صناعة علاقات دولية عالمية

مقدمة:

يعد كتاب “تشكيل العلاقات الدولية العالمية: أصول حقل العلاقات الدولية وتطوره في ذكراه المئوية”[1] أحد الأدبيَّات الهامة لدراسة علم العلاقات الدولية من منظور غير غربي؛ حيث يطرح عدَّة تساؤلات هامة حول نشأة وتطور ومآل علم العلاقات الدولية، كردِّ فعل على الرؤى الغربية التي تدَّعِي أن نشأة الحقل جاءت فقط كردِّ فعل مع قيام الحرب العالمية الأولى؛ استجابةً لقضية السلام والحرب في المجتمع الدولي، كما يناقش الكتاب أيضًا الجدال حول طبيعة ونطاق العلاقات الدولية وهل العلاقات الدولية غربية فقط أم عالمية؟ ومن ثم يهدف الكتاب لإلقاء الضوء على رؤى غير غربية لإضفاء نكهة عالمية لحقل العلاقات الدولية، من خلال تقديم نظرة عامة واسعة النطاق على بعض الموضوعات الرئيسية للعلاقات الدولية خارج نطاق أوروبا وأمريكا الشمالية، وذلك من أجل الإجابة على تساؤل رئيس وهو متى وكيف ولماذا اكتسب حقل العلاقات الدولية هيكله المتمركز في الغرب؟

  • هدف الكتاب ومحور رسالته:

ينتقد الكتاب التحيُّز الغربي المستمر للعلاقات الدولية على مستويي النظرية والتطبيق، ويهدف إلى معالجة السرد أحادي الجانب للعلاقات الدولية، فيرى المؤلِّفون أن العلاقات الدولية السائدة ليست أكثر من مجرد انعكاس للتاريخ الغربي المتقاطع مع النظرية السياسية الغربية، فالواقعية هي فكرة مستمدَّة من القرن الثامن عشر الأوروبي من ميزان القوى العالمية، والليبرالية هي فكرة مستمدَّة من المنظمات الحكومية الدولية الغربية (IGOs) ونظرياتها في القرنين التاسع عشر والعشرين، والاقتصاد السياسي “الماركسية” هي فكرة مستمدَّة من فرع آخر للنظريات الأوروبية للاقتصاد السياسي في القرنين التاسع عشر والعشرين وعلم الاجتماع التاريخي، والمدرسة الإنجليزية (ES) هي فكرة مجرَّدة من القرن التاسع عشر والسلوك الدبلوماسي؛ ومن ثم فقد تمَّ بناء حقل العلاقات الدولية على أُسُسِ فلسفة المعرفة الغربية، وتهميش الأجزاء الأخرى من العالم، خاصة العالم الثالث، ورؤية العالم فقط وما فيه من أحداث من خلال عدسات التنافس بين القوى العظمى.

انعكس هذا التوجُّه أيضًا على الهيمنة الفريدة للولايات المتحدة من حيث السيطرة على الأخبار والمجلات والجمعيات الأكاديمية والمناقشات النظرية، ومن ثم ليس من الغريب أن تعكس العلاقات الدولية مخاوف الولايات المتحدة ومصالحها بشأن الحرب الباردة والاقتصاد العالمي والاصطفاف الأيديولوجي للعالم الثالث، لكن سرعان ما تغيَّر الأمر بعد اختلال الهيمنة الأمريكية، وصعود قوى عالمية أخرى بعد عام 2001 والحرب الأمريكية ضد الإرهاب العالمي، وفي هذا الصدد يقسِّم الكتاب تاريخ العلاقات الدولية إلى عدَّة مفاصل هامة، أهمها النشأة الأولى حتى عام 1919، ثم فترة ما بين الحربين العالميَّتين منذ عام 1919 وحتى 1945، ثم منذ عام 1945 وحتى الحرب الباردة والثنائية القطبية، وبعدها فترة انهيار الاتحاد السوفيتي والقطبية الأحادية للولايات المتحدة الأمريكية بعد عام 1989، وأخيرًا بزوغ النظام العالمي ما بعد الغربي وصعود قوى دولية أخرى.

  • العلاقات الدولية ما قبل عام 1919:

يناقش الكتاب في هذه الفترة تاريخ نشأة العلاقات الدولية حتى عام 1919 وهو التاريخ المعترف به من قبل الرؤى الغربية لميلاد حقل العلاقات الدولية؛ حيث تغيَّر كلُّ شيء في العلاقات الدولية خلال هذة الفترة الزمنية، نتيجة عددٍ من الأحداث الهامة جاءت من ضمنها: تأثير ثورات الحداثة على العلاقات الدولية، وترسيخ التاريخ الاستعماري الغربي وردود الفعل ضده، وصدمة الحرب العالمية الأولى.

وهو ما أطلق عليه الكتاب النسخة الأولي من قيام المجتمع الدولي ( الإصدار 1.0 من العلاقات الدولية)، تميَّز هذا المجتمع الدولي بانقسام صارم بين المركز (الغرب) بقيادة أوروبا والدول الأخرى (الأطراف)، كما تميَّز بالاستعمار والعنصرية، والتوتُّرات بين الملكية والحكومات الجمهورية، وقد أطلقت الحرب العالمية الأولى تنافسًا أيديولوجيًّا ثلاثي الأبعاد بين الاشتراكية والفاشية والديمقراطية الليبرالية، مع دفع الملكيات إلى الخلفية، الصدمة الكبيرة الأخرى كانت لشرعية وصلاحية حرب القوى العظمى كأداة للسياسة، ومن ثم رَكَّزَ علم العلاقات الدولية في هذه الفترة على دول المركز المتمثِّلة في أوروبا والولايات المتحدة الأمريكية مع استبعادٍ تامٍّ لباقي أنحاء العالم  المهمَّش.

  • تأسيس حقل العلاقات الدولية 1919م:

صِيغَ لأول مرة مصطلح “دولي” عام 1789 للإشارة إلى المعاملات القانونية بين الملوك، إلَّا أنه في العصر الحديث تمَّ استخدام مصطلح “الدراسات الدولية” و”السياسات الدولية”، وفي هذا الصدد يبحث الكتاب في الجدل حول تاريخ التأسيس العلاقات الدولية، منتقدًا ما تمَّ طرحه من المنظور الغربي حول أسطورة التأسيس في عام 1919، وكيف ارتبط ذلك بما حدث من قبل؛ حيث يرى أن تأسيس العلم من حيث القضايا والمناهج النظرية نشأ وتأسَّس قبل عام 1919، وأن علم العلاقات الدولية لم ينشأ في عام 1919 كردِّ فعلٍ على أهوال الحرب العالمية الأولى، بل بدأ قبل هذا التاريخ في إطار السياسات الدبلوماسية؛ كما أدَّت الجهود المبذولة في تنظيم العالم من خلال عصبة الأمم إلى الاستعانة بمناهج القانون الدولي، والاقتصاد الدولي، حيث جعلت الحرب العالمية الأولى علم العلاقات الدولية مهووس بصدمة الحرب وكيفية منع الكارثة من الحدوث مرة أخرى، وأصبح منع حرب أخرى هو الأولوية القصْوى للنظام “الجديد”. من خلال معرفة أسباب تلك الحرب، والحدِّ من التسلُّح ونزع السلاح، ومن ثم كَرَّسَ علمُ العلاقات الدولية نفسَه للمشكلة الكبرى والنبيلة للحرب والسلام، وإدارة الفوضى الدولية وعلاقات القوى العظمى، وسباق التسلُّح والاقتصاد العالمي مع استمرار تهميش واستبعاد العالم الآخر من العلاقات الدولية، ولذا يجادل المؤلِّفان أن “أسطورة” تأسيس العلاقات الدولية في عام 1919 هي نصف الحقيقة، حيث إنه بالفعل أصبحت العلاقات الدولية مجالًا دراسيًّا واعيًا بذاته في عام 1919، واكتسب مهارة ذات دلالة من خلال إضفاء الطابع المؤسَّسي، وصحيح أيضًا أن الصدمة الأولى من الحرب العالمية أعادت التركيز في أولويات المجال ومشكلة الحرب والسلام بين القوى العظمى في عالمٍ حادِّ الانقسامات الأيديولوجية، إلَّا أنه ليس صحيحًا أن التفكير المنهجي والتنظير حول العلاقات الدولية الحديثة بدأ في عام 1919.

  • العلاقات الدولية ما بين الحربين العالميتين (1919-1945):

يغطِّي هذا الجزء سنوات ما بين الحربين، كمحاولة فاشلة لاستعادة وتحسين المجتمع الدولي من قبل عام 1914، والحرب العالمية الثانية التي كانت نتيجةً لذلك الفشل. أعقبها أزمات متعدِّدة مثَّلت تحديات للعلم، منها: أزمة منهجية للحداثة على نطاق عالمي والجولات اللاحقة لهذه الأزمة (الحرب العالمية الثانية، وإنهاء الاستعمار والحرب الباردة، وصعود قوى دولية أخرى)، ومن ثم يرى الكتاب أن بنية العلاقات الدولية في هذة الفترة حافظت على نسختها 1.0 مع استمرار نظام المحيط المركزي الذي يهيمن عليه الغرب؛ حيث إن مجال العلاقات الدولية وُلِدَ خلال فترة ما بين الحربين، بهدف محدَّد هو منع اندلاع حرب عالمية أخرى واسعة النطاق ومدمِّرة ومنهِكة. ومن ثم ظلَّ الهدف الأساسي من نشأة العلم هو تجنُّب الحرب وتحسين ظروف الناس وجعلهم يعيشون في مكان أفضل، وهذا الرأي مجسَّد في أسطورة النقاش الواقعي / المثالي.

وفيما يتعلَّق بالقضايا محل اهتمام الحقل سيطرت قضايا الحرب العالمية الثانية، والحوار السياسي الدولي، ويرى الكتاب أن الحرب العالمية الأولى والثانية وكذلك الحرب الباردة ليست أحداثًا منفصلة، ولكن مراحل في أزمة أكثر عمومية تتكشَّف من عواقب التحوُّل بالجملة في العلاقات الدولية التي ولدت خلال القرن التاسع عشر من قبل ثورات الحداثة، كما حدَّدت نتيجةُ الحرب العالمية الثانية الملامحَ الرئيسيةَ المسيطرةَ على العلاقات الدولية حتى نهاية الثمانينيَّات، والتي كان من أهمها: التنافس المادي والأيديولوجي المكثَّف على نطاق عالمي بين قوتين عظمييْن، وظهور الصين كمحور ثالث في لعبة القوة الكبرى والأيديولوجيا، والتأثير الهائل للأسلحة النووية وسباق التسلُّح، وكيفية التكيُّف مع تفكُّك الاستعمار.

أمَّا فيما يتعلَّق بالتنظير في حقل العلاقات الدولية فقد تركَّز في التمييز القوي بين الشعوب “المتحضِّرة” وتلك التي استعمرتها؛ ممَّا ساهم في زيادة تهميش الاهتمام بالعلاقات الأساسية مع الأطراف (الدول المستَعْمَرة)، على الرغم من أنه كان هناك رؤى أخرى غير غربية للعلاقات الدولية، تمركزت حول مناهضة الاستعمار ومناهضة العنصرية (البيضاء)، لكنها بشكل أساسي لم تكن اتَّخذت بعد الشكلَ الأكاديمي، فقد كانت مناهضةُ الاستعمار موضوعًا مشتركًا ودافعًا لكثير من التفكير بالعلاقات الدولية في دول المحيط. كان هذا صحيحًا بشكل خاص في تلك الأماكن مستعمَرة أو مخترَقة بشكلٍ كبيرٍ من قِبَلِ القوى الغربية، وكانت في كثيرٍ من الأحيان تتشابك مع مزيج من الإقليمية والقومية، والتنمية.

فالعلاقات الدولية لم تنشأْ فقط من الانقسام المثالي والواقعي في الغرب، ولكن أيضًا بسبب الانقسام العرقي والاقتصادي والسياسي بين الغرب والبقية، ومن ثم أصبحت العلاقات الدولية مؤسَّسية بشكل كبير كتخصُّص أكاديمي، خاصة في الغرب، ولكن أيضًا إلى حَدٍّ ما أكثر عالمية. مع ذلك احتفظت بالكثير من الاستمرارية المركزية والتحيُّز الغربي، وكانت تركِّز بشكل كبير على وجهات النظر الغربية ومشاكل المركز الغربي، حيث كان هناك قدر كبير من الاستمرارية في الأنواع الرئيسة للموضوعات والمناهج والنظريات في العلاقات الدولية، بما في ذلك الليبرالية والاشتراكية والواقعية، إلى جانب قضايا القومية، والمنظمات الدولية، والاقتصاد السياسي، والجغرافيا السياسية ومكافحة الاستعمار.

  • العلاقات الدولية بعد عام 1945 وفترة الحرب الباردة:

قام الكتاب بوصْف هذه المرحلة بالنسخة المحدَّثة من المجتمع الدولي (1.1 من المجتمع الدولي) حيث سيطرَ على المجتمع الدولي في هذه المرحلة موضوعان رئيسان: الثنائية القطبية، والتي تضمَّنت توزيعًا جديدًا للسلطة ومنافسةً على الشكل المستقبلي لقيادة النظام الدولي وتأثير الأسلحة النووية، ومن ناحية أخرى إنهاء الاستعمار والمواضيع ذات الصلة مثل القومية، والتنمية، وتجدر الإشارة إلى أن التفاعل بين القطبية الثنائية وإنهاء الاستعمار جعلت العلاقات الدولية “عالمية لأول مرة”، فقد شكَّلت الحربُ العالميةُ الثانيةُ تحوُّلًا مهمًّا في العلاقات الدولية من الإصدار 1.0 للمجتمع الدولي، الذي تمَّ إعدادُه لأول مرة أثناء القرن التاسع عشر إلى الإصدار 1.1 للمجتمع الدولي. والذي تميَّز بعددٍ من الأحداث المفصلية وهي التحوُّل من نظام متعدِّد الأقطاب بعدَّة قوى عظمى إلى نظام ثنائي القطب مع قوَّتين عظمييْن فقط، وإدخال الأسلحة النووية وإيصالها عبر القارات، ونزع شرعية العنصرية وإنهاء الاستعمار في المستعمرات السابقة كمحيط جديد لـ”البلدان النامية” في العالم الثالث، فقد كان إنهاء الاستعمار تحوُّلًا جذريًّا للغاية في العلاقات السياسية بين المركز والأطراف.

  • النشأة الثانية لعلم العلاقات الدولية 1945:

خضع علم العلاقات الدولية لتأسيسٍ ثانٍ في هذه المرحلة؛ حيث اتَّسع وتعمَّق إضْفاء الطابع المؤسَّسي؛ وأصبحت الولايات المتحدة هي مركز العلم (على الرغم من الفشل في تحقيق فكر الهيمنة) حيث على الرغم من هيمنة منظورات الواقعية الجديدة والنيوليبرالية، إلا أنه كان هناك قدر كبير من التنوع داخل الحقل، بسبب انتقادات الفلسفة الوضعية للعلم، وظهور المدرسة الإنجليزية، وتحدِّي الماركسيِّين وGramscian، ونظريات التبعية، وما بعد الاستعمار.

ومن حيث القضايا، سيطرت على العلاقات الدولية خلال هذه الفترة قضايا العلاقات بين الشرق والغرب، ممَّا دفع إلى الاهتمام بالعلاقات بين الشمال والجنوب؛ حيث أدَّى إنهاء الاستعمار ورفض العنصرية إلى تفكير العلاقات الدولية في الجنوب، بدلًا من ذلك تحوَّلت معارضة الاستعمار إلى معارضة عدم المساواة الاقتصادية، والمركزية الأوروبية والعنصرية الخفيَّة لكثيرٍ من التفكير الغربي للعلاقات الدولية.

وتستند فكرة أن حقل العلاقات الدولية كان لها “تأسيس ثان” بعد عام 1945 إلى عدَّة أحداث منها التوسُّع الهائل في إضْفاء الطابع المؤسَّسي من حيث التدريس والبحوث، وصعود جمعيَّات العلاقات الدولية الأكاديمية المستقلَّة، والصعود السريع للتخصُّصات الفرعية الجديدة، وأبرزها الدراسات الاستراتيجية مع تركيزها على المشاكل الفريدة التي تطْرحها الأسلحة النووية، وبدايات الاعتراف بالدول المهمَّشة في جوهر تفكير العلاقات الدولية.

يمكن تفسير معظم هذه التغييرات من خلال تحوُّل مركز جاذبية العلم للولايات المتحدة، كمشارك عالمي في حين تخلَّفت بريطانيا إلى المركز الثاني، وكانت ألمانيا واليابان تابعتيْن لأمريكا وتحت تأثيرها. ومن جانب آخر، كان تأثير الاتحاد السوفيتي ضئيلًا على التنظير في العلاقات الدولية، وجلب هذا التحوُّل العديد من المزايا، مثل التمويل الأمريكي للأبحاث والدراسات في مجال العلاقات الدولية.

وفيما يتعلَّق بالمنهجية سيطرت الأساليبُ الكمِّية بشكلٍ متزايدٍ على العلاقات الدولية الأمريكية، وظلَّت الولايات المتحدة مسيطرةً على العلم، ومع ذلك، كانت هناك بدايات مشاركة العلاقات الدولية بين المركز والمحيط، بمساعدة ظهور نظريات التبعية، فعلى الرغم من أن إنهاء الاستعمار كان تغييرًا كبيرًا في الحقل وجزءًا أساسيًّا من التحول من الإصدار 1.0 إلى الإصدار 1.1 للعلاقات الدولية، حيث تمتَّعت الأطراف باستقلال وصوت سياسي أكبر، فإنه لم يكن لديها ثروة وقوة من الناحية المادية.

  • العلاقات الدولية بعد عام 1989:

تغطِّي هذه الفترة من نهاية الحرب الباردة وحتى الأزمة الاقتصادية التي بدأت في عام 2008، وبدأ المجتمع الدولي بشكل واضح في الانتقال إلى المرحلة ما بعد الغربية؛ حيث بدأت الدول النامية الكبرى مثل الصين والهند بتولِّي أدوار القوى العظمى. فالثروة والسلطة والهيمنة كانوا جميعًا يبتعدون عن النواة الغربية القديمة واليابان. وكان هذا يوازيه تراجع مطَّرد في مكانة الولايات المتحدة، القوة العظمى الوحيدة من حيث القدرة المادية والفكرية والمكانة والسلطة، حيث واجهت الولايات المتحدة الأمريكية أزمة عميقة نتيجة الركود الكبير الذي بدأ في عام 2008 والتصويت لترامب وخروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي في عام 2016، وفي هذة المرحلة كان كلٌّ من المركز والأطراف متشابكيْن بشكل متزايد في مجموعة من الأزمات التي تهدِّد المصائرَ المشتركة.

فمع الانتشار المتزايد للثروة والسلطة في الدول (الأطراف) وظهور ثقافات أخري حول العالم غير غربية، تمَّ دفع العلاقات الدولية نحو التعدُّدية في سياقٍ مستمرٍّ من تكثيف العولمة والاعتماد المتبادل؛ حيث كان هناك علامات على التحوُّل الاقتصادي الشامل للأطراف. وكان التحوُّل الأكثر دراماتيكيَّة هو النمو الاقتصادي للعديد من البلدان في آسيا، بقيادة الصين والهند، فتقديرات معهد الاتحاد الأوروبي للدراسات الأمنية تؤكِّد أنه بحلول عام 2030، يمكن أن تستحوذَ الصين والهند على أكثر من 34٪ من الاقتصاد العالمي. وأيضًا فإن تقريرًا صادرًا عن برايس ووترهاوس كوبرز (2015) يتوقَّع أن الصين والهند ستظهران كأكبر اقتصادين في العالم بحلول عام 2050، تلِيهما الولايات المتحدة وإندونيسيا والبرازيل والمكسيك واليابان وروسيا. ووفقًا لبرنامج الأمم المتحدة الإنمائي (برنامج الأمم المتحدة الإنمائي 2013) فإن حصة الجنوب العالمي من الناتج المحلي الإجمالي العالمي قد ارتفعت من 33٪ في عام 1980 إلى 45٪ في عام 2010. وخلال نفس الفترة ارتفعت تجارة البضائع من 25٪ إلى 47٪، ومن ثم ربما تكون الأزمة الاقتصادية لعام 2008 بمثابة المعيار وتاريخ التحول بين الإصدار 1.1 و 1.2 للمجتمع الدولي.

إن الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي يواجهان أزمة عميقة، في حين تشعر الصين وروسيا وتركيا ودول أخرى بثقة أكبر، لقد أضعفت الأزمة الاقتصادية الغرب ماديًّا، إضافة إلى إضعافه الليبرالي حيث تآكلت الأيديولوجية التي كانت تدعم سلطته. كما أن تزايد عدم المساواة بين الجنوب والشمال يشكِّك في التوافق بين الرأسمالية والديمقراطية، فالولايات المتحدة في عهد ترامب بدأت تشبه الاتحاد السوفيتي خلال الحرب الباردة في سنواته المتدهورة: فقد كان قويًّا عسكريًّا وغير قادر على استخدام هذه القوة لتحقيق تأثير جيد؛ وغير مثير للإعجاب اقتصاديًّا واجتماعيًّا وسياسيًّا  وأيديولوجيًّا، فالافتراض الليبرالي بأن الديمقراطية هي المرافقة الطبيعية والحتمية للرأسمالية لم يَعُدْ ذا مصداقيَّة، وبدأ الحديث عن قضايا الإرهاب والجريمة وحقوق الإنسان والهجرة، والأزمات العالمية المشتركة بما في ذلك عدم الاستقرار في الاقتصاد العالمي ومجموعة متنوِّعة من التهديدات البيئيَّة، ومن ثم بدأ الحديث عن تعدُّدية أكبر للمجال تؤجِّج الطلب على علاقات دولية عالمية.

  • العلاقات الدولية ما بعد الغربية (التعدُّدية العميقة):

يناقش الكتابُ النسخةَ الأخيرةَ من العلاقات الدولية ويصفها بأنها ذات نواة متَّسعة، وأن القوى العظمى التي ستُهيمن على المجتمع الدولي في العقود القادمة سوف تتطلَّع إلى الداخل إلى درجة وصفها “بالمتوحِّدة”، والمقصود بالتعدُّدية هو المعني الإيجابي لها وهو التنوُّع بدلًا من التجزئة بالمعنى السلبي؛ ولكن يظلُّ التقدُّم نحو العلاقات الدولية المستقلَّة العالمية يواجه عقبات خطيرة، أهمها استمرار الهيمنة الغربية على العلم واستمرار العراقيل الاقتصادية في جنوب الكرة الأرضية التي تعوق التحقيق السريع لمشروع العلاقات الدولية العالمي، كما يوضِّح الكتاب أنه في هذه المرحلة أصبحت القوى العظمى الأكبر سنًّا مثل الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي واليابان أضعف مادِّيًّا من ذي قبل و”غير قادرة أو غير راغبة بشكل متزايد في تولِّي زمام المبادرة لصناعة علاقات دولية عالمية” مع خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، بينما على صعيد آخر فعلى الرغم من أن القوى العظمى الصاعدة تطمح للاعتراف بها عالميًّا كقوى عظمى، تفتقر إلى أيِّ رؤيةٍ متماسكةٍ لكيفيَّة تشكيل المجتمع الدولي. لذلك، فإنهم يركزون على تطوير الاقتصادات الوطنية لديهم فقط مما يعوق التقدُّم نحو صناعة علاقات دولية عالمية.

خاتمة:

تتمثَّل إحدى النتائج الرئيسية لهذا الكتاب في أنه على الرغم من الجهود المبذولة لتقديم المزيد من التنوُّع في العلاقات الدولية، مع استثناء مهم وهي نظريات ما بعد الاستعمار، فإنها -أي العلاقات الدولية- لا تزال غربية وإن لم يكن بالتأكيد أمريكية.

ومع استمرار المركزية الأوروبية في التنظير وتحديد المبادئ والآليات الرئيسية للنظام الدولي (أوروبا الغربية بشكل أساسي، ولكن مع البصمة اللاحقة للولايات المتحدة)، بالإضافة إلى الأفكار والثقافة والسياسة والتجارب التاريخية والتطبيق العملي المعاصر، فإن ذلك ينعكس في مزيد من تجاهل واستبعاد وتهميش الأفكار غير الغربية، فيما وصفه الكتاب بالعالمية الكاذبة، وهي الميل لعرض أو تقديم الأفكار الغربية والممارسات كمعيار عالمي، بينما يُنظر إلى الأفكار والممارسات غير الغربية على أنها خصوصيات ثقافية لا تصلح أن تكون عالمية.

وَصَفَ الكتابُ أيضًا حالة المجتمع الدولي بالعنصرية المتضمَّنة في النسيان المستمرِّ للدور الرئيسي الذي لعبَه الغرب من خلال الاستعمار، فضلًا عن الانفصال بين نظرية العلاقات الدولية وتجربة العالم غير الغربي، وذلك على الرغم من أن العلماء الغربيِّين نادرًا ما يعتبرون هذا عقبةً أمام بناء النظرية.

وأخيرًا يرى الكتاب أنه هناك حالة من الإنكار وعدم الاعتراف بدور الدول غير الغربية والمؤسسات الإقليمية والجهات الفاعلة في المجتمع المدني في المساهمة في النظام العالمي؛ حيث يُنظر إلى غير الغرب على أنهم مستهلكون، وليسوا منتجين، ومتلقُّون سلبيُّون وليسوا فاعلين نشطين، من الناحية النظرية.

_____________________

الهوامش

[1] Amitav Acharya and Barry Buzan, The Making of Global International Relations Origins and Evolution of IR at its Centenary, (Cambridge: Cambridge University Press, 2019).

فصلية قضايا ونظرات – العدد التاسع والعشرون – أبريل 2023

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى