقهم”. فقبل أسابيع من هجوم طوفان الأقصى في ٧ أكتوبر، ألقى قرقاش باللوم على الفلسطينيين لفشلهم في فعل “أي شيء” بدعم بلاده، وذكر أن هذا الفشل ساعد في دفع الإمارات إلى تطبيع العلاقات مع إسرائيل[27]. وإن كان قرقاش قد أكد، على ضرورة إنهاء الاحتلال الإسرائيلي، وانتقد رد فعل إسرائيل “غير المتناسب” في قطاع غزة[28].

وقد أخذ تطبيع الإمارات منحى تصاعديًا ظهر جليًا في إدانتها الفورية لعملية طوفان الأقصى وإلقاء اللوم على “حماس”، وفي يوم ٨ أكتوبر، وصفت ما حدث بأنه “تصعيد خطير”. وبعد بضعة أيام، في مجلس الأمن، كانت الممثلة الدائمة لدولة الإمارات لانا نسيبة مصممة على حث المجتمع الدولي على معالجة قضية الحقوق الفلسطينية، في الوقت الذي استمرت فيه إدانتها حماس. وذكرت نسيبة أن حماس “لا تُمثل الشعب الفلسطيني أو شعب غزة”[29].

يأتي هذا إلى جانب أنباء عن وجود جسر بري بين الإمارات وإسرائيل كشفت عنه مصادر إعلامية عبرية. فبحسب صحيفة معاريف، فإن شركة “تراكنت” الإسرائيلية وقعت اتفاقية مع شركة “بيورترانز” الإماراتية للخدمات اللوجستية ليبدأ تسيير الشاحنات المحملة بالبضائع من ميناء دبي، مرورًا بالأراضي السعودية ثم الأردنية وصولًا إلى ميناء حيفا في إسرائيل. وقال المدير التنفيذي لشركة “تراكنت” إن الخط الجديد سيُوفر أكثر من ٨٠٪ من تكلفة نقل البضائع عبر الطريق البحري[30]. إن صحت أنباء هذا الجسر -لأنه لم يصدر تأكيد رسمي من الحكومتين- فهذا يعني تسهيل نقل البضائع بكافة أنواعها إلى إسرائيل، ما يدعم موقفها في الحرب.

ب. البحرين

كانت البحرين ثاني دولة تُوقع اتفاقات إبراهام مع إسرائيل، وترتب على ذلك إقامة علاقات دبلوماسية رسمية لأول مرة بين الجانبين عام ٢٠٢١. وحافظت البحرين أثناء الحرب على غزة على أداءٍ متوازن شكلا تجاه ما يحدث، بين قرارها التطبيعي وإدانتها لما يُعانيه الفلسطينيون في قطاع غزة. ففي نوفمبر 2023، أدان ولي عهد البحرين سلمان بن حمد آل خليفة هجوم “حماس” على إسرائيل في ٧ أكتوبر، حتى وصفه بالفعل “البربري والمروع”، كما دعا إلى إطلاق سراح الأسرى الإسرائيليين الذين تحتجزهم حماس، في صفقة تبادل[31]. إلا أنه في المقابل، قامت البحرين باستدعاء سفيرها لدى إسرائيل في ٢ نوفمبر[32]، وسمحت لمواطنيها بتنظيم احتجاجات محدودة مؤيدة لفلسطين. وهو الأمر الذي لم يستمر كثيرًا، ففي ديسمبر 2023 قامت السلطات البحرينية بقمع هذه الاحتجاجات، واعتقلت عشرات المتظاهرين بمن فيهم من الأطفال، وفقًا لمنظمة هيومن رايتس[33].

وشاركت البحرين -الدولة العربية الوحيدة- في “عملية حارس الازدهار” التي تقودها الولايات المتحدة، وهو تحالف دولي لحماية الشحن البحري في البحر الأحمر ضد الهجمات التي يشنها الحوثيون في اليمن. تلك الهجمات التي جاءت كرد فعل على العدوان الإسرائيلي على غزة، لتضرب المصالح الإسرائيلية والأمريكية، حسبما أعلن قادة الحوثيين بأنهم لن يُوقفوا هجماتهم ما لم تتوقف الحرب على غزة. وكان من الطبيعي أن تشارك البحرين، إذ تستضيف البحرين “القيادة المركزية للبحرية الأمريكية”، و”الأسطول الخامس الأمريكي”، و”اللواء الخامس من مشاة البحرية.[34] ما يعكس ميل البحرين إلى تحالفاتها الأمنية بدلًا من الرأي العام المحلي، في هذه اللحظة من التوتر الإقليمي المتصاعد.

ج. المغرب

أما المغرب، وهي ثالث الدول في اتفاقات إبراهام، فقد سمح بمساحة من الاحتجاج المنفتحة نسبيًا إذا ما قورنت بالبيئة الخليجية المنغلقة سياسيًا. فاستطاع عشرات الآلاف من المتظاهرين في المدن المغربية التعبير عن معارضتهم للعدوان الإسرائيلي على قطاع غزة، ورفضهم للتطبيع مع إسرائيل[35]، إلا أن السلطات قامت باعتقال بعض المتظاهرين في الدار البيضاء ومكناس[36] .

وبشكلٍ عام، يختلف موقف المغرب إلى حدٍ ما عن الموقف التطبيعي للإمارات والبحرين، وظهر ذلك في التفاعل مع الحرب الحالية. فرغم استخدام بيان وزارة الخارجية المغربية لغة معتدلة في بيانها حول هجوم ٧ أكتوبر، ورغم إدانته الصريحة لاستهداف المدنيين من قبل أي طرف، إلا إنه لم يُحمل جهةً معينة المسؤولية عن اندلاع هذه المواجهة الدائرة. فعلى الرغم من توقيع المغرب لاتفاقات إبراهام، لم تتأثر علاقاته مع الفصائل الفلسطينية، إذ لا يزال يحتفظ بعلاقاتٍ جيدة معها، بما في ذلك حماس. كما دعا المغرب إلى عقد دورة استثنائية لمجلس الجامعة العربية على مستوى وزراء الخارجية بالقاهرة يوم ١١ أكتوبر ٢٠٢٣، لبحث العدوان على غزة. حيث حافظ وزير الخارجية المغربي على الخطاب المتوازن بين طرفي الحرب، فلم يُوجه انتقادات مباشرة لأيٍ منهما، بل كرر الدعوة العاجلة لوقف التصعيد، مشددًا على ضرورة حماية المدنيين[37] .

إلا أنه من غير المرجح أن تستجيب الحكومة المغربية للمطالب الشعبية بتعليق التطبيع مع إسرائيل. فمثل هذه الخطوة لن تؤدي فقط إلى إلغاء تل أبيب اعترافها بسيادة المملكة على الصحراء الغربية، بل سيكون لها أيضًا تأثير سلبي على علاقة الرباط بواشنطن، التي كان لها دور فعال في ترتيب صفقة التطبيع في المقام الأول[38].

د. السعودية

قدمت السعودية نموذجًا مثيرًا للجدل فيما يتعلق بمدى التضامن مع المأساة التي يحياها الفلسطينيون في قطاع غزة لنصف عامٍ حتى الآن؛ فقد انطلق موسم الرياض الترفيهي في أواخر أكتوبر 2023 رغم سيل الدعوات إلى تأجيله احترامًا لدماء الآلاف من الأبرياء في غزة[39]. وفي الوقت ذاته، صرحت المملكة بعدم المضي في محادثات التطبيع إلا بعد الاعتراف بدولة فلسطينية في حدود عام ١٩٦٧، ووقف العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة وانسحاب الاحتلال منه[40]. وبشكلٍ عام، تتمسك السعودية في خطابها الرسمي بالحث على وقف العنف فورًا دون إدانةٍ صريحة لحماس[41].

إلا أن رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو رجح إمكانية مواصلة تطبيع العلاقات مع السعودية بعد الانتهاء من الحرب؛ حيث قال نتنياهو: “بعد هزيمة حماس، سنكون قادرين على العودة إلى السلام مع المملكة العربية السعودية، وأعتقد أننا سنكون قادرين على توسيع دائرة السلام [مع الدول العربية] بما يتجاوز توقعاتنا الجامحة”. وهذا ما رمى إليه أيضًا وزير الاستثمار السعودي خالد بن عبد العزيز الفالح، حين صرح بأن مسألة تطبيع العلاقات بين السعودية وإسرائيل لا تزال على جدول الأعمال، رغم الأحداث التي يشهدها قطاع غزة[42].

وقبل الحرب، تحديدًا في صيف ٢٠٢٣، شاركت السفيرة السعودية لدى الولايات المتحدة علنًا وجهة النظر السعودية بشأن العلاقات الإسرائيلية الفلسطينية عندما أشارت إلى أن المملكة العربية السعودية تهدف إلى التكامل مع إسرائيل، وليس مجرد التطبيع. وسلطت تصريحاتها الضوء على أن السلام الإسرائيلي الفلسطيني يتماشى مع مشروع الإصلاح الاجتماعي الطموح للمملكة العربية السعودية، رؤية ٢٠٣٠، وأن المملكة العربية السعودية تتصور “إسرائيل مزدهرة” إلى جانب “فلسطين مزدهرة”[43].

خاتمة: مآلات التطبيع

لقد صمدت معاهدات السلام التي وقعتها مصر والأردن مع إسرائيل في عامي ١٩٧٩ و١٩٩٤، ونجت من العديد من الأزمات والصراعات الصعبة، ما يُرجح بقوة أن تصمد اتفاقيات إبراهام لعام ٢٠٢٠ في وجه الحرب الحالية في غزة، خصوصًا وأن الإمارات والبحرين والمغرب وقعوا هذه الاتفاقات في مناخٍ من الهدوء ودون ضغوطٍ جادة اضطرتهم إلى ذلك. هذا بخلاف الظروف التي وقعت على إثرها مصر والأردن اتفاقات السلام في أعقاب حرب عسكرية، وفي جوارٍ يُنذر دائمًا بالتهديد والأخطار الأمنية. أما دول اتفاقات إبراهام، فقد اتخذت قرارات تعتبرها قرارات سيادية لا يجوز إلغاؤها أو تعليقها أو تجاهلها. وأن هذه القرارات هي ضمان استقرار مصالحها وتعزيزها. وأن هذه الدول في ترجيحها للكفة الإسرائيلية في دائرة “الصراع الفلسطيني الإسرائيلي” ترى أنها انحازت لجانب المستقبل والتقدم والرخاء، وأنه لا جدوى من الوقوف عند عتبات الماضي وأزماته القيمية.

إلا أنهم في الوقت نفسه، يُواصلون إعلان دعمهم للدولة الفلسطينية ومعارضتهم لسلوك إسرائيل في الحرب على غزة، وتقديم المساعدة الإنسانية للمحتاجين في القطاع، والمشاركة في المحافل الدولية الداعية إلى وقف إطلاق النار، ذلك إلى جانب مشاركتهم المزمعة في خطط إعمار ما بعد الحرب. وهو ما أيده إعلان وزير الخارجية الأمريكي أنتوني بلينكن بعد رحلته الأخيرة إلى الشرق الأوسط، أن التطبيع هو رغبة مشتركة بين الدول التي زارها، بشرط أن يكون للفلسطينيين أُفق سياسي لدولة فلسطينية.

أما الأردن ومصر، فقد تجذرت روابط التطبيع بينهما وبين إسرائيل في ملفاتٍ حيوية اقتصاديًا وأمنيًا. ويبدو أنه لن يحدث تغير جذري، وإن كان سيستمر التحرك الدبلوماسي القوي لإبرام صفقة لتبادل الأسرى وعقد هدن إنسانية، في ظل تعنت نتنياهو وحكومته وإصرار المقاومة الفلسطينية على الصمود مهما كلف الأمر. أما الرأي العام الداخلي، فتظل شعوب هذه الدول بمنأى عن خطط التطبيع، فهل ينجح طوفان الأقصى في تجاوز الحدود وصنع مفاجآت أكثر؟! لا أحد يمكنه التنبؤ بهذا.

إن مسار الأحداث يُنذر مبدئيًا بالصعوبة الشديدة التي تعتري محادثات الاتفاق على هدن إنسانية، فضلًا عن الاتفاق على وقف دائم لإطلاق النار. ما يعني صعوبة موقف الوسطاء العرب المطبعين (مصر والأردن)، إذ أنهم يفشلون في إرضاء الجانب الإسرائيلي في مواجهة حماس وباقي فصائل المقاومة الفلسطينية، في الوقت الذي يعتريهم هم أنفسهم القلق إزاء مخططات إسرائيل تجاه الاجتياح البري لمدينة رفح، وخطط نتنياهو لمستقبل إدارة قطاع غزة.

يبدو أن الحقيقة المؤكدة الوحيدة هي أن عملية طوفان الأقصى فاجأت إسرائيل وحلفاءها العرب، ولن تعود المنطقة العربية وفي قلبها فلسطين إلى واقع يوم السادس من أكتوبر. فالطوفان قد ثار ولا أحد من بين جميع الأطراف يمكنه التحكم في دفة جريانه. من جهة تقف اتفاقات التطبيع صامدة، على الرغم من الاستفزازات الإسرائيلية والتهديدات الشفهية العربية. ومن جهةٍ أخرى، لم يعد في الإمكان التنبؤ بمآلات الميدان والمفاوضات، وإلى أين يمكن أن يصل الجنون الإسرائيلي في انتقامه العسكري وتخبطه الاستراتيجي والسياسي، ما سيكون له آثاره على الأمن الإقليمي العربي.

_______________

هوامش

[1] ارتفاع عدد ضحايا الجوع في قطاع غزة إلى 30 فلسطينيا، قناة الغد، ٢٨ مارس ٢٠٢٤، تاريخ الاطلاع: ٧ إبريل ٢٠٢٤، متاح عبر الرابط التالي: https://2u.pw/iz3uEUVI

[2] معين الطاهر، جذور التطبيع: تاريخه ومراميه، مجلة الدراسات الفلسطينية، مؤسسة الدراسات الفلسطينية، العدد ١٣٠، ربيع ٢٠٢٢، تاريخ الاطلاع: ٧ مارس ٢٠٢٤، متاح عبر الرابط التالي: https://shorturl.at/biQU1

[3] المرجع السابق.

[4] التطبيع العربي مع إسرائيل: مظاهره ودوافعه، المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، يونيو ٢٠٢٠، تاريخ الإطلاع: ٧ مارس ٢٠٢٤، متاح عبر الرابط التالي: https://shorturl.at/cnNP7

[5] المرجع السابق.

[6] المرجع السابق.

وفي سبتمبر ٢٠١٦، أعلنت شركة الكهرباء الوطنية الأردنية وشركة «نوبل إنيرجي» الأميركية عن توقيع اتفاقية لاستيراد الغاز الطبيعي المسال من إسرائيل بقيمة ١٠ مليارات دولار. ثم لحقت مصر بالأردن في فبراير ٢٠١٨؛ حيث أعلنت شركة دولفينوس القابضة المحدودة للغاز المصرية عن طريق شركة «نوبل إنيرجي» عن توقيع اتفاقية مع مجموعة «ديليك للحفر» الإسرائيلية بقيمة ١٥ مليار دولار، تقوم بموجبها الثانية بتزويد مصر بالغاز الطبيعي. وفي يناير ٢٠١٩، أعلنت مصر عن تأسيس «منتدى غاز شرق المتوسط» (EMGF)، الذي يضم سبع دول من بينها إسرائيل، بغرض إنشاء سوق إقليمية للغاز لتأمين العرض والطلب للدول الأعضاء. وفي عام ٢٠٠٨، وقّعت هيئة المنشآت والمرافق الحيوية في أبوظبي عقًدامع شركة «آي جي تي إنترناشونال» المملوكة لرجل الأعمال الإسرائيلي، ماتي كوتشافي، لشراء معدات مراقبة للبنية التحتية الحيوية. وزودت الشركة نفسها أبوظبي بثلاث طائرات مسّيرة. كما زودت شرطة أبو ظبي بنظام مركزي للمراقبة الأمنية، يعرف باسم «عين الصقر» عام ٢٠١٦. كما استعانت شركة “آرامكو” السعودية بشركة إسرائيلية لحماية أمن المعلومات في أغسطس ٢٠١٢. وتُشارك دول عربية عديدة، من بينها السعودية والإمارات، في تمارين عسكرية إلى جانب إسرائيل، من أهمها تمرين «العلم الأحمر». كما شارك سلاح الجو الإماراتي في تدريبات عسكرية تعرف باسم «إينيو هوس» في اليونان تشارك فيه إسرائيل. هذا إلى جانب تبادل العديد من الزيارات والعلاقات الثقافية والرياضية.

[7] وليد حباس، “اتفاقيات أبراهام”: ما هي صورة الوضع حتى آذار 2023؟، المركز الفلسطيني للدراسات الإسرائيلية مدار، ٢٠ مارس ٢٠٢٣، تاريخ الإطلاع:٢١ مارس ٢٠٢٤، متاح عبر الرابط التالي: https://rb.gy/f0ck1o

[8] Story of the Abraham Accords Peace Institute, available at: https://rb.gy/z744om

[9] عزيز الغشيان، الاستراتيجيات الإسرائيلية للحفاظ على اتفاقيات إبراهام وتوسيعها، معهد دول الخليج العربية في واشنطن، ٣١ يوليو ٢٠٢٣، تاريخ الاطلاع: ٢١ مارس ٢٠٢٤ متاح عبر الرابط التالي: https://rb.gy/tb2gnf

[10] وليد حباس مرجع سابق.

[11] 2022 Annual Report, the Abraham Accords Peace Institute, accessed at: 22 March 2024, available at: https://rb.gy/et3g5o

[12] وليد حباس مرجع سابق.

[13] مسلح جاء من الأردن يطلق النار على دورية إسرائيلية، الجزيرة نت، ٥ إبريل ٢٠٢٤، تاريخ الاطلاع: ٧ أبريل ٢٠٢٤، متاح عبر الرابط التالي: https://2u.pw/SeQ1SvGk

[14] Charles W. Dunne, Egypt, the Gaza War, and Fears of Another Nakba, Arab Center Washington DC, 7 Fbruary 2023, accessed at: 1 April 2024, available at: https://shorturl.at/ipU13

[15] أزمة معابر غزة وصراع الإرادات.. من نجح في فرض أجندته ؟، مؤسسة سيناء لحقوق الإنسان، ٢٨ أكتوبر ٢٠٢٣، تاريخ الاطلاع: ١ إبريل ٢٠٢٤، متاح عبر الرابط التالي: https://shorturl.at/cklm0

[16] من الذي يعيق تدفق المساعدات عبر معبر رفح؟، بي بي سي، ١٦ يناير ٢٠٢٤، تاريخ الاطلاع: ١ إبريل ٢٠٢٤، متاح عبر الرابط التالي: https://2u.pw/PrmBxJev

[17] السيسي يُحذر من خطورة لجوء سكان غزة إلى مصر: إذا كان هناك فكرة تهجير “فصحراء النقب موجودة”، سي إن إن، ١٨ أكتوبر ٢٠٢٣، تاريخ الاطلاع: ١ إبريل ٢٠٢٤، متاح عبر الرابط التالي: https://shorturl.at/fvzG5

[18] وهي منطقة عازلة بطول 14 كيلومترا وعرض 100 متر، تم إنشاؤها وفقا لشروط اتفاقيات كامب ديفيد التي وقعتها مصر وإسرائيل في سبتمبر 1978 وهدفها منع أي توغل مسلح، والسيطرة على حركة الفلسطينيين وتهريب الأسلحة بين سيناء المصرية وقطاع غزة أي في كلا الاتجاهين. كان هذا المحور، الذي تحده أسوار شائكة يتراوح ارتفاعها بين مترين وثلاثة أمتار والكثير من الكتل الخرسانية، تحت سيطرة الدولة العبرية حتى انسحاب الجيش الإسرائيلي من جانب واحد من قطاع غزة في عام 2005. كجزء من هذا الانسحاب الذي قررته حكومة أرييل شارون وقتذاك، وقعت مصر وإسرائيل اتفاقية، تعرف باسم اتفاقية فيلادلفيا، تنص على نشر وحدة من 750 جنديًا من حرس الحدود المصريين على طول المنطقة العازلة (على الجانب المصري). كان هؤلاء أول جنود مصريين يقومون بدوريات في هذه المنطقة منذ حرب عام 1967، حين احتلت إسرائيل قطاع غزة الذي كانت تديره مصر آنذاك، وشبه جزيرة سيناء. ذهب الاتفاق المعني إلى حد تحديد معدات الوحدة المصرية بدقة شديدة، وهي 8 طائرات هليكوبتر و30 مركبة مدرعة خفيفة و4 زوارق سريعة.

[19] Charles W. Dunne, Op. cit.

[20] Ofir Winter, Morr Link & Adam Sharon, Navigating Post-War Realities: The Road Ahead for Israel and Egypt, The Institute for National Security Studies, 6 December 2023, accessed at: 1 April 2024, available at: https://2u.pw/xskgLCLm

[21] Charles W. Dunne, Op. cit.

[22] خلفيات الموقف الأردني من العدوان الإسرائيلي على غزة ومحدداته، المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، ١٤ نوفمبر ٢٠٢٣، تاريخ الاطلاع: ٣١ مارس ٢٠٢٤، متاح عبر الرابط التالي: https://shorturl.at/sAFR1

[23] خلفيات الموقف الأردني من العدوان الإسرائيلي على غزة ومحدداته، المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، ١٤ نوفمبر ٢٠٢٣، تاريخ الاطلاع: ٣١ مارس ٢٠٢٤، متاح عبر الرابط التالي: https://shorturl.at/sAFR1

[24] المرجع السابق.

[25] احتجاجات يومية دون توقف في الأردن منذ بدء الحرب في غزة، بي بي سي، ٢٩ مارس ٢٠٢٤، تاريخ الاطلاع: ١ إبريل ٢٠٢٤، متاح عبر الرابط التالي: https://shorturl.at/wGVZ0

[26] اعتقالات جديدة ضد نشطاء متضامنين مع غزة بالأردن.. والأمن يعتدي على متظاهرين قرب سفارة إسرائيل، عربي بوست، ٣١ مارس ٢٠٢٤، تاريخ الاطلاع: ١ إبريل ٢٠٢٤، متاح عبر الرابط التالي: https://shorturl.at/qyG08

[27] Imad K. Harb, Normalization Survives Despite the Gaza War, Arab Center Washington DC, 11 jan 2024, accessed at: 22 March 2024, available at: https://shorturl.at/bBGHJ

[28] وليام ريبوك، منطق التطبيع وحدوده بعد انتهاء الحرب في غزة، معهد دول الخليج العربية في واشنطن، ١ فبراير ٢٠٢٤، تاريخ الاطلاع: ٢٣ مارس ٢٠٢٤، متاح عبر الرابط التالي: https://shorturl.at/lpKT5

[29] Imad K. Harb, Normalization Survives Despite the Gaza War, Op.cit.

[30] جسر بري بين الإمارات وإسرائيل مرورًا بالسعودية والأردن.. فما المكاسب من الاتفاق؟، بي بي سي، ٦ ديسمبر ٢٠٢٣، تاريخ الاطلاع: ٢٤ مارس ٢٠٢٤، متاح عبر الرابط التالي: https://shorturl.at/wEF69

[31] ولي عهد البحرين: هجمات حماس في 7 أكتوبر “بربرية” وأدين الغارات الإسرائيلية على غزة، سي إن إن، ١٧ نوفمبر ٢٠٢٣، تاريخ الاطلاع: ٢٤ مارس ٢٠٢٤، متاح عبر الرابط التالي: https://shorturl.at/hmvI2

[32] البحرين: عودة سفيرنا من تل أبيب ونظيره الإسرائيلي غادر منذ مدة، الأناضول، ٢ نوفمبر ٢٠٢٣، تاريخ الاطلاع: ٢٤ مارس ٢٠٢٤، متاح عبر الرابط التالي: https://shorturl.at/nrDEW

[33] البحرين: السلطات تقمع احتجاجات مؤيدة لفلسطين، هيومن رايتس ووتش، ٢٢ ديسمبر ٢٠٢٣، تاريخ الاطلاع: ٢٤ مارس ٢٠٢٤، متاح عبر الرابط التالي: https://shorturl.at/akmq2

[34] عهدية السيد، موقف البحرين من تحالف حماية البحر الأحمر الذي طال انتظاره، معهد واشنطن لسياسة الشرق الأدنى، ٣ يناير ٢٠٢٤، تاريخ الاطلاع: ٢٤ مارس ٢٠٢٤، متاح عبر الرابط التالي: https://shorturl.at/cfiwG

[35] عشرات الآلاف يتظاهرون في المغرب تضامنا مع شعبنا، وفا، ٢٩ أكتوبر ٢٠٢٣، تاريخ الاطلاع: ٢٤ مارس ٢٠٢٤، متاح عبر الرابط التالي: https://shorturl.at/qsX04

[36] Imad K. Harb, Op. Cit.

[37] سعيد الصديقي، المغرب والحرب في غزة: معضلة المبادئ والمصالح، المعهد المغربي لتحليل السياسات، ٣١ مارس ٢٠٢٤، تاريخ الاطلاع: ٣١ مارس ٢٠٢٤، متاح عبر الرابط التالي: https://shorturl.at/dsAL0

[38] Imad K. Harb, Op. cit.

[39] إطلاق موسم الرياض يشعل الجدل عبر مواقع التواصل الاجتماعي بسبب الحرب في غزة، ما القصة؟، بي بي سي، ٣١ أكتوبر ٢٠٢٣، تاريخ الاطلاع: ٢٥ مارس ٢٠٢٤، متاح عبر الرابط التالي: https://shorturl.at/abnoT

[40] السعودية: لا علاقات مع إسرائيل قبل الاعتراف بالدولة الفلسطينية، الجزيرة نت، ٧ فبراير ٢٠٢٤، تاريخ الاطلاع: ٣١ مارس ٢٠٢٤، متاح عبر الرابط التالي: https://shorturl.at/eDEO3

[41] ما الدول التي تدعم إسرائيل في حربها على غزة وتلك التي تدينها، بي بي سي، ٨ نوفمبر ٢٠٢٣، تاريخ الاطلاع: ٣١ مارس ٢٠٢٤، متاح عبر الرابط التالي: https://shorturl.at/fDOPW

[42] نتنياهو يرجح استمرار تطبيع العلاقات مع السعودية بعد “الانتصار على حماس”، روسيا اليوم، ٢٧ نوفمبر ٢٠٢٣، تاريخ الاطلاع: ٢٠ مارس ٢٠٢٤، متاح عبر الرابط التالي: https://shorturl.at/iBEMU

[43] R. Clarke Cooper, The future of Saudi-Israeli relations is a balancing act between Palestinian and regional interests, the Atlantic Council, 22 February 2024, accessed at: 31 March 2024, available at: https://2u.pw/x2Qd85a

  • نُشر التقرير في فصلية قضايا ونظرات- العدد الثالث والثلاثون- أبريل 2024

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى