العدالة والعنف والجريمة في أمريكا اللاتينية

مقدمة:

شهدت دولُ أمريكا اللاتينية العديدَ من الإشكاليات المتعلِّقة بالعنف في مجتمعاتها، وذلك عبر عقود ممتدَّة من سبعينيَّات القرن الماضي وحتى الآن، فمشاهد العنف في أمريكا الجنوبية كانت في غاية التعقيد لتعدُّد الفاعلين والمستويات، فالعنف جاء من أعلى نتيجةَ السلطويات والانقلابات العسكرية التي سيطرت على مسار القارة في أواخر القرن الماضي، ومن أسفل نتيجةَ انتشار الجريمة المنظَّمة، خاصة عصابات (كارتيلات) المخدِّرات في دول القارة وعبر الحدود، هذا بالإضافة إلى التدخُّلات الخارجية والعلاقات بين مستويات العنف. كل ذلك له العديد من الآثار على الأمن والسلام الداخلي في تلك الدول قبل وصولها لمرحلة من الاستقرار؛ وعليه تركِّز تلك الورقة على قراءة كتابيْن حول هذين الموضوعين، الكتاب الأول حول العنف والذاكرة في أمريكا التاريخية (العنف من أعلى)، والثاني حول دور الجريمة المنظَّمة في أمريكا اللاتينية (العنف من أسفل)، في محاولةٍ لقراءة وضع موضوع العدالة والعنف داخل دول أمريكا اللاتينيَّة للنظر والاستفادة في عالمنا العربي والإسلامي، خاصةً مع ما شهدتْه دولُنا -ولا تزال- عبر العقد الماضي على وجه الخصوص.

أولًا- الذاكرة والتاريخ والعنف السياسي في أمريكا اللاتينية

يتناول كتاب “الكفاح من أجل الذاكرة في أمريكا اللاتينية: التاريخ الحديث والعنف السياسي”[1] عملية تأريخ لماضي العنف خلال القرن العشرين في أمريكا اللاتينية وإشكاليات بناء ذاكرة تمنع من تكراره وتحقيق العدالة للضحايا، وذلك عبر استعراض العديد من حالات الدول التي خاضت معارك العنف السياسي وبالتحديد عنف الدولة أو إرهاب النظم السياسية مثل الأرجنتين وشيلي، وينقسم الكتاب إلى ثلاثة أجزاء، يتناول الجزء الأول الأنظمة الديكتاتورية والسلطوية عبر خمسة فصول، حيث يشرح كلُّ فصل حالة دولة من دول أمريكا اللاتينية، أما الجزء الثاني: الحروب والأنظمة السلطوية ففيه خمسة فصول تشرح حالات الدول التي دخلت في حروب، أما الجزء الأخير فحول كتابة التاريخ المعاصر وهو فصل واحد ويعدُّ خاتمة الكتاب.

  • الذاكرة والعنف في أمريكا اللاتينية

يحاول الكتاب الوصولَ إلى نظرةٍ كليةٍ حول موضوع ذاكرة ماضي العنف السياسي في دول قارة أمريكا اللاتينية مع الأخذ في الاعتبار خصوصية السياقات المختلفة لكلِّ دولةٍ على حدة، وذلك من خلال تحليل تاريخي لتوضيح حجم العنف من أجل فهم أنماطه وتحليل عمليَّاته في كلٍّ من النماذج التي يدرسها الكتاب لتحديد الأُطر الاجتماعية للذاكرة، والفاعلين المعنيِّين وعلاقات القوة بينهم، ووجود الماضي في الحاضر.

ويركِّز الكتاب على توضيح القواسم المشتركة بين الدول المختلفة، وبالتحديد في فترات الاضطراب السياسي والمشاريع الثورية، والديكتاتوريَّات والسلطوية والحروب الأهلية، والتحوُّلات، وبناء ذكرى ماضي العنف كهدف محدِّدٍ للسياسات العامة، وذلك من خلال:

  1. بيان ظهور ثقافة حقوق الإنسان وترسيخها في أمريكا اللاتينية، والتي تتضمَّن إعادة تقييم الحقوق المدنية والسياسية التي انتهكتْها الديكتاتوريَّات ودمَّرتها الحروبُ الأهليةُ والدورُ السياسيُّ الذي لعبه -ولا يزال يلعبه- النظام الدولي لحقوق الإنسان والشبكة غير الحكومية عبر الوطنية.
  2. إبراز أهمية علاقات القوة أثناء التحوُّلات، من الديكتاتورية إلى الديمقراطية، ومن الحرب إلى السلام، وكيف تجذَّرت نماذج معيَّنة للتعامل مع ماضي العنف الشديد.
  3. إلقاء الضوء على كيفية بناء الحقائق العامَّة حول العنف السياسي والديكتاتوريَّات والحروب الأهلية، من حيث تشكيل لجان الحقيقة، وتشكيل الذاكرة، والمفاهيم المتعلِّقة بهذا الموضوع، مثل تعريف الضحية وتحديد سياسات التعويض، والعديد من المفاهيم المتعلِّقة بحقوق الإنسان.
  4. توضيح علاقات وطبيعة العمليات السياسية في القارة وإشكاليَّات الخطاب حول العنف والذاكرة، وتأثير ذلك على عملية العدالة ونتائجها في دول القارة.
  5. يبرهن الكتاب على البُعد الجيلي لصراعات الذاكرة، حيث عايشت العديدُ من الأجيال داخل الدولة الواحدة تجارب القمع والاستبداد ممَّا أثَّر على عملية تشكيل وإنتاج المجتمعات في أمريكا اللاتينية، وكيف أثَّر ذلك على إنتاج خطاب حقوق الإنسان في القارة.
  6. يؤكِّد الكتاب على الطبيعة الديناميكيَّة والمتغيِّرة للذاكرة الاجتماعية، ويوضِّح كيف يمكن أن تتآكل وتهزم سرديَّات السلطة عن الماضي القريب والبعيد حول السياسة والعنف في سياق صراع الذاكرة بين السلطة والمجتمع، وذلك من خلال كسر حاجز الصمت وتحقيق العدالة على الرغم من اختلاف الأجيال.
  • الأنظمة الديكتاتورية والسلطوية:

يتناول الجزء الأول من الكتاب خمس حالات لدولٍ عانتْ من السلطويَّة والديكتاتوريَّة وما تَبِعَهَا من انتهاكاتٍ لحقوق الإنسان ومشاهد عنف، ومسار كل دولة من الحالات في تحقيق العدالة وإنشاء الذاكرة السياسية حول العنف في محاولة لعدم تكراره، ويؤكِّد الكتابُ في هذا الجزء أهميةَ بناء ذاكرة حول ماضي العنف، وأنها حجر الزاوية في تعافِي المجتمعات والوصول إلى السلام المجتمعي والاستقرار، وأن الدول التي لم تعطِ أهميةً لبناء ذاكرة، أو تخلَّتْ عن إظهار الحقيقة وتعويض الضحايا، ما زالتْ في صراعٍ وانقسامٍ مجتمعيٍّ على أقلِّ تقديرٍ حتى الآن.

1- الأرجنتين: وهي الحالة الأولى من حالات الدراسة، والتي تُعَدُّ من أهمِّ الدول التي قامت بتحقيق العدالة وإنشاء الذاكرة السياسية، والمنظمات الحقوقية بها تُعَدُّ رائدةً على مستوى العالم بالدفع بعملية العدالة الانتقالية، والتي استلهمت منها العديد من الدول مساراتها، تلك المنظمات هي التي قادت الحراك من أجل تحقيق العدالة، فالعدالة جاءت من أسفل في حالة الأرجنتين.

ويشرح الكتاب الانتهاكات الناتجة عن الانقلاب العسكري في 1976، وقد بدأ مسار العدالة والذاكرة بصراعٍ حول حقوق الإنسان في الأرجنتين، وكان من قادَ هذا الحراكَ المنظماتُ الحقوقيةُ وعائلاتُ الضحايا عبر أربعين عامًا منذ بدء الانتهاكات وحتى الآن، خاصة حركة أمهات ساحة مايو، وهي الحركة التي أسَّستها أمَّهات المعتقلين والمختفين؛ في محاولة لمعرفة مصير أبنائهم، وعلى الرغم من قدرة تلك الحركات والمنظمات على تحقيق العدالة وفتح ملفات الاختفاء والبحث عن مصير هؤلاء المختفين فإنَّ العدالة في الأرجنتين -رغم ريادتها ورفعها شعار «لن يتكرَّر مرة أخرى»- ما زالت تحمل إشكاليَّات لم يتمَّ الفصل فيها حتى الآن، ومنها مسؤوليات مختلف الفاعلين في ملف الاختفاء القسري، فهناك الكثير من المتورِّطين في ملفَّات الانتهاكات والاختفاء لم يُقَدَّمُوا للعدالة حتى الآن.

2- أوروجواي: فشلت أوروجواي فيما نجحت فيه الأرجنتين، فما زالت ملفَّات العنف والانتهاكات التي مارسها الانقلاب العسكري بداية من 1973 لم  يتمَّ التحقيق فيها، ولو حتى من خلال الخطوات الأولى للعدالة، فعلى الرغم من مرور ما يقرب من أربعين عامًا على تلك الأحداث، فإن التحقيق فيها لم يبدأ إلَّا في عام 2005، ولم يتمَّ اتِّخاذ خطوات جدِّية في تلك التحقيقات أو تحويل المتورِّطين للمحاكمات أو تعويض الضحايا، وهو ما نتج عنه مجتمع منقسم يعيش مجالُه العام حالةً من التشرذُم حول ملف حقوق الإنسان والعدالة من جهة، والرغبة في نسيان الماضي وتكلفته على المجتمع من جهة أخرى، وذلك على الرغم من أن ملفَّات الماضي العنيف مرتبطةٌ بالمستقبل وتكرار الأخطاء نتيجة تغييب الوعي حول ذلك الماضي، وعليه فأوراجواي ما زالت بعيدة عن الاستقرار، سواء المجتمعي أو السياسي.

3- تشيلي: دخلت تشيلي أسوأ مراحلها على الإطلاق مع انقلاب 1973وصعود نظام بينوشيه الذي مارس العنف ضدَّ المجتمع، وبعد مرور ما يقرب من ثلاثين عامًا على نهاية ذلك النظام، فإن العدالة لا تزال غائبةً نتيجةَ صدورِ قراراتٍ بالعفو عن الجرائم للحفاظ على سلامة المجتمع، إلَّا أن تلك القرارات لم تحقِّق السلامةَ المطلوبةَ بل تتصاعد المطالبُ لتحقيق تلك العدالة التي باتت تواجهُ الكثيرَ من الإشكاليَّات، منها تحديد الضحايا نتيجة مرور مدةٍ كبيرةٍ، أو تحديد الانتهاكات والمسؤولين عنها، وعليه ما زال المجال العام التشيلي يشهد صراعات قوية واستقطابات نتيجة ذلك الوضع، فدخل المجال العام حالةً من الجمود حول الانتهاكات دون التفكير في المستقبل.

4- البرازيل: كانت سياسات الذاكرة في البرازيل تتعلَّق دائمًا بالنظام السياسي، فالمسؤول عن تحريك ملفِّ الانتهاكات وحقوق الإنسان ليس المنظمات الحقوقية كما في الأرجنتين، إنما النظام السياسي هو من يقود الحراك حول التحقيق في انتهاكات الماضي. حيث تختلف الأنظمة، بين نظام يُتيح المجالَ أمام المنظمات الحقوقية ويصنع سياسات تهتمُّ بالماضي العنيف للبلاد، ونظام لا يهتمُّ بالأمر ويركِّز على نسيان الماضي، وعليه فالانتهاكات التي وقعت في الفترة بين 1964 و1985 لم تنشأ لجانُ تقصِّي حقائق حولها إلَّا مع انتقال البرازيل للديمقراطية، وعليه يمكن النظر لمسار البرازيل لتحقيق العدالة على أنه نظام متعرِّج، حيث تتصاعد مطالب تحقيق العدالة في أنظمة وتختفي في أنظمة، وهو ما يختلف اختلافًا جذريًّا عن حالة الأرجنتين، والتي كان الدافعُ لتحقيق العدالة هو المجتمع وليس النظام، ونتيجة لتلك الذبذبة والتعرُّج في مسار العدالة والذاكرة؛ ما زالت البرازيل بعيدةً عن التصالح مع ماضي الأنظمة العنيف.

5- باراجواي: لا تزال باراجواي تُعاني من تأثيرات ما بعد السلطوية، والذي يعني أن كثيرًا من السياسيِّين السابقين في الأنظمة السلطوية ما زالوا مؤثِّرين في المشهد السياسي الحالي؛ ممَّا يعني أنهم من المسؤولين عن الانتهاكات التي وقعت أثناء الحكم السلطوي ومن مصلحتهم أن يتمَّ نسيانُ تلك الانتهاكات وعدم التحقيق فيها، بالإضافة إلى ضعف المجتمع المدني وعدم قدرته على الدفع بملف الانتهاكات إلى أولويَّات الجدال في المجال العام، ونتجَ عن ذلك انقسامُ المجتمع والمجال العام إلى قسمين، جزء يطالب بإظهار الحقيقة وتحقيق العدالة، والجزء الآخر يصدِّق سرديَّة النظام السلطوي حول انتهاكات حقوق الإنسان، وعليه فالاستقطاب المجتمعي هو السائد في البلاد بين ثقافة ديمقراطية وأخرى سلطويَّة، ويعني ذلك أن باراجواي ما زالت بعيدةً عن مسار إنشاء ذاكرة حيَّة حول الانتهاكات لتفادِي تكرار حدوثها، وأنها بعيدة أيضًا عن حالة الاستقرار السياسي وتحديد مسار واضح للديمقراطية.

  • الحروب والأنظمة السلطوية

يتناول الجزء الثاني من الكتاب أربع حالات لدول شهدت حروبًا أهلية نتيجةَ تصاعد الحكم السلطوي ورغبته في السيطرة على المجتمع بالقوة العسكرية؛ الأمر الذي أدَّى إلى نشوب نزاعات وحروب أهلية كان النظام السياسي أحدَ الأطراف في مواجهة المجتمع أو بعض جماعاته، وفي هذا الجزء تمَّ استبعاد حالة المكسيك لأنها لم تعانِ من ويلات الحرب الأهلية كما سبق الذكر.

1- بيرو: استمرَّت الحربُ الأهليةُ في بيرو منذ عام 1983 حتى عام 2000، ومع انتهاء لجنة تقصِّي الحقائق من تقريرها في 2003 والذي اتَّهم الشرطة والجيش بمعظم الجرائم والانتهاكات خلال الحرب الأهلية ضدَّ السكَّان الأصليِّين. وعلى الرغم من مرور التجربة البيروفية بلجان تقصِّي الحقائق ومحاكمة الرئيس السابق واتهامه بالمسؤولية عن تلك الانتهاكات، فإن الوضع يشير إلى أن البلاد لا تزال بعيدةً عن تجاوز الماضي وتاريخ الحرب الأهلية؛ وذلك نتيجةً لتجاهل تقرير لجنة تقصِّي الحقائق للعديد من الانتهاكات التي لم يتمَّ التحقيق فيها، بالإضافة إلى عدم محاكمة كثيرٍ من المسؤولين عن تلك الجرائم، فضلًا عن أن الأسباب التي أدَّت إلى الحرب الأهلية ما زالت مستمرَّة، مثل عدم منح حقوق مواطنة متساوية للجميع، وعدم وجود تنمية في المناطق الجبلية التي يسكنها السكَّان الأصليُّون.

2- كولومبيا: شهدت البلاد انتشار العنف في أرجائها ثلاث مرات، الأولى في الفترة من 1946 إلى 1965، حيث اشتعلت الحرب الأهلية، والثانية هي الأحداث التي بدأت في منتصف الثمانينيَّات وحتى نهايتها من القرن الماضي، أمَّا الثالثة فكانت الحرب الأهلية التي بدأت مع الألفية الثالثة وانتهت بتوقيع اتفاقية سلام في 2016، وما زالت كولومبيا بعيدةً كلَّ البُعد عن الاستقرار وانتهاء الصراع، وعليه يركِّز الكتاب فقط على سرد محاولات السلام التي شهدتها البلاد، دون النظر في المسارات الطبيعية لتحقيق العدالة الانتقالية ومنها لجان تقصِّي الحقائق أو المحاكمات، فالعنف ما زال يحكم المشهد والكل يهدِّد باستخدامه مرة أخرى في المشهد الكولومبيي.

3- السلفادور: شهدت السلفادور منذ 1980 وحتى 1992 نزاعًا أهليًّا قسَّم وفكَّك المجتمع السلفادوري، وكان المسؤول عن ذلك النزاعِ الأنظمةُ العسكريةُ والقمعُ وغيابُ الحقوق السياسية والاجتماعية، وبالرغم من مرور البلاد بمراحل مفاوضات واتفاقات لإنهاء الحرب الأهلية، فإنه وحتى طباعة هذا الكتاب كان هناك العديد من اللاعبين الأساسيِّين في الحرب ما زالوا في السلطة. واستغلَّ هؤلاء السياسيُّون ما حدث للتلاعُب السياسي دون محاولات جادَّة لتحقيق العدالة، وتمَّ رفع شعار نسيان الماضي من أجل بناء السلام فكان ذلك هو المحفِّز لنسيان السلام نفسه.

4- جواتيمالا: استمرَّت الحرب الأهلية في البلاد منذ 1960 وحتى 1996 من قِبَلِ الحكومة ضدَّ السكَّان الأصليِّين، وعلى الرغم من عمل لجان تقصِّي الحقائق وبعض المحاكمات لبعض القادة العسكريِّين، فما زال الوضعُ في جواتيمالا بعيدًا عن تحقيق العدالة نتيجة اعتبار ما حدث نزاعًا داخليًّا مسلحًا وليس مذابح من قِبَلِ الحكومة والقوَّات المسلَّحة ضدَّ السكَّان الأصليِّين الذين طالبوا وما زالوا يطالبون بتحقيق العدالة الاجتماعية خاصة في توزيع الأراضي.

يطرح الجزء الثاني العديد من الإشكاليات التي يجب النظر إليها نظرةً فاحصةً في مسارات تحقيق العدالة في أمريكا اللاتينية أو أيِّ مكانٍ آخر، ألا وهي: كيف تتحوَّل السلطوية لنزاع داخلي مسلَّح وحرب أهلية؟ وهل يمكن إطلاق لفظ حرب أهلية على مذابح ترتكبها الحكومات والقوَّات المسلحة ضدَّ المجتمع أو بعض قطاعاته؟ أم يجب النظر إلى الأمر بشكل مختلف ومفاهيم مختلفة تصف الأمرَ على حقيقته، فلفظ حرب أهلية أو نزاع داخلي مسلَّح يعني وجودَ طرفيْن من نفس البلد يستخدم أتباعهما السلاح بعضهم ضد بعض. وليست الإشكاليات المفاهيمية وحدها التي يطرحها هذا الجزء، فهناك إشكاليات اجتماعية -نتيجة تهميش جزءٍ من المجتمع أو جماعة من جماعاته وبشكل خاص السكَّان الأصليين كما في حالات عدَّة- تتعلَّق بالعدالة الاجتماعية وتحقيق المساواة في المواطنة والاقتصاد، وذلك يعني أن عدم حلِّ تلك الأزمات من الجذور لن يؤدِّي إلى تحقيق السلام، حتى وإن توقَّف العنف. الإشكالية الأخرى أنه لا يمكن النظر إلى مسارات العنف نظرةً جزئيةً وإنما لا بدَّ من نظرة كلية تحلِّل طبيعة العلاقات والسياقات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والثقافية والتاريخية في مجتمع من المجتمعات من أجل فهم مسار العنف وإدراك طبيعة الحلول، وعليه فإن هذا الجزء من الكتاب وعلى الرغم من محاولاته طرح قضية الحروب الأهلية في بعض دول أمريكا اللاتينية فإنه نظر إليها نظرة جزئية جعلتْها قاصرة على السلطويات وليس تاريخ وسياقات تلك الدول، وهنا لا ننفي دور السلطويات في تحويل عنفها إلى عنف شامل يُقاس بمعايير الحروب وليس الانتهاكات.

  • حول كتابة التاريخ الحديث في أمريكا اللاتينية

يركِّز هذا الجزء على دور الولايات المتحدة في دول أمريكا اللاتينية، خاصة فيما يتعلَّق بالحروب القذرة داخل أمريكا الجنوبية، ومنها على سبيل المثال دور الولايات المتحدة الأمريكية في تشيلي أثناء الحكم العسكري من خلال تقديم الدعم المالي واللوجستي لذلك النظام، بالإضافة إلى التدخُّل في الحروب الأهلية لكلٍّ من السلفادور وهندوراس وجواتيمالا، ومساعدة النظم السلطوية في تشيلي والأرجنتين وأوروجواي، والتدخُّل في أحداث العنف في كلٍّ من كوبا والمكسيك.

ولا يمكن القول إن السلطويات في أمريكا اللاتينية ليست نابعةً من داخلها، إلا أن دور الولايات المتحدة الأمريكية مؤثِّر وحاسم في كلِّ تلك الحالات في استمرار السلطوية أو تحوُّل الأوضاع داخل دول أمريكا اللاتينية إلى حروب أهلية وذلك في مجمله من أجل ضمان المصالح الأمريكية في تلك الدول. لذلك فإن كتابة التاريخ لدول أمريكا اللاتينية في بحثها عن العدالة والحقيقة والتعويض لكلِّ الضحايا الذين سقطوا، خاصة منذ بداية منتصف القرن الماضي وحتى الآن، يجب أن يأخذ في الاعتبار دور الولايات المتحدة الأمريكية دون أن يتم اعتبارها هي الوحيدة المسؤولة عن تلك المآسي.

وهذا الجزء يضيف جزءًا من الصورة الكلية لمشاهد العنف في أمريكا اللاتينية، ألَا وهو دور الخارج في دعم السلطويات وتأجيج العنف الشامل من قبل الحكومات ضدَّ المواطنين من أجل الحفاظ على مصالحها، وهو الدور الذي لا يجب إغفاله أو تعظيمه، وإنما يُقَدَّرُ حقَّ قدرِه، من أجل تحديد مسارات المستقبل. إن مشاهد العنف من أعلى قد تكون مفسِّرةً بشكل جزئي لميل شعوب أمريكا اللاتينية نحو اليسار، وللأزمات الاقتصادية التي عَانَتْ وتُعاني منها دول أمريكا اللاتينية، ولأزمات العنف من أسفل.

ثانيًا- الجريمة المنظمة والتمويل السياسي في أمريكا اللاتينية:

يتناول كتاب “علاقات خطيرة: الجريمة المنظمة والتمويل السياسي في أمريكا اللاتينية وما وراءها”[2] العلاقة بين الجريمة المنظمة والتمويل السياسي في أمريكا اللاتينية، حيث عَانَتْ وما زالت معظم دول القارة من تصاعد عنف العصابات، خاصةً عصابات المخدرات، وكان عِقْدَا الثمانينيَّات والتسعينيَّات من القرن الماضي مسرحًا للشدِّ والجذب بين تلك العصابات والحكومات، كان أهم مشاهدها في كولومبيا والمكسيك.

  • الجريمة المنظمة والسياسات في أمريكا اللاتينية

يشير الكتاب إلى أن هناك علاقة قديمة قِدَمَ نشأة العديد من الدول بين الجريمة والتمويل السياسي، من حيث تقديم الرشاوى للسياسيِّين والتلاعُب بالانتخابات والفساد السياسي، ويُرجع الكتاب العلاقة بين الاثنين إلى ما قبل الحرب الأهلية الأمريكية في 1861 وصولًا إلى نشأة الولايات الأمريكية منفردة في القرن السابع عشر. يركز الكتاب على التمويل السياسي من خلال شقَّين: الأول تمويل الناخبين والأحزاب أثناء الانتخابات، والثاني تمويل السياسيِّين والتلاعب بالسياسات خارج الانتخابات.

وكانت الجريمة المنظمة خاصة كارتيلات المخدرات في أمريكا اللاتينية لها دور في تمويل بعض السياسيِّين، حتى في أقوى الديمقراطيَّات في أمريكا الجنوبية مثل كولومبيا والمكسيك في سبعينيَّات القرن الماضي، وكوستاريكا وبوليفيا في ثمانينيَّات القرن الماضي، وبنما في انتخابات 1994، ومع انتخاب أشهر تاجر للمخدرات عالميًّا بابلو اسكوبار كممثِّل عن الشعب في مجلس النواب الكولومبي 1982، أصبحت العلاقة بين كارتيلات المخدِّرات والسياسية  فضيحة عالمية، إلَّا أن الأمر لم ينتهِ مع نهاية القرن الماضي وحملات مكافحة الجريمة المنظمة والمخدِّرات في أمريكا اللاتينية في التسعينيَّات، فما زالت تجارة المخدرات تشكِّل عائقًا حقيقيًّا أمام التخلُّص من المال القذر في السياسة المكسيكية على سبيل المثال.

العلاقة بين الجريمة المنظمة والتمويل السياسي لم تقْتصر على تمويل الانتخابات والأحزاب، بل اتَّسعت الدائرةُ لتشمل كلَّ الجوانب السياسية المحلية والإقليمية والعالمية لدول أمريكا اللاتينية، وساعد على تقوية تلك العلاقة أربعة عناصر أساسية:

1- الانتخابات التنافسية: فالتنافس في الانتخابات الرئاسية على سبيل المثال يرفع من تكلفة الحملات الانتخابية وقُدرة المرشَّحين على الحصول على الأموال لتمويلِها، فعلى سبيل المثال كلَّفت الحملات الانتخابات الرئاسية في 2006 في البرازيل مليارين ونصف مليار دولار.

2- تطبيق ضعيف لقوانين التمويل الانتخابي: على الرغم من وضع قوانين تحدُّ من التمويل القذر للانتخابات فإن تطبيقها ضعيف.

3- اللامركزية السياسية: تفتح اللامركزية مناطق جديدة للتمويل السياسي القذر، حيث شُكِّلَتْ مناطق ومساحات انتخابية مختلفة وجديدة في العديد من الدول تستلزم تمويلًا لا تستطيع الأحزاب الحصول عليه إلَّا بطرقٍ غيرِ مشروعة.

4- الأحزاب السياسية الضعيفة: كان ضعف التمويل الحزبي وضعف الأحزاب وسيلةً لدخول الجريمة المنظَّمة لشرائها.

ينتج عن تدخُّل الجريمة المنظمة في الحياة السياسية في أمريكا اللاتينية بهذا الشكل إعادة تشكيل تلك الحياة لصالح الجريمة المنظمة، وهذا لا يؤثِّر فقط على المسارات الديمقراطية والعدالة الانتخابية بين الناخبين، ولكن يؤثِّر على السياسات العامة التي تنتج عن هؤلاء السياسيِّين وما يتْبعه من تأثير على المجتمع والفرد، خاصة إذا تحالفت السلطوية مع الجريمة المنظمة، فيقع المجتمع بين المطرقة والسندان، بين عنف الدولة وعنف العصابات، ممَّا يزيد من الحالة المتأزِّمة للمجتمع والسياسة بها.

ويهدف الكتاب إلى تسليط الضوء على دور وطريقة عمل الجريمة المنظمة، ولا سيما منظمات الاتجار بالمخدرات، في تمويل السياسة في أمريكا اللاتينية، من خلال تحديد نقاط الضعف السياسية والقانونية والمؤسَّسية التي تسهِّل اختراق الجريمة المنظمة في تمويل الحملات السياسية، وعلى الرغم من ذلك يركِّز الكتاب فقط على الحالات التي تمَّ كشفها من قبل الإعلام وكانت فضائح محلية وإقليمية، ولا يضيفُ عليها تحليلًا شاملًا لحال الجريمة المنظمة في أمريكا اللاتينية أو تحديد نقاط الضعف التي أكَّد على كشفها. يعرض الكتاب خمس حالات عن أمريكا اللاتينية وحالتين في أوروبا وستقْتصر تلك الورقة على حالات أمريكا الجنوبية.

  • المال القذر داخل السياسة

يتناول هذا الجزء خمس حالات دراسية وهي الأرجنتين، والبرازيل، وكولومبيا، وكوستاريكا، والمكسيك، وهي دول عانت من علاقة متشابكة بين (المال، والسياسية، والجريمة) وستكون هي المحرِّك للوضع السياسي في تلك البلاد عبر عدَّة عقود. يؤكِّد الكتاب على أن هذه النماذج ليست وحدها في أمريكا اللاتينية، ولكن تلك هي الدول التي يتوافر بشأنها حول هذا الموضوع معلومات، حيث إن تلك العلاقة دائمًا ما تدور في الخفاء إلَّا أن نتائجها واضحة.

1- الأرجنتين: تتراوح الجريمة المنظمة في الأرجنتين بين عصابات المخدِّرات والاتجار بالبشر والسلاح وتبييض الأموال، وتفاقمت أزمة تمويل الجريمة المنظمة للحملات الانتخابية في التسعينيَّات من القرن الماضي، ويطْرح الكتاب مثاليْن على تلك الأزمة: الأولى في الانتخابات الرئاسية عام 1999، والثانية في الانتخابات الرئاسية أيضًا عام 2007. ففي الانتخابات الرئاسية في 1999، كان التمويل يأتي من أحد قادة كارتيلات المخدِّرات في المكسيك، وكان أحد البنوك في الولايات المتحدة الأمريكية هو الوسيط لتحويل تلك الأموال، حيث موَّل الكارتيل حملة أحد المرشحين بما يقرب من مليوني دولار، نتج عن تلك الفضيحة إصدار قانون الأحزاب والتمويل الانتخابي، الذي أوْجب على الأحزاب ومرشَّحيهم سواء في الانتخابات التشريعية أو الرئاسية الإبلاغ بالتفاصيل عن التمويل، وحظْر التمويلات المجهولة، ووضْع سقْف للتمويل من الشركات والأفراد، والإبلاغ عن الأموال المتلقَّاة والمصْروفة.

وفي 2007، ظهرت فضيحة أخرى على السطح في الحملة الانتخابية للمرشحة الرئاسية كريستينا فرنانديز دي كيرشنر، حيث قدَّمت حملتها تقارير مزيَّفة حول مصادر تمويل حملتها الانتخابية، والتي عُرِفَ بعد ذلك أنها أتتْ من أحد رجال الأعمال الفنزويليِّين، وقد تمَّ تهريب الأموال بطرق غير مشروعة. ومن جانب آخر فإن الحملة تلقَّت أموالًا من بعض شركات الأدوية التي تمَّ اكتشاف أن بعض مالكيها متورِّطون في صناعة المخدِّرات في الأرجنتين، كان التلاعب بالحسابات البنكية وتعدُّد المصادر المشبوهة لتمويل تلك الحملة لتفادي القوانين وخاصة قانون الأحزاب والتمويل الانتخابي يؤكد أن العلاقة بين الجريمة والسياسية لن يقوِّضها فقط إصدار قوانين، وإن الاعتماد على الأداة القانونية غير كافي لمجابهة تلك الإشكالية في الأرجنتين إلا أن الأخيرة استمرت في إصدار قوانين وتعديلها باعتبارها الأداة الأساسية لمواجهة تلك الأزمة.

2- البرازيل: إن الجريمة المنظمة أعمق في البرازيل من تجارة المخدرات والاتجار في البشر والخطف من أجل الفدية، فهي تتعلق بفساد رجال الشرطة وعدم رغبتهم أو عدم استطاعتهم إنفاذ القانون، فهناك بالإضافة إلى ذلك فساد أصحاب المناصب وتورُّطهم في تلك الجرائم، وعلاقة تلك الجرائم بحالة الاقتصاد البرازيلي، الذي حيث يتم التجاوز عنها في بعض الأحيان طالما أنها تقدِّم إسهامًا اقتصاديًّا، وذلك على الرغم من معاناة ملايين البرازيليِّين من تلك الجرائم، حيث أصبحت الجريمة المنظمة أحد المدخلات الرئيسية في الاقتصاد البرازيلي والذي ينتفع منه كبار رجال الدولة.

ففساد رجال الشرطة أحد أهم سمات الجريمة المنظمة في البرازيل، فهم من يقومون بنقل المخدِّرات، ويرهبون من يعترض طريقهم ويمكن أن يقتلوه، واندماج درجة الفساد تلك في المؤسسات المسؤولة عن إنفاذ القانون يجعل إشكاليَّات الجريمة المنظمة في البرازيل مضاعفة، حيث يسهل إدخال المال القذر في السياسة دون توضيح حجمه أو تأثيره، وهو ما يحاول الجزء الخاص بالبرازيل في الكتاب التفصيلَ فيه، ويركِّز أيضًا على العلاقة المباشرة بين الجريمة والتمويل الانتخابي ويطرح نموذجًا من بُعدين لتحليل تلك العلاقة، البُعد الأول هو منظور المرشَّحين والفوائد التي يتوقَّعونها من التفاعل مع الجماعات الإجرامية. مع ملاحظة الفرق بين المنافع الخاصة والسياسية، ويناقش هذا القسم دور تمويل الحملات كشكل رئيسي من أشكال الدعم السياسي. يغطِّي البُعد الثاني الفوائد التي تتوقَّعها الجريمة المنظَّمة من التفاعل مع المسؤولين المنتخبين، حيث يمكن للممثِّلين حماية المجرمين من إنفاذ القانون من خلال الاستفادة من الامتيازات المؤسَّسية أو سلطتهم السياسية أو شبكات التواصل الاجتماعي.

3- كولومبيا: شهدت كولومبيا العلاقات الأكثر وضوحًا بين الجريمة المنظمة، خاصة كارتيلات المخدرات بالسياسة، وكانت ذروتها في 1983 مع حصول بابلو اسكوبار على مقعد في مجلس النواب -كما سبق الذكر- ومقتل وزير العدل في ذلك الوقت على يد عصابات المخدِّرات، ونتيجةً لتلك الفضيحة، وفي 1985 صدر القانون الأول الذي يكافح التمويل الإجرامي للانتخابات وهو القانون 58، وإن لم يدخل حيِّز التنفيذ نتيجة ضغط كارتيلات المخدِّرات، ومع فضيحة أخرى في انتخابات 1994 زاد الضغط على الحكومة الكولومبية من أجل تطبيق القوانين التي تفرض رقابة على التمويل الانتخابي.

وفي 2005 تمَّ إصدار القانون رقم 996 لتنظيم الانتخابات الرئاسية، وبه قسم يركِّز على التمويل الانتخابي، وفي الوقت الحالي يمكن للمؤسَّسات والأفراد تمويل الانتخابات ولكن مع تحديد مبالغ معيَّنة يمكن أن تتلقَّاها الأحزاب أو تنفقها، وفي الانتخابات الرئاسية تمَّ وضع نسبة 2٪ كحدٍّ أقْصي للتمويل الخاصِّ بالحملات، وأن يأتي 80٪ من الأموال المنفقَة في الحملات الرئاسية من خزانة الدولة، وعلى الرغم من تلك القوانين فما زالت علاقة الجريمة المنظمة بالسياسة في كولومبيا لم تنتهِ أو تتحدَّد كل معالمها بعد، فهناك طُرُقٌ ومساراتٌ يمكن للجريمة من خلالها التأثير المباشر وغير المباشر في الأوضاع السياسية، خاصة مع حالة الفساد بين السياسيِّين ورجال الدولة، فالأمر يتعدَّى بكثير تمويل الانتخابات.

4- كوستاريكا: يُعَدُّ الوضعُ في كوستاريكا أقلَّ حِدَّةً من بعض الدول الأخرى في أمريكا اللاتينية، فكانت فضيحة انتخابات 1986 والتي كان لتجَّار المخدِّرات دورٌ كبيرٌ في تمويل المرشَّحين فيها، صرخة إفاقة أمام صانعي السياسة لتحجيم ذلك الدور بدلًا من إغراق السياسية بالفساد والجرائم وإنهاك المؤسَّسات الديمقراطية بل وتدميرها، مما نتج عنه محاولات جادَّة لتنظيم التدفُّق المالي في الانتخابات وضمان نزاهتها، وكوستاريكا في المجمل تقدِّم نموذجًا جيدًا فيما يتعلَّق بوعْي النُّخب الحاكمة بأثر المال القذر على السياسة، ومن ثم فهناك صراعات أقل ورقابة أكثر صرامة فيما يتعلَّق بالتمويل الانتخابي أو التمويل السياسي في المجمل، مع الأخْذِ في الاعتبار أن كوستاريكا ليست أحد منتجي المخدِّرات في أمريكا الجنوبية وإنما كانت التجارة تمرُّ عبر أراضيها، لذلك فالأمر حدَّته أقل من دول أخرى.

5- المكسيك: الجريمة المنظمة ليست ظاهرة حديثة في المكسيك، فتجارة المخدِّرات فيها ترجع لبدايات القرن الماضي، إلَّا أنه منذ الثمانينيَّات زاد تدخُّل الجريمة المنظمة في السياسة، وفي التسعينيَّات زادت قوة عصابات المخدِّرات حتى أصبحت لها أذرع في الشرطة المكسيكية، فعندما تَغُضُّ الشرطةُ الطرفَ عن الأنشطة الإجرامية، يصبح تجار المخدِّرات قادرين على العمل دون عوائق بل وحتى التوسُّع في تلك الأنشطة ممَّا يعني اتِّساع نفوذهم الاقتصادي.

ويمكن وصفُ أزمة المكسيك المتعلِّقة بالمال القذر في السياسة بأمرين: الأول- هناك أزمة حقيقية كبيرة ومتشعِّبة تتعلَّق بأثر أموال المخدِّرات في السياسات المكسيكية، الثاني- هناك اختلاف بين المقاطعات في تدخُّل أموال المخدرات في السياسة، ففي مقاطعات تكْمن الأزمة في الرشاوى لرجال الشرطة والموظَّفين، وفي مقاطعات أخرى تكْمن الأزمة في استطاعة عصابات المخدِّرات الاستيلاء على مؤسَّسات الدولة وتدميرها، وإذا كان الوضع بهذا الشكل على مستوى المقاطعات، فيمكن تخيُّل مدى تمويل وتدخُّل كارتيلات المخدِّرات في الحياة السياسية الفيدرالية في المكسيك.

وفي المجمل يركِّز الكتاب على العلاقة بين الجريمة المنظمة والتمويل السياسي بشكل جزئي، فهو لا يوضِّح كيف انتشرت الجريمة المنظمة في دول أمريكا اللاتينية من الأساس، وما هي السياقات المنشِئة والداعمة لتلك العصابات، ويُغرق في تفاصيل كلِّ حالة دون توضيح التشابة والاختلاف على مستوى القارة ككل، أو توضيح الجريمة العابرة للحدود وتأثير العصابات عبر الدولية على السياسات الإقليمية والمحلية، ويغيب عن الكتاب أيضًا نتيجة وجود تلك العصابات على المستوى الاجتماعي، أمَّا على المستوى السياسي -وهو محور الكتاب- فيغيب عن الكتاب ذكر نتائج العلاقات السياسية بالجريمة المنظمة على باقي السياسات، وتأثير الجريمة على العلاقة بين المجتمع والدولة عبر أجيال عدَّة، وأخيرًا يغيب عن الكتاب دور الولايات المتحدة -كما سبق الذكر- في تشجيع وتزكية عصابات المخدِّرات في العديد من دول أمريكا اللاتينية.

ويقوم الكتاب بشكل أساسي بوصف تلك العلاقة بين الجريمة والتمويل السياسي وتحليلها من الناحية القانونية بشكل خاص، فالكتاب قائم على الوصف بشكل كبير لحالات الدراسة دون استخراج استنتاج شامل لقارة أمريكا الجنوبية، كما يركِّز على السياسات الداخلية لكلِّ دولةٍ وعلاقتها مع الجريمة المنظمة بداخلها، وذلك على الرغم من أن حالات الدراسة تؤكِّد أن الجريمة المنظمة في أمريكا اللاتينية عابرةٌ للحدود، حيث يمكن لعصاباتُ في دولةٍ ما أن تقدِّم تمويلًا انتخابيًّا في دولة أخرى. ومن ناحية أخرى، لا يتطرَّق الكتاب إلى أثر الجريمة المنظَّمة وانتشارها في حالات الكتاب على المجتمعات، ولا إلى حالها نتيجة انتشار العنف من أعلى ومن أسفل في نفس الوقت. ومن ناحية ثالثة، لا يُشير الكتاب إلى العلاقة بين الجريمة المنظمة والسلطوية في دول أمريكا اللاتينية، حيث إن العقود التي يركِّز عليها الكتاب هي نفس عقود انتشار السلطوية في تلك الدول. ومن ناحية رابعة، لا يُشير الكتاب إلى دور الولايات المتحدة الأمريكية في تزكية ودعم عصابات المخدِّرات في أمريكا اللاتينية والاتفاقات التي عُقدت بين وكالة الاستخبارات الأمريكية (CIA) وعصابات المخدِّرات في الدول المختلفة للسيطرة على المجتمعات والنخب السياسية في أمريكا اللاتينية؛ وبناء على ما سبق يقدِّم الكتاب رؤية جزئية للعلاقة بين الجريمة المنظمة والسياسة في أمريكا اللاتينية.

خاتمة:

يركِّز الكتابان على مفهوم العنف في أمريكا اللاتينية بمستوييْه من أسفل ومن أعلى، والعنف مفهوم مركزي في تاريخ أمريكا اللاتينية لفهم وإدراك كيفيَّة تشكيل الواقع الاجتماعي والسياسي والاقتصادي في دول أمريكا اللاتينية، أمَّا فيما يتعلَّق بمستوى العنف من أعلى فإن الكتابين أكَّدَا على أن عنف الدولة يمكن أن يؤدِّي إلى تفكُّك المجتمعات وصولًا للحروب الأهلية، وهو المشهد الذي ليس بعيدًا عن الوضع الحالي في المنطقة العربية الآن، فالوضع في سوريا واليمن مشابهين، والخطوة الأولى لتجاوز ذلك الماضي المؤلم هو العدالة وإنشاء ذاكرة تمنع من تكرار العنف.

أمَّا العنف من أسفل، فكان نصيب أمريكا اللاتينية في عصابات المخدِّرات بشكل أساسي، ولكن يمكن أن يشهد العنف من أسفل مستويات أخرى مثل جماعات العنف أو أي ممارسات عنيفة من قِبَلِ المجتمع، والعنف من أسفل في الأغلب يكون نتيجة للعنف من أعلى واستمراره، ولا تُؤخذ العلاقة بين المستوييْن على محمل الجدِّ فيما يتعلَّق بدراستهم وتأثيرهم على المجتمع أو كيفية تفكيك وتحليل مشاهد العنف تلك والفاعلين فيهما، فعادة ما يتمُّ التركيز على تجاوز العنف وليس النظر إليه، إلى أسبابه، وتفاصيله، وفاعلِيه، وبالتبعيَّة نتائجه، تجاوز العنف بتلك الطريقة يخلق حالة من الصمت، ذلك الصمت يؤدِّي إلى التلاعُب في كتابة التاريخ، ممَّا قد يؤدِّي إلى خلق نفس السياقات التي نشأ فيها العنف، وتدور المجتمعات في دوائر مغلقة مع اختلاف الأجيال واختلاف المظاهر.

وعبر العقد الماضي شهدت المنطقة العربية مشاهد للعنف من أعلى ومن أسفل، سواء تمَّ دعمها من الخارج أو لا، وحتى الآن لم يتمَّ فتح تحقيقات حقيقية في الدول التي عاشت تلك المشاهد وما زالت، وهذا يعني أن العنف ما زال مسيطرًا على الساحة السياسية العربية.

تقدِّم أمريكا اللاتينية دروسًا في غاية الأهمية في هذا الشأن، منها:

– أنه لا استقرار ولا مستقبل دون عدالة وذاكرة، وأن إخفاء الحقائق ينتج مجتمعات مهزومة ومفكَّكة لا يمكنها دفع الضرر عن ذاتها، وأن استمرار السلطوية المنتجة لتلك الحالة في جميع الأحوال مؤقَّت وإن طالت سيطرتُها على السلطة لعقود.

– أن الذاكرة الحية للعنف في المجتمعات هي الضامن لعدم تكرار العنف، والذاكرة لا تعني فقط تذكُّر ما حدث ولكن إنتاج مؤسَّسات ومنظَّمات تحُول دون تكراره، خاصة في السلطة القضائية.

– أن عنف السلطوية هو أحد أهم أدواتها وضمان استمرارها في الحالات الطارئة، واستمرار هذا العنف يخلق مجتمع الخوف الذي يدخل في مرحلة من الجمود السياسي والفكري والثقافي، مما يؤخِّر تطوُّر المجتمعات على تلك الأصعدة. فالعنف من أعلى قد ينتج عنه نشوء العنف من أسفل، وتزواج مستويي العنف يؤدِّي إلى تأزيم المجتمع المأزوم، وخنق المجال العام المضيَّق، وإضعاف الاقتصاد الهشِّ، ويمكن أن نلحظ ذلك في العديد من الدول العربية.

 

فصلية قضايا ونظرات – العدد الثامن والعشرون – يناير 2023

_________________

الهوامش

[1] Eugenia Allier-Montano and Emilio Crenzel (eds.), The Struggle for Memory in Latin America: Recent History and Political Violence, (New York: Palgrave Macmillan, 2015).

[2] Kevin Casas-Zamora (ed.), Dangerous Liaisons: Organized Crime and Political Finance in Latin America and Beyond, (Washington: Brookings institution press, 2013).

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى