الموقف العربي بعد شهر من طوفان الأقصى: عقلية الوهن وواقع الإنهاك

شهر كامل مرَّ منذ إطلاق عملية طوفان الأقصى في السابع من أكتوبر من العام الجاري، وهي العملية التي وُصِفت بغير المسبوقة في تاريخ النضال الفلسطيني ضد العدوان الإسرائيلي. إذ أسفرت العملية بحسب تقديرات غير نهائية عن مقتل أكثر من 1400 إسرائيلي بين جندي ومستوطن، وجرح أكثر من 4000 آخرين، فضلاً عن أسر ما لا يقل عن 250 إسرائيليًا معظمهم من الجنود. وهذا التقرير هو الرابع في مجموعة تقارير أسبوعية صدرت منذ الأسبوع الأول من المعركة، استهدفت رصد مواقف الدول العربية على المستويين الرسمي والشعبي من العملية.

وقد عُنيت التقارير الثلاثة السابقة برصد وتحليل هذه المواقف معتمدة على تصنيف الدول العربية إلى ثلاثة مجموعات؛ الأولى: دول الطوق والأكثر تفاعلًا، وفيها مصر والأردن وقطر ولبنان. والثانية: الدائرة العربية الأوسع، والتي ينضوي فيها سلطنة عمان وتونس والعراق. والثالثة: دول التصهين العربي حديثة التطبيع مع إسرائيل، وهي الإمارات والبحرين والمغرب وينضم إليها السعودية في هذ التقرير. كما ميزت التقارير السابقة بين المواقف الرسمية للحكومات والأنظمة العربية، ومواقف الشعوب والمؤسسات التي تعبر عن صوت الأمة ولا تعكس صوت السلطة؛ كالأزهر ومفتي سلطنة عمان ودار الإفتاء الليبية.

انتهت التقارير الثلاثة الأولى إلى مجموعة من النتائج والدلالات المحددة للموقف العربي من طوفان الأقصى، يمكن ذكرها اختصارًا فيما يلي:

  • لم تتجاوز مواقف الدولة العربية مجتمعة على المستوى الرسمي، حدود الظواهر الصوتية من التنديد والشجب والإدانة ومناشدة المجتمع الدولي للتدخل والدعوة لعدم التصعيد والحفاظ على أرواح المدنيين من الطرفين.
  • وعلى مستوى أقل عمومية والخاص ببعض الدول التي لها موقع جغرافي متميز من فلسطين والتي سميت في التقارير بدول الطوق، وهي مصر والأردن ولبنان؛ فنجد أن مصر قد تركز موقفها الرئيس على رفض فكرة تهجير الفلسطينيين إلى سيناء، إذ أن ذلك يهدد أمنها القومي ويحولها لقاعدة لتهديد أمن إسرائيل كما جاء في تصريح الرئيس المصري. وكذلك ارتبطت بمصر مسألة المساعدات وإدخالها إلى غزة عبر معبر رفح البري، وقد رصدنا في هذه التقارير عجز الجانب المصري عن إدخال المساعدات الإنسانية الضرورية بسبب تعنت الموقفين الأمريكي والإسرائيلي، وهو الموقف الذي بررته مصر بمقولة أن غزة خاضعة لحكم وإدارة إسرائيل. وأخيرًا وحينما سُمح لمصر بإدخال المساعدات تم ذلك بعد جدل طويل مع الولايات المتحدة والأمم المتحدة وإسرائيل، ولم تدخل إلا كميات قليلة للغاية لا تفي باحتياجات القطاع، فضلًا عن مرورها من معبر العوجة البري أولًا بين مصر وإسرائيل لتفتيشها من قِبل جيش الاحتلال.

أما الأردن، فتركز موقفها في الأسابيع الثلاثة الأولى على خطاب التنديد والدعوة لوقف التصعيد ورفض تهجير الفلسطينيين من أراضيهم، ثم تقدمت بمشروع قرار للأمم المتحدة لوقف إطلاق النار، تمت الموافقة عليه يوم 27 أكتوبر ولم ينفذ بطبيعة الحال. وأخيرًا فإن لبنان كان لها وضع خاص بسبب موقف حزب الله الذي يسيطر على الجنوب اللبناني المتاخم لإسرائيل، والذي أعلن تأييده للعملية من اليوم الأول، كما نشبت بينه وبين الجيش الإسرائيلي مناوشات تزايدت حدتها مع الوقت وراح ضحيتها من قوات حزب الله قرابة 60 قتيلا.

  • أما على مستوى الدول البعيدة جغرافيًا، والتي منها تونس والجزائر والكويت والعراق وقطر، فقد جاءت مواقفها رافضة للعدوان الإسرائيلي ومناصرة للحق الفلسطيني في المقاومة. ورأت هذه الدول أن إسرائيل ينبغي أن تتحمل وحدها المسئولية عن الموقف بسبب انتهاكاتها المستمرة لحقوق الشعب الفلسطيني.
  • وأخيرًا تأتي مجموعة الدول حديثة التطبيع أو السائرة على خط التطبيع، وهي الإمارات والبحرين والمغرب والسعودية*، فإن هذه الدول كانت الأسوأ والأكثر خزيًا في مواقفها. إذ أنها اكتفت بخطاب يتسم بالحياد البارد أعلنت فيه إدانتها للعنف ودعت للحفاظ على أرواح المدنيين من الطرفين على السواء. وأخيرًا قامت السعودية بإطلاق موسم الرياض الترفيهي يوم الثلاثاء 24 أكتوبر، وذلك مع اقتراب عدد الشهداء في غزة من 10 آلاف شهيد في ذلك الوقت. وقد وصفت وضع هذه الدول في التقرير الثاني بأن: مواقفها قد تحولت إلى اللاموقف.
  • وعلى المستوى الشعبي، فإن الشعوب العربية قد شهدت حالة من الغضب انعكست في احتجاجات ومظاهرات عارمة، على مستوى كافة الأقاليم والمدن العربية تقريبًا، في موقف مناقضٍ تمامًا لموقف الأنظمة الحاكمة. غير أن حدة الاحتجاجات والمظاهرات قد انحسرت بنهاية الأسبوع الثالث وتراجعت كثيرًا عن المستوى والمشهد الذي رأيناه في الأسبوع الأول.
  • وأخيرًا يُذكر موقف الأزهر الشريف ومفتي سلطنة عمان كنماذج لمؤسسات انحازت لموقف الأمة الأكبر من موقف الدول. وأعلنت دعمها للجهاد الفلسطيني وحق المقاومة، ودعت العالم العربي والإسلامي لدعم غزة والمقاومة والتصدي للعدوان الإسرائيلي الغاشم الإرهابي. وهو موقف ثابت استمر على مدار الأسابيع الثلاثة الأولى ولا يزال.

أما هذا التقرير فيهدف إلى استكمال رصد المواقف والممارسات العربية على مستوييها الرسمي والشعبي من ناحية في الأسبوع الرابع من المعركة، ويهدف كذلك إلى محاولة فهم وتحليل الموقف العربي خلال شهر من العدوان. ومن ثم يسعى هذا التحليل إلى الإجابة عن سؤال رئيس مفاده: لماذا جاء الموقف العربي متخاذلًا ضعيفًا من العدوان الإسرائيلي على غزة والذي راح ضحيته حتى الآن أكثر من 10 آلاف شهيد أكثرهم من النساء والأطفال؟ وللإجابة عن السؤال أوظف مفهوم “عقلية الوهن” ومنظور “الإنهاك” سعيًا للفهم والتفسير وأخيرًا تقييم الموقف العربي على الإجمال.

أولًا: تطورات المواقف العربية الرسمية في الأسبوع الرابع:

1) دول الطوق والأكثر تفاعلًا:

أ) مصر:

لم يحدث في الموقف المصري خلال الأسبوع الرابع أي تحول يُنبئ باختلاف عن الخط الذي سار عليه منذ بداية المعركة، فقد صرح رئيس الوزراء المصري أثناء تفقده لمعبر رفح يوم 31 أكتوبر قائلًا: “مع هذه الأزمة غير المسبوقة في قطاع غزة ندعو العالم أن يدين سقوط الضحايا من كل جانب، فلا يوجد أفضلية أو ميزة لجانب على جانب آخر.. نحن ضد سياسة العقاب الجماعي ضد سكان غزة”[1]. ومن ثم يمكن تحديد السياسة المصرية منذ بداية هذه الأزمة في مجموعة نقاط:

  • إدانة ما قامت به المقاومة يوم 7 أكتوبر وكذلك إدانة رد فعل الإسرائيلي، مع التركيز على استخدام عبارتي “المدنيين من الطرفين” و”سياسة العقاب الجماعي الإسرائيلي” كعبارتين محددتين للرؤية المصرية للمعركة.
  • تعارِض مصر حتى الآن فكرة تهجير الفلسطينيين إلى سيناء، مع عدم معارضتها لأن تقوم إسرائيل بتصفية المقاومة في غزة، ولكن ليس على حساب مصر بأي حال من الأحوال، بل ربما ببدائل أخرى، كتهجير الفلسطينيين إلى صحراء النقب ريثما تنتهي العملية.
  • تعجز مصر تمامًا عن إدخال المساعدات إلى غزة عبر معبر رفح بقرار فردي، وترى أن غزة منطقة خاضعة لحكم إسرائيل، ومن ثم يجب أن يكون إدخال المساعدات بالتنسيق مع إسرائيل والولايات المتحدة في المقام الأول.
  • وأخيرًا يعمل النظام السياسي المصري على توظيف ما يحدث في غزة باعتباره درسًا للمصريين يوضح لهم قيمة الأمن والأمان، ويدفعهم لتحمل بعض المتاعب الاقتصادية التي تواجهها الدولة وكذا بعض الأزمات كانقطاع الكهرباء الذي تسبب فيه إيقاف دولة الاحتلال عن تصدير الغاز لمصر.

ب) الأردن:

بعد فشل مشروع القرار الذي قدمته الأردن باسم المجموعة العربية في الأمم المتحدة فعليًا، وعدم التزام إسرائيل به بالرغم من الموافقة عليه. اتخذت الأردن إجراءات تصعيدية ملموسة تجاه إسرائيل، فقامت يوم الأربعاء 1 نوفمبر باستدعاء سفيرها من تل أبيب تعبيرًا عما وصفته بـ”الموقف الرافض والمدين للحرب الإسرائيلية المستعرة على غزة، والتي تقتل الأبرياء، وتسبب كارثة إنسانية غير مسبوقة”[2]. كما شهد الموقف الأردني تصعيدًا جديدًا تجاه إسرائيل يوم الاثنين 6 نوفمبر، إذ أعلن أن أي محاولات أو خلق ظروف لتهجير الفلسطينيين من قطاع غزة أو الضفة الغربية المحتلة، سيعتبره بمثابة “إعلان حرب”، جاء ذلك على لسان رئيس الوزراء الأردني بشر الخصاونة خلال اجتماع نيابي، وقال فيه أيضًا: إن كل الخيارات مطروحة على الطاولة بالنسبة للأردن في إطار الموقف المتدرج في التعاطي مع العدوان الإسرائيلي على غزة وتداعياته[3].

ومن ثم يمكن اعتبار هذا النوع من التصعيد في الخطاب والموقف هو الأول من نوعه على المستوى العربي منذ بداية العدوان على غزة. وعلى صعيد آخر وفي خطوة مختلفة ونوعية، أعلن ملك الأردن عبد الله الثاني عن تمكن الطيران الأردني من إنزال مساعدات إلى المستشفى الميداني الأردني في غزة، إذ قال: “بحمد الله تمكن نشامى سلاح الجو في قواتنا المسلحة من إنزال مساعدات طبية ودوائية عاجلة جوا للمستشفى الميداني الأردني في قطاع غزة. هذا واجبنا لمساعدة الجرحى والمصابين الذين يعانون جراء الحرب على غزة. سيبقى الأردن السند والداعم والأقرب للأشقاء الفلسطينيين”[4].

يمكن فهم هذا التحول في الخطاب والموقف الأردني من خلال استحضار خصوصية الأردن من القضية والوضع الفلسطيني. فعلى المستوى الشعبي كان الشعب الأردني هو الأكثر تفاعلًا مع الأحداث والأكثر ممارسة للاحتجاجات والمظاهرات الشعبية، هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى ترى بعض التحليلات أن الاحتجاجات الأخيرة في عمان نادت بقيادات الذراع العسكري لحركة حماس، وتحديدًا محمد الضيف القائد العام لكتائب القسام، والناطق الرسمي باسم الحركة أبو عبيدة، ويحيى السنوار رئيس حركة حماس في غزة، في حين غابت عن الاحتجاجات أسماء شهيرة مثل إسماعيل هنية رئيس المكتب السياسي للحركة، وخالد مشعل رئيس مكتبها الخارجي أو الدولي. وفي ذلك مساران من التحول: الأول أن الجماهير الأردنية المناصرة للقضية الفلسطينية تفضل المواجهة العسكرية المسلحة على المواجهة السياسية، والثاني أن ضعف السلطة الفلسطينية والفراغ السياسي الذي أحدثته جعل جماهير حركة فتح والحركات اليسارية والحزبية تنتقل إلى صفوف حركة حماس، التي لم تعد مجرد حركة، بل تكرست في الذهنية الأردنية والعربية كأيديولوجية[5].

وكذلك يمكن القول إن السياسة الخارجية الأردنية تتعامل مع ملف الحرب على أنه مرحلة استباقية لمرحلة توسع في رقعة الحرب من غزة إلى الضفة الغربية، وقد يحدث ذلك في أي لحظة. وقد عملت الحرب الدائرة في غزة على استشعار الأردن بخطورة التغيير في المعركة، خصوصًا وأن إسرائيل التي تمتلك الضوء الأخضر والدعم الأمريكي لوجستيًا وسياسيًا، وتقوم بممارسة رد الفعل المتسرع الذي قد يعمل على تدويل الأزمة ويضع الشرق الأوسط في حالة توتر مفتوح لا يمكن السيطرة عليها بسبب تعدد أطرافها وخصوصية جغرافيتها السياسية. وهذا هو الهاجس الأهم بالنسبة للأردن[6]. وفي هذا الإطار يمكن فهم التصعيد المفاجئ في الخطاب الأردني وإدخال مفردة “الحرب” في اللغة المستخدمة في التعامل مع الوضع الحالي.

ج) لبنان:

ذكرنا في التقارير الثلاثة السابقة أن الموقف الأهم في لبنان هو موقف حزب الله الذي اشتبك مبكرًا مع الأحداث ووقعت بين الحزب وإسرائيل مناوشات عديدة واشتباكات على مستوى تبادل القصف المدفعي والصواريخ. ولعل أهم ما استجد في موقف حزب الله هو خطاب الأمين العام للحزب “حسن نصر الله” يوم الجمعة 3 نوفمبر. وكان أهم ما جاء في هذا الخطاب هو ما يلي[7]:

◄ أشار نصرالله أن خطابه هذا ليس إشارة البدء في دخوله الحرب لأنه دخلها بالفعل منذ الثامن من أكتوبر وفتح جبهة لبنان على مصراعيها ولكن بشكل تصاعدي. بل إن كلمته هذه احتفالية أكثر منها تصعيدية؛ حيث قال في نهاية خطابه أن كلمته هذه بمناسبة الاحتفال بشهداء المقاومة الإسلامية في لبنان وسيليها كلمات أخرى احتفالاً بانتصار المقاومة الفلسطينية عندما تنتهي الحرب.

◄ ركز نصرالله كذلك على وضع الحدث الراهن في سياقه الأكبر إقليميًا ودوليًا وتفسيره من وجهة نظر محور المقاومة في المنطقة. فأشاد بصمود الشعب الفلسطيني والمقاومة الفلسطينية، كما ثمن مشاركة الحركات والميليشيات العراقية واليمنية في الحرب الراهنة سواء من خلال قصف جنوب إسرائيل من اليمن أو قصف قواعد أمريكية في العراق وسوريا.

◄ كما أكد أن لا أحد كان على علم مسبق بموعد عملية طوفان الأقصى، وأنها كانت قرارًا فلسطينيًا خالصًا وأنه لا وصاية لطهران ولا لبيروت على حماس بل على العكس التحق حزب الله بجبهة غزة للمساندة والدعم.

◄ اعتبر نصرالله أن عملية طوفان الأقصى بمثابة الزلزال الكبير للنظام العسكري والأمني في إسرائيل وأنها غيرت شكل ووجهة الصراع للأبد وغيرت في معادلات القوة وفي مستقبل الشعب الفلسطيني وشعوب المنطقة.

◄ اهتم نصرالله أيضًا بعرض ما أسماه “الإنجازات” التي أحرزها حزب الله على جبهة جنوب لبنان، حيث اعتبر أن دخول حزب الله في الحرب منذ اليوم التالي لطوفان الأقصى قد أجبر الإسرائيليين على تغيير خططهم العسكرية فأخلوا 43 مستوطنة في الشمال بالكامل، وقاموا باستدعاء قوات الاحتياط وتخصيص ثلث القوات البرية الإسرائيلية لجبهة الشمال مع لبنان. بالإضافة إلى توجيه إسرائيل نصف قواتها البحرية وربع قواتها الجوية ونصف دفاعاتها الصاروخية الخاصة بالقبة الحديدية إلى الشمال لجبهة لبنان. وهكذا اعتبر نصرالله أن مشاركة حزب الله في الحرب قد حققت الهدف المرجو منها وهو تخفيف الضغط على جبهة غزة، ولكنه شدد على أنه رغم أهمية هذا المستوى من الاشتباك فإنه “لا يمكن الاكتفاء به” وأنه قد يتصاعد وينزلق إلى حرب أوسع بحسب التطورات الميدانية في غزة.

◄وأخيرًا انتقد نصرالله الدول العربية وحجم تفاعلها مع الحرب الدائرة في غزة مطالبًا بالمزيد من الإجراءات الملموسة مثل قطع العلاقات الدبلوماسية ووقف التبادل التجاري خاصة في مجال الطاقة بالإضافة إلى فتح معبر رفح لإدخال المساعدات وإخراج الجرحى للعلاج دون انتظار إذن أو تنسيق. وقد اعتبر نصرالله أن الدول العربية يجب أن تحرص على انتصار غزة في هذه الحرب لأنه لن يكون انتصارًا لإيران أو لمحورها في المنطقة بل هو انتصار لحماية المصالح القومية لكل من سوريا والأردن ومصر وأيضًا لبنان.

جدير بالذكر أن الخطاب قد أصاب بعض المتابعين في العالم العربي بخيبة الأمل، ووصفوه بأنه محاضرة طويلة مملة لم تسفر عن جديد، إذ كان أغلب الناس يتوقعون أن الحزب سيعلن حربًا كبرى على إسرائيل وسيدخل في مواجهة مباشرة وشاملة انتصارًا لغزة ونصرة لحماس.

د) قطر:

تأتي قطر أخيرًا في دول الطوق والتفاعل بحضور أخذ يتراجع مع الوقت، وقد تركز دورها الرئيس على كونها أداة اتصال هامة بين حركة حماس والولايات المتحدة وإسرائيل، وما يذكر لها في هذ الإطار هو نجاحها في الوساطة للإفراج عن بعض الأسرى لدى حماس. وقد ذكرنا في التقرير السابق تداول بعض وكالات الأنباء أن قطر أبلغت الولايات المتحدة بأنها منفتحة على إعادة النظر في وجود حركة حماس على أراضيها بمجرد حل أزمة الرهائن لدى الحركة. إلا أن المتحدث باسم الخارجية القطرية ماجد بن محمد الأنصاري أوضح في حديث لشبكة “سي إن إن”، أن إغلاق مكتب حركة حماس في قطر في المرحلة الراهنة أمر غير وارد، مذكرًا بأهمية المفاوضات الرامية إلى إطلاق سراح الرهائن المحتجزين في غزة، والجهود المبذولة لوقف التصعيد.

وقال الأنصاري كذلك أن قناة الاتصال هذه -مكتب حماس في الدوحة- لعبت دورًا مهمًا للغاية في مواجهة التوتر الذي اندلع في سبتمبر الماضي؛ حيث أسفرت محادثات قطر مع حماس إلى تخفيف التوتر بعد أسبوعين من اندلاع موجة الاشتباكات المتواصلة بين الفلسطينيين والإسرائيليين. ومن ثم انتهى الأنصاري إلى تأكيد أهمية بقاء هذه القناة مفتوحة، لتساهم في حل الأزمة الحالية، وقال: “هذه الطريقة الوحيدة التي تمنحنا فرصة العمل كوسيط لإطلاق سراح الرهائن وضمان عودتهم سالمين لعوائلهم”، إذ “لا يمكن السماح بضياع قناة الاتصال هذه، طالما كان لها أهمية في إحلال السلام بين الطرفين”[8]. ومن ثم يتحدد موقف قطر من هذا الصراع في دورها الذي تلعبه منذ فترة طويلة؛ دور الوسيط وقناة الاتصال التي تُمكن من التفاوض أو الحوار بشكل أو بآخر.

2) الدائرة العربية الأوسع:

وتنقسم هذه الدائرة بين فئتين من الدول، الأولى هي المؤيدة صراحة لفلسطين والمعادية لإسرائيل، والثانية هي دول التصهين العربي حديثة التطبيع مع إسرائيل.

2/1) الدول المؤيدة صراحة لفلسطين:

تضم هذه الفئة مجموعة دول أبرزها تونس والجزائر والكويت والعراق وسلطنة عمان. أما تونس فقد جاء في خطاب للرئيس التونسي قيس سعيد يوم 3 نوفمبر أن الحرب الدائرة في فلسطين الآن هي حرب تحرير لا حرب تجريم، وقال أن من يتعامل مع العدو الصهيوني لا يمكن أن يكون إلا خائنًا، وأن خيانته هذه خيانة عظمى. كما قال: “أؤكد مرة أخرى أن ما يسمى بالتطبيع مصطلح لا وجود له عندي على الإطلاق، لأنه يعكس فكرًا مهزومًا، والفكر المهزوم لا يمكن أن يكون فكر المقاوم والفدائي في ساحات الوغى والقتال”[9].

وعن سلطنة عمان، فقد ذكرت صحيفة هآرتس العبرية يوم الاثنين 6 نوفمبر، أن سلطنة عُمان قررت عدم السماح للطائرات الإسرائيلية السفر في أجوائها. وقالت الصحيفة إن القرار سيؤثر بشكل كبير على أسعار تذاكر الطيران في إسرائيل، لأنه سيزيد الرحلات المتوجهة إلى الشرق الأقصى، وبخاصة تايلاند بنحو ساعتين ونصف[10]. وفي الكويت وافق مجلس الأمة في جلسته الخاصة يوم الأربعاء 1 نوفمبر، على 13 توصية لوقف الانتهاكات الصهيونية في غزة، ودعم القضية العادلة للشعب الفلسطيني، لعل أبرزها[11]:

  • ملاحقة قادة الكيان الصهيــوني كمجرمي حرب بالمحافل الدولية.

‏• تأسيس “مدينة الكويت الإنسانية” في غزة.

‏• قيام الحكومة بلم شمل المعلمات والمعلمين الفلسطينيين بالكويت مع أهاليهم.

‏• دعوة الحكومات والبرلمانات العربية والمسلمة لاتخاذ خطوات في كسر الحصار ورفض التطبيع.

‏• إغلاق الأجواء الكويتية وأراضيها أمام أي استخدام في أية عملية ضد الفلسطينيين.

‏• مطالبة الحكومة والقطاع الخاص وصناديق التنمية بإنشاء صندوق إعادة إعمار غزة.

‏• دعوة الحكومات وغرف التجارة ورجال الأعمال لتفعيل المقاطعة للكيان الصهيوني.

‏• ملاحقة أي حالات نشاز من التواصل مع الاحتلال تطبيقا لمرسوم إعلان الحرب مع العصابات الصهيونية.

‏• دعوة وزارة الصحة لترتيب استقبال المصابين خاصة من الأطفال والنساء في الكويت.

‏• رفض كافة أشكال التطبيع وعدم التوقيع على أي بيانات مشتركة مع أي دولة صديقة تتضمن أياً من صور التطبيع.

ولا ننسى أيضًا ذكر موقف دولة الصومال التي أعلن رئيس وزرائها حمزة عبدي بري في كلمة ألقاها يوم الخميس 2 نوفمبر في مناسبة أقيمت في المسرح الوطني الصومالي في مقديشو للذكرى السنوية للإمام عبد القادر الجيلاني، أن حماس ليست حركة إرهابية، بل هي حركة مقاومة لتحرير فلسطين. وتساءل عبدي بري: أين الدول العظمى التي كانت تتشدق بالحفاظ على حقوق الإنسان بشكل عام وحقوق النساء والأطفال بشكل خاص؟ وأجاب بأنه لم يسمع لها صوت[12].

2/2) دول التصهين العربي والتطبيع الحديث:

وتضم هذه الدول كلًا من الإمارات والبحرين والمغرب وتضاف إليها السعودية وخاصة بعد إعلان البيت الأبيض أن ولي العهد السعودي محمد بن سلمان اتفق مع الرئيس الأمريكي جو بايدن في مكالمة هاتفية على استكمال مفاوضات السلام في المنطقة (التطبيع السعودي-الإسرائيلي)، التي بدأت قبل شهور بين السعودية والولايات المتحدة وإسرائيل، وذلك بعد انتهاء الحرب في قطاع غزة[13]. ناهيك عن إقامتها لموسم الرياض الترفيهي في خضم ما يتعرض له سكان غزة من عملية إبادة بربرية على يد قوات الاحتلال الإسرائيلي.

أما الإمارات وفي خطوة لتبييض ماء الوجه أعلنت عن إقامة مستشفى ميداني متكامل داخل قطاع غزة لتقديم الدعم الطبي اللازم إلى الفلسطينيين في القطاع، وذلك ضمن عملية “الفارس الشهم 3” الإنسانية. وقد نقلت منصة إيكاد الاستقصائية على حسابها على موقع x عن هيئة الإذاعة الإسرائيلية “كان” أن هذه الخطوة تأتي بالتنسيق بشكل خاص مع وحدة عمليات حكومة الاحتلال والرائد راسان عليان. وأن المعدات المطلوبة ستدخل عبر معبر رفح، وسيكون الموقع المخصص للمستشفى في جنوب قطاع غزة[14]. وإن صح الخبر المتعلق بموقع المستشفى –وهو ما سنتأكد منه في الأيام المقبلة- فإننا نظن أنه يأتي خدمة لأهداف الاحتلال أيضًا وليس الفلسطينيين فقط، وخاصة المتعلقة بتهجير الفلسطينيين إلى جنوب غزة وتحقيق الفصل بين الشمال والجنوب وعزلهم عن بعضهم البعض.

وأخيرًا فقد أثارت البحرين لغطًا حول طردها للسفير الإسرائيلي من البلاد، فقد أعلن مجلس النواب البحريني يوم الخميس 2 نوفمبر وقف المملكة علاقاتها الاقتصادية مع إسرائيل ومغادرة السفير الإسرائيلي المنامة وعودة السفير البحريني من تل أبيب، وذلك تأكيدًا للموقف البحريني التاريخي الراسخ في دعم القضية الفلسطينية والحقوق المشروعة للشعب الفلسطيني الشقيق على حد تعبير البيان. ومن ناحية أخرى قالت الخارجية الإسرائيلية إنها لم تُبلغ من قبل حكومة البحرين أو الحكومة الإسرائيلية بأي قرار بسحب السفراء، وأضافت أن العلاقات بين البلدين مستقرة، على حد وصفها[15]. ومن ثم يمكن فهم الأمر على أنه اختلاف داخلي في البحرين بين القياة السياسية في البلاد ومجلس النواب بخصوص الموقف من الأحداث، غير أنه لم يسفر عن قرار حقيقي في الواقع.

ثانيًا: المواقف العربية الشعبية في الأسبوع الرابع:

لم يتغير الوضع في الشارع العربي عمَّا رصدناه في الأسبوع الثالث من حالة تراجع حدة ومستوى الفعاليات المتمثلة في الاحتجاجات والمظاهرات الشعبية الداعمة للمقاومة الفلسطينية. وانتقلت الفعاليات إلى مستوى آخر مثلته بعض المؤسسات غير الرسمية. فدعت نقابة الصحفيين في مصر على لسان نقيبها خالد البلشي كافة أحرار العالم للمشاركة في قافلة “دروع بشرية” لكسر الحصار على غزة وإدخال المساعدات. وذلك بأن يقوم المشاركون بالتحرك في أقرب وقت ممكن من كل أماكنهم، والتجمع برفح في قافلة (ضمير العالم)، لإرسال رسالة واحدة تطالب بوقف الحرب، وتسعى القافلة محمية بأجساد المشاركين لكسر الحصار القاتل الذى تفرضه دولة الاحتلال وآلة حربها الوحشية، التى تستهدف إبادة الفلسطينيين وتهجيرهم بمنع وصول مواد الإغاثة لهم في واحدة من أكبر جرائم الحرب في القرن الحالي[16].

وفي ليبيا أصدرت دار الإفتاء الليبية بيانًا قالت فيه: إن نصرة أهل غزة وفلسطين واجب شرعي على جميع المسلمين حكامًا ومحكومين بكل ما يملكون من الدعم بالمال والسلاح وبالمقاطعة الاقتصادية والدبلوماسية، وبالتظاهر في الميادين وبكل أسلحة العصر المؤثرة في العدو. وعلى أهل ليبيا، شعبها وحكامها ومسؤوليها الرسميين، ألا يسمحوا بتصدير أو توريد ما يدعم الصهاينة من السلع والطاقة للشركات والدول الغربية التي تمد العدو الإسرائيلي بالسلاح والعتاد. كما يجب ثالثًا على الشركات المسئولة عن الاستيراد في ليبيا مقاطعة ما يمكن الاستغناء عنه من سلع  الشركات الداعمة للعدو وعدم توريدها لأنه تعاون على الإثم والعدوان”[17].

وأخيرًا على مستوى المؤسسات فقد دعا الملتقى الوطني لدعم المقاومة في الأرن إلى إضراب جزئي يوم الثلاثاء 7 أكتوبر من الساعة 12-2 في جميع القطاعات والمحافظات. كما أعلن عن انطلاق فعاليات “طوفان الأردن: افتحوا المعابر” بعد صلاة العشاء في 25 نقطة تظاهر. وأخيرًا أعلن عن اعتصام شعبي أمام السفارة المصرية في عبدون بعد صلاة العشاء للمطالبة بالفتح الفوري لمعبر رفح[18].

ثالثًا: الموقف العربي من طوفان الأقصى: محاولة للتفسير:

بعد شهر من رصد المواقف العربية على مستوييها الرسمي والشعبي، لا يمكن القول بأي حال من الأحوال أن الموقف العربي جملة كان فاعلًا أو مؤثرًا في سير الأحداث ومجريات المعركة والعدوان الإسرائيلي على غزة. بل كان ضعيفًا بصورة فجة ومتخاذلًا بما لا يمكن إنكاره ولا التنصل منه. وعليه فإننا نسأل: لماذا جاء الموقف العربي –وخاصة الرسمي- ضعيفًا ومخزيًا من نصرة فلسطين أمام العدوان الإسرائيلي ولم يتجاوز حد الخطابات والدعوات والمناشدات؟ ولماذا بدا أن الدول العربية عاجزة عن اتخاذ قرارات وسياسات من شأنها الضغط على إسرائيل من ناحية ومساعدة أهل غزة من ناحية أخرى؟ بل ولماذا عجزت الدول العربية وفي مقدمتها مصر عن إدخال المساعدات إلى قطاع غزة إلا بعد أن سمحت بذلك إسرائيل وقامت بتفتيش المساعدات اليسيرة التي سمحت بها في معبر العوجة أولًا قبل دخولها لغزة عبر معبر رفح؟ ولماذا بدت مواقف بعض الدول العربية أقرب إلى دعم إسرائيل بشكل غير مباشر وتنكرت تمامًا لمأساة أهل فلسطين وأنكرت حقهم في المقاومة وتقرير المصير؟ وأخيرًا لماذا تراجعت حدة الفعاليات الشعبية والمظاهرات التي كان من شأنها الضغط على حكومات الدول لاتخاذ قرارات فعالة؟

وسعيًا للإجابة عن هذه التساؤلات، فإني أوظف مفهوم “عقلية الوهن” باعتباره يملك قدرة تحليلية كبيرة ومقدرة تفسيرية دقيقة وشاملة. فعقلية الوهن كمدخل تحليلي، ليست شعارًا يطلق، ولا مفهومًا يشير إلى أزمة بعينها وقد تحيزت في المكان وتجددت في الزمان، ولكنها رؤية متفحصة لواقع متراكم –تاريخيًا وإنسانيًا- رؤية لهذا الواقع في امتدادته المكانية والزمنية والإقليمية والعربية والدولية، في تشابك وتفاعل لا يهمل واحدًا منها، كما لا يغفل علاقات التفاعل بينها[19].

وكذلك أستعين بمنظور الإنهاك كمدخل لفهم واقع الدول والمجتمعات العربية في خضم هذه الأزمة، إذ يشير الإنهاك السياسي إلى تراجع قدرة سياسة معينة سواء لقيادة أو جماعة أو دولة ما على تحقيق أهدافها، نظرًا للتمسك بها لفترة طويلة دون مراجعة، برغم ما قد تفرضه من إجهاد واستنفاد للطاقة. ويرتبط هذا المعنى أيضًا بصعود وهبوط الدول، كإرهاق الاتحاد السوفيتي السابق جراء استنزافه في حرب أفغانستان وسباق التسلح مع الغرب، ما أدى إلى تفككه في عام 1991، وكذا إرهاق القارة الأفريقية إثر الاستنزاف الاستعماري للموارد والبشر[20].

1) عقلية الوهن كمدخل تفسيري لمواقف الدول العربية:

لا يعول مفهوم “عقلية الوهن” على مجرد تحليل العوامل النفسية التي تتعلق بشخص هنا أوهناك، أو بزعيم سياسي لدولة أو أخرى، بل يتعلق بالعقلية الجمعية للأمة العربية المرتبطة لزومًا وتلازمًا بالكيان الاجتماعي الحضاري العربي، والتي تحدد من خلال مستوياتها وتفاعلاتها، مدى الفاعلية من عدمها. والنظرة وفق مدخل عقلية الوهن لا ترى فصلًا بين خارج وداخل إلا لمقتضيات الدراسة، ولكنها تعي التفاعل بين الأمرين حتى تحسبهما واحدًا. تحاول رؤية أثر النظام الدولي الداعم لإسرائيل والضاغط على الدول العربية لتحييدها ومنعها من أي محاولات للتأثير، والذي ظهر في جولة بلينكن –وزير الخارجية الأمريكي- للدول العربية والإسلامية، لدفعها إلى إدانة حماس أولًا، والتأكد من عدم إقدامها على أي خطوات من شأنها دعم المقاومة في معركتها ضد إسرائيل ثانيًا والحيلولة دون تدخل أطراف أخرى في المعركة ثالثًا.

وكذلك لا يُغفل المدخل الداخل العربي، والمتمثل في نظرة بعض الأنظمة العربية لحركة حماس على أنها حركة إرهابية، ووصف بعض الأنظمة الأخرى لما فعلته المقاومة يوم 7 أكتوبر بالإرهاب والبربرية[21]. ويتمظهر الوهن أيضًا في الداخل العربي، في موجة التطبيع الحديثة التي تمثلت في اتفاقية إبراهام الداعية “للسلام!” مع الكيان الصهيوني المحتل، والرامية لإقامة علاقات اقتصادية وتجارية ومشاريع ضخمة، لعل أبرزها هو مشروع (ممر الهند –الشرق أوسط- أوروبا) والذي كان نتاجًا لمحادثات بين الولايات المتحدة والهند والسعودية والإمارات وإسرائيل بدأت في يناير 2023، وأعلن عنه في سبتمبر من العام نفسه.

ولعل أحد أهم الأهداف الاستراتيجية من هذا المشروع هو استكمال عملية التطبيع بين إسرائيل والدول العربية، فبعد توقيع اتفاقية إبراهام بين إسرائيل وكل من الإمارات والبحرين والمغرب والسودان، انصرف التركيز الأمريكي خلال عام 2023 إلى محاولة تطبيع العلاقات بين السعودية وإسرائيل. ويبدو أن هذه الخطوة قد آتت أكلها، إذ قال ولي العهد السعودي محمد بن سلمان في مقابلة مع شبكة “فوكس نيوز” الأمريكية، يوم 21 سبتمبر 2023، في السعودية: نقترب كل يوم أكثر فأكثر من تطبيع العلاقات مع إسرائيل. كما يعتبر هذا المشروع جزءًا من سلسلة مبادرات واتفاقيات أخرى في المنطقة العربية، هدفها الرئيسي هو دمج إسرائيل في المنطقة العربية والنظام الإقليمي العربي، ولعل أبرز هذه المبادرات هي مجموعة I2U2 التي ضمت إلى جانب الولايات المتحدة، الهند وإسرائيل والإمارات[22].

إن الوهن في الداخل العربي كان قد أفضى إلى تهميش القضية الفلسطينية تمامًا، مقابل عملية “سلام!” مع إسرائيل تجني على الدول الداخلة فيها من خلال المشاريع الاقتصادية الموعودة، مزيدًا من عوامل الترف والتدفقات المالية المسببة لمزيد من الركون والوهن -إن تحققت أصلًا- وبهذا يرتبط الوهن مباشرة بما أسماه د.حامد ربيع بالتسمم السياسي والفكري، وهو في تعريفه أحد أبعاد الحرب النفسية الصهيونية على العالم العربي، ويقصد به عملية غرس مفاهيم معينة لا بد أن تقود الخصم أو الصديق إلى الاقتناع بأفكار هي في حقيقتها لا تعبر عن الحقيقة، ولكن من مصلحة من يقوم بعملية التسميم أن يقنع خصمه بها فإذا بذلك الاقتناع يقوده إلى موقف معين من الضعف يؤدي إلى الهلاك[23].

إن أحد أبرز تجليات عمليات التسميم السياسي التي حققها العدو الصهيوني ومعه المجتمع الدولي، هو إفساد وتسميم مفهوم السلام في العقل العربي، وفي ذلك يرصد الدكتور جلال أمين ما حل بمفهوم السلام طوال فترة الصراع العربي الإسرائيلي من تحولات وتبدلات. فبعد أن كان مفهوم السلام مع إسرائيل يشير إلى حالة التخاذل والضعف والاستسلام، بدأت عملية التسميم بإقران مفهوم السلام بالبطولة (كما وصف السادات ببطل الحرب والسلام) أو إقرانه بكلمة الصراع حتى يُنفى عنه معنى الاستسلام (كالقول بأننا انتقلنا من صراع الحرب إلى صراع السلام، للإيحاء بأن من يقبل الشروط الإسرائيلية هو مصارع وليس مستسلمًا)، ثم ربطه بمفهوم التحدي (كما في القول إن علينا قبول تحديات السلام) للإيحاء بأن من يقبل التعاون مع إسرائيل إنما هو رجل يواجه التحديات المشروعة بشجاعة وليس مستضعفًا[24].

وأخيرًا انتهى الأمر عقب اتفاق غزة- أريحا عام 1993 إلى استخدام كلمة السلام بمعنى دولة إسرائيل نفسها وذلك في خضم ما سُمي آنذاك بالسوق الشرق أوسطية والتي كانت تتضمن التعاون الاقتصادي مع إسرائيل. إذ أضحى التساؤل حينها: أنت مع السلام أم لا؟ أي هل أنت مع إسرائيل أم لا! والحق أننا لو نظرنا للواقع المعاصر لوجدنا نفس الأمر فيما يتعلق بموجة التطبيع الحديثة ومشاريعها الاقتصادية سالفة الذكر. هذه إذًا عقلية الوهن وعملية التسميم المتعلقة بالحالة العربية الراهنة، والتي ينقصها حتى يكتمل مثلث الأسباب المفسرة للموقف العربي من طوفان الأقصى، حالة الانهاك والهشاشة.

2) فهم الموقف العربي من منظور الإنهاك: الدول والمجتمعات

ينشأ الإنهاك في مجالات المجتمع والسياسة والاقتصاد نتاجًا لتحولات ضاغطة ومتسارعة وسياسات فاقدة للفاعلية دون مراجعة، وهو بذلك يكتسب خصوصية وفقًا لطبيعة السياقات وتطوراتها. فالمجتمعات المنهكة في الدول النامية بسبب انتشار التسلط والفقر والصراع والديون والتفاوت والتهميش وغيرها تختلف بالتأكيد عن تلك التي تعرضت للإرهاق بفعل الإفراط بالحداثة والفردانية والوفرة المالية –كالدول البترولية- والعجز الديمقراطي. دون أن يمنع ذلك التشارك الدولي في مصادر إنهاك ذات طابع متعولم، بفعل ثورة المعلومات والتكنولوجيا ونمط الجوائح العابرة للحدود، وتغلغل الرأسمالية العالمية في الاقتصادات النامية[25].

إن مسببات الإنهاك متداخلة ومركبة، منها الداخلي المرتبط بالفرعونية السياسية والتبعية والاستقلال الزائف والتفتيت والتجزئة، ومصانع الشرعية المحتكرة وتشكيل الرضا الكاذب[26]، ومنها المرتبط بالعلاقة بين الدول العربية ومجتمعاتها والتي عاشت دومًا وضعًا قائما على تضخم الدولة أمام المجتمع، أدى لتراجع فاعليته وقدراته، وهو ما ظهر جليًا في تفاعل المجتمعات العربية مع معركة طوفان الأقصى، إذ شهدت زخمًا كبيرًا في الشارع العربي سرعان ما تراجع وانحسر.

ويمتد الإنهاك كذلك إلى المستوى الإقليمي؛ حيث مهد الإنهاك العربي لانزواء المشروعات الجماعية العربية وصعود نظيرتها الشرق أوسطية إثر المكاسب التي تحققت لقوى إقليمية بفعل الإنهاك العربي. فإسرائيل تحولت إلى الرابح الأكبر في توازنات القوى في العقد الأخير، فلم تستنفد طاقاتها في أزمات منهكة مقارنة بالدول المحيطة بها، بل على العكس وظفت حالة الإنهاك تلك لتوسيع التطبيع مع دول جديدة (الإمارات والبحرين والمغرب والسودان) دون مقابل ملموس يتعلق بالحقوق الفلسطينية والعربية. أضف إلى ذلك محاولتها بناء تحالف إقليمي مضاد لمواجهة القوة الإيرانية المتوغلة في الإقليم[27].

ومن ثم وإذا تقرر هذا، اتضح لنا لماذا لم تُجدِ مناشدات الدول العربية للمجتمع الدولي والمنظمات الدولية. إذ أن المجتمع الدولي ضالع بنفسه فيما يعيشه العالم العربي من أزمات وصراعات. فالمجتمع الدولي يدعم ويساند إسرائيل، وإسرائيل بدورها تزيد من عدوانها على الشعب الفلسطيني، والشعب الفلسطيني يناشد الدول العربية للتدخل ومساندته ودعمه. غير أن الدولة العربية وبفعل ثلاثية الوهن والتسمم والإنهاك قد فقدت قدرتها على التأثير والفعل لوضع حل نهائي ينهي مظالم الشعب الفلسطيني، بل أصبحت القضية بالنسبة لبعض الدول العربية مزعجًا ومعطلًا عن مشاريعها الاقتصادية الكبرى، وسلامها المزعوم مع إسرائيل، ومن ثم كان تنكرها لمعاناة الشعب الفلسطيني على أمل أن تنهي إسرائيل وجود المقاومة الفلسطينية وتسوية هذه القضية تمامًا تحت أنقاض الحطام والتراب في غزة.

خاتمة: هل ثمة بارقة أمل؟

بكل تأكيد لم تكن هذه الأحداث مأساوية على كافة المستويات ولم تكن الصورة قاتمة على طوال الخط، بل إن هذه الأحداث كشفت عن بارقة أمل وتغير محمود، لعل أبرز دلالاته[28]:

1) كان لهذه المعركة الفضل في إعادة إحياء جزئية للفكرة العربية الجامعة على مستوى الشعور شبه الجمعي داخل البلدان العربية وخاصة الأجيال الشابة والمراهقين، سواء الدول التى لديها علاقات مع إسرائيل أو الدول التى لا تزال ترفض ذلك كالجزائر وتونس وليبيا، خاصة بعد أن تراجعت الفكرة القومية العربية التى كانت تُطرح في المرحلة الكولونيالية وما بعدها في ظل حركات التحرر الوطنى العربية، تحت تأثير بعض المفكرين العرب، والحركة الناصرية، وحزب البعث العربي الاشتراكي في سوريا والعراق وبعض ممثلي هذين التيارين في لبنان، وبعض الدول العربية الأخرى.

2) أدت عملية طوفان الأقصى إلى كسر حالة “الأنا مالية”* شبه الجماعية لدى شرائح اجتماعية شعبية مختلفة، خاصة بين الأجيال الشابة، والأصغر سنًا الذين لم يعايشوا الصراع العربي– الإسرائيلي، والحروب التي نشبت بين الدول العربية وإسرائيل في الأعوام 1948، 1956، 1967، 1973، ومن ثم لم تحمل ذاكرتهم شبه الجماعية آثار هذه الحروب.

3) تشكل التركيبة الجيلية الجديدة إفاقة للعناصر الشابة وصغيرة السن، ومعها مظاهرات وهتافات الأطفال في بعض المدارس الابتدائية في بعض الأحياء الشعبية، وارتفاع صوت الخطاب الشعاري المعادي لإسرائيل، على نحو يؤشر إلى أن خطاب التسوية السلمية والسلام والتطبيع مع إسرائيل لم يستطع أن يؤثر على الأجيال الشابة، ويرجع ذلك إلى السلوك السياسي والعسكري الإسرائيلي المتغطرس، وانتهاكاته للقيم الإنسانية والشرعية الدولية والقانون الدولي الإنساني.

 

هوامش

*  وضعت السعودية في التقرير الأول في الدول الأكثر تفاعلًا، غير أن موقفها فيما بعد يضعها في صف الدول المطبعة حديثًا.

[1]  سمير حسني، رئيس الوزراء يبعث برسائل حاسمة من أمام معبر رفح.. مصطفى مدبولى: مصر ضد استهداف المدنيين وسياسة العقاب الجماعى، اليوم السابع، 31 أكتوبر 2023، تاريخ الاطلاع: 1 نوفمبر 2023، متاح على الرابط: https://cutt.us/gyDmU.

[2]  الأردن يستدعي سفيره لدى إسرائيل ويوجه بعدم عودة سفيرها إلى عمان، الشرق الأوسط، 1 نوفمبر 2023، تاريخ الاطلاع: 2 نوفمبر 2023، متاح على الرابط: https://cutt.us/Vkyec.

[3]  إسرائيل: نأسف للتصريحات “التحريضية” للقيادة الأردنية، الجزيرة، 7 نوفمبر 2023، تاريخ الاطلاع: 7 نوفمبر 2023، متاح على الرابط:  https://cutt.us/rVhVJ.

[4] القوات الأردنية تنفذ إنزالا جويا في قطاع غزة.. ما القصة؟، الجزيرة، 6 نوفمبر 2023، تاريخ الاطلاع: 7 نوفمبر 2023، متاح على الرابط: https://cutt.us/qJM8S.

[5]  عبدالله الجبور، الأردن وحرب إسرائيل على غزة: تحولات في الخطاب السياسي، مركز مالكوم- كير كارنيغي للشرق الأوسط، 7نوفمبر 2023، متاح على الرابط: https://carnegieendowment.org/sada/90937.

[6]  المصدر نفسه.

[7]  خطاب حسن نصر الله متاح على يوتيوب على الرابط التالي: https://www.youtube.com/watch?v=xZ7-ENEYcsI.

[8]  قطر: لا يمكن إغلاق مكتب “حماس” في الدوحة لأهميته في إنهاء النزاع، RT عربي، 29 أكتوبر 2023، تاريخ الاطلاع: 1 نوفمبر 2023، متاح على الرابط: https://cutt.us/B8ZbQ.

[9]  انظر خطاب الرئيس التونسي قيس سعيد على هذا الرابط على يوتيوب: https://www.youtube.com/watch?v=aANelNrCfyk.

[10]  صحيفة عبرية: سلطنة عمان تمنع الطائرات الإسرائيلية السفر في أجوائها، TRT عربي، 30 أكتوبر 2023، تاريخ الاطلاع: 1 نوفمبر 2023، متاح على الرابط: https://cutt.us/TrBuU.

[11]  مجلس الأمة يوافق على 13 توصية لدعم كفاح وصمود الشعب الفلسطيني ضد الانتهاكات الصهيونية في قطاع غزة، موقع مجلس الأمة الكويتي، 1 نوفمبر 2023، تاريخ الاطلاع: 2 نوفمبر 2023، متاح على الرابط: https://www.kna.kw/News/NewsDetail/5/22/1033.

[12] رئيس الوزراء الصومالي: حماس ليست إرهابية بل حركة تناضل من أجل تحرير بلادها، الصومال الجديد، 2 نوفمبر 2023، تاريخ الاطلاع: 4 نوفمبر 2023، متاح على الرابط: https://cutt.us/LX4UF.

[13]  عبدالرحمن عادل، نسمع جعجعة ولا نرى طحينًا: هل من جديد في المواقف العربية من طوفان الأقصى؟، مركز الحضارة للبحوث والدراسات، 1 نوفمبر 2023، متاح على الرابط: https://cutt.us/CCq1T.

[14]  يمكن الإطلاع على الخبر على حساب منصة إيكاد على موقع X عبر الرابط: https://cutt.us/jG3Qh.

[15] البحرين تسحب سفيرها لدى إسرائيل وتقطع العلاقات الاقتصادية، الجزيرة، 2 نوفمبر 2023، تاريخ الاطلاع: 5 نوفمبر 2023، متاح على الرابط: https://cutt.us/tvEjg.

[16] مصر.. نقابة الصحفيين تدعو لقافلة “ضمير العالم” إلى رفح لكسر الحصار عن غزة، الجزيرة مباشر، 7 نوفمبر 2023، تاريخ الاطلاع: 7نوفمبر 2023، متاح على الرابط: https://cutt.us/UXJ1l.

[17]  يمكن الإطلاع على الكلمة على يوتيوب من خلال الرابط: https://www.youtube.com/watch?v=-pSAHfWXMqI.

[18]  “دعم المقاومة” يعلن اليوم الثلاثاء يوم غضبٍ أردني ويدعو لعدد من الفعاليات، موقع جماعة الاخوان المسلمين- الأرن، 7 نوفمبر 2023، تاريخ الاطلاع: 7 نوفمبر 2023، متاح على الرابط: https://ikhwanjo.net/?p=34842.

[19]  سيف الدين عبدالفتاح، عقلية الوهن: رؤية نقدية للواقع العربي في ضوء النظام العالمي الجديد، (القاهرة: دار القارئ العربي، 1991)، ص10.

[20]  خالد حنفي علي، Fatigued Region: كيف يمكن فهم الحالة العربية من منظور “الإنهاك”، مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية، أغسطس 2022، متاح على الرابط: https://acpss.ahram.org.eg/News/17586.aspx#_ednref11.

[21] وزير الدولة للتعاون الدولي الإماراتية: هجمات حماس شنيعة وعلى اسرائيل احترام التزاماتها، RT عربي، 25 أكتوبر 2023، تاريخ الاطلاع: 3 نومفبر 2023، متاح على الرابط: https://cutt.us/Grz2v.

[22]  عبدالرحمن عادل، حرب المشاريع العالمية: “B3W” ضد “الحزام والطريق”، نون بوست، 22 سبتمبر 2023، تاريخ الاطلاع: 1 نوفمبر 2023، متاح على الرابط: https://www.noonpost.com/169374/.

[23]  حامد ربيع، الحرب النفسية في المنطقة العربية، (القاهرة: المؤسسة العربية للدراسات والنشر، 1974)، ص249.

[24]  جلال أمين، المثقفون العرب وإسرائيل، (القاهرة: دار الشروق، الطبعة الثانية، 2005)، ص179.

[25] خالد حنفي علي، Fatigued Region: كيف يمكن فهم الحالة العربية من منظور ” الإنهاك”، مصدر سابق.

[26]  سيف الدين عبدالفتاح، عقلية الوهن: رؤية نقدية للواقع العربي في ضوء النظام العالمي الجديد، مصدر سابق، ص13.

[27] المصدر نفسه.

[28]  نبيل عبدالفتاح، طوفان الأقصى، والسيوف الحديدية: المآلات المحتملة في ظل حالة اللايقين، مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية، نوفمبر 2023، متاح على الرابط: https://acpss.ahram.org.eg/News/21045.aspx.

تشير كلمة “أنا مالي” في العامية المصرية إلى لامبالاة الشخص بأمر معين أو عدم اكتراثه بأحداث معينة وانصرافه عن الاهتمام بها.*

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى