طوفان الأقصى: مشاهد من مرحلة الهدنة الإنسانية

(20 نوفمبر – 1 ديسمبر 2023)

في الأسبوعين السابع والثامن من طوفان الأقصى تحوَّلت الأنظار إلى عملية البحث عن هدنة إنسانية ثم عملية تنفيذها ومتابعة تفاعلاتها؛ وهما عمليَّتان شاهدتان على محصِّلة الأسابيع السابقة من العدوان والمأساة الإنسانية ومن المقاومة والصمود، كما يؤسِّس هذان الأسبوعان لمرحلة ما يُعرف بـ”ما بعد الهدنة“. ورغم غلبة البعد العسكري بالطبع، فإن البُعد الإنساني والسياسي لم يغِب طيلة أسابيع العملية المسلَّحة الستَّة، لكن الأسبوعين الأخيرين كشفا عن دلالات أخرى لـ”الإنساني” اختلطت مع دلالات “السياسي” أو ما يُسَمَّى بـ”مشروع عملية سياسية لما بعد الحرب“. ومع هذا فلم تنتهِ طوال أسبوع الهدنة (24-30 نوفمبر) أشباح تجدُّد العدوان الإسرائيلي على غزة. وهذه مرحلة جديرة بتسجيل أبعادها حتى لا تسقط من تسلسل التحليل والمتابعة.

فما أبعاد مشاهد هذه المرحلة؟ وماذا ستكون مآلات الهدنة المتجدِّدة: هل مزيد من التمديد، أم وقف إطلاق نار، أم تجديد العدوان الإسرائيلي؟

(1) مشهدان متقابلان لتسليم الأسرى على الجانبين الإسرائيلي والفلسطيني:

مشهد الإفراج عن الأسرى الإسرائيليين واستلامهم

مشهد تحرير الأسرى الفلسطينيين واستقبالهم

المشهد الأول: صورة تسليم وتسلم أسرى العدو

من واقع مسار إجراءاته خطوة خطوة، يحمل هذا المشهد كلَّ دلالات غطرسة القوة العسكرية المتجبِّرة، ولكن أيضًا المهزومة والخائفة… تدَّعِي إسرائيلُ الحرصَ على أسْراها، وتحمي انتقالهم؛ وهي التي سبق أن وظَّفتهم يوم 7 أكتوبر لتشويه صورة حماس أمام العالم بدعوى اختطافها مسنِّين ونساء وأطفالا لكي تعذبهم، ثم وظَّفتهم ثانيًا حين اتَّخذت تحريرَهم ذريعة وغطاءً لجريمة تدمير غزة وإبادة أهلها، ثم ثالثًا اختطفتْهم بعيدا عن وسائل الإعلام، بذريعة فحصهم الطبي؛ وذلك لمنع خروج شهادة حق قد ينطق بها بعضهم لصالح ظروف احتجازهم؛ وهي الشهادة التي نطقتْ بها حركات أيد ونظرات أعين كثير من الأسرى والأسيرات لحظة تسليمهن للصليب الأحمر.

وفي مقابل هذا المسلك الإسرائيلي فإن أسلوب تسليم المقاومة للأسرى اتَّسم بالنظام والثقة والجدية وأيضًا بالرحمة والإحسان والرعاية، وقد تنوَّع أسلوب التسليم من يوم لآخر ليصلَ خلال تسليم الدفعات الثلاث الأخيرة إلى تسليمهم في وسط مدينة غزة وبين جمع من أهلها. وهو الأمر الذي يكشف عن كذب ادعاءات إسرائيل بإحكام قبضتها على مدينة غزة، ناهيك عن أن المناورة الحمساوية بتغيير أماكن التسليم من يوم إلى آخر قد أعاق بالطبع من اكتشاف إسرائيل لأماكن الاحتجاز أو أماكن مداخل الأنفاق، على نحو يؤشِّر إلى مهارة القسَّام في إدارة مرحلة الهدنة كما في إدارة مرحلة الحرب، تلك الإدارة التي تعدَّدت أدوات قوَّتها المعنوية وأدوات حربها الإعلامية والنفسية. وكانت إسرائيل قد فشلت في الجولات اليومية السبع لاستلام الأسرى حتى الآن، في اكتشاف مواقع احتجازهم، كما أعلنت مصادر مختلفة، فهل سيقود استجوابها لهم إلى ذلك؟

المشهد الثاني: مشهد تحرير واستقبال أسرانا

يحمل هذا المشهد كلَّ دلالات عزة وكرامة القوة العسكرية المؤمنة الثابتة والمنتصرة بفضل الله، حين يحتضن الشعب أسراه وأهله في الضفة وهم يحتضنونهم ويشكرون مقاومتهم علنًا وعلى الملأ؛ مؤكِّدين لُحْمَةَ التضامن من على أرض الضفة مع المقاومة العسكرية من غزة؛ فالمقاومة منهم وهي قامت لأجلهم ولأجل القضية الأصل.

وفي المقابل لم تمنع فرحة التحرير (الذي جاء بالقوة) من فضح ممارسات الصهاينة ضدَّ الأسرى في السجون أمام العالم، ولم يَخْشَ المحرِّرون بطشًا جديدًا من المحتل، ولم يخافوا من تهديداته، فأفاضوا في كشف ممارسات العدو ضدَّهم وضدَّ إخوانهم من الأسرى الذين لم يتحرَّروا بعد.

كل ذلك –للأسف- في غياب السلطة الفلسطينية عن هذا المشهد الحي، وعلى نحو يُسْقِطُ عددًا من الأقنعة لم يَعُدْ من الممكن الاحتفاظ بها بعد طوفان الأقصى والاعتداءات الصهيونية المتكرِّرة على مدن ومخيَّمات الضفة ذاتها، تحت سمع وبصر ومراقبة أجهزة أمن السلطة الفلسطينية. فلم يخرج مسؤول من السلطة ليكون في استقبالٍ حيٍّ للأسرى المحرَّرين، واكتفوا بالتعليق الإعلامي. وبدلاً من التضامن ولو القولي الحار مع المقاومة وأهل غزة، ترددت تصريحات لرئيس السلطة الفلسطينية بأن سلوك حماس غير مقبول، وأنها لا تمثِّل الفلسطينيِّين. وبدلاً أيضًا من أن تحمي السلطة أهل المخيَّمات في الضفة من الاعتداءات المتنامية لسلطة الاحتلال وللمستوطنين الذين صرَّح نتنياهو وغيره بتسليحهم، نجد أن رئيس السلطة -أمام تصاعد إعلان نتيناهو في 30 نوفمبر بأنه سيعود إلى الحرب- يستغيث بأمريكا لتمنع طرد الفلسطينيِّين من الضفة!!

تكرَّرت دلالات هذين المشهدين، ولو بتفاصيل مختلفة، من يوم إلى آخر من أيام الهدنة. ولكن في نفس الوقت كانت ترتسم دلالات مشهدين آخرين مهمَّيْن وإن كانا متقابليْن:

  • مشهد أهل غزة وهم يحاولون التغلُّب على بعض آثار العدوان الوحشي المادية والمعنوية، ومنهم من يعود إلى الشمال، ومن أهلهم من يقف على معبر رفح يريد الدخول إلى القطاع.
  • ويقابله مشهد السياق الإقليمي والعالمي السياسي الرسمي، وهو يحاول الالتفاف على نصر المقاومة وعلى الفشل الإسرائيلي بأوراق تمديد الهدنة أو الوصول إلى وقف إطلاق نار كامل (هل يكون مقابل بداية حل سياسي يُعيد القضية مرة أخرى إلى سبيل الحلقات المفرغة بلا نهاية؟؟ أم ماذا؟).

إن عودة العدوان الصهيوني -وبمخطط يستهدف جنوب قطاع غزة كما استهدف شمال القطاع- يبين كيف أن التهجير القسري ما زال هدفًا إسرائيليًّا حيًّا، ينبغي عدم الغفلة عنه.

(2) مشهد أهل غزة الصامدة:

بين آمال تمديد الهدنة وواقع شُّحِّ الإغاثة

بعد أن ظلَّت مشاهد غزة العزة الصامدة طوال أيام العدوان الخمسين المتوالية محط أنظار العالم، قفزت مشاهد غزة المأساة الصامدة؛ من زوايا إنسانية أخرى شديدة الدلالة على النزيف الكبير والقدرة على تحمُّله، إنها المشاهد التي تجلَّت خلال أسبوع الهدنة الإنسانية.

  • صورة التوق للعودة إلى “الدار” لتفقُّد ما بقي بين الركام، ولانتشال الشهداء من تحت الأنقاض، ولتبيان موضع الدار المتهاوية بين دور أخرى للأهل والجيران… إنه توق التمسُّك بالحياة وبالبقاء… بل هو صدى توق العودة؛ للأسف ليس لحضن فلسطين التاريخية؛ ولكن إلى “شمال قطاع غزة” من حيث نزحوا أو دُفعوا قَسْرًا تحت نيران الصهاينة الجوية والبرية. تحرَّك الغزَّاويُّون من صباح أول يوم في الهدنة، لم يمنعهم من تحقيق هذه اللهفة، والاندفاع وراءها، تلك الحواجزُ الإسرائيلية أو رصاص القناصة الغادر، أو تهديدات نتيناهو وفريقه بالعودة للعدوان.
  • صورة التوق واللهفة من أجل تأمين موارد الحياة؛ من ماء وغذاء وكهرباء ووقود ودواء؛ وهي لهفة يفرضها ما تكشَّف من حجم الدمار في بنية غزة التحتية، ولكن تنال من آمالها ضآلة المساعدات وشحها وعدم الشعور بحقيقة مأساتهم. فرغم كل التأكيدات المعلنة أن وقف النار سيمكن من ضخ مساعدات أكثر، إلا أن القيود الإسرائيلية ظلت سارية المفعول تحول دون تدفق المطلوب وخاصة من الوقود والموارد الطبية، واستسلم لها المستسلمون.

ورغم تنافس القوى الإقليمية على تصدر الإعلان عن تدفق مساعداتهم، إلا أن مسئولي غزة ظلوا يؤكدون على محدودية هذه المساعدات مقارنة بالمطلوب؛ وهو الأمر الذي أعاد تأكيده الأمين العام للأمم المتحدة في جلسة مجلس الأمن 29/11 ورئيس منظمة الصحة العالمية وغيرهما من المؤسسات الدولية والفلسطينية. ولقد صرح البعض (30/11) أنه لكي نتجنب المجاعة في غزة فإنها تحتاج إلى 1000 شاحنة ومليون لتر وقود يوميًا، وإلى استمرار الهدنة على الأقل ستة أيام أخرى لضمان التوزيع الآمن للمساعدات؛ كل ذلك ومفاوضات التمديد -يومًا بيوم- تزداد صعوبة، حتى فشلت في تمديد اليوم الثامن، وعاد العدوان الإسرائيلي في صباح الجمعة 1/12.

ومن ناحية أخرى لم تقتصر مطالب مسؤولي غزة على الإغاثة الإعاشية فقط، ولكن امتدَّت إلى المطالبة بإصلاح البنية التحتية، وتدفُّق المواد الطبية، وتوفير المعدَّات اللازمة لإزالة الأنقاض لانتشال ما يقرب من 7000 مفقود… ولكن قد أسمعت لو ناديت حيًّا!!

  • صورة التوق لتمديد الهدنة ووقف الحرب: إنها لهفة حب البقاء بكرامة وعزة وصمود… لا للتهجير خارج غزة… نعم للعودة للديار المهدَّمة، لا للاستسلام… ونعم للصمود من جديد إذا تجدَّد العدوان… ولكن إلى متى؟ وكيف؟ سؤالان مصحوبان بغُصَّة في حلق أهل غزة وفي حلوقنا، خاصة من الخذلان العربي الذي اقتصر على الكلمة غير المؤثِّرة وعلى لقمة إغاثة لا تُسْمِنُ ولا تُغْنِي.
  • وأخيرًا لهفة على مستقبل العلاقة بين غزة والضفة، وبين المقاومة والسلطة الفلسطينية، وعلى مستقبل أسرى السجون الإسرائيلية من فلسطينيِّي الضفة، والأهم اللهفة على مستقبل القضية برمَّتها؛ حيث يريد الأعداء وشركاؤهم -أو يعتقدون- أنه بإمكانهم وضع نصر حماس وصمود أهل غزة بين المطرقة والسندان؛ وذلك بالإعلان عن تزايُد صعوبات الإغاثة المطلوبة، وصعوبات المفاوضات حول تمديد الهدنة (انظر المشهد الثالث). ولم يَفُتُّ ذلك من عضد صمود أهل غزة، فإنهم يثقون بقيادتهم العسكرية والسياسية، ويتمسكون بالبقاء ولو على الركام، ويرفضون التهجير تحت أي ظرف، اللهم ثبِّتهم.
  • ضم إلى ذلك صورة احتضان المقاومة، وهي تقوم بتسليم الأسرى في الأيام الأخيرة من الهدنة؛ حيث بدأت المقاومة من اليوم الرابع تسليم الأسرى في مناطق مختلفة في قطاع غزة وسط حضور جماهيري؛ متحديةً بذلك دعاوى إسرائيل السيطرة على مدينة غزة، ومظهرة قدْر الاحتضان الشعبي لها.

بالنظر إلى ملامح هذا المشهد عن أهل غزة خلال الهدنة، تتأكَّد حقيقة مهمَّة؛ وهي أن غزة ليست مقرًّا لقوات حماس والفصائل الأخرى، ولكنها حاضنة للمقاومة العسكرية، إنها تمدُّ القسَّام والفصائل بالسند والعون المادي والمعنوي؛ لأن الحاضنة وقوَّتها العسكرية يُجمعان على نفس الهدف والغاية، ويتمسَّكان بنفس الإيمان والصدق والإخلاص للقضية. وفي المقابل فإن المقاومة العسكرية تمدُّ الحاضنةَ بالأمل، نعم قد تعجز أحيانًا عن حمايتهم من القصف الصهيوني الوحشي، ولكن تظلُّ المقاومة تمثِّل لأهل غزة –بل لفلسطين كلها- الأمل في فرج قريب، ونصر من الله وعد به المجاهدين في سبيله وفي سبيل الأقصى.

نعم، هذه هي حقيقة غزة الحاضنة للمقاومة، التي عاشت منذ نصر 7 أكتوبر مأساة إنسانية لم يعرفها العالم منذ عقود؛ وهي صامدة أمام العدوان الصهيوني، وهي تتكاتف مع قوة المقاومة بدورها ومواجهتها للعدو وتكبيدها له خسائر غير مسبوقة (7 أكتوبر)، انتقامًا لغزة والضفة والأقصى. هذه الحقيقة عن التحاضن بين أهل غزة ومقاومتها لا تستطيع أن تفهمها إسرائيلُ ولا شركاؤها في الحرب، ولكن يفهمها أحرار العالم الذين انتفضوا للإنسانية المهدرة المكلومة المستباحة في غزة من جانب الصهاينة الإسرائيليِّين والغربيِّين.

نعم لا يفهمها -ولن يفهمها ولن يدركها- بلينكن أو غيره من المسؤولين الغربيِّين، وهم يتكلَّمون -اضطرارًا وبدم بارد- عن حماية المدنيِّين في غزة، وهم الذين يمدُّون إسرائيلَ بالسلاح الذي تقتل به المدنيِّين، وتدمِّر به البنية التحتية لكلِّ الخدمات الإنسانية.

إنهم يعتقدون أن المدنيين منفصلون عن مقاومتهم، إنهم يريدون التجمُّل بالتمييز بين حماس (التي يستهدفون تدميرها بالحرب)، وبين المدنيِّين (الذين يقعون ضحايا)؛ ويدعون أن ذلك بسبب حماس (الإرهابية!!) التي تحتمي ببيوت المدنيِّين ومستشفياتهم ومدارسهم ومؤسَّساتهم.

وفي حين تستمرُّ المظاهرات أمام البيت الأبيض في واشنطن تدعو لوقف النار والقتل، نجد أن بلينكن في مؤتمر صحفي في تل أبيب مساء 30 نوفمبر بعد أن هُرع إلى نتنياهو يشدُّ من أزره، وكذلك تصريحات ممثِّل البيت الأبيض في نفس الوقت، تجدِّد التعهُّد بمساندة الولايات المتحدة لإسرائيل في حربها مساندة لا خلاف فيها.

إن مضمون التصريحات الأمريكية المتزامنة عن تعثُّر مفاوضات التمديد، هي علامة عار للدبلوماسية الأمريكية لم يسْبقها مثيل؛ فهي توافق على حرب لتدمير حماس ولكن –صوريًّا وخطابيًّا- شريطة ضمان أمن المدنيِّين، وهي تعتزم مساعدة إسرائيل فيما يتعلَّق بحرب المدن بدعوى تقليل الخسائر في المدنيِّين… أمريكا شريكة في الحرب ولكن تريد أن تحلِّي ذلك “بإنسانية”؟! إنها –للمفارقة- تقتل وتطالب بإغاثة المقتولين!

وأخيرًا، لماذا -والهدنة ما زالت قائمة- لم تستجب الدول العربية والإسلامية بسرعةٍ للطلبات المتكرِّرة من مسؤولي حكومة غزة بشأن الوقود والمستشفيات الميدانية؟ ستظلُّ هذه المواقفُ المتخاذلةُ حاضرةً في أذهان أهل غزة وهم يتلهَّفون على الإغاثة من الجوار والأهل دون جدوى، في حين يَلْقَى المعتدي كلَّ الدعم المادي والمعنوي من شركائه.

فهل تصل لأهل غزة أصوات أحرار العالم الذين يطالبون -عن بُعد- بوقف إطلاق النار وتقديم الإغاثة اللازمة؟ ربما لا، ولكن من المؤكد أن أصوات وصور أهل غزة الصامدين في كل مناحيها تصل إلى أحرار العالم، وستظلُّ تصل، وسيزداد وصولها، مع تجدُّد العدوان في صباح الجمعة 1 ديسمبر.

فصبرًا أهل غزة… وعذرًا أهل غزة.. وإن القلب ليسأل قبل العقل: هل ستصمدون أمام المخطَّط الصهيوني الدؤوب لتهجيركم قَسْرًا؟ ذلك المخطَّط الذي أفْصح من جديد عن وجهه مع توجُّهات المرحلة الثانية من العدوان نحو جنوب قطاع غزة وليس شماله فحسْب؟

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى