طوفان الأقصى في الخطاب الإعلامي الإسرائيلي

مقدمة:

يعد الصراع العربي الإسرائيلي من أعنف وأطول الصراعات الدولية الممتدة، والذي شهد في الأيام القليلة الماضية أحداثًا متصاعدة، بدأت بانطلاق عملية “طوفان الأقصى”. ففي غضون ساعات قليلة من إعلان حركة المقاومة الإسلامية حماس عن أكبر هجوم لها ضد إسرائيل في السنوات الأخيرة، أعلن رئيس الوزراء الإسرائيلي “بنيامين نتنياهو” أن بلاده في حالة حرب؛ حيث قال الناطق باسم جيش الاحتلال الإسرائيلي في مقطع فيديو: ” إن هذا أسوأ يوم في تاريخ إسرائيل”، وأضاف إنها سابقة بأن يُقتل هذا العدد من الإسرائيليين بـ”عمل عدائي” كهذا في يوم واحد، وقارن المتحدث باسم الجيش بين ما قامت به حركة حماس وهجوم 11 سبتمبر الذي ضرب الولايات المتحدة[1].

تلك التحولات المتسارعة لم تقتصر على الأرض والواقع المادي الذى ما زالت تتنوع فيه طرق المقاومة الفلسطينية؛ توازيًا مع مسار سياسي متعثر ومحبط، بل امتدت أيضًا إلي الفضاء الإعلامي الذى بات ساحة حرب فلسطينية إسرائيلية شاملة، لا تقل أهميتها عن الحروب التقليدية العسكرية على الأراضي الفلسطينية؛ حيث أصبحت الكلمة والصورة والصوت، جزءًا كبيرًا من الحرب الدائرة في فلسطين المحتلة.

ومن ثم يتناول هذا التقرير الاستراتيجية الإعلامية الإسرائيلية، وخطورتها خلال الأيام الأولى لحرب “طوفان الأقصى”، لمحاولة الإجابة علي عدة تساؤلات رئيسة؛ وهي: ما هي أهم المفاصل الرئيسة للإستراتيجية الإعلامية الدعائية في الخطاب الإسرائيلي؟ وكيف تناولت الخطابات الإعلامية الإسرائيلية الرسمية وغير الرسمية عملية “طوفان الأقصى”، وكذلك الهجمات الإسرائيلية المضادة؟ وما هي الأهداف السياسية من هذا الخطاب الإعلامي؟

وللإجابة عن هذة التساؤلات، يقوم التقرير بتحليل أهم ما جاء علي اللسان الاسرائيلي خلال الأسبوع الأول من انطلاق “طوفان الأقصى”؛ سواء على مستوى الخطابات الرسمية (مسئولين إسرائيلين)، أو خطابات إعلامية غير رسمية (لقاءات إعلامية لصحفيين وأكاديميين ومسئولين إسرائيليين سابقين)؛ وذلك لمحاولة رسم صورة كاملة لاستراتيجية الآلة الإعلامية الإسرائيلية؛ سواء من خلال لقاءات قنوات فضائية تليفزيونية، أو من خلال الصفحات الرسمية للمسئولين الإسرائيليين علي مواقع التواصل الاجتماعي.

  • الدعاية الصهيونية والخطاب الإعلامي الإسرائيلي:

يعتبر السلاح الدعائي جزءًا لا يتجزأ من السياسة الخارجية الإسرائيلية في كل مراحل تطور الحركة الصهيونية؛ ومن ثم تتطور أشكاله وأهدافه من مرحلة إلى أخرى. بهذا المعنى نستطيع الحديث عن “نظرية صهيونية للتعامل النفسي”، أو على الأقل عن تصور صهيوني لذلك التعامل، استطاع أن يتكامل من خلال ثلاثة نواح: المعاناة الفكرية، والمعايشة الحركية، والخبرة اليومية: الأولى قادت إليها النماذج التاريخية، والثانية فرضتها الأحداث والتطورات التي عاشتها الحركة الصهيونية منذ بداية تلك الدعوة، أما الثالثة فأسهمت فيها مراحل النجاح الواضحة لتلك الدعاية، والتي لا يستطيع أي محلل محايد إلا أن يعترف بمدى قوتها[2].

وأطلق د.حامد ربيع على ذلك النوع من الدعاية “الدعاية المسمومة”؛ فالمنطلق الأساسي هو خلق قيم جديدة في العدو، تقوده إلى نفس النتائج التي نستطيع الوصول إليها من خلال الصراع المميت باسم الحرب النفسية؛ وهو الأمر الذي تبلور في مجموعة كتاباته حول الدعاية الصهيونية ونظرية الأمن القومي العربي، وتأصيل نظرية التعامل النفسي في التقاليد السياسية اليهودية؛ محللًا المنطق الدعائي الإسرائيلي، والحرب النفسية في المنطقة العربية[3]؛ ومؤكدًا في الوقت نفسه أن الوظيفة الدبلوماسية في المجتمع، لم تعد مجرد تمثيل ورعاية مصالح فقط، بل هي علاقة حضارية، وليبين كيف أن إسرائيل نجحت في عملية الاتصال، فجهازها الإعلامي في أي سفارة من السفارات الكبرى، يقوم بنشاط لا مثيل له[4].

ومن ثم فإن منطق الدعاية الصهيونية ليس بجديد، بل متجدد من خلال استخدام أدوات جديدة، مثل: الدبلوماسية الرقمية، واستخدام مواقع التواصل الاجتماعي في نشر تلك الدعاية المسمومة للرأي العالمي؛ لكسب تأييد شعبي وسياسي لإسرائيل؛ وهو ما سيتناوله التقرير بالتفصيل، من خلال رصد الدعاية الإسرائيلية المسمومة خلال عملية “طوفان الأقصى”.

  • عملية “طوفان الأقصى” في الخطاب الرسمي الإسرائيلي :

“إنها إسرائيل الضحية، دولة السلام التي فوجئت بنيران حماس الإرهابية؛ تقتل وتأسر المدنيين العزل، وتُشهر بصورهم على وسائل الإعلام”!!!.

هكذا بدأت الخطابات الرسمية الإسرائيلية حربها النفسية الإعلامية الكلاسيكية، والتي ظهرت من خلال خطابات رئيس الوزراء الإسرائيلي “بنيامين نيتنياهو”، الذي هرول لعرض معزوفته من خلال عدد من الخطابات المتلفزة، والتي تم نشرها علي مواقع التواصل الاجتماعي. فقد أكد في خطاب مأزوم بدا فيه متوترًا للغاية، أن إسرائيل تواجه أيامًا قاسية، وأنه حزين على الشهداء الإسرائيليين، وأنهم مصرون على الانتصار. وتعهد نتنياهو بأن يستخدم الجيش الإسرائيلي “كل قوته للقضاء على حماس”، وقال: “سنضربهم حتى النهاية وننتقم بقوة لهذا اليوم الأسود الذي ألحقوه  بإسرائيل وشعبها”. كما أكد أن ما حدث في يوم 7 اكتوبر 2023، لم تشهده إسرائيل من قبل، قائلا: “إنني سأعمل على ألا يتكرر ذلك أبدًا، جيش الدفاع سيمارس كل قوته، وسننتقم من حماس على هذا اليوم الأسود”.[5]

كما استطرد في خطابه مساء يوم الإثنين الموافق 9 أكتوبر 2023، في محاولة التعتيم على فشل جيشه ومخابراته في التنبؤ والتصدي للهجمة الفلسطينية، والتعبئة للانتقام،؛ محاولًا علاج الانقسام الداخلي؛ حيث طالب المعارضة بتشكيل حكومة طوارئ وترسيخ الوحدة داخل الشعب، وكذلك تأمين دعم دولي للتحرك بحرية ضد قطاع غزة، والتهديد بأن كل مكان ستتواجد فيه حماس، سيتحول إلى خراب؛ مؤكدًا أن هناك بطولات إسرائيلية كبيرة من الجيش والشرطة في إسرائيل[6].

وفي خطاب رسمي آخر لتشويه الصورة الفلسطينية وتجاهل احتلال الأرض وقمع الشعب الفلسطيني، جاء خطاب “جلعاد إردان” المندوب الدائم الإسرائيلي لدى الأمم المتحدة، في خطابه أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة بتاريخ 8/10/2023، مستشهدًا هذه المرة بعدد من الصور والفيديوهات؛ حيث رفع “جلعاد إردان” صورة جدة إسرائيلية أجبرتها المقاومة على حمل السلاح والتصوير مع أحد عناصر المقاومة، وكذلك رفع صورة لأم تبكي وهي تتمسك بطفليها، قبل أن تُحمل على ظهر شاحنة تابعة للمقاومة، معلقًا عليها: “هذه جرائم حرب بشكل مأساوي، الانتهاكات لا تنتهي، الإرهاب الحماسي كبح المئات وشوه جثثهم وأخذهم إلى غزة”، كما عرض فيديو لفتاة تصرخ وهي تُخطف من المقاومة ملطخة بالدماء، ووصف الحرب بأنها “حرب بربرية ضد المدنيين واستغلال الأسرى وأخذ الأمهات من أطفالهم”، قائلا: “لا أتخيل حجم الرعب الذي يمرون به”، واصفًا الأحداث بأنها “هذا الحادي عشر من سبتمبر الإسرائيلي، وإسرائيل ستقوم بكل ما في وسعها، لن نسكت ولن نجعل العالم ينسى البشاعة التي عانت منها إسرائيل من السادية الشريرة، يجب ألا ينساها العالم، حماس منظمة إرهابية إسلامية جهادية لا تختلف عن داعش والقاعدة، وهي لا تريد حوارًا أو نقاشًا بل تريد مسح الدولة اليهودية”[7].

وفي نفس السياق، رفع لافتة توضح صورة مقتبسة من ميثاق حماس، مدونا عليها: “يوم القيامة لن يأتي حتي يقاتل المسلمون اليهود ويقضوا عليهم”، معلقًا عليها: “فكلما يواجه مسلم يهوديا، لا بد أن يقتله، هم يريدون أن يذبحوني وأبنائي وشعبي”، مطالبًا بالقضاء على حماس، من خلال دعم دولي لإسرائيل، واصفًا تلك الحرب بأنها حرب ضد العالم الحر، وإن لم تنجح، فإن العالم بأكمله سيدفع الثمن حسب قوله، مطالبًا بالدعم الكامل عن العالم الحر[8].

وعلى نطاق مواقع التواصل الاجتماعي، تأتي شراسة الآلة الإعلامية الدعائية الإسرائيلية، من خلال دبلوماسيتها الرقمية عبر صفحات إسرائيل الرسمية، ومنها على سبيل المثال: صفحة “إسرائيل تتكلم بالعربية”؛ حيث نشر وزير الدفاع الإسرائيلي “يوآف جالانت” يوم 7 أكتوبر 2023 تقريرا لتقييم الوضع الأمني في إسرائيل قال فيه: “لقد ارتكبت حماس الارهابية خطئًا فادحًا، وبدأت الحرب ضد دولة إسرائيل، جنود جيش الدفاع الإسرائيلي يقاتلون في جميع نقاط الاختراق الحدودية ضد العدو، دولة إسرائيل ستنتصر في هذه الحرب”.[9]

كما نشر الناطق بلسان جيش الدفاع “البريغادير دانيال هجاري” صباح يوم 8/10/ 2023 فيديو على صفحة ” إسرائيل تتكلم بالعربية” يقول فيه: “نواصل المعركة  بكل قوة، وجيش الدفاع على أهبة الاستعداد للرد على أي عدوان محتمل على كل الجبهات”، وقال في إيجاز للصحفيين: “إن جيش الدفاع يقوم حاليا بتطهير المناطق الإسرائيلية في الجنوب من فلول المخربين الذين يتواجدون في المكان؛ حيث سيتم تصفيتهم حتى آخر عنصر منهم. إن جيش الدفاع هاجم نحو 500 هدف لحركتي حماس والجهاد الإسلامي في القطاع، وقتل المئات من الإرهابيين، والجيش على أهبة الاستعداد للرد على أي عدوان محتمل في كل الجبهات”.

ونوه “البريغادير هاجاري” إلى ارتكاب حركة حماس ما وصفه “بجريمة حرب”، باحتجازها الرهائن من المدنيين؛ الأمر الذي يتنافى أيضا مع تعاليم الدين الإسلامي، قائلا: “إن إسرائيل ستحاسب الحركة الإرهابية على ذلك، المعركة ضارية، ولكن جيش الدفاع قوي وسيتنصر فيها”[10]، وفي لقاء على قناة العربية للمتحدث الرسمي للخارجية الإسرائيلية قال: “نعرف كيف نتصرف في ساعة الامتحان، وسنلقن حماس درسًا لن ينسوه”[11].

كما استعانت صفحة “إسرائيل تتكلم بالعربية” بالرسوم الكاريكاتيرية، فنشرت في مساء يوم السابع من أكتوبر 2023، كاريكاتيرا بعنوان “نحن في خضم حرب بين الخير والشر والانتصار حليفنا” [12]، كما نشرت عددا من رسوم الكاريكاتير لقيادات حماس، وهي تأكل على مأدبة طعام، معلقًا على ذلك في سخرية “كل هذا لخدمة القضية الفلسطينية”[13].

وفي اتجاه اخر، جاهرت إسرائيل بالدعم الدولي لها ولا سيما العربي؛ حيث نشرت على صفحة “إسرائيل تتكلم بالعربية”، منشورا تحت عنوان “ردود فعل من العالم العربي، تثلج الصدور، لا سيما من دول لا تقيم علاقات مع إسرائيل .. نستعرض عليكم مقتطفات من مئات الردود التي وصلتنا على الخاص، ومما نشر في الفضاء العام”، مستعينين في ذلك بعدد من المنشورات المؤيدة من دول عربية (مصر، العراق، البحرين، المملكة العربية السعودية، وغيرها)[14].

في نفس السياق، تأتي تصريحات المسئول الإعلامي الإسرائيلي الأشهر “أفيخاي أذرعي”، ذائع الصيت على مواقع التواصل الاجتماعي؛ حيث تعد صفحة المتحدث العسكري باسم جيش الاحتلال بالعربية «أفيخاى أذرعي» والتي أنشأت في يوليو 2011[15]، من أكثر الصفحات ترويجًا لإسرائيل وللتطبيع معها ولوجهة النظر الرسمية الإسرائيلية، والتي تعمل على الترويج للجيش الإسرائيلي ولتفوقه وشجاعة جنوده؛ لتقريبه من الشعوب، واستقطاب مؤيدين من العرب؛ حيث تضع الصفحة شعار “اقرأ عنا، لتعرف أكثر وتصلك الصورة بشكل أفضل”. وفي تعريف الصفحة يستعرض “أفيخاي أذرعي” أصوله العراقية؛ حيث ولد جده وجدته من ناحية أمه في العراق، ومنهم تعرف على اللغة العربية وثقافتها، فهو يبرع دومًا في التحدث باللغة العربية الفصحى، ومستشهدًا في أحاديثه بالقرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة، وبالعديد من الأمثلة الشعبية العربية، فقد أجرى العديد من الحوارات التلفزيونية العربية، منها حواره مع قناة “الجزيرة القطرية”، وقد بدا منفعلًا للغاية، وأكد أن إسرائيل في حالة حرب، قائلًا: “لن يبقى أي مخرب من حماس على قيد الحياة”، واصفا الجهود الهجومية للجيش الإسرائيلي داخل قطاع غزة بأنها “قصف بلاهوادة”، وأن إسرائيل “ستنتصر في النهاية”، متهربًا في الوقت نفسه -أكثر من مرة خلال اللقاء- من حصر أعداد القتلى والأسرى من الجانب الإسرائيلي[16].

وفي حوار آخر لقناة “الجزيرة القطرية” أيضًا، وعند سؤاله عن استهداف إسرائيل للمدنيين والمباني السكنية وسيارات الإسعاف، رد بالمثل الشعبي العربي الدارج: “ضربني وبكى وسبقني واشتكى”، محملًا حماس كل المسئولية عن الأحداث وما وصفه بـ”القصف الهمجي البربري على إسرائيل”، مستدلًا بأن ما عملته حماس لا يتوافق مع الشريعة الإسلامية[17]!!!

ومن اليوم الخامس لحرب “طوفان الأقصى”، بدأت الصفحات الإسرائيلية على مواقع التواصل الاجتماعي، في نشر صور الدمار لقطاع غزة؛ متباهين بما أحلًوه من هدم وقتل وتشريد للشعب الفلسطيني، معلقين عليها بـ”خطيئة الضيف”، في ادعاء منهم بأن الفلسطينيين هم ضيوف لديهم، وأنهم أخطأوا في حق البلد المُضيف وهي إسرائيل، وأن عليهم تحمل تبعات خطيئتهم[18]!!

وعليــــــــه، يتبين من الاستدعاء السريع لتلك الأمثلة من الخطابات الإسرائيلية الرسمية، وهي ما يمكن وصفها بأنها خطابات مأزومة انتقامية، تتبني استراتيجية شيطنة العدو؛ وهو نوع من البروباجندا أو الآلة الإعلامية الحربية، التي يتم فيها اختزال الصراع  في طرفي النقيض الخير والشر، إسرائيل وحماس، متجاهلًا احتلال الأرض، ومتجاهلًا في الوقت نفسه أية مطالب مشروعة للشعب الفلسطيني، فلم يجب أحد لماذا هاجمت المقاومة إسرائيل؟ فهم يعتمدون على رد الفعل، ويتركون الفعل الرئيس؛ وهو الاحتلال الإسرائيلي للأراضي المقدسة، وحق الشعب الفلسطيني في حياة طبيعية في وطنه، ويتم تصويرهم للعالم أجمع بأنهم الشر المتجسد في حركة حماس. على صعيد أخر هدفت الخطابات الرسمية جميعها إلى رفع الروح المعنوية للشعب الإسرائيلي، من خلال تجسيد وإبراز البطولات العسكرية للجيش الإسرائيلي، متباهين بالإبادة الشاملة لقطاع غزة كرد فعل طبيعي لهجمات حماس؛ وهو ما يعتبر تأطيرًا وتمهيدًا أمام العالم لارتكاب مجازر مبررة ومدعومة دوليًا، كحق مشروع لإسرائيل في الدفاع عن نفسها؛ الأمر الذي ظهر من خلال نزع الإنسانية من الآخرين واتهامهم بأنهم “حيوانات بشرية سيتم إبادتها”[19].

  • عملية طوفان الأقصى في الخطاب الإسرائيلي غير الرسمي

علي الجانب الآخر غير الرسمي، يرصد التقرير عدد من اللقاءات الإعلامية لصحفيين ومسئولين إسرائيلين سابقين، ففي حين وجهت الخطابات الرسمية رسائلها الإعلامية للتغطية علي الفشل الاستخباراتي والمعلوماتي، ورفع الروح المعنوية للشعب والجيش الإسرائيلي، من خلال إبراز البطولات الإسرائيلية، جاء الخطاب غير الرسمي مختلفًا تمامًا؛ حيث ركزت الرسائل غير الرسمية على فشل النظام الإسرائيلي المتمثل في حكومة نيتنياهو.

فعلي سبيل المثال، قال الجنرال احتياط “عاموس جلعاد” رئيس وحدة البحث في المخابرات العسكرية سابقًا، عندما تم توجيه سؤال مباشر له حول العلاقة بين ما يجري والانقلاب على الحكم؟ أجاب: “بالتأكيد له علاقة؛ حيث أإنه تم إضعاف الجيش، وتم إضعاف صورة الردع التي كانت لنا، ونتيجه لذلك، وإن لم يكن هذا متقاطعًا وبشكل دائم، فقد تجرأوا أن يفعلوا ما فعلوا، ويبدوا أنهم حضّروا لذلك منذ مدة طويلة”[20].

كما قال جنرال احتياطي “أمير أفيفي”: “لقد أصبحت حماس معضلة استراتيجية كبيرة، والتي تعتبر حربًا لم نشهدها منذ حرب أكتوبر”، ويتساءل: هل ستنتهي الحرب وحماس لا تزال واقفة علي رجليها أم لا[21]؟

وفي حديث أخر لجنرال احتياطي “كوبي مروم” قائد وحدة 13 وجولاني سابقًا، قال: “حتى نتمكن من الصمود أمام التحدي الذي يواجهنا، فإنني أعتقد أن هذا لا يمكن أن يتحقق دون وحدة وتكافل وتكوين حكومة طوارئ”[22].

ومن ناحية أخرى، قال البروفيسور “عوزي رابي” رئيس مركز موشي ديان لدراسة الشرق الأوسط في جامعة تل أبيب: “سمعنا في السنة الأخيرة لعدة مرات من المصادر، أن حماس غير معنية بالتصعيد، كم مرة سمعت هذه التقديرات؟ .. في الواقع، فإن هذا الأمر غير صحيح، يجب أن نفهم أن إسرائيل لا تفهم ما هي حماس، وما جرى يثبت ذلك”[23].

وأضاف “أفي يسسخاروف” محلل للشئون الفلسطينية بصحيفة يدعوت أحرونوت: “إن ما حدث هو إنجاز غير مسبوق لحركة حماس؛ حيث يعد الإنجاز العسكري الأكثر أهمية للحركة منذ إقامتها، وربما تعدى أحداث 11/ 9 في نيويورك”[24].

وفي حديث هام للجنرال احتياط “غيورا أيلاند” رئيس مجلس الأمن القومي سابقًا على قناة (13 الإسرائيلية)، قال: “عندما تقول دولة إسرائيل إن هناك حربًا، فيجب تعريف هذا بأن الحرب حاليًا ضد دولة غزة، وعندما نكون في حرب لمواجهة دولة غزة التي هاجمت دولة إسرائيل، فإن هذه هي المصطلحات الصحيحة”، مستطردًا: “إن ما حدث هو انهيار للجهاز المعلوماتي الذي لم يتمكن من توقع الحدث، والجهاز العملياتي الذي يتوجب عليه الدفاع عن غلاف غزة وأن يكون هو المعيق لأي هجوم، ولكنه في الواقع لم يعمل كما يجب، وقد تبين أن المواطنين لم يتلقوا أي تعليمات، ومن الواضح ان إدارة الحدث، لم ترق إلى المستوى المطلوب .. إننا يجب أن نفهم أن ما جرى، يمكن أن يشجع العديد من اللاعبين”[25].

وفي مقال من صحيفة هآرتس الإسرائيلية بعنوان “نتنياهو، زعيم عصابة لا يمكنه الاستمرار في منصب رئيس وزراء إسرائيل”، للكاتب “زافي باريل”، ينتقد خلاله أداء رئيس الوزراء الإسرائيلي “بينيامين نتنياهو”، قال الكاتب إن إسرائيل يقودها زعيم “فاسد كان يستثمر كل جهوده للانقلاب” على النظام القضائي، كما أنه استعدى الحكومات الغربية، وقوض العلاقات مع الإدارة الأمريكية؛ وهو الآن يقود البلاد إلى حرب لا يعرف أحد أهدافها ونتائجها”. ويشير المقال إلى أن رئيس الوزراء لا يرى أن هناك حاجة إلى تشكيل حكومة وحدة وطنية؛ لأنه متيقن أنه لا يمكن الاستغناء عنه. ومن ثم فإن الكاتب يرى أن نتنياهو أمضى سنوات يرعى عدو إسرائيل، بالإشارة إلى حركة حماس التي شنت هجومًا عليها دون مواجهة أي عراقيل بسب فشله الذريع، ودون أن يتحمل حتى أدنى قدر من المسئولية. كما يرى الكاتب أن رئيسًا للوزراء كنتنياهو “غير مؤهل تمامًا” لتولي منصبه، “حتى وإن وجد من الناحية التشريعية بعض أحكام القانون ليختبئ وراءها”، وحتى لو قضت المحكمة بإصدار قانون جديد يجعل من المستحيل على المدعي العام، إعلان نتنياهو غير مؤهل لمنصبه. ويختتم باريل مقاله قائلا: “إن بنيامين نتنياهو لن يصبح فجأة زعيمًا نتوقع منه تحمل المسئولية”، مضيفًا: “إنه زعيم عصابة يجب تجريده من المسئولية، خاصة في وقت الحرب، لأنه لا يستطيع الاستمرار”[26].

وفي مقال من صحيفة “تايمز أوف إسرائيل” للكاتب الصحفي “دافيد هوروفيتس” بعنوان “اليوم الخامس من الحرب، قال الكاتب: “إسرائيل تعلم أن بقاءها على المحك .. إسرائيل تواجه خطر البقاء”، مستشهدًا بخطاب الرئيس الأمريكي “جو بايدن”، الذي ألقاه يوم الثلاثاء 10/10/  2023، وقال خلاله: “إن حماس لا تدافع عن كرامة الشعب الفلسطيني وحق تقرير المصير، وإن هدفها هو إبادة دولة إسرائيل وقتل الشعب اليهودي””[27].

ويشير الكاتب إلى أن حماس تستعين بحلفائها لإرباك إسرائيل في الجنوب، من خلال الهجمات الصاروخية المستمرة من قبل مسلحيها وبمساعدة حلفائها كإيران، التي وصفها بـ”الأخطبوط”؛ وهو وصف استخدمه رئيس الوزراء الاسرائيلي السابق “نفتالي بينيت”[28].

مما سبق، يتبين أن الإعلام الإسرائيلي قد غطّى بكثافة عملية “طوفان الأقصى”، واستضاف مسئولين سابقين وخبراء أمنيين وإعلاميين، وتناولت النقاشات الأبعاد الاستراتيجية والأمنية للمواجهة مع حركة حماس والمقاومة الفلسطينية، مرورًا بالإخفاق الأمني الذي مكّن مقاتلي حماس من التسلل إلى غلاف غزة. كما تناولت النقاشات ضعف أداء الجيش الإسرائيلي، وعجز حكومة نتنياهو وافتقادها للخبرة اللازمة، كما عكست هذه الآراء غير الرسمية، حالة الغضب داخل المجتمع الإسرائيلي وشعورهم بالتهديد والإخفاق من جانب حكومة نيتنياهو، ولعل هذا الأمر هو ما دفع نيتنياهو لدعوة المعارضة لحكومة وحدة داخلية، لمعالجة الانقسام الداخلي في الرأي العام الإسرائيلي.

وربما يستدل أخيرًا أن هذا السيناريو الإسرائيلي ليس بالجديد أو المختلف، بل هو سيناريو كلاسيكي متكرر،  فما أشبه الليلة بالبارحة، فهو الأمر الذي يتكرر دومًا، وكان آخره في أحداث حي الشيخ جراح”، واقتحام الجيش الإسرائيلي للمسجد الأقصى في مايو 2021م، لتقدم إسرائيل رؤيتها لسلوكها العدواني على الفلسطينيين للعالم، فقد جاءت منشوراتها لتدعي وقوع إسرائيل ضحية لصواريخ حماس التي استهدفت المدنيين الإسرائيليين، ونشرت صورًا من داخل المسجد الأقصى وهو مليء بالحجارة، وجاء التعليق على تلك الصور: “للأسف أن نرى هذا الكم من الحجارة داخل الحرم القدسي الشريف؛ وهو ما تقوم به فئة من الأقلية الفلسطينية التي تخدم الإرهاب على حساب الأغلبية في شهر رمضان؛ وهو شهر التقرب من الله، وعمل الخير والإحسان”[29]!!

كما قامت إسرائيل بتغيير الهاشتاج الذي انتشر على مواقع التواصل الاجتماعي حينها من #غزة_تحت_القصف، إلى #حماس_تحت_القصف، في إشارة إلى أن المستهدف من الغارات الإسرائيلية ليس الفلسطينيين أنفسهم، بل حركة حماس، كما نشر “أذرعي” عددًا من المنشورات، من ضمنها فيديو مباشر منقول عن قناة (الجزيرة) القطرية، لحظة إطلاق صواريخ من المناطق المأهولة بالسكان في غزة، معلقًا على ذلك: “حتى الجزيرة لا يمكنها أن تخفي الحقيقة”[30].

ومن ثم، فإن إسرائيل تستهدف من المحتوى الإعلامي الدعائي لها، تحويل مشهد عدوان إسرائيل الوحشي على قطاع غزة، إلى مشهد دفاع عن النفس ضد صواريخ غزة وحركة حماس؛ لتبرير جرائمها الوحشية علي الشعب الفلسطيني، من خلال تلوين المحتوى الإعلامي الإسرائيلي بالمفاهيم الأخلاقية والإنسانية؛ وفى أحيان أخرى المفاهيم العقائدية، مستخدمة الكاريكاتير، والفيديوهات الحية، والمقابلات الشخصية، والصور، واستطلاعات الرأي، ليصبح المحتوى أكثر جاذبية وانتشارًا حول العالم، من أجل كسب تعاطف عالمي ودعم سياسي دولي؛ سواء علي مستوى الشعوب أو الأنظمة السياسية، وإعلان صورة إسرائيل المراد ترويجها، فهي الدولة الضحية، الانسانية، القوية ،المتفوقة!!.

 

هوامش

[1] المتحدث باسم جيش الاحتلال: الوضع قاتم و7 أكتوبر أسوأ يوم فى تاريخ إسرائيل، اليوم السابع على اليوتيوب، متاح عبر الرابط التالي: https://cutt.us/ZKcM1

[2] حامد ربيع، الدعاية الصهيونية، القاهرة: المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم، معهد البحوث والدراسات العربية، 1975، ص10.

[3] انظر: حامد ربيع، الحرب النفسية في المنطقة العربية، بيروت، المؤسسة العربية للدراسات والنشر،1974.

[4] حامد ربيع، الدعاية الصهيونية حول تأصيل نظرية التعامل النفسي في التقاليد السياسية اليهودية، المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم، معهد البحوث والدراسات العربية، 1975، ص56-57.

[5] رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو: ان ما حدث اليوم لم نشهده من قبل، صفحة إسرائيل تتكلم بالعربية على موقع الفيس بوك، 7 أكتوبر 2023، متاح عبر الرابط التالي: https://cutt.us/aDcRV

[6]  نتنياهو: إسرائيل ستحول مواقع حماس إلى “مناطق خراب”، الشرق الآن، 9 أكتوبر 2023، متاح عبر الرابط التالي: https://cutt.us/jOp3B

[7] https://rb.gy/q150o

[8] Ibid.

[9] وزير الدفاع يوآف غالانت هذا الصباح في ختام تقييم الوضع الامني في إسرائيل، صفحة إسرائيل تتكلم بالعربية على موقع الفيس بوك، 7 أكتوبر 2023، متاح عبر الرابط التالي: https://cutt.us/zRIS2

[10]  الناطق بلسان جيش الدفاع البريغادير دانيال هجاري : نواصل المعركة بكل قوة، صفحة إسرائيل تتكلم بالعربية على موقع الفيس بوك، 8 أكتوبر 2023، متاح عبر الرابط التالي: https://cutt.us/Cx7v5

[11]  الخارجية الإسرائيلية لحماس: “لا تلعبوا معنا”، صفحة قناة العربية Al Arabiya على الفيس بوك، 7 أكتوبر 2023، متاح عبر الرابط التالي: https://cutt.us/yILGt

[12]  نحن في خضم حرب، صفحة إسرائيل تتكلم بالعربية على موقع الفيس بوك،7 أكتوبر 2023، متاح عبر الرابط التالي: https://cutt.us/wTCqX

[13] حروب حماس تضمن لقادتها النعيم وللغزوايين الجحيم، صفحة إسرائيل تتكلم بالعربية على موقع الفيس بوك، 8 أكتوبر 2023، متاح عبر الرابط التالي: https://cutt.us/e9wRR

[14]  ردود فعل من العالم العربي تثلج الصدور، صفحة إسرائيل تتكلم بالعربية على موقع الفيس بوك، 8 أكتوبر 2023، متاح عبر الرابط التالي: https://cutt.us/piA58

[15] رابط صفحة “أفيخاي أذرعي”علي “فيسبوك”، متاح عبر الرابط التالي: https://cutt.us/lAwCG

[16]  “هل شعرت بالهزيمة؟”.. سؤال شخصي من مذيع الجزيرة مباشر لأفيخاي أدرعي، الجزيرة مباشر على اليوتيوب، 8 أكتوبر 2023، متاح عبر الرابط التالي: https://cutt.us/JW9FE

[17] صفحة افيخاي أردعي على انستجرام، متاح عبر الرابط التالي: https://cutt.us/wxpTR

[18]  المرجع السابق.

[19]  وزير الدفاع الإسرائيلي: نحارب حيوانات بشرية.. لا كهرباء ولا طعام إلى قطاع غزة، روسيا اليوم، 9 أكتوبر 2023، متاح عبر الرابط التالي: https://cutt.us/96gmI

[20] كيف تناول الإعلام الإسرائيلي عملية “طوفان الأقصى”؟، الجزيرة على اليوتيوب، (الدقيقة 4.06)، 9 أكتوبر 2023، متاح عبر الرابط التالي: https://cutt.us/xUWp1

[21] المرجع السابق، (الدقيقة2.47).

[22]  المرجع السابق، (الدقيقة3.10).

[23]  المرجع السابق، (الدقيقة 1.07).

[24] المرجع السابق، (الدقيقة2.13).

[25] المرجع السابق، ( الدقيقة0.4).

[26]  “يجب على إسرائيل إسقاط حماس” -صحف إسرائيلية، البي بي سي العربية، 12 أكتوبر 2023، متاح عبر الرابط التالي: https://cutt.us/eILx1

[27]David Horovitz , Day 5 of the war: Israel internalizes the horrors, and knows its survival is at stake,the Times of Isreal , 11 October 2023, available at: https://cutt.us/emu3E

[28] Ibid

[29]  هذا التصرف خيانة الامانة في الحفاظ على قدسية الحرم، صفحة إسرائيل تتكلم العربية على موقع الفيس بوك، 15 مايو 2021، متاح عبر الرابط التالي: https://cutt.us/PwNJH

[30]  ها هي الجزيرة تبث صورًا تعكس إجرام، صفحة أفيخاي أردعي على الفيس بوك، 10 مايز 2021، متاح عبر الرابط التالي: https://cutt.us/aijey

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى