المياه ومعضلة التنمية في القارة: التطورات في سد النهضة نموذجًا

مقدمة:

تعاني القارة  الأفريقبة من أزمة مياه ممتدة في مختلف الدول خاصةً مع تكرار موجات الجفاف التي تصيب مناطقها والصراعات على أحواض الأنهار، مما يزيد من حالة الصراع على المياه، ولعل أبرز الصراعات الحالية هو الصراع على نهر النيل؛ حيث أخذ سد النهضة حيزًا كبيرًا من النقاشات والجدالات بين دول الحوض خاصةً مصر والسودان وإثيوبيا وربما هدأ الحديث عن السد نسبيًا بعد تصاعد الصراع في الداخل الإثيوبي، إلا أن القضية في حد ذاتها بعيدة عن الوصول إلى حلول مرضية لجميع الأطراف.

وتتعدد أوجه التأزيم في ملف المياه في القارة الأفريقية وعالميًّا؛ ما بين شحّ المياه في مناطق عديدة وتعرضها للجفاف وتداعيات ذلك الخطرة، وما بين الصراع على مصادر المياه واستغلالها… فما هي أهم تجليات هذا التأزم؟ وكيف تمثل قضية سدّ النهضة والصراع بين دول مصب نهر النيل نموذجًا لهذه الإشكالية في أفريقيا؟

يسعى هذا التقرير إلى الإجابة عن هذين السؤالين، فيتناول معضلة المياه والتنمية في القارة الأفريقية إذ يبدأ بإلقاء نظرة عامة على أزمة شح المياه فىي أفريقيا وأسبابها وعواقبها، ويشير إلى بعض النزاعات على المياه في القارة موضحًا وضع مصر في هذه الأزمة. ثم يناقش التقرير أزمة سد النهضة تحديدًا، مبينًا تطوراتها منذ بدء تشييد السد، ويتناول موقف مصر والسودان وإثيوبيا ومصالح كلٍ منهم في هذا الشأن، مع تناول بعض المواقف الدولية والإقليمية من سد النهضة. وفي الخاتمة يعرض التقرير بعض البدائل المطروحة من وجهة نظر مصرية.

أولًا- المياه ومعضلة التنمية في القارة الأفريقية:

الماء هو أساس الحياة وسبيل العيش، وهو مفتاح التنمية. وعلى الرغم من ذلك، أصبحت المياه قضية مجتمعية وجيوسياسية ملحة بل إنها أصبحت في بعض المناطق بالفعل مصدر قلق بالغ الأهمية. وإذا استمر الحال على ما هو عليه في معظم أرجاء العالم من سوء استخدام للمياه ونزاع عليها؛ سيعيش ما يصل إلى 40٪ من سكان هذا العالم في مناطق تعاني من إجهاد مائي خطير بحلول عام 2035؛ كما أن قدرة النظم البيئية على توفير إمدادات المياه العذبة ستصبح معرضة للخطر بشكلٍ متزايد.

ومما يزيد الأمر صعوبة أن 60٪ من المياه العذبة تأتي من أحواض الأنهار العابرة للحدود، ومن ثم يجب أن تكون اتفاقيات المياه العابرة للحدود قوية بما يكفي للتعامل مع الظروف البيئية والمناخية متزايدة الغموض، فضلا عن التغيرات الاجتماعية والديموغرافية التي سترفع عدد سكان العالم إلى 9.7 مليار بحلول عام 2050 وتضاعف عدد الأشخاص الذين يعيشون في المناطق الحضرية.

يمكن أن تؤدي المفاهيم المختلفة للمياه إلى الصراع. غالبًا ما يتم التعارض بين تصور المياه كحق من حقوق الإنسان وسلعة عامة عامة وبيئية من جهة، والنظر إلى المياه كسلعة يجب تسعيرها لضمان الاستخدام الفعال والمستدام بحسب معظم المنظمات الدولية وهي في مجملها تحمل فكرًا وخطابًا رأسماليًا تروج له وتسعى لفرضه على بقية دول العالم خصوصًا النامية منها. وهى ترى أنه ليس فقط الدول، ولكن المقاطعات والمجتمعات كذلك، ستحتاج إلى مواءمة منظورات المياه للسماح بإدارة موارد المياه بشكلٍ سلمي وفعال. وفي وجهة نظرها، تعني الإدارة الفعالة معالجة القضايا المهملة مثل: إهدار المياه في الأنظمة الحالية، والتي قُدرت بما يصل إلى 30٪ ؛ الخلل المؤسسي المشترك، والممارسات غير الأخلاقية، وضعف المساءلة، والفساد في قطاعات المياه في العديد من البلدان.

وعلى المستوى العالمي، تتمثل أزمات المياه التي تلوح في الأفق فى عدة سياقات مترابطة: ندرة المياه وانعدام الأمن، والكوارث المتعلقة بالمياه، وأزمة المياه والصرف الصحي والصحة، وتدهور البنية التحتية للمياه وتدميرها، والتنمية غير المستدامة، وتدهور النظام البيئي[1].

وتغطي المياه 70٪ من كوكبنا، ومن السهل الاعتقاد بأنها ستكون وفيرة على الدوام. ومع ذلك، فإن المياه العذبة المستخدمة فى الشرب وري الحقول الزراعية نادرة للغاية، 3٪ فقط من المياه في العالم هي مياه عذبة، وثلثاها مخبأ في الأنهار الجليدية المجمدة أو غير متاحة لاستخدامنا بأي شكلٍ آخر.

ونتيجة لذلك، يفتقر حوالي 1.1 مليار شخص في جميع أنحاء العالم إلى إمكانية الوصول إلى المياه، ويعاني 2.7 مليار شخص من ندرة المياه لمدة شهر واحد على الأقل من العام. كما أن مياه الصرف الصحي غير الملائمة للاستخدام تمثل مشكلة لـ 2.4 مليار شخص -فهم معرضون لأمراض مثل الكوليرا وحمى التيفود وأمراض أخرى تنقلها المياه. ويموت مليونا شخص، معظمهم من الأطفال، كل عام بسبب أمراض الإسهال وحدها.

والعديد من أنظمة المياه التي تحافظ على ازدهار النظم البيئية وتغذي عددًا متزايدًا من السكان قد تعرضت للإجهاد، حيث: تجف الأنهار والبحيرات ومستودعات المياه الجوفية أو تصبح ملوثة للغاية بحيث لا يمكن استخدامها، واختفت أكثر من نصف الأراضي الرطبة في العالم، كما تستهلك الزراعة من المياه أكثر من أي مصدر آخر وتهدر الكثير من ذلك بسبب عدم الكفاءة. ويعمل تغير المناخ على تغيير أنماط الطقس والمياه في جميع أنحاء العالم؛ مما يتسبب في حدوث نقص وجفاف في بعض المناطق وفيضانات في مناطق أخرى. في ظل معدل الاستهلاك الحالي، فإن هذا الوضع سيزداد سوءً. فبحلول عام 2025، قد يواجه ثلثا سكان العالم نقصًا في المياه، وستعاني النظم البيئية حول العالم أكثر من ذلك[2].

وقد ألقت مشكلة ندرة المياه بظلالها على رفاهية البشر. وفقًا للتقديرات، في عام 2016، يعاني ما يقرب من 4 مليارات شخص -أي ما يعادل ثلثي سكان العالم- من ندرة شديدة في المياه لفترة طويلة من الزمن. وإذا لم يتحسن الوضع، يمكن أن يتشرد 700 مليون شخص حول العالم بسبب ندرة المياه الشديدة بحلول عام 2030. أفريقيا، على وجه الخصوص، تواجه ندرة حادة في المياه والوضع يزداد سوءً يومًا بعد يوم. ومن ثم، يلزم اتخاذ إجراءات حازمة وجوهرية لمعالجة هذه القضية.

1-شح المياه في أفريقيا: نظرة عامة

ندرة المياه هي الحالة التي يتجاوز فيها الطلب على المياه العرض، وحيث تقترب موارد المياه المتاحة أو تتجاوز الحدود المستدامة.

ومشكلة ندرة المياه في أفريقيا ليست مشكلة ملحة فحسب، بل إنها تزداد سوءً يومًا بعد يوم. وفقًا لمنظمة الصحة العالمية، تؤثر ندرة المياه على 1 من كل 3 أشخاص في القارة الأفريقية، ويتدهور الوضع بسبب عوامل مثل النمو السكاني والتوسع الحضري وكذلك تغير المناخ.

ويمكن تصنيف ندرة المياه إلى نوعين: المادية، والاقتصادية. تحدث ندرة المياه المادية عندما يتم استغلال الموارد المائية بشكلٍ مفرط لاستخدامات مختلفة ولم تعد تلبي احتياجات السكان. في هذه الحالة، لا تتوفر مياه كافية من الناحية المادية. من ناحية أخرى، ترتبط ندرة المياه الاقتصادية بسوء الإدارة، وضعف البنية التحتية، والاستثمارات المحدودة. وندرة المياه الاقتصادية قد توجد حتى في البلدان أو المناطق التي تكون فيها موارد المياه والبنية التحتية كافية.

ووفقًا لتقرير لجنة الأمم المتحدة الاقتصادية لأفريقيا في عام 2011، فإن المناطق القاحلة في القارة -التي تقع أساسًا في شمال إفريقيا- تعاني ندرة مائية مادية متكررة، في حين أن أفريقيا جنوب الصحراء الكبرى تعاني بشكل أساسي من ندرة المياه الاقتصادية. وفي الواقع، تتمتع المنطقة الأخيرة بمستويات مناسبة من المياه المادية، ويرجع ذلك أساسًا إلى وفرة مياه الأمطار، وإن كانت موسمية للغاية وغير موزعة بشكلٍ متساوٍ. ومع ذلك، فإن وصول هذه المنطقة إلى المياه مقيد بسبب ضعف البنية التحتية، مما يؤدي بشكلٍ أساسي إلى ندرة المياه الاقتصادية بدلاً من ندرة المياه المادية.

وفي دراسة أجريت عام 2022 نيابة عن معهد جامعة الأمم المتحدة للبيئة المائية والصحة، استخدم الباحثون مؤشرات لقياس الأمن المائي في جميع بلدان أفريقيا. وقد وجدوا أن 13 دولة فقط من أصل 54 قد وصلت إلى مستوى متواضع من الأمن المائي في السنوات الأخيرة، حيث مثلت مصر وبوتسوانا والجابون وموريشيوس وتونس البلدان الأفضل حالًا في إفريقيا من حيث الأمن المائي.

هناك 19 دولة -يقطنها نصف مليار نسمة- يُعتقد أنها تتمتع بمستويات من الأمن المائي أقل من عتبة 45 على مقياس من 1 إلى 100. ومن ناحيةٍ أخرى، فإن الصومال وتشاد والنيجر هي أقل دول آمنة فيما يتعلق بمستويات المياه في القارة.

تقدم مصر أفضل أداء فيما يتعلق بالحصول على مياه الشرب، بينما تقدم جمهورية أفريقيا الوسطى الأسوأ. ومع ذلك، فإن الأخيرة لديها أعلى نسبة توافر للمياه للفرد، بينما تتميز نصف دول شمال أفريقيا بندرة المياه المطلقة. يُظهر هذا مرةً أخرى أن أفريقيا جنوب الصحراء الكبرى ووسط أفريقيا تواجه ندرة المياه الاقتصادية أكثر من ندرة المياه المادية.

2-أسباب ندرة المياه في أفريقيا

تعتبر الأنشطة البشرية، التي تؤدي إلى الاستغلال المفرط والاحتباس الحراري، السبب الرئيسي لندرة المياه في أفريقيا. فالاستغلال المفرط هو المساهم الرئيسي في ندرة المياه المادية؛ حيث إن أكثر من 60٪ من أنهار جنوب إفريقيا تتعرض للاستغلال المفرط، كما أن ثلث الأنهار الرئيسية في البلاد فقط في حالة جيدة. فبحيرة تشاد -التي كانت تعتبر أكبر هيئة للمياه العذبة في أفريقيا وخزانًا مهمًا للمياه العذبة- تتقلص بسبب الإفراط في استغلال مياهها. ووفقًا لتقرير عام 2019، وُجد أن لهذا السبب وحده، تقلص المسطح المائي للبحيرة بنسبة 90٪ منذ الستينيات، مع انخفاض مساحة البحيرة من 26000 كيلومتر مربع في عام 1963 إلى أقل من 1500 كيلومتر مربع في عام 2018. ويمكن إرجاع السبب الكامن وراء الاستغلال المفرط إلى زيادة الطلب على المياه، مدفوعًا بارتفاع النمو السكاني ومعدل التحضر.

ينمو عدد السكان في أفريقيا جنوب الصحراء بمعدل 2.7٪ سنويًا وفقًا لتقدير عام 2020، أي أكثر من ضعف جنوب آسيا (1.2٪) وأمريكا اللاتينية (0.9٪). وفي الوقت نفسه، من المتوقع أن يتضاعف عدد سكان نيجيريا -وهي دولة تقع في غرب إفريقيا- بحلول عام 2050. أما بالنسبة لمعدل التحضر، وفقًا للأمم المتحدة، فإن 21 من أصل 30 مدينة الأسرع نموًا في العالم في عام 2018 موجودة في أفريقيا، وقد شهدت مدن مثل باماكو في مالي وياوندي في الكاميرون نموًا هائلاً، وسيؤدي الازدهار السكاني لا محالة إلى زيادة الطلب على الغذاء، وزيادة معدل التوسع الحضري وزيادة الأنشطة الصناعية، وكلها تتطلب إمدادات مياه وفيرة.

كما يساهم تغير المناخ والاحترار العالمي -الناجمان بشكلٍ أساسي عن زيادة الأنشطة البشرية والتجارية- في ندرة المياه في أفريقيا. فقد كشف تقرير صادر عن اللجنة الاقتصادية لأفريقيا التابعة للأمم المتحدة، أن ارتفاع درجات الحرارة العالمية بمقدار درجة مئوية واحدة سيؤدي إلى تقليل الجريان السطحي -مياه الأمطار الزائدة التي تتدفق عبر سطح الأرض- بنسبة تصل إلى 10٪. وذكرت دراسة أخرى أن الاتجاهات المتدنية لسقوط الأمطار الناجمة عن الاحتباس الحراري ستستمر في شمال أفريقيا، مما يحد من تغذية المياه الجوفية، ويؤدي إلى تفاقم استنفادها. وعلى الرغم من أنه في المناطق القريبة من خط الاستواء، من المحتمل أن يحدث ارتفاع في هطول الأمطار نتيجة للاحتباس الحراري، وزيادة التبخر المحتمل -الفقد المشترك للمياه من خلال عملية النتح وتبخر المياه من سطح الأرض- فإن مخاطر الجفاف في غالبية القارة لا تزال تفوق هطول الأمطار المتزايد في هذه المناطق[3].

3-عواقب شح المياه في أفريقيا

من المتوقع أن يؤثر شح المياه على الوضع الاقتصادي وصحة المواطنين، وكذلك على النظم البيئية في أفريقيا. فمن الناحية الاقتصادية، من المرجح أن يواجه قطاع الزراعة عقبات في ظل ندرة المياه الشديدة. فالزراعة هي واحدة من أكثر القطاعات الاقتصادية المحورية لأفريقيا، ويعمل بها غالبية السكان. في أفريقيا جنوب الصحراء وحدها، تمثل حوالي 14٪ من إجمالي الناتج المحلي الإجمالي. ونظرًا لأن القطاع يعتمد على المياه أكثر من غيره، فإن الزراعة تتأثر بالفعل بشدة بندرة المياه ومن المتوقع أن يزداد الوضع تدهورًا، مما يؤدي إلى مشاكل أخرى مثل نقص الغذاء، وفي أسوأ الحالات، المجاعة.

وليس من المستغرب أن يشكل نقص المياه تهديدًا كبيرًا لصحة الإنسان. في أوقات ندرة المياه، غالبًا ما يضطر الناس إلى الحصول على إمدادات المياه من البرك والجداول الملوثة. وبالتبعية، يؤدي تناول المياه الملوثة إلى انتشار أمراض الإسهال بما في ذلك الكوليرا وحمى التيفود وداء السلمونيلات والفيروسات المعدية المعوية الأخرى والدوسنتاريا. علمًا أن جودة خدمات الرعاية الصحية في العديد من البلدان الأفريقية منخفضة، حيث يحصل 48٪ فقط من الأفارقة على الرعاية الصحية. وقد أدى النظام السيء إلى جعل أمراض الإسهال مهددة للحياة بل ومميتة في كثير من الحالات.

فقد أوضحت دراسة نُشرت في عام 2021 أن مرض الإسهال الحاد يتسبب في حوالي 6 مليون حالة وفاة كل عام في أفريقيا جنوب الصحراء الكبرى، ومعظمهم من الأطفال وكبار السن. مرض الإسهال هو السبب الرئيسي الثالث للمرض والوفاة بين الأطفال الأفارقة دون سن الخامسة، وهو وضع تنسبه سلطات الصحة العامة إلى رداءة نوعية المياه والصرف الصحي[4].

ويالإضافة إلى جملة ما سبق، يُعرض نقص المياه النظم البيئية للخطر ويساهم في فقدان التنوع البيولوجي. أفريقيا هي موطن لبعض النظم الإيكولوجية الفريدة للمياه العذبة في العالم. بحيرة توركانا هي أكبر بحيرة صحراوية في العالم، بينما تستضيف بحيرة ملاوي أغنى أنواع أسماك المياه العذبة في العالم، وهي موطن لنحو 14٪ من أنواع أسماك المياه العذبة في العالم. من ثم إذا لم يتم التصدي للأمر، فإن ندرة المياه ستؤدي إلى تعطيل المياه العذبة والنظم الإيكولوجية البحرية في القارة، ومن المحتمل أن تؤدي إلى إنهائها.

وبشكلٍ عام، من المرجح أن تتفاقم مشكلة ندرة المياه في إفريقيا في ظل الطلب المتزايد باستمرار على المياه، وارتفاع درجات الحرارة العالمية. مطلوب باستمرار اتخاذ إجراءات ملموسة من جميع الأطراف لمعالجة هذه المشكلة الضخمة. وتذهب إحدى الدراسات إلى أنه يمكن للأفراد أن يلعبوا دورًا مهمًا في التخفيف من ندرة المياه في أفريقيا من خلال تبني أسلوب حياة أكثر صداقة للبيئة، واتخاذ إجراءات في حياتهم اليومية للتخفيف من تأثير تغير المناخ، كما يمكنهم تطوير ممارسات واعية تساعد في الحصول على مياه آمنة، وهي واحدة من أكثر الموارد أهمية للحياة على الأرض[5].

4-صراعات المياه فى أفريقيا

تضم قاعدة بيانات معهد “أتلانتيك”، وهو مؤسسة بحثية تعمل على دراسة قضايا المياه العذبة، معلومات تغطي 5000 سنة من تاريخ النزاعات المتعلقة بالمياه. وتضم قاعدة البيانات 400 سجل لنزاعات مائية كبيرة جرت حول العالم، من بينها 94 نزاعًا سُجّلت في أفريقيا اعتبارًا من سنة 1898 عندما وقعت حادثة فاشودة في ذروة التنافس الاستعماري بين بريطانيا وفرنسا على منابع النيل الأبيض، وكادت الحرب تنشب بين البلدين لولا تسوية المشكلة بفضل الجهود الدبلوماسية. أما أخطر النزاعات التي نشبت بين الدول الأفريقية بسبب المياه، فكانت الحرب الموريتانية السنغالية بين عامي 1989 و1991، وأودت بحياة 24 ألف شخص.

ويقسّم المعهد طبيعة النزاعات المائية في أفريقيا إلى عدة أشكال، أهمها الخلاف على المسائل التنموية والمعيشية، والنزاع العسكري لتحقيق أغراض سياسية، والهجمات الإرهابية على المصادر المائية. وعلى الرغم من تعدد أشكال النزاعات، إلا أن أغلبها (71٪) يرتبط بالتنمية والمعيشة، كالنزاعات بين المزارعين والرعاة على الأراضي والوصول إلى الأنهار والبحيرات، والمشاريع التنموية التي تهدد حقوق الآخرين وتنطوي على سوء إدارة للموارد المائية. وتجدر الإشارة إلى أنه يأتي نحو 85 في المئة من موارد المياه في أفريقيا من الأحواض النهرية الكبيرة التي تتقاسمها عدة دول، مثل حوض النيل الذي يشهد حاليًا خلافًا كبيرًا بين مصر وإثيوبيا والسودان يتعلق ببناء سد النهضة وتقاسم مياه نهر النيل[6].

ووفق معهد “سميثسونيان”، فإن مصر، في هذه المرحلة، بحاجة للاستثمار في تحلية ماء البحر للحصول على المياه العذبة كما هو الحال في المملكة العربية السعودية، والاستثمار في الري بالتنقيط لتوفير المياه كما تفعل إسرائيل. ويُحذّر المعهد أنه مع فقدان حقهم المكتسب في مياه النيل، واختفاء دلتا النيل بشكلٍ تدريجي في البحر، فقد يضطر الملايين من الشعب المصري للبحث عن مكانٍ آخر صالح للعيش.

وترى بعض التقارير أن “التناقص السريع في الموارد المائية المتاحة يحتاج إلى مراجعة للسياسات الزراعية والصناعية”. هل ستكون مصر قادرة على الموازنة بين حاجتها المتزايدة للنقد الأجنبي وترشيد الاعتماد على الصادرات المستهلكة للمياه كالأرز والقطن، والأسمنت والحديد؟ ألا توجد ضرورة لتسعير المياه بقيمتها الحقيقية من أجل دفع القطاع الصناعي والزراعي للتفكير جديًا في حسن إدارتها وترشيد استهلاكها؟ هل حان وقت التفكير في تحلية مياه البحر لتأمين الاحتياجات المائية المتزايدة؟[7].

إن ما سبق من تساؤلاتٍ، لا يُجدي الهروب منها، وهي تعكس توجهًا نيوليبراليًا في التعامل مع المياه  آخذًا في الانتشار، ويتمثل فى اعتبارها سلعة اقتصادية لها بورصة وسعر تباع وتشترى، على نطاق دولي ووطني ومحلي كغيرها من السلع يكون لها بورصة. وقد بدأت بورصة “وول ستريت” الأمريكية بتداول المياه إلى جانب الذهب والنفط وسلع أساسية أخرى فى ديسمبر 2020[8]؛ لتتحول من منفعة عامة أو على الأقل سلعة عامة تدعمها وتديرها أجهزة الدول إلى سلعة خاصة تديرها وتتخذ القرارات بشأن تشغيلها وتوزيعها داخل نطاق الدولة أو بين الدول شركات خاصة هدفها الوحيد هو الربح والربح فقط[9]. وذلك قد يؤدي إلى المضاربات من قبل الممولين الذين قد يتاجرون في المياه وكأنها سلعة أخرى، شأنها كشأن النفط والذهب .وعندما يُعلن عن تدفق الماء للمرة الأولى كسلعة للتداول في أسواق البورصة العالمية، وحين تعامل المياه، كما يحدث الآن، كالذهب والنفط وغيرها من السلع الأخرى، التي يتم تداولها في السوق المالية في «وول ستريت»، فذلك يعني أنه وخلال سنوات قد يصبح سعر الماء في بعض المناطق أثمن من النفط؛ وسوف تعتمد أكثر الدول والغرب كافة، على محطات كهرباء تعتمد على اندماج الذرة مصدرًا للطاقة، وعندها سوف يقل الطلب على النفط، بدرجة تؤثر على أسعاره، وبالمقابل سيكون هناك ارتفاع ملحوظ في سعر الماء.

ومن ثم يتمثل الخطر الأكبر في أن المنشآت الزراعية والمرافق الصناعية الكبرى، هي وحدها فقط من ستكون قادرة على شراء المياه، ما سيؤدي إلى تهميش قطاع الاقتصاد الضعيف، مثل صغار المزارعين، وهذا يضاعف من مشقة الطبقات الدنيا في مثل هذه القطاعات، ويزيدها غُبنًا أكثر مما واجهته نتيجة لموجة «الأتمتة» التي فرضت استبعادًا قسريًا للأيادي العاملة في هذه القطاعات، وأحلت الآلات بديلا لها. وفي تقرير خاص للأمم المتحدة، فإن المياه بالفعل تتعرض لتهديد شديد جرّاء تزايد عدد سكان الكوكب، وزيادة الطلب، والتلوث الخطير من الزراعة وصناعة التعدين، في سياق تفاقم تأثير تغيّر المناخ؛ ويؤكد التقرير على أن المياه مورد حيوي للاقتصاد.

إلا أن الماء يحتوي على مجموعة من القيم الحيوية للمجتمعات، لا يدركها منطق السوق. هذه القيم الحيوية التي لا يدركها منطق السوق أوجبت وجود مناقشات عالمية جارية بشأن القيم البيئية والاجتماعية والثقافية للمياه، بالتزامن مع الأنباء التي تشير إلى أنه سيتم تداولها في سوق العقود الآجلة في «وول ستريت» للتأكيد على أن قيمة المياه، كحق أساسي من حقوق الإنسان، مهددة الآن. إن الكارثة المنتظرة تتمثل في أن دولا لديها أنهار وشعوبها تعتمد على الزراعة والصناعة في معيشتها، سيكون لزامًا عليها أن تشتري المياه[10].

ثانيًا- تطورات ملف سد النهضة:

تستخدم مصر وإثيوبيا أدواتهما الدبلوماسية فى تبادل الضغط، ففى الخامس من سبتمبر 2022 انعقد فى أديس أبابا، “المؤتمر الإقليمي الأول رفيع المستوى لمؤتمر التعاون لدول أعالي نهر النيل” على مدى ثلاثة أيام، وحسب وسائل إعلام إثيوبية فقد شارك في المؤتمر كل من: “ديميكي ميكونين”، نائب رئيس الوزراء ووزير الخارجية، ووزير المياه والطاقة “هابتامو إيتيفا”، ووزراء الدولة للشؤون الخارجية، السفير “تسفاي” والسفير “بيرتوكان أيانو”، ومندوبين من تنزانيا وأوغندا وكينيا وجنوب السودان، وممثلين من معاهد المياه المختلفة، وضيوف رفيعي المستوى.[11] وقد صرح “ميكونين” إن “المؤتمر منصة مهمة لتعزيز التفاهم المتبادل بشأن قضايا نهر النيل، وخطوة نحو ضمان فهم أكثر شمولا لمبدأ الوصول إلى حلول مربحة للجانبين”. وأشار إلى أنه يكون بمثابة “منتدى تداولي يوفر فرصة لمناقشة التطورات الأخيرة في نهر النيل”، وأشار أيضُا إلى أن “مبادرة حوض النيل كانت بمثابة منتدى للقيام بمشاريع بناء الثقة المشتركة، بما في ذلك حماية النهر وتطوير اتفاقية الإطار التعاوني”، مؤكداً أن “الاتجاه لتأكيد الهيمنة على الموارد المائية المشتركة، من ناحية أخرى، لا يزال يشكل عائقًا أمام الاستخدام العادل والمعقول لمياه النيل”. ودعا “دميكي”، الدول الواقعة على ضفاف النهر إلى التعجيل بدخول اتفاقية الإطار التعاوني لدول حوض النيل حيز التنفيذ، والتي من شأنها معالجة المشكلات بطريقة دائمة .وتشجع إثيوبيا دول حوض النيل، الـ11، على تبني “الاتفاقية الإطارية لدول حوض النيل”، المعروفة باتفاقية عنتيبي، والتي أقرتها خمس من دول منابع النهر هي (إثيوبيا، وأوغندا، وكينيا، وتنزانيا، ورواندا).

وتُنهي اتفاقية عنتيبي الحصص التاريخية لمصر والسودان (55.5 مليار متر مكعب لمصر و18.5 مليار متر مكعب للسودان)، كما تفتح الباب لإعادة تقسيم المياه بين دول الحوض بما يراعي نسبة إسهام كل منها[12].

مثل هذا المؤتمر وغيره من المحاولات الإثيوبية لدعم موقفها فى قضية السد يسهم في استمرار مصر فى جهدها الدبلوماسي للضغط على إثيوبيا بعرض القضية على مجلس الأمن، وتوجيه الخطابات لإبلاغه بالتعنت الإثيوبي في المفاوضات. ففى سبتمبر 2021، دعا مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة الدول الثلاث المعنية إلى استئناف مفاوضاتها تحت رعاية الاتحاد الأفريقي، الذي سعى منذ ذلك الحين دون جدوى إلى استئناف المفاوضات.

وتتعثر المفاوضات وتواصل إثيوبيا عمليات الملء، حيث تم الملء الأول فى يوليو 2020، وجرى الثانى فى يوليو 2021، وأعلنت إثيوبيا عن اكتمال الثالث في أغسطس 2022. ونتناول فيما يلى مواقف الدول الثلاث: إثيوبيا، والسودان، ومصر من قضية السد ومصالحهم ومخاوفهم إزاءها، مشيرين إلى بعض المواقف الدولية والإقليمية من الأزمة.

1-الأطراف المباشرة للأزمة

  • الموقف الإثيوبي: حقوق الجغرافيا:

تطالب إثيوبيا بما تسميه “الحقوق الجغرافية” باعتبار أن نحو 80٪ من مياه النيل تنبع من أراضيها. وترفض بنود اتفاقيتي 1929 و1959 حول تقاسم مياه النيل، وخصوصًا الموافقة المصرية المسبقة على مشاريع الري بدول المنبع. وتصر أديس أبابا على أن تكون فترة ملء بحيرة السد خلال 7 أعوام على أقصى تقدير، وأن يستمر التخزين طوال أشهر السنة، وترى أن 40 مليار متر مكعب من مياه السد التي تطلبها مصر سنويًا ستعرقل قدرتها على ملء السد في الوقت المحدد وإنتاج الكهرباء. كما ترفض إثيوبيا وجود خبراء مصريين أثناء عملية ملء السد، أو الإدارة المشتركة له، وكذلك وضع فتحات أخرى في السد.

ورفضت إثيوبيا المبادرة المصرية السودانية التي تقضي بتشكيل رباعية دولية لقيادة مفاوضات حول سد النهضة، وأكدت أنها لن تتعامل إلا مع الوساطة الأفريقية المتمثلة في الاتحاد الأفريقي. وترفض إثيوبيا أيضًا الالتزام بأي اتفاق يقيّد حقّها في إتمام عملية الملء. ورغم شكوك بعض الخبراء حول جدواه خصوصًا بهذا الحجم، تعوّل إثيوبيا على سد النهضة للوفاء بحاجياتها المتنامية من الطاقة وتحقيق نهضة تنموية شاملة. وتخطط لتصبح أكبر دولة مصدرة للطاقة في أفريقيا، وبيع نحو ألفي ميجاوات من فائض الكهرباء لدول الجوار.

وتؤكد السلطات الإثيوبية أن السد سيسهم في تطوير المشاريع الزراعية الكبرى وأنشطة صيد الأسماك، وتنمية الاقتصاد المحلي، والترويج لشبكة تجارية جديدة قرب المنطقة، وتوفير فرص العمل، وزيادة توفير الغذاء للسكان المحليين وتنويعه[13].

  • الموقف السوداني: طموحات، ومخاوف:

ظل موقف السودان من سد النهضة، ثابتًا في حقبة الحكم الماضي وحقبة الحكم الانتقالي الحالي، إذ ترى السودان على الجانب الأول أن هذا السد شُيد قرب أراضيها، وسيقدم لها الخدمة ذاتها التي يقدمها السد العالي لمصر[14]، ويحقق لها أهدافًا استراتيجية، منها:

–   انتظام تدفّق المياه طول العام، وبمنسوب واحد، في النيل الأزرق، ومن ثم في نهر النيل، بدلا من تدفقها خلال 3 أشهر فقط في العام، كما هو الحال الآن، الأمر الذي يمكن السودان من الاستفادة من كامل حصته من مياه النيل وفق الاتفاقية المبرمة بينه وبين مصر في عام 1959، والتي تبلغ 18.5 مليار متر مكعب، مقابل 55.5 مليار متر مكعب لمصر.

–   زيادة الرقعة الزراعية والاستفادة من الأراضي الصالحة للزراعة، والتي لم تتم زراعتها بسبب عدم توفر المياه الكافية، فضلا عن زيادة عدد الدورات الزراعية من دورة زراعية واحدة في العام إلى 3 دورات زراعية، الأمر الذي يسهم بشكلٍ كبير في تحقيق الأمن الغذائي السوداني والأمن الغذائي العربي، ويسهم بالتالي في إبراز مكانة السودان في تحقيق الأمن القومي العربي، وتحويل شعار السودان “سلة غذاء العرب” إلى حقيقة ملموسة[15].

زيادة إنتاج السودان من الطاقة الكهربائية التي تُنتجها السدود السودانية، وانتظام عمليات الإنتاج التي كانت تتراجع قبل قيام سد النهضة خلال فصل الصيف بسبب قلة إيرادات النيل، كما كانت تتراجع خلال فصل الخريف بسبب تدفّق الطمي من إثيوبيا محمولاً على مياه النيل إلى السدود السودانية.

–   حماية السدود السودانية التي تهددها الكميات الكبيرة من الطمي المتدفقة من الهضبة الإثيوبية، وحماية قنوات الري المختلفة من هذه الكميات، وتوفير أموال طائلة كانت تنفق لحماية السدود وتطهير بحيراتها وتطهير قنوات الري في المشروعات الزراعية الكبيرة.

–   زيادة إيراد نهر النيل بمقدار 10 مليار متر مكعب كانت تتبخر في أعلى النهر وفي أسفله عند بحيرة السد العالي، علمًا أن اتفاقية مياه النيل قضت باقتسام أية زيادة تحدث في إيرادات النهر بين السودان ومصر مناصفةً بينهما، مثلما قضت بتحمل الطرفين أي نقصان يحدث في الإيراد بالتساوي بينهما، لا وفقًا لنسبة نصيب كلّ طرف من المياه.

–   انتظام النقل النهري من أقصى شمال وادي النيل حتى جنوبه طوال العام، الأمر الذي يوفر فرصة للتواصل الاجتماعي والثقافي والاقتصادي، وبأقل التكاليف المالية، إذا ما قورن بتكاليف النقل البري أو الجوي.

وعلى الرغم من حرص السودان على فوائد سد النهضة، فإنّه يعلق هذه الفوائد على إبرام اتفاق قانوني بين الدول الثلاث ينظم عملية الملء في الظروف العادية، والملء في أوقات الجفاف، والملء في أوقات الجفاف الطويل الممتد، وينظم عمليات التشغيل وتبادل البيانات والمعلومات ذات الصلة.

وفي سياق الحديث عن المخاوف التي يبديها البعض من قيام هذا السد والمتمثلة فى التأثيرات السالبة على سد الروصيرص، الذي يبعد كيلومترات قليلة عن سد النهضة، ما يشكل تهديدًا للتشغيل الآمن للسدود السودانية، والمشاريع الزراعية التي تُروى من النيل الأزرق، يؤكّد الخبراء من خلال معطيات السد الفنية والتصميمية، ومن معطيات جغرافيا السد، أنَّ من غير الممكن عمليًا حجز المياه عبر هذا السد إلا في حدود السعة التخزينية لبحيرة السد، والبالغة 74 مليار متر مكعب، نظرًا إلى طبيعة المنطقة التي بُني فيها السد، ولاعتبارات أخرى تتصل بعدم قدرة إثيوبيا على الاستفادة من أيِّ مياه تتجاوز السعة التخزينية للبحيرة، وبسبب افتقار منطقة السد والمناطق القريبة منها إلى الأراضي الزراعية، إضافةً إلى عدم الجدوى الاقتصادية من نقل المياه إلى أيّ موقع آخر داخل إثيوبيا.

وبالتالي، لا يؤثر قيام السد سلبًا في حصص مياه نهر النيل، إذ إنَّ النيل الأزرق الذي أقيم عليه السد تمر عبره 53٪ من المياه المتدفقة من إثيوبيا إلى نهر النيل، و47٪ من المياه المتدفقة من إثيوبيا إلى نهر النيل لا تمرّ عبر النيل الأزرق، إنما تمر عبر روافد أخرى معروفة، فضلا عن عدم قدرة إثيوبيا على التأثير في حصص المياه الواردة من النيل الأبيض الذي ينبع من بحيرة فكتوريا في أوغندا، والذي يقترن بالنيل الأزرق الذي ينبع من بحيرة تانا في إثيوبيا في الخرطوم، ليشكلا سويًا نهر النيل، مع التأكيد أنَّ ملء بحيرة السد خلال فترة قصيرة يحدث تأثيرًا سالبًا في إيرادات النيل من المياه خلال فترة الملء، وتشغيل السد بشكل أحادي يؤثر سلبًا في السدود السودانية.

ويلمح أحد الكتاب السودانيين إلى محاولة إسرائيل الاستفادة من النزاع بشأن سد النهضة، مشددًا على وجوب التزام الدول الثلاث بعدم تمكين أي طرف رابع من الاستفادة من مياه النيل أو من المنافع التي يوفّرها، وهو الَّذي يجب أن تعمل من أجله النخب والشعوب الحريصة على مقدراتها وثرواتها وسيادتها واستقلالها[16].

  • موقف مصر ومصالحها:

يتمثل الموقف المصري فى الاعتماد على اتفاق المبادئ الذي وقع عليه رؤساء الثلاث دول مصر والسودان وإثيوبيا في مارس 2015 بوصفه ملمحًا هامًا من ملامح التعاون وبناء الثقة بين الدول الثلاث، وضرورة بلورة اتفاق قانوني ملزم شامل بين كل الأطراف المعنية حول قواعد ملء وتشغيل السد، ورفض الإجراءات المنفردة أحادية الجانب التي من شأنها إلحاق الضرر بحقوق مصر في مياه النيل. وهو ما قد يؤدي حسب هيئة الاستعلامات المصرية إلى:

  • تخفيض حصة مصر المائية بواقع 20 مليار متر مكعب من مياه النيل، وهو ما سيتسبب في كارثة محققة نظرًا لأن مصر تعتمد اعتمادًا شبه كامل على مياه النيل، نظرًا لكونها دولة صحراوية، كما أن لديها أعداد كبيرة من السكان (حوالي 100 مليون نسمة) وتحتاج لمياه النيل لكي تغطي احتياجات ومطالب السكان المتزايدة.
  • في حالة الانتهاء من مشروع سد النهضة فقط والبدء في سنوات التخزين سوف يؤدى ذلك إلى نقص فى حصة مصر من المياه بنسبة تتراوح من 9 إلى 12 مليار متر مكعب سنويًاطبقًا لبعض التقديرات، وفي حال قررت إثيوبيا بناء مجموعة السدود (أربعة سدود) فإن ذلك سيؤدي إلى زيادة النقص في حصة مصر من المياه بمقدار 15 مليار متر مكعب سنويًا فى تقديراتٍ أخرى، هذا إلى جانب خسارتها لحوالي 3 ملايين فدان من الأراضي الزراعية وتشريد ما يتراوح من 5 إلى 6 ملايين مزارع[17].

ويُطرح ملف سد النهضة، في كل اللقاءات التى يعقدها الرئيس “عبد الفتاح السيسي” مع كافة قادة دول العالم ومنها روسيا وفرنسا وأسبانيا والمجر، وتحظى بتركيزٍ أكبر مع رؤساء الدول الأفريقية كالسنغال وجيبوتي في سبيل التعريف بالقضية وبيان الموقف المصري، حيث سعي مصر إلى اتفاق قانوني ملزم بشأن هذه القضية، وتمثل هذا السعي فى الإلحاح على التوصل إلى هذا الاتفاق الملزم فى كل المفاوضات وعرض القضية على مجلس الأمن والأمم المتحدة وطلب الوساطة من البنك الدولي والولايات المتحدة من أجل تلبية الأهداف الخاصة بالدول الثلاث مصر والسودان وإثيوبيا. وذلك هو الموقف كما يطرحه وزير الخارجية المصري في معظم لقاءاته الثنائية، ومتعددة الأطراف، وفي مخاطبته للمنظمات الدولية وآخرها في 29 يوليو 2022 إذ وجه سامح شكري وزير الخارجية خطابًا إلى رئيس مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة لتسجيل اعتراض مصر ورفضها التام لاستمرار إثيوبيا في ملء سد النهضة الثالث بشكلٍ أحادي دون اتفاق مع مصر والسودان حول ملء وتشغيل هذا السد، وهو ما يُعد مخالفة صريحة لاتفاق إعلان المبادئ المبرم عام 2015 وانتهاكًا جسيمًا لقواعد القانون الدولي واجبة التطبيق، والتي تُلزم إثيوبيا، بوصفها دولة المنبع، بعدم الإضرار بحقوق دول المصب[18].

وقد أخفقت كل جولات التفاوض بين مصر والسودان وإثيوبيا؛ سواء كانت ثلاثية أو تحت رعاية الاتحاد الأفريقي في التوصل لاتفاق ملزم، وسواء كان ذلك قبل الوساطة الأمريكية التى دعت إليها الولايات المتحدة أواخر عام 2019 أو بعدها. ولم يكن عام 2021 بأفضل من سابقه فى مسار التفاوض؛ ففى يناير ٢٠٢١ أخفق الاجتماع السداسي لوزراء الخارجية والمياه في مصر والسودان وإثيوبيا في تحقيق أي تقدم. وفي أبريل 2021 لم تحقق جولة المفاوضات التي عقدت في كينشاسا حول سد النهضة الإثيوبي خلال يومي 4 و5 إبريل تقدمًا، ولم تفض إلى اتفاق حول إعادة إطلاق المفاوضات.

2- المواقف الدولية والإقليمية (جهود الوساطة)

  • الولايات المتحدة:

فشلت الوساطة الأمريكية –سالفة الذكر- بشكل مباشر جراء امتناع إثيوبيا عن التوقيع على الاتفاق بالأحرف الأولى فى عام 2020. وفي إطار تقييم الوساطة الأمريكية في الأزمة، يمكن القول إن الولايات المتحدة لم تلق بثقلها فى هذه الوساطة؛ إذ جاءت فى العام الأخير لولاية “ترامب” الذي سعى لإحراز نجاح سريع يُعزز أسهمه في الانتخابات التي جرت في نهاية عام 2020 وإن كانت السياسة الخارجية ليست ذات ثقل في تحديد خيارات الناخب الأمريكي.

  • إسرائيل:

طُرحت اسرائيل كوسيط من البعض[19]، بينما اُتُهمت من البعض الآخر بضلوعها في الأزمة. لكن المعلن منها يُكذب ذلك، إذ نفت السفارة الإسرائيلية بالقاهرة، في بيان عبر صفحتها على “فيسبوك”، ما تردد في بعض القنوات التليفزيونية والمقالات الصحفية المصرية، عن ضلوع إسرائيل في أزمة سد النهضة، معربة عن أملها في أن تثمر المفاوضات عما يُحقق الاستقرار والرخاء لشعوب الدول الثلاث، في إشارة إلى مصر والسودان وإثيوبيا .وقالت السفارة إن “هذا الأمر عار عن الصحة ولا أساس له”[20]. هذا هو المعلن، لكن من نافلة القول إن كل ما يُضعف مصر على المدى القصير والطويل تسعى إسرائيل للاستفادة منه.

  • الاتحاد الأوروبي: تصريحات، وبيانات:

وفيما يخص موقف الاتحاد الأوروبي من الأزمة، فقد أشارت “آنيت ويبر” المبعوث الخاص للاتحاد الأوروبي لشؤون القرن الأفريقي في 22 مارس 2022 في لقاءٍ لها مع وزير الري المصري  إلى سعي الاتحاد الأوروبي للدفع بمسار المفاوضات الخاصة بسد النهضة؛ للوصول إلى اتفاق يرضي جميع الأطراف ويضمن استقرار وتنمية الدول، وتلبية متطلبات التكامل الإقليمي من خلال تحقيق الترابط بين المياه والطاقة وتكامل البنية التحتية والتجارة في ظل التغيرات المناخية.

وفي يونيو 2022 أصدر الاتحاد الأوروبي بيانًا مشتركًا مع مصر جاء فيه أنه على ضوء أهمية النيل كمصدر وحيد للموارد المائية والحياة في مصر في إطار الندرة المائية الفريدة بها، رحب الاتحاد الأوروبي ومصر بالبيان الرئاسي لمجلس الأمن حول سد النهضة الإثيوبي الصادر في ١٥ سبتمبر ٢٠٢١ حول التوصل لاتفاق مقبول لدى كافة الأطراف وملزم حول ملء وعملية تشغيل السد. ويُعد التوصل لهذا الاتفاق في أسرع وقتٍ ممكن بمثابة أولوية قصوى للاتحاد الأوروبي ومصر؛ من أجل حماية أمن مصر المائي ودعم السلام والاستقرار في المنطقة ككل. ويظل الاتحاد الأوروبي مستعدًا لدعم المفاوضات التي يقودها الاتحاد الأفريقي وممارسة دور أكثر نشاطًا، في حال كون هذا الدور مفيدًا ومرغوبًا فيه من جانب كافة الأطراف، عبر إتاحة خبرة الاتحاد الأوروبي الثرية في إدارة الموارد المائية المشتركة بما يتوافق مع القانون الدولي. فمن خلال الإرادة السياسية ودعم المجتمع الدولي يمكن تحويل هذا النزاع إلى فرصة لكثيرٍ من الأشخاص. إن ملايين الأشخاص المقيمين بحوض النيل سوف يستفيدون من اتفاق حول سد النهضة الإثيوبي، حيث سيخلق الاتفاق القدرة على التنبؤ، ويفتح الباب أمام الاستثمارات الأجنبية في الطاقة والأمن الغذائي والأمن المائي، هكذا جاء في البيان الأوروبي[21].

وهو البيان الذي رفضته أديس أبابا، ووصفت الخارجية الإثيوبية البيان بأنه “يحافظ على المصالح المصرية فقط”، وفقًا لما نقلته وكالة الأنباء الإثيوبية .وقال المتحدث باسم وزارة الخارجية الإثيوبية، السفير “دينا مفتي”، في إفادة صحفية، إن بيان الاتحاد الأوروبي “لا يراعي المصالح المشتركة بين الدول، وأنه يحافظ على المصالح المصرية فقط”، وأضاف أن البيان “متحيز وغير مقبول بكل المعايير، وأنه يهدف إلى ضمان الحصة التاريخية لمصر من الاتفاقيات الاستعمارية والتي لا تعطي الحق لبقية دول حوض النيل .”وتابع بالقول إن “موقف إثيوبيا ثابت في قضية مياه نهر النيل لا سيما في قضية سد النهضة”، وذكر أن بلاده “تعمل لضمان المصالح المشتركة بين الدول الثلاث”، وقال إن البيان “يدل على تحيز الاتحاد الأوروبي لمصر والذي لا يعطي الاعتبار للدول المشاطئة لنهر النيل”.

وذكر “مفتي” أن الاتحاد الأوروبي “كان داعمًا ومراقبًا لمفاوضات سد النهضة بين الدول الثلاث برعاية من الاتحاد الأفريقي”، مضيفًا أن البيان. وحث المتحدث الإثيوبي الاتحاد الأوروبي على “إعادة النظر في البيان وتقييم قضية سد النهضة، مع عدم الانحياز إلى أحد الأطراف المتفاوضة”، مشيرًا إلى أن إثيوبيا “لديها موقف ثابت في التعاون مع دول الممر والمصب في قضية سد النهضة”[22].

  • تضامن عربي، ومصالح، ووساطة غير محايدة:

تُعرب عدد من الدول العربية عن تضامنها مع كلٍ من مصر والسودان فيما يتعلق بقضية “السد الإثيوبي”، مؤكدة أن أمنهما المائي جزء من الأمن القومي العربي، ومشددة على أهمية الوصول إلى حل يحفظ حقوق البلدين في نهر النيل.

فمن جانبها، أكدت المملكة العربية السعودية دعمها ومساندتها لجمهورية مصر العربية وجمهورية السودان، وتؤكد أن أمنهما المائي جزء لا يتجزأ من الأمن العربي، كما تؤكد دعمها ومساندتها لأي مساعٍ تسهم في إنهاء ملف سد النهضة وتراعي مصالح كل الأطراف. كما شددت السعودية على ضرورة استمرار المفاوضات بحسن نية للوصول إلى اتفاقٍ عادلٍ وملزم بخصوص سد النهضة في أقرب وقتٍ ممكن، وفق القوانين والمعايير الدولية المعمول بها في هذا الشأن، بما يحافظ على حقوق دول حوض النيل كافة في مياهه، ويخدم مصالحها وشعوبها معًا. وعلى نفس المعنى تؤكد الكويت والأردن والبحرين وعمان.

أما الإمارات، فتؤكد في بياناتها الرسمية على اهتمامها البالغ وحرصها الشديد على استمرار الحوار الدبلوماسي البناء والمفاوضات المثمرة لتجاوز أية خلافات حول سد النهضة بين الدول الثلاث، مصر وأثيوبيا والسودان، وأهمية العمل من خلال القوانين والمعايير الدولية المرعية للوصول إلى حل يقبله الجميع ويؤمن حقوق الدول الثلاث وأمنها المائي، وبما يحقق لها الأمن والاستقرار والتنمية المستدامة، ويضمن ازدهار وتعاون جميع دول المنطقة .

لكن رغم التصريحات المؤيدة للأطراف العربية، نجد أن البعض منها لا يعبر عن التوجهات الحقيقية، فبعض الدول العربية مستفيدة من سد النهضة؛ وعلى رأس هذه الدول تأتي السعودية والإمارات. ففي مارس 2021، وبعد توسطها بالنزاع الحدودي بين السودان وإثيوبيا، اقترحت الإمارات وساطة في ملف سد النهضة، لكن مصر لم تبد اهتمامًا. قبلها بشهر أبدت السعودية أيضًا نيتها في الوساطة، ولكن لم تتخذ خطوات محددة في هذا الإطار. فالإمارات والسعودية لا يعتبران وسيطان محايدان نظرًا إلى دور إثيوبيا في تأمين المواد الغذائية للسعودية والإمارات، ومن ثم يُستبعد أن يتدخل أي منهما لمصلحة مصر، وسنرى بعض المؤشرات.

فى عام 2008 أطلق الملك “عبد الله” مبادرة “الاستثمار الزراعي بالخارج” لتأمين غذاء السعوديين، وتقوم المبادرة على الزراعة خارج أراضي المملكة وإعادة التصدير إليها بتمويل سعودي حكومي يصل إلى 60٪. وقد كانت إثيوبيا البداية المثلى لانطلاق المبادرة، إذ منحت إثيوبيا السعودية مليون هكتار لزراعتها أي نحو 10 آلاف كيلو متر مربع، واستفادت من ذلك عدة شركات سعودية؛ أبرزها شركة النجمة السعودية المملوكة للملياردير السعودي الإثيوبي محمد العمودي وهو داعم لبناء سد النهضة وأحد مموليه، وتزرع مجموعته ما بين 140-500 ألف هكتار وتصدر الأرز والخضراوات والفاكهة إلى المملكة.

وفيما يتعلق بالإمارات، فبعد أقل من شهرين من وصول “آبي أحمد” إلى رئاسة الوزراء، ووسط تصاعد أزمة السد، دعمت الإمارات إثيوبيا بـ 3 مليارات دولار، مليار منها وديعة في البنك المركزي ومليارات استثمارات.

وقد ذكر سفير إثيوبيا لدى الإمارات أنه” بين أعوام 2002-2020 دخلت 121 شركة إماراتية السوق الإثيوبية .. الإمارات أحد أهم الموارد الاستثمارية لنا في المستقبل”. وسيُنظم السد تدفق المياه إلى الأراضي الزراعية المستأجرة من شركات إماراتية وسعودية للحصول على سلتها الغذائية[23]؛ ما يعنى استمرار الاستثمارات الزراعية للبلدين بإثيوبيا[24].

وفي هذا الإطار أيضًا، يرى أحد الكتاب السعوديين أن المملكة يجب أن تكون طرفًا بأي حوار بخصوص السد؛ لأن معظم استثماراتها بمصر والسودان وإثيوبيا المقدرة بـ 97 مليار دولار تركز على الزراعة والثروة الحيوانية وكلاهما يحتاج إلى الماء[25].

وفي عام 2019 وقعت “هيئة الربط الكهربائي الخليجي” اتفاق دراسة جدوى الربط الكهرابائي مع إثيوبيا لاستيراد الكهرباء من أديس أبابا، وسيمر الكابل عبر اليمن كجزء من الجهود المبذولة لتقليل الاعتماد على النفط والغاز لتوليد الطاقة[26]. أما قطر، فيشير أحد الباحثين إلى أنها تقوم بالاستثمار فى البنية التحتية وفى مجال الزراعة فى إثيوبيا أيضًا، تمهيدًا لجني أرباح تلك الاستثمارات بعد عمل سد النهضة، دون أن يورد تفاصيل[27].

وحثت البعثة الدائمة لدولة الإمارات لدى الأمم المتحدة في أغسطس 2022 مصر وإثيوبيا والسودان على مواصلة التفاوض حول سد النهضة بـ”نية حسنة”، وأكدت البعثة دعمها للاتحاد الأفريقي ولالتزام الدول الثلاث بالمفاوضات التي يرعاها. وقالت البعثة، التي تمثل العضو العربي في مجلس الأمن في دورته الحالية، في بيانٍ لها إن الإمارات تؤمن بإمكانية إنهاء المفاوضات بشأن سد النهضة الإثيوبي بشكلٍ ناجح. وأكد البيان أن الإمارات تؤمن بأن إعلان المبادئ الموقع في عام 2015 بشأن سد النهضة الإثيوبي ما زال مرجعًا أساسيًا، مشددًا على دعم الإمارات لهدف الأطراف الثلاث في التوصل إلى اتفاق وحل خلافاتهم من أجل تعظيم المكاسب لهم ولشعوبهم. ويأتي هذا البيان بعد أيام من توجيه مصر خطاب إلى مجلس الأمن تسجل فيه اعتراضها ورفضها التام لاستمرار إثيوبيا في ملء سد النهضة بشكلٍ أحادي، ودون اتفاق مع مصر والسودان حول ملء السد وتشغيله[28].

خاتمة- سيناريوهات، ومقترحات:

دعت مصر مجلس الأمن إلى تحمل مسؤولياته في هذا الشأن بما في ذلك التدخل لضمان تنفيذ البيان الرئاسي الصادر عن المجلس، الذي يُلزم الدول الثلاث بالتفاوض من أجل التوصل إلى اتفاق في أقرب فرصة ممكنة.

وكانت مصر قد أعلنت تلقيها رسالة من إثيوبيا في 26 يوليو2022، تفيد باستمرار أديس أبابا في ملء خزان سد النهضة خلال موسم الفيضان الجاري، وهذا هو الملء الثالث الذي تنفذه إثيوبيا دون التوصل إلى اتفاق مع مصر والسودان بهذا الشأن. ووصفت مصر الموقف الإثيوبي في المفاوضات المتعلقة بسد النهضة في وقتٍ سابق بـ”المتعنت”. وكانت جامعة الدول العربية قد أعلنت العام الماضي أنها قد تتخذ “إجراءات تدريجية” لدعم موقف مصر والسودان في خلافهما مع إثيوبيا بشأن السد، لكن إثيوبيا رفضت موقف الجامعة ووصفته بـ”غير العادل”، مجددة رفضها تدويل الأزمة.

لكن ما الخيارات المتاحة أمام مصر بعد جولات المفاوضات العديدة غير المثمرة على مدى سنوات؟ يرى مسؤولون في مصر والسودان أن “الخطاب” الإثيوبي يبدو متحديًا للبلدين، إذ أكدت أديس أبابا مرارًا مُضيها قدمُا في ملء السد بمراحله المختلفة، بصرف النظر عن التوصل إلى اتفاق مع مصر والسودان أو عدم التوصل.

كما أعلن رئيس الوزراء الإثيوبي، “آبي أحمد”، العام الماضي عن خطة لبناء 100 سد صغير ومتوسط في مناطق مختلفة من بلده خلال السنة المالية المقبلة، ورفضت مصر هذا الإعلان معتبرة تصريحاته كاشفة عن “سوء نية إثيوبيا، وتعاملها مع نهر النيل وغيره من الأنهار الدولية التي تتشاركها مع دول الجوار وكأنها أنهار داخلية تخضع لسيادتها ومُسَخرة لخدمة مصالحها”.

ويمكن مناقشة بعض الخيارات المصرية على هذا النحو:

-الخيار العسكري

قد توحي التحركات المصرية على صعيد التعاون العسكري والاستخباراتي مع عدد من الدول الأفريقية المحيطة بإثيوبيا، بأن هناك تحركًا عسكريًا لمواجهة السد يجري الإعداد له. لكن الدكتور بدر شافعي- أحد الباحثين المصريين المتخصصين في الشؤون الأفريقية- يستبعد لجوء مصر إلى الحل العسكري لأسبابٍ عدة، من بينها: “عدم وجود حدود مباشرة بين مصر وإثيوبيا وبعد المسافة بينهما، وعدم امتلاك مصر لطائرات قاذفات قنابل بعيدة المدى -بي 52- قادرة على تدمير جسم السد”. ويُضيف أن إثيوبيا: “تمتلك منظومة دفاع جوي وأجهزة رادار قوية اشترتها من إسرائيل، وقد يغرق تدمير السد السودان”.

-المسار القانوني

ومن بين السيناريوهات التي يمكن اللجوء إليها التوجه إلى التحكيم الدولي، عبر تشكيل محكمة دولية خاصة بموافقة طرفي النزاع، كما حدث بين مصر وإسرائيل في قضية جيب طابا الحدودي، أو عبر اللجوء إلى محكمة العدل الدولية، ويستلزم ذلك موافقة الطرفين أيضًا، ومن ثم التزامهما طوعًا بما يصدر عن المحكمة. وهو سيناريو مستبعد تمامًا لأن إثيوبيا ترفضه، بل ترفض حتى وساطة رباعية دولية تضم الأمم المتحدة والاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة إلى جانب الاتحاد الأفريقي، وتتمسك فقط برعاية الاتحاد الأفريقي للمفاوضات.

-الانسحاب من إعلان المبادئ

ومن الخيارات المتاحة أمام مصر أيضًا الانسحاب، وفق الباحث المصرى بدر شافعي، أو التهديد بالانسحاب، من اتفاق إعلان المبادئ المتعلق بسد النهضة، الذي وُقع بين مصر والسودان وإثيوبيا في الخرطوم في مارس عام 2015. ويقول: “ربما تكون هذه خطوة رمزية مهمة تعري السد من الشرعية، ولكنها لن تكون كافية وحدها وإنما ربما تؤثر ضمن إجراءات أخرى”. لكن مراقبين يستبعدون هذا الخيار، ويرون أنه غير وارد في ذهن المفاوض المصري، لأن الاتفاق يمثل إلزاما لإثيوبيا بعدم الإضرار بدولتي المصب.

-استمرار المفاوضات

يُرجح أحد المتخصصين فى الشأن الإفريقي أن تستمر مصر والسودان في مسار المفاوضات، بسبب استحالة أو صعوبة البدائل الأخرى. لكنه ينصح في حال استمرار المفاوضات أن تبقى مصر والسودان موحدين في موقفهما، وأن يعملا على حشد ضغط دولي على إثيوبيا بهدف التوصل إلى اتفاق ملزم، وأن يستخدما -في سبيل ذلك- الانسحاب أو التهديد بالانسحاب من اتفاق المبادئ “كورقة ضغط على أديس أبابا”[29].

ويعول بعض الخبراء المصريين على التغيرات التي تشهدها الساحة الدولية في الآونة الأخيرة لحلحلة أزمة سد النهضة التي ستكون على الطاولة في التفاعلات الدولية، مشيرين إلى زيارة كل من “بلينكين” وزير الخارجية الأمريكي و”لافاروف” وزير الخارجية الروسي الأخيرتين لأفريقيا لاختلاف المنظومة الدولية بعد الحرب الروسية الأوكرانية حسب تصورهم[30]. وهذا التعويل يمكن اعتباره في منزلة ما بين التفاؤول والتفكير والتحليل بالتمني.

  وفى الختام، وفي إطار السعي لتقديم حلول لمعضلة التنمية بقدر أقل من الصراعات في القارة حول الموارد المائية بالتطبيق على أزمة سد النهضة، يمكن طرح التالي[31]:

-تنويع مصر والسودان لمواردهما المائية

يستلزم تزايد الطلب على المياه في السودان ومصر رفع كفاءة استخدام المياه وزيادة توافرها من خلال البحث عن مصادر جديدة. وتعد تحلية المياه تقنية واعدة، لكنها لا تزال في مهدها نسبيًا، لأنها مكلفة (وتتطلب الكثير من الطاقة) وتنتج آثارًا بيئية ضارة. والمياه الجوفية هي أيضًا مصدر يمكن استكشافه، ولكن مع الأخذ في الاعتبار أن الجزء الأكبر من موارد المياه الجوفية في السودان ومصر غير متجددة. علمًا أن حسن استخدام مياه الأمطار عن طريق ما يعرف بحصاد الأمطار هو نهج يمكن دراسته، خاصة في السودان.

-الترتيبات الفنية التي يمكن اتخاذها لتسوية أزمة سد النهضة

تتوفر العديد من الحلول التقنية، لكن قضية سد النهضة سياسية في الأساس. فأي حل تقني سيكون له آثار سياسية على إدارة مياه النيل على المدى الطويل. من الناحية المثالية، فإن الاتفاق القائم على “تقاسم المنافع” بدلاً منتقاسم المياه” من شأنه أن يساعد البلدان الثلاثة على الاقتراب قدر الإمكان من حل “مثالي”. ولدى كل من إثيوبيا والسودان ومصر موارد مختلفة من شأنها، إذا تمت إدارتها معًا، تعظيم الفوائد وتقليل تكاليف التدخلات في نظام نهر النيل. على سبيل المثال، توليد الطاقة الكهرومائية في إثيوبيا أرخص، ويأتي مع خسائر تبخر منخفضة نسبيًا. ويمكن استخدام سد النهضة، لتوليد الكهرباء الرخيصة لفائدة إثيوبيا والسودان ومصر.

ومن الممكن أيضًا تشغيل السد في نفس الوقت لضمان الحد الأدنى من التغييرات في توافر المياه في السودان ومصر؛ من أجل تمكين الإنتاج الزراعي لتحسين الأمن الغذائي في البلدان الثلاثة. فالزراعة أرخص وأكثر إنتاجية في الأراضي المسطحة نسبيًا والسهول الفيضية في السودان ومصر. يمكن لمثل هذا التحالف فيما يخص الموارد الطبيعية أن ينمو ليصبح شكلاً من أشكال التكامل الاقتصادي الذي يعتمد على المزايا النسبية لكلٍ من الدول الثلاث.

__________________

الهوامش

[1] Global Water Crisis: The Facts, UN Global Compact, 2017,Accssed at: 19 August 2022, Available at: https://cutt.us/SrwDX

[2] Water scarcity: overview, World Wildlife Fund, available at:  https://cutt.us/Co6Lx

[3] Charlie Lai,Water Scarcity in Africa: Causes, Effects, and Solutions, Earth.Org Ltd, 8 July 2022, Accessed at: 15 August 2022, Available at: https://cutt.us/b46Ih

[4] Ibid.

[5] Ibid.

[6] نزاعات المياه في أفريقيا تتفاقم مع تغير المناخ،InfoNile ، 10 يونية 2018، تاريخ الاطلاع 20 أغسطس 2022، متاح عبر الرابط التالي: https://cutt.us/Whkgo

[7]  تحديات مائية تهدد استقرار مصر: هبة النيل في عين العاصفة، مجلة البيئة والتنمية، عدد 232/233، يوليو / أغسطس 2017، تاريخ الاطلاغ 20 أغسطس 20222، متاح عبر الرابط التالي:  https://cutt.us/RCgZh

[8] لأول مرة.. بورصة “وول ستريت” تبدأ بتداول الماء، روسيا اليوم، 8 ديسمبر 2020، تاريخ الاطلاع 19أغسطس 2022، متاح عبر الرابط التالي:

https://cutt.us/oh9RK

[9] David A. McDonald and Greg Ruiters, The Age of Commodity Water Privatization in Southern Africa ,London: Earthscan, 2005, pp.30-35    .

[10] مناهل ثابت، “تسليع” المياه، البيان، 18 ديسمبر 2020، تاريخ الاطلاع 26 أعسطس 2022، متاح عبر الرابط التالي: https://cutt.us/e0Ppo

[11] مؤتمر إقليمي في إثيوبيا “للاستخدام المنصف” لنهر النيل.. ومخاوف مصرية، العربى الجديد 5 سبتمبر 2022، تاريخ الاطلاع 9 سبتمبر 2022، متاح عبر الرابط التالي: https://cutt.us/MKgK1

[12] ممثلو دول حوض النيل يؤكدون على أهمية التصديق على اتفاقية الإطار التعاوني، هيئة فانا الإذاعية الإثيوبية، 7 سبتمبر 2022، تاريخ الاطلاع 8 سبتمبر 2022، متاح عبر الرابط التالى: https://cutt.us/3AzRO

[13]  سد النهضة.. تطورات الأزمة وسيناريوهات الحل، الجزيرة، 20 يونية 2021، الاطلاع بتاريخ 20 أغسطس 2022، متاح على الرابط التالي:   https://cutt.us/UZdaP

[14] محمد حسب الرسول، سدّ النهضة الإثيوبي: تطوّر الأزمة وأفق الحل، الميادين، 23 فبراير 2022، تاريخ الاطلاع 15 أغسطس 2022، متاح عبر الرابط التالي: https://cutt.us/CSOkC

[15] المرجع السابق.

[16]  محمد حسب الرسول، سدّ النهضة الإثيوبي: تطوّر الأزمة وأفق الحل، الميادين، 23 فبراير 2022، تاريخ الاطلاع 15 أغسطس2022، متاح عبر الرابط التالي: https://cutt.us/CSOkC

[17] مصر وقضية المياه، الهيئة العامة للاستعلامات، 16 يونيو 2022، تاريخ الاطلاع 25 أغسطس 2022، متاح عبر الرابط التالى: https://cutt.us/OMQMp

[18] مصر وسد النهضة، الهيئة العامة للاستعلامات، 16 يوليو 2022، تاريخ الاطلاع 25 أغسطس 2022، متاح عبر الرابط التالى: https://cutt.us/xKoJv

[19] دبلوماسي مصري سابق يدعو بلاده “للاستعانة”بإسرائيل في ملف سد النهضة الإثيوبي، إسرائيل 24، 8 يوليو 2021، تاريخ الاطلاع 27 أغسطس 2022، متاح عبر الرابط التالي: https://cutt.us/Tgy4T

[20] إسرائيل: لا علاقة لنا بسد النهضة ولدينا ما يكفينا من المياه، الشرق ، 19 يوليو 2021، تاريخ الاطلاع: 26 أغسطس 2022، متاح عبر الرابط التالي: https://cutt.us/uEOAe

[21]   Joint press statement 9th Association Council meeting between Egypt and the European Union, the Council of the EU,  20 June 2022, Acssesed 23 Aguust 2022,  available at: https://cutt.us/Vp47w

[22]  إثيوبيا: بيان الاتحاد الأوروبي بشأن سد النهضة متحيز لمصر، سى أن أن بالعربية، 42 يونيو 2022، تاريخ الاطلاع 24 أغسطس 2022، متاح عبر الرابط التالي: https://cutt.us/WgHVj

 

[23] نيما خوارمي، مأزق على النيل، مركز كارنيجي، 30 يوليو 2020، تاريخ الاطلاع 21 أغسطس 2022، متاح عبر الرابط التالي: https://cutt.us/HTnS2

[24] غرفة أبوظبي تعرف بفرص الاستثمار في إثيوبيا، موقع وام، 31 مارس 2021، تاريخ الاطلاع 22 أغسطس 2022، متاح عبر الرابط التالي: https://cutt.us/MmdWF

[25] بندر بن سعود، سد النهضة خطر على المملكة، جربدة عكاظ، 27 يوليو 2020، تاريخ الاطلاع 25 أغسطس 2022، متاح عبر الرابط التالى: https://cutt.us/csXiA

[26] كيف تستفيد السعودية والإمارات من سد النهضة، DW  السلطة الخامسة، 12 إبريل 2021، تم الاطلاع 30 أعسطس 2022، متاح على الرابط التالي: https://cutt.us/cPtyt

[27]  كريم ملاك،  مفتاح أزمة المياه فى إثيوبيا.. البرسيم، بوابة الشروق، 3 أغسطس 2020، تاريخ الاطلاع 1 سبتمبر 2022، متاح عبر الرابط التالى:   https://cutt.us/DD0N1

[28] سد النهضة: الإمارات تحث مصر والسودان وإثيوبيا على مواصلة التفاوض بـ”حسن نية” على أساس إعلان المبادىء، بي بي سي، 3 أغسطس 2022، تاريخ الاطلاع 9 سبتمبر 2022، متاح عبر الرابط التالي:  https://cutt.us/8sPy4

[29] سد النهضة: الإمارات تحث مصر والسودان وإثيوبيا على مواصلة التفاوض بـ”حسن نية” على أساس إعلان المبادىء، بي بي سي، 3 أغسطس 2022، تاريخ الاطلاع 9 سبتمبر 2022، متاح عبر الرابط التالي: https://cutt.us/Jnevz

[30]  تشققات في سد النهضة.. لماذا لجأت إثيوبيا لتعبئة جديدة رغم التحذيرات المصرية؟ برنامج ما وراء الخبر، شبكة الجزيرة، 11 أغسطس  2022، متاح عبر الرابط التالي:  https://cutt.us/XVKL0

[31] Bassem Aly ,Interview: Finding solutions to the GERD crisis, Ahramonlin, Sunday 1 Aug 2021, Accessed at: 25 August 2022, Avaliable at:  https://cutt.us/RtMw6

فصلية قضايا ونظرات- العدد السابع والعشرون ـ أكتوبر 2022

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى