السياسة الخارجية للاتحاد الأوروبي تجاه أمريكا اللاتينية

مقدمة:

ربما تكون أوروبا، والآن الاتحاد الأوروبي (EU)، الشريك الأكثر تقليدية لأمريكا اللاتينية. فقد ساهم الاستعمار الأوروبي في تشكيل الأفكار والتطورات التاريخية والسياسية والاقتصادية والمجتمعية في أمريكا اللاتينية، إلا أنه ومع ذلك، كانت العلاقات بين الجانبين في حالة تغير مستمر إلى أن وصلت إلى وضعها الراهن -الذي يرصد كتاب “السياسة الخارجية للاتحاد الأوروبي تجاه أمريكا اللاتينية”([1]) أبرز ملامحه.

يتعامل هذا الكتاب للبروفيسور روبرتو دومينغيز مع علاقات غير متكافئة، غير متكافئة ليس فقط بسبب الفجوات الاقتصادية والتنموية التي تميز العلاقات بين الشمال والجنوب، ولكن الأهم أنها علاقة بين منظمة إقليمية: الاتحاد الأوروبي، ومنطقة: أمريكا اللاتينية. والفرق في الوضع بين الطرفين يكمن في أن الفاعل الأوروبي يدخل في العلاقة بناءً على مبادئ وقواعد ومصالح وسياسات مشتركة، بينما نظيره -أمريكا اللاتينية- يفعل ذلك من خلال سياسات وأفضليات ومصالح مادية تميل إلى الاختلاف من بلدٍ إلى آخر. ويؤدي هذا الاختلاف إلى إضعاف موقف أمريكا اللاتينية، ويعزز التفاوتات الأولية، وقبل كل شيء، يُفوّض هذا الوضع الوكالة وريادة الأعمال والمبادرة للجانب الأوروبي ويجعله المستفيد الأكبر من هذه العلاقات.

المدخل التحليلي، ونطاق الدراسة:

المدخل التحليلي الذي تناول منه الباحث العلاقة بين المنطقتين تبلور من خلال مفاهيم الإقليمية والتكامل، فأشار إلى أن تلك مفاهيم بمثابة مفاتيح أساسية لشرح خلفية العلاقة بين الاتحاد الأوروبي وأمريكا اللاتينية. وأضاف أن الهيكلة الإقليمية هي عملية تحدث في كلا المنطقتين منذ أواخر الخمسينيات من القرن الماضي. الأمر الذي أدى إلى إنتاج كيانين إقليميين مختلفين بمستوياتٍ مغايرة من المأسسة، والتكامل، فهذه العملية سمحت للاتحاد الأوروبي بتطوير وجود، ومشاركة، إلى حد ما، فريدة من نوعها، كلاعب دولي بينما لم تحقق أمريكا اللاتينية الأمر ذاته.

ويُركز النطاق الزمني الواسع لهذا الكتاب على الأحداث عبر الأطلسي التي حدثت بعد نهاية الحرب الباردة. ومن خلال الإطار التحليلي لـدراسة الإقليمية والعلاقات الدولية في إطارها، وجدت الدراسات عدة أنماط من العلاقات، وجادل الكتاب بأن العلاقة بين الاتحاد الأوروبي وأمريكا اللاتينية تتوافق مع سمات النوع الخاص بالتهجين بين الأقاليم -والمحددة من خلال الاعتماد المتبادل المنخفض، وعدم التناسق، والإطار النيوليبرالي، وهي كذلك العلاقات التي تكون بين منظمة لها سلطة رسمية تمثلها ومنطقة ليس لها هيكل مؤسسي موحد.

الجدير بالذكر أن الباحث في إطار سرده تطور الإقليمية في المنطقتين شبه النزعة الإقليمية في أمريكا اللاتينية بمنطقة تتحدث بأصواتٍ عديدة في نفس الوقت. على عكس الاتحاد الأوروبي، حيث تجري عملية تكامل متعددة السرعات ويقودها نظام سياسي واضح المعالم.

وفي هذا الإطار، فإن الكتاب يقوم على مقولة أساسية مفادها أن: طوال عقودٍ من التطور المؤسسي، تبلور نظام للعلاقات الخارجية في الاتحاد الأوروبي في المقام الأول وإن تأثر الأمر بظهور الأزمات الدولية، فضلا عن قدرة نظام الاتحاد الأوروبي على الاستجابة وفقًا لتوقعات اللحظة التاريخية، والاستعداد لتحسين آليات العمل الجماعي.

فمنطق المصالح التي كانت أساسا لشن الحرب تحول لمنطق المصالح المشتركة، وكان المستوى الأول هو منطقة التجارة الحرة ثم السوق المشتركة التي وصل إليها الاتحاد الأوروبي وكانت من أهم مرتكزاته. وفيما يلي نتناول محتوى الكتاب:

أولا- خلفية تطور العلاقة بين الاتحاد الأوروبي وأمريكا اللاتينية:

كانت أمريكا اللاتينية عمليًا بعيدة عن رادار الاتحاد الأوروبي خلال الستينيات، ثم أصبحت جزءً من شبكة اتفاقيات الاتحاد الأوروبي في سبعينيات القرن الماضي، كما وفّر إدراج البلدان والصراعات في أمريكا الوسطى على رأس الأحداث قوة دفع جديدة للاهتمام في الثمانينيات. وقد أدت موجة من المبادرات الإقليمية لتعزيز التكامل والأسواق الحرة في أمريكا اللاتينية إلى جعل المنطقة أكثر جاذبية للاستثمار الأوروبي ومؤسسات الاتحاد الأوروبي في التسعينيات، مما مهد الطريق لإنشاء قمم ثنائية إقليمية ومجموعة متنوعة من آليات التعاون.

ومن جانب آخر، أصبحت أمريكا اللاتينية منطقة مهمة للاتحاد الأوروبي بعد أن انضمت إسبانيا والبرتغال إلى الجماعة الاقتصادية الأوروبية في عام 1986. حيث كانت تلك الدول الأوروبية الجنوبية تتمتع دائمًا بعلاقات ثقافية وتاريخية ولغوية وثيقة مع أمريكا الجنوبية، ومن ثم بعد الانضمام إلى المجتمعات الأوروبية أصبحت الجسر بين أوروبا وأمريكا اللاتينية.

وتمثلت أول وثيقة مهمة عبرت عن تعاون الجماعة الاقتصادية الأوروبية مع أمريكا اللاتينية في لائحة بشأن المساعدة المالية والتقنية والتعاون الاقتصادي مع البلدان النامية في آسيا وأمريكا اللاتينية، وقد تم التوقيع عليها في 25 فبراير 1992. هذه الوثيقة أعطت دفعة جديدة للتعاون الإقليمي من خلال تنظيم القمة الأولى للاتحاد الأوروبي وأمريكا اللاتينية ومنطقة البحر الكاريبي  التي عقُدت في ريو دي جانيرو في عام 1999.

يستند الأساس المنطقي لهذا الكتاب حول العلاقات بين الاتحاد الأوروبي وأمريكا اللاتينية على ثلاثة عناصر رئيسية: تحديد المصالح والممارسات المشتركة، وشرح الابتكارات المؤسسية بين الجانبين، ومن ثَمّ المساهمة في فهم السياسات المرتبطة بالعلاقات بين الاتحاد الأوروبي وأمريكا اللاتينية؛ فيما يتعلق بالأول، فإن المصالح والممارسات المشتركة الحالية في العلاقات الثنائية الإقليمية بلغت مبلغًا كبيرًا، كما تشترك معظم دول أوروبا وأمريكا اللاتينية في مواقف متقاربة في المنظمات الدولية وتحتضن ثقافات سياسية متقاربة.

ساهمت هذه المقاربات المعيارية ليس فقط في العمل على استراتيجيات مشتركة لتقويض الأحادية في العلاقات الدولية، ولكن أيضًا في انتشار واعتماد الممارسات الليبرالية في أمريكا اللاتينية، وعلى الجانب الآخر تعزيز مكانة الاتحاد الأوروبي كمستثمر رائد والشريك التجاري الثاني للقارة اللاتينية. وفيما يلي نتناول كيف انعكس ذلك على مستوى كل من السياسات والأدوات المعبرة عنها.

ثانيًا- نماذج من سياسات الاتحاد الأوروبي تجاه أمريكا اللاتينية:

وفي هذا المستوى يتناول الكتاب سياسات الاتحاد الأوروبي الخارجية لجميع المناطق، لينتقل إلى سياسات الاتحاد الأوروبي التي تركز حصريًا على أمريكا اللاتينية.

ويركز في هذا السياق على ثلاث مجالات أساسية: المساعدات الإنسانية، والمجال الاقتصادي، ومجال حقوق الإنسان.

1- المساعدات الإنسانية: وتُعتبر ذات أهمية قصوى في نظام العلاقات الخارجية للاتحاد الأوروبي، لكن الجدير بالذكر أن أمريكا اللاتينية تلقت 4٪ فقط من ميزانية المكتب الأوروبي للمساعدات الإنسانية في عام 2013، مقارنةً بنسبة 40٪ مخصصة لأفريقيا  و32٪ في الشرق الأوسط (المفوضية الأوروبية 2014). علمًا أن هذه النتائج لعام 2013 متشابهة في السنوات السابقة عليها.

2- في المجال الاقتصادي: يُسهِّل مخطط الأفضليات المعمم للاتحاد الأوروبي (Standard GSP)[2] على البلدان النامية تصدير منتجاتها إلى الاتحاد الأوروبي من خلال خفض التعريفات الجمركية على سلعها عند دخول سوق الاتحاد الأوروبي. بالإضافة لنظامي [3]GSP+، EBA (Everything But Arms)[4].

وقد استفادت بلدان أمريكا اللاتينية التالية من هذه المخططات الثلاثة على هذا النحو: جواتيمالا وكولومبيا ونيكاراجوا وهندوراس في إطار نظام الأفضليات المعمم GSP؛ وإكوادور وباراجواي وبنما وبوليفيا وبيرو والسلفادور وجواتيمالا وكوستاريكا في إطار نظام الأفضليات المعمم +GSP؛ وهايتي هي البلد الوحيد في أمريكا اللاتينية الذي تلقى نظام EBA.

3- مجال حقوق الإنسان: فقد تم وضع برامج جديدة للوفاء بالأولويات التي حددتها القمم المتعاقبة بين الاتحاد الأوروبي ومنطقة أمريكا اللاتينية والكاريبي لتتحول إلى سياسات على أرض الواقع. تركز البرامج على ثلاثة مجالات رئيسية: التماسك الاجتماعي (EUROsociAL, URB-AL, Al-Invest)، التنمية المستدامة بما في ذلك تغير المناخ (EURO-SOLAR EUROCLIMA, RALCEA, FLEGT South America, ، وتعزيز التعليم العالي والبحث (ALFA, Erasmus Mundus).

وقد تم إدراج أمريكا اللاتينية في الأداة الأوروبية للديمقراطية وحقوق الإنسان (EIDHR)، وتتمتع هذه الأداة الموضوعية بنطاقٍ واسعٍ من الإجراءات وتهدف إلى توفير الدعم لتعزيز الديمقراطية وحقوق الإنسان في الدول غير الأعضاء في الاتحاد الأوروبي. ويغطي تعزيز الاتحاد الأوروبي لحقوق الإنسان في أمريكا اللاتينية عمليًّا جميع البلدان في طيفٍ واسع من البرامج المحددة.

أداة سياسية أخرى للاتحاد الأوروبي لتعزيز الديمقراطية هي -بعثات المراقبة (EU EOM). فمن عام 2000 إلى عام 2014، نشر الاتحاد الأوروبي أكثر من 120 مهمة بمشاركة أكثر من 11000 شخص، يعملون في مراحل مختلفة لكل عملية انتخابية.

وقد يتساءل القارئ عن أثر هذه البعثات على النظم والنخب السياسية الحاكمة وعلى شعوب هذه المنطقة، وخاصةً مع اكتساب الشعبوية زخمًا مؤخرًا في أمريكا اللاتينية، وسوء الأوضاع الاقتصادية والصحية جراء أزمة كورونا.

إن الاتجاه العام في أمريكا اللاتينية هو التكيف بدلًا من رفض موجة التحول الديمقراطي وسياسات السوق الحرة التي بدأت قبل عقدين في أوروبا. وأوضحت جميع حكومات أمريكا اللاتينية، باستثناء حكومتين أو ثلاث، أنها تُرحب بالاستثمار الأجنبي والخاص على حدٍ سواء، وتطبق توازنًا محكمًا، وتؤيد الشرعية الديمقراطية، لكنها تدرك أيضًا أن الأسواق بحاجة إلى التوجيه والقيادة من الدولة. وهي مطالب لطالما شدد الاتحاد الأوروبي عليها في عقد شراكاته كون البلد يجب أن يتبع النظام النيوليبرالي الأوروبي أولا ويفتح جميع أسواقه، لكن هذا بالطبع بما قد يضر ببعض الصناعات المحلية، وقد اعترضت بعض الدول -كما أُشير- كون تجاربها ما زالت جنينية لم يشتد عودها وهو ما لم تقبله سياسات الاتحاد الأوروبي، فنزويلا وكوبا على سبيل المثال. ولا شك أن السياسات التي تُفرض عنوة قد لا تكون الأنسب، كما يخبرنا التاريخ والأمثلة الحية. تلك الأولويات التي عبرت عنها السياسات الأوروبية تجاه أمريكا اللاتينية أوجدت العديد من الآليات لتدعيم أهدافها.

ثالثًا- الاتفاقيات والآليات المؤسسية من أجل توجيه المصالح المشتركة لأوروبا وأمريكا اللاتينية:

أدى الانتقال من العالم ثنائي القطب إلى اللحظة أحادية القطب ثم إلى النظام الحالي متعدد المراكز إلى إعادة النظر في أولويات العلاقات الخارجية للبلدان في جميع أنحاء العالم. أدى انتشار وإعادة توزيع القوة هذا إلى زيادة دور أمريكا اللاتينية، وإعادة تشكيل استراتيجيات الاتحاد الأوروبي. في هذا السياق، تمكن كل من الاتحاد الأوروبي وأمريكا اللاتينية من تعزيز العلاقات بينهما، وهذا من خلال عدة اتفاقيات وآليات مؤسسية تستجيب لمستويات مختلفة من التفاعل:

1- آلية القمة، أو الحوار بين المناطق، والذي تم عقده للمرة الأولى في ريو دي جانيرو عام 1999 وساهم في إيجاد أطر التعاون على أساس القواسم المشتركة.

واستنادًا إلى تحليل الوثائق، فيمكن ملاحظة أن مجالات التعاون الرئيسية ظلت كما هي منذ القمة الأولى في ريو دي جانيرو، وهي: الديمقراطية وحقوق الإنسان، والسلام والأمن، والتعاون بين المنطقتين في إطار المنظمات والمنتديات الدولية الأخرى مثل الأمم المتحدة، والتنمية المستدامة والبيئة، والتجارة والاستثمارات، والقضاء على الفقر، والتعليم، والعلوم، والبحوث، والشؤون الثقافية، والتكنولوجيا، والفساد وتهريب المخدرات. مع الأخذ في الاعتبار أن جدول أعمال الاجتماع رفيع المستوى يتغير ويُبرز بعض المجالات اعتمادًا على الوضع الدولي والبلد المضيف؛ فعلى سبيل المثال حظي الأمن والحرب على الإرهاب باهتمامٍ خاص من دول الاتحاد الأوروبي ودول أمريكا اللاتينية ومنطقة البحر الكاريبي في عامي 2002 و2004 في قمتي مدريد -إسبانيا وغوادالاخارا- المكسيك، وذلك بعد وقوع أعمال إرهابية في الولايات المتحدة (2001) وإسبانيا (2004).

ولكن هناك العديد من العقبات التي تعترض التعاون الثنائي الإقليمي -حيث يمكن استخلاصها من الإعلانات الصادرة عن القمم- ومنها: -العدد الكبير من المشاركين؛ الأمر الذي دفع الاتحاد الأوروبي إلى اتخاذ قرار بشأن التعاون متعدد المستويات، أي المفاوضات مع دول معينة مثل تشيلي وكولومبيا، أو المناطق الفرعية مثل منطقة البحر الكاريبي أو مجموعات التكامل مثل مجتمع دول الأنديز وميركوسور.

– اختلاف مستوى الاهتمام لدى بعض أعضاء الاتحاد الأوروبي تجاه التعاون مع أمريكا اللاتينية. أظهرت قمة غوادالاخارا، التي كانت أول قمة بعد توسيع الاتحاد الأوروبي عام 2004، أن أعضاء الاتحاد الأوروبي الجدد لم يقيموا علاقات مع أمريكا اللاتينية.

– الافتقار إلى المصالح المشتركة بين دول أمريكا اللاتينية وبعضها البعض؛ ولكن يمكن التغلب على هذا في إطار اتفاق أمريكا اللاتينية ومنطقة البحر الكاريبي على العمل معًا ضمن  جماعة دول أمريكا اللاتينية ومنطقة البحر الكاريبي (CELAC).

2- اتفاقيات الشراكة التي يكون فيها الطرفان قادران على تضييق مصالحهما. وقد تمكنت المكسيك وتشيلي وأمريكا الوسطى من التوصل إلى اتفاقيات شراكة مع الاتحاد الأوروبي. ورغم وجود اختلافات بارزة بين المكسيك وتشيلي ودول أمريكا الوسطى، إلا أن هناك اتجاهات عامة مشتركة سهلت التفاوض وإبرام مثل هذه الاتفاقيات مع الاتحاد الأوروبي، مثل: تنفيذ سياسات السوق الحرة منذ أوائل التسعينيات؛ وإبرام اتفاقيات التجارة الحرة مع الولايات المتحدة.

3- اتفاقيات التجارة الحرة الثنائية، وتبرز أهميتها في تلك الحالات التي ينطوي فيها التفاوض على بعض التعقيدات التي يصعب التغلب عليها.

على سبيل المثال، كان المحور الكولومبي للمصالحة الداخلية والسياسات الاقتصادية السليمة أولوية في جدول الأعمال الاتحاد الأوروبي الكولومبي. إذ إنه بعد سوريا، تضم كولومبيا أكبر عدد من النازحين داخليًا في العالم وهي ثاني أكبر مستفيد من المساعدات الإنسانية للمفوضية الأوروبية في أمريكا اللاتينية ومنطقة البحر الكاريبي، بعد هايتي. من ناحية أخرى، نمت بيرو بشكل أسرع من أي بلد آخر في أمريكا الجنوبية في العقد الماضي والعودة إلى الديمقراطية كانت سلمية ودون أي اضطرابات. لكن بشكلٍ عام، لا تزال كولومبيا وبيرو تواجهان العديد من التحديات لزيادة معايير حماية حقوق الإنسان أو تعزيز سيادة القانون، وقد عززت كلتاهما التزاماتهما وإجراءاتهما لإحراز تقدم وتنفيذ سياسات اقتصادية سليمة في الأجلين المتوسط والطويل بدعم من العديد من اتفاقيات التجارة الحرة، بما في ذلك مع الولايات المتحدة. وفي ظل هذه الخلفية، وقع كلا البلدان اتفاقية تجارة حرة مع الاتحاد الأوروبي دخلت حيز التنفيذ في عام 2013.

4- الشراكة الاستراتيجية، والتي تساهم أيضًا في تعميق العلاقة الثنائية على الرغم من أن مستويات إضفاء الطابع المؤسسي عليها محدودة للغاية. ويتناول الكتاب حالات البرازيل وكولومبيا وبيرو والإكوادور، على سبيل المثال، ركزت البرازيل والاتحاد الأوروبي على تنفيذ شراكة استراتيجية منذ عام 2001 في ضوء المفاوضات المطولة بين الاتحاد الأوروبي والميركوسور والدور المتزايد للبرازيل كلاعب دولي.

5- العمل من خلال شركاء إقليميين فرعيين، وبغض النظر عن حالة أمريكا الوسطى وهي منطقة توصلت إلى اتفاقية شراكة مع الاتحاد الأوروبي، يركز الكتاب على مجموعة متنوعة من نماذج علاقة الاتحاد الأوروبي مع ثلاث مناطق فرعية في أمريكا اللاتينية: ميركوسور، كاريفوروم، مجتمع الأنديز.

ذلك بما يرمز في حقيقة الأمر إلى تعقيد المنطقة وأقاليمها الفرعية. لقد كان التحدي الرئيسي للمنظمات الإقليمية في أمريكا اللاتينية هو افتقارها إلى التماسك في المفاوضات الدولية الناجم عن الضعف المؤسسي لعمليات التكامل الخاصة بها، مما مهد الطريق لاتفاقيات فردية متعددة الأطراف مع الاتحاد الأوروبي.

في المقابل، ترمز كل هذه الأدوات إلى براجماتية السياسة الخارجية للاتحاد الأوروبي وقدرته على الاستجابة، في سياقه المعاصر والتاريخي، للتحديات الإقليمية للعلاقة مع أمريكا اللاتينية..

وفي هذا السياق تجدر الإشارة إلى رمزية عبارة “الأمريكيون من المريخ، والأوروبيون من الزهرة” بما يفسر تباين وجهات النظر الحالية حول كيفية عمل العالم؛ حيث يُفضل الأوروبيون الحوار والمشاركة على عكس تركيز الأمريكيين على العقوبات والحظر، وإن كانت هذه الصيغة تبسيطية إلى حدٍ ما، على سبيل المثال تم اختبار الصيغة الأوروبية للحوار والإقناع في حالة فنزويلا. لكن أدى الافتقار إلى التقدم الاقتصادي وضعف سيادة القانون أو الديمقراطية أو حقوق الإنسان في فنزويلا إلى وضع قيود في السياسة الخارجية الليبرالية الدولية للاتحاد الأوروبي كما تصاعدت التوترات مع الولايات المتحدة في الوقت ذاته. ومع ذلك، وكما هو الحال بالنسبة للولايات المتحدة، يُبقي الاتحاد الأوروبي الباب مفتوحًا لإجراء حوار بناء مع فنزويلا. بينما تُركز التوترات بين الاتحاد الأوروبي والأرجنتين بشكل أكبر على السياسات الاقتصادية التي تؤثر على الاستثمارات الأوروبية بدلًا من النزاعات السياسية، وإلى حد ما طورت العلاقات الثنائية آلية لإدارة الخلافات.

ويخلُص الكتاب إلى أنه، على الرغم من القيود الهيكلية الكامنة في العلاقات الثنائية الإقليمية والتناقضات الناتجة عن تضارب الأولويات الوطنية والإقليمية لدى دول أمريكا اللاتينية، فإن مشهد العلاقة بين الاتحاد الأوروبي وأمريكا اللاتينية يقدم أشكالًا مختلفة من التفاعل التي كانت قادرة على تعزيز المصالح المشتركة من خلال القنوات المؤسسية الثنائية بين الجانبين.

خاتمة:

من الجلي والواضح أن  قيام التكتلات الاقتصادية يؤدي إلى تحقيق مزيد من القدرة الإنتاجية للدول الأعضاء في التكتلات، ولعل أبرز هذه التكتلات الاتحاد الأوروبي الذي ظهر كرد فعل على التحديات السياسية التي واجهتها أوروبا قبل وبعد الحرب العالمية الثانية، ولقد حقق هذا التكتل نجاحًا كبيرَا بحيث أصبح الاتحاد الأوروبي يحتل مركزِا قياديًا في التجارة الدولية، وفي المقابل نجد الدول العربية ما زالت تحاول مواكبة هذه التغيرات للحد من التبعية الاقتصادية، حيث إنه بالرغم من اعتبار إقليمها أساسًا صالحًا للشروع بالعمل المشترك وحاجتها الماسة لإقامة تكتل عربي- إسلامي، إلا أن محاولاتها لم تلق النجاح المطلوب. من هذا المنطلق من المهم أن نطرح السؤال التالي: ما الدروس المستفادة من تجربة التكامل الاقتصادي الأوروبي؟ وكيف يمكن إسقاطها على واقع العالم العربي والإسلامي الراهن؟ والإجابة على هذا التساؤل يثير أسبابًا محلية، وأخرى عالمية، وهذا البحث إنما يتحدد نطاقه بالإشارة للتكامل الأوروبي ومساعي التكامل اللاتيني، ومن المهم كوننا باحثين عرب ومسلمين دراسة كلا المسارين.

هذا لا ينفي خصوصية البلدان اللاتينية أو العربية أو الأوروبية؛ فكل منطقة تسعى للتكامل المبني على الأسس والمنطلقات والظروف التاريخية الخاصة بها، التكامل الأوروبي كان هدفه منع الحرب، والتكامل العربي واللاتيني يهتم بتحقيق التنمية والأمن الإنساني. ومن هنا، تنبع أهمية دراسة كيفية اتخاذ قرارات جماعية مشتركة، وقيام مؤسسات مشتركة بما يتوافق مع الأهداف الكبرى.

ماذا عن العلاقات العربية – اللاتينية؟ الواقع أن التوازن الدولي يقتدي تكامل جهود الجانبين للحد من الهيمنة الأمريكية على كلا المنطقتين، فقد بدأت دول أمريكا اللاتينية في أعقاب نهضتها الاقتصادية البحث عن صياغة نظام عالمي جديد يؤمّن لها لعب دورها المستحق في إعادة رسم هيكلية عالمية جديدة، ومؤسسات دولية عصرية تعكس التغيير الذي طرأ على مراكز القوى الدولية منذ الحرب العالمية الثانية وتأخذ بالحسبان مصالح الدول النامية.

ولإنجاز التكامل بينها أولا وقعت العديد من دول أميركا اللاتينية اتفاقيات تعاون ثنائية تهدف إلى تحقيق التكامل الاقتصادي، كما برزت دول في القارة اللاتينية مثل البرازيل وفنزويلا والأرجنتين كقوى اقتصادية وسياسية فاعلة على المسرح الدولي. وقد نجحت هذه الدول في إعادة رسم الخارطة الجيوسياسية في القارة، بعيدًا عن سياسة التبعية للولايات المتحدة بما يسمح لها باستقلالية قرارها السياسي ويحقق مصالح شعوبها.

القمم العربية -اللاتينية محاولة نوعية لتأسيس نمط جديد في العلاقات، حيث يؤكد محللون سياسيون أن الشراكة بين دول أمريكا الجنوبية والدول العربية ستؤدي إلى تشكيل قوة متوازنة على الساحة الدولية قادرة على التعبير عن مواقفها من أجل حماية مصالحها الحيوية المشتركة، حيث إن التعاون بين المنطقتين لن يسهم فقط في تطوير المبادلات التجارية والاستثمارات بين الجانبين ولكن سيؤدي إلى انبثاق تجمع اقتصادي يتمتع بقدرات تنافسية ضخمة.

على جانب آخر، مع الأخذ في الاعتبار التفاعل بين الشعوب؛ فمنذ بداية الصراع العربي –الإسرائيلي نجد دول أمريكا اللاتينية تلعب دورًا على جانب كبير من الأهمية فيما يتعلق بقضية فلسطين. وقد سحبت بعض دول أمريكا اللاتينية كتشيلي وبيرو والبرازيل والإكوادور سفراءها من إسرائيل، بينما اعتبرت بوليفيا إسرائيل “دولة إرهابية” احتجاجًا على استمرار العمليات العسكرية الإسرائيلية في غزة، وكانت دول أخرى في أمريكا اللاتينية قطعت علاقاتها الدبلوماسية مع إسرائيل مثل فنزويلا وبوليفيا في عام 2009 بعد العملية العسكرية الدامية في غزة أيضًا، أما كوبا فكانت قد اتخذت هذه الخطوة في عام 1973 بعد حرب أكتوبر. وكان لرؤساءٍ سابقين ودبلوماسيين موقف حاسم من انتفاضة القدس الأخيرة داعمين لنضال الشعب الفلسطيني.

هذه الروابط من المهم تقويتها، في عصر يصبح فيه الشركاء حلفاء ويلعب كل لاعب دولي بقواعده، فعلى هذه الدول النامية الساعية للتكامل والنمو أن تفرض قواعدها وتتوحد أصواتها في سبيل ذلك.

 

 

فصلية قضايا ونظرات – العدد الثامن والعشرون – يناير 2023

___________________

الهوامش

[1] Roberto Dominguez, EU Foreign Policy towards Latin America, (London: Palgrave Macmillan, 2015).

[2] GSP: يستهدف نظام الأفضليات المعمم البلدان النامية التي يصنفها البنك الدولي على أنها من البلدان ذات الدخل الأدنى أو المتوسط الأدنى ولا تتمتع بإمكانية الوصول التفضيلي إلى سوق الاتحاد الأوروبي من خلال ترتيب آخر. يمكن للبلدان المستفيدة العامة من نظام الأفضليات المعمم أن تستفيد من تعليق الرسوم الجمركية على المنتجات غير الحساسة وتخفيضات الرسوم الجمركية (3.5 نقاط مئوية) على المنتجات الحساسة عبر حوالي 66 في المائة من جميع خطوط التعريفة الجمركية للاتحاد الأوروبي للمزيد من التفاصيل انظر: موقعThe EU’s Generalised Scheme of Preferences، عبر الرابط التالي: https://gsphub.eu/about-gsp/gsp-plus

[3] GSP + (نظام الأفضليات المعمم +): هو ترتيب الحوافز الخاص للتنمية المستدامة والحكم الرشيد الذي يدعم البلدان النامية الضعيفة التي صدقت على 27 اتفاقية دولية لحقوق الإنسان وحقوق العمل وحماية البيئة وتغير المناخ والحكم الرشيد. للمزيد من التفاصيل، انظر الرابط التالي: https://gsphub.eu/about-gsp/gsp-plus

[4] EBA (Everything But Arms): هو ترتيب خاص لأقل البلدان نموًّا كما صنفته الأمم المتحدة. ويتيح هذا الترتيب لجميع المنتجات (حوالي 7200  منتج) التي منشؤها أقل البلدان نموًّا، إمكانية الوصول دون رسوم جمركية أو حصص، باستثناء الأسلحة والذخائر. للمزيد من التفاصيل، انظر الرابط التالي:  https://gsphub.eu/about-gsp/eba

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى