مراجعات في علم السياسة: نحو التجديد الحضاري

يعد هذا اللقاء الرابع ضمن الموسم العلمي لمركز الحضارة، للعام 2023؛ الذي يركز على (جديد المعرفة والفكر) في عدد من الموضوعات والقضايا، سواء كانت جديدة في ذاتها أو سابقة متجددة. وقد ناقشت فيه د. أميرة أبو سمرة (الأستاذ المساعد للعلوم السياسية بكلية الاقتصاد والعلوم السياسية – جامعة القاهرة) موضوعا مهما، يتعلق بالتجديد الحضاري في مجال في العلوم السياسية (وعلى وجه الخصوص حقل العلاقات الدولية)، في منظورات مختلفة، سواء المنظور السائد أو غيره من المنظورات.

افتتح اللقاء د.مدحت ماهر (المدير التنفيذي لمركز الحضارة)، مبيِّنا الهدف من هذا اللقاء؛ وهو أن نرى أنفسنا في مضمار ومسار التجديد عبر العالم، بوصل ما تم من جهود، وتحديد ما نحتاجه من إضافة عليها للاستكمال.

كما أكدت د.نادية مصطفى (رئيس المركز) أن مدرسة المنظور الحضاري الإسلامي في العلوم السياسية مستمرة منذ ما يقرب من خمسة عقود، وأنها تنمو وتتطور باستمرار عبر مسيرتها، محاوِلة الاستفادة من مصادر المعرفة المختلفة والجمع بين الشرق والغرب في تقليد بدأه أساتذتنا رواد هذه المدرسة ونسعى لاستمراره.

 بدأت د.أميرة حديثها عن معنى الحضارة وكيف تتمايز الحضارات بتمايز إجاباتها عن الأسئلة الوجودية الكبرى عن العلاقة بين الإنسان وخالقه والكون. ومن ثم، فإن الحضارات وفق هذا التعريف لا تتحدد جغرافيًّا وإنما أساسها فكري، لذلك تحدثت العالمة د.منى أبو الفضل عن رؤية معرفية علمانية، وليست غربية! ومن هنا يمكن أن يصبح إسهام الفرد إسهاما حضاريا، طالما أنه يستبطن الرؤية الحضارية ويستحضرها.

ورغم تعدد تعريفات الحضارة (منها القدرة على التآزر الإنساني)، إلا أن أكثر هذه التعريفات إشكالية هو التعريف الذي يحصر معنى الحضارة في التمدن على الطريقة الحداثية؛ أي الذي يحصر معنى الحضارة في تبني الرؤية المعرفية العلمانية المركزية التي تجعل الإنسان مركز هذا الكون ومصدر الدلالات المعرفية والأخلاقية فيها.

استُغرِقت هذه الرؤية في المظاهر المادية للتمييز بين البشر، واستبطنت من ثم رؤية تتصور أفضلية الإنسان الغربي (الأبيض- الأغنى- الأقوى، إلخ..) على من سواه، على نحو جعلها تنفي أحيانا عن غيره القدرة على التفكير الرشيد وتنزع عن أغلبهم الإنسانية dehumanize فتمارس ضدهم العنف أو الإكراه أو سلب الثروات. من هنا جاءت الحاجة إلى التجديد الحضاري والحاجة إلى التأكيد على إسهامات الحضارات المختلفة في مواجهة الحضارة المادية الغالبة.

وتتنوع آليات وأدوات التجديد الحضاري بين التدافع والتداول السنني والتعارف ومن ثم فإن التجديد الحضاري قد يحدث عن قصد، أو دون قصد نتيجة تفاعل الحضارات وتدافعها (“وما يعلم جنود ربك إلا هو”). وفي كل الأحوال، فإننا نملك الفعل ولكننا لا نملك النتيجة.

نظرة على التجديد الحضاري في العقود الأخيرة (ماذا حدث في العقدين الأخيرين؟)

  • على مستوى العلم:

حدثت ثورة حقيقية نتج عنها تغير مناهج العلم وعدم اقتصارها على الدراسة الإمبريقية الكمية، وظهور اتجاهات ناقدة تحاول كشف التحيزات في التفكير والتناول العلمي وتنتقد المركزية الغربية، سواء في القضايا محل الاهتمام أو في منهاجية دراستها.

  • بل وبات هناك اهتمام بما تطرحه الاتجاهات غير الغربية وغير الوضعية، وتساؤل عن إسهامها في إنتاج معرفي وعلمي ليس فقط خاصا بها، بل في حل المشكلات العالمية؛ انطلاقا من مرجعيتها ومن مصادرها المعرفية.
  • ومن الجديد أيضًا تزايد الاهتمام بدور الإسلام وإسهامه في العلم وفي التنظير للعلوم السياسية.
  • كذلك يهتم التنظير الجديد في العلوم السياسية بإمكانيات وسُبُل التغيير ومدى جدواها، ومن ثم يتجاوز الوظيفة التقليدية للتنظير حيث الاقتصار على رصد أسباب المشكلات.

 

** من مزايا هذا التوجه الجديد في العلم الاعتراف بأن العلم يمكن أن تكون له منهاجيات متعددة وليس منهاجية واحدة، وأن هناك طرق أخرى لإنتاج العلم والمعرفة، غير الطريقة التي تجعل الواقع حكَما على القيم وعلى النظرية وتجعل الهدف الأساسي للعلم هو التفسير السببي للظواهر الاجتماعية وإخضاع هذا التفسير للاختبار الإمبريقي.

**  لكن رغم ما توجهه هذه المراجعات العلمية والنظرية من نقد للمركزية الغربية في النظرية والواقع، إلا أن أقصى ما يمكن لها أن تحققه هو أن تزعزع تلك القناعة التي نهضت عليها الحضارة الغربية بأفضليتها على سائر الحضارات، ومن ثم قد تعجل بانهيار الحضارة المادية داخليا، لكنها لا تستطيع أن تبني بديلا جديدًا مستقلاً؛ لأنها ستظل متأرجحة نسبية، تتسم برؤية مادية علمانية للعالم هي ذاتها التي قادت الغرب -عبر قرون ممتدة- لتصور أفضلية حقه في الحياة ولو على حساب غيره حيث جاءت حركته بلا ميزان أو معيار متجاوز ضابط لهذه الحركة.

  • على مستوى الواقع
  • من التغيرات المهمة في العقدين الأخيرين، صعود حضارات غير غربية كالصينية والهندية على الأصعدة المادية، حضارات لديها إرث حضاري ونماذج معرفية للتفكير في الواقع بديلة ومختلفة عن النموذج المعرفي العلماني الوضعي، ولديها طابع وخطاب أخلاقي على المستوى الإنساني.
  • وإن كانت بعض تلك الحضارات –في المقابل- محملة بإرث معادٍ للإسلام سواء كان إرثا ذاتيا أو من مخلفات الاستعمار الذي ولَّد تحيزًا ضد الآخر الديني بوصفه “متخلفا” ويشكل تهديدًا لهم، على نحو ولَّد لديهم معاداة للرؤية المعرفية الإسلامية التي تقف على طرف النقيض من كل ما هو متحضر ومتقدم وفق الإرث الاستعماري.
  • حين امتزج الحس القومي بالإرث الحضاري تولدت في كثير من هذه الكيانات الحضارية توليفة خطيرة تستبعد الآخر وتهمشه وتستعلي عليه؛ بما يخالف الإرث الحضاري الأصلي، بل ويوظف الإرث الحضاري في خدمة القومية الضيقة. وهو ما يتجلى -على سبيل المثال- في الفارق بين الهندوسية القومية المعاصرة وبين الهندوسية الحضارية التاريخية التي عرفت درجة كبيرة من التعايش مع الآخر.
  • تتجاهل هذه الحضارات –في أغلبها- سؤال الغاية والهدف، مقابل إعلاء هدف التعايش المشترك إلى كونه غاية في ذاته. بينما التعايش المشترك قد يكون هدفا نبيلا لكنه لا يؤصل وحده للسلوك الأخلاقي ولا يضبط معناه ولا يضمن جودته.
  • من التغيرات الحادثة على مستوى الواقع أيضا زيادة الوعي الشعبي في الغرب وفي بلدان العربية وغيرها، بما يدور داخليا وعالميا، وكذلك بالتناقضات الغربية، وأن هناك أسئلة حقيقية لا بد أن تُطرح، ونقد للممارسات غير الأخلاقية داخليا وخارجيا.
  • من التغيرات المهمة والخطيرة، التحيز ضد الإنسان بالذكاء الصناعي، وتصور إمكانية تطوير القدرات الإنسانية إلا ما لا نهاية على نحو يجرده تدريجيا من بشريته، فيؤدي مهامه بقدر فائق من الذكاء وقدرات جسدية خارقة، تضاهي ما يقوم به الذكاء الاصطناعي فيمحو إنسانية الإنسان.

 

  • على مستوى التنظير الإسلامي للعلوم السياسية
  • حدثت طفرة نتيجة التحاور مع ما بعد الوضعية تختلف بشكل أكيد عما كانت تتيحه حتى ما بعد السلوكية أمام التنظير الإسلامي من مساحات حركة مع نهايات الحرب الباردة. أصبحت اليوم من وظائف العلم الأساسية -وفق الفهم ما بعد الوضعي- الكشف عن التحيزات خلف الهياكل الفكرية التي نستخدمها في فهم واقعنا الاجتماعي من أجل إعادة تقييمه وإعادة تشكيله وتغييره وفق نموذج أكثر تحريرا وانعتاقا لكافة البشر، وعلى رأسها الكشف عن التحيزات المعرفية.
  • كما أصبح هناك أدوات جديدة من إنتاج الآخر يمكن للمنظور الحضاري استخدامها في نقد الغرب ذاته، وفي توليد “جديد حضاري”.
  • أصبح الكثيرون يتحدثون بلغة الأخلاق. وللتنظير الإسلامي في العلوم السياسية باعٌ أساسي في هذا؛ حيث يمكن تسكين كل فعل في نطاق ما هو أخلاقي أو ما هو غير أخلاقي.

 

# أين المشكلة؟ ماذا نحتاج؟

  • بناء عقل مسلم واعٍ وفاعل، يشارك في عملية إنتاج المعرفة عن وعي ويقدم علما غايته إرضاء الله.
  • استعادة الرؤية الإسلامية، وتقديم بديل عن الإنتاج المعرفي العلماني (الغربي).
  • منهاجية منضبطة نابعة من الرؤية الإسلامية، يعترف بها الآخرون في نطاق العلم.

 

المداخلات

ركز د. سيد عمر على سؤال: كيف تكون لنا منهجية منضبطة؟ محدِّدا ثلاث نقاط أساسية:

  • أولا: رباعية د. منى أبو الفضل، لتحدد لنا هل هناك تجديد أم انتكاسة في حالة العلم؟ من خلال أربع مستويات هي: بناء منظومة الرؤى الكلية المتقابلة: الدهرية- التوحيدية-الملتبسة، ثم مستوى رسم خريطة الأطر المرجعية المنبثقة من هذه المرجعيات، ثم ننتقل مستوى بناء النماذج المعرفية الثلاثة: الدهري، والتوحيدي، والملتبس، والقراءة بميزان قرآني يستخلص المستويات الثلاثة وكل ما يُستدعَى إليه يكون في موضع الموزون. وأخيرا يأتي المستوى الذي يختبر لبنات هذا البناء.
  • ثانيا: عدم الانشغال مطلقا بالغرب، فأخطر ما نواجهه الآن هو الجملة الملتبسة أو أنصاف الجمل المعرفية، التي تُغيِّم على الوصول لنواة المعرفة.
  • ثالثا: التأسيس لمنهاجيتنا من القرآن الكريم، واستدعاء أساسيات القراءة السياقية للقرآن مما أنتجته مدرسة إسلامية المعرفة بمعناها الواسع بدءا من محمد عبد الله دراز، ومرورا بمنى أبو الفضل ووصولا لطه العلواني بعد أن صار محاورا للقرآن.

وذلك مع تعلقت أكيد د. نادية مصطفى أن هذا اللقاء يركز على حالة المراجعات الراهنة في علم السياسة بتفريعاته المختلفة، انطلاقا من الغالب السائد الذي ننتقده، ولا يمكننا أن ننفصل عنه أو نتجاهله؛ بحكم كوننا جزءا من العالم الذي يهيمن عليه الغرب سواء بشكل مباشر أو من خلال حراس البوابات الذين يتبنون رؤيته في بلداننا ويتربصون بكل جديد يُطرَح. فلا بد أن يكون لنا تعامل مع هذا الواقع العلمي الأكاديمي بوسائله، بالتزامن مع بناء بديل رصين منطلق من مرجعيتنا ومصادرنا المعرفية، وبالاستناد إلى ما قدمه الجيل الأول من رواد المنظور الحضاري.

وهو ما أكده كذلك د.عمار جيدل؛ فليس هناك جيل مفصول عن الأجيال التي تسبقه أو تليه، لأن رحلة العلم رحلة استئنافية وليست بداية صفرية؛ ليس على مستوى منظومة الرؤية التوحيدية فقط، وإنما في الرؤى الإنسانية بصفة عامة. ذلك أنه يمكننا النظر إلى المعرفة من زاويتين؛ زاوية الارتباط بالأيديولوجيا، وزاوية الارتباط بالإنسانية (التي تكون فيها المعرفة صحيحة منسجمة مع الفطرة).

وتلك الأخيرة يمكننا الاستفادة منها؛ لأن الرؤية التوحيدية مبناها في المقام الأول توافق الكتاب المسطور والكتاب المنظور في الدلالة على الله عز وجل، فهناك إطار عام ينبغي أن يحكم تصورنا، ولكن سعينا الدائم لتحقيق التوحيد موزّع على التاريخ، ولا يمكن  لجيل من الأجيال أن يصل إلى تمام الرؤية التوحيدية. وهذا السعي ليس معزولا عن العالم، لأنه يعلم أن  ما صح من المعرفة لا يمكن إلا أن يكون شاهدا من شهود الله.

وفي هذا الإطار يمكن تقديم طرح جزئي فيما يتعلق بمداخل التجديد الحضاري في العلم، يتعلق بالمدخل الحقوقي؛ الذي ينطلق في الرؤية الإسلامية من سؤال جوهري: من يحدد الحقوق؟.. فالأصل في تحديد الحقوق هو الشرع، والإسلام يعطي للأفراد وللمجتمع حرية وصول كبيرة للموارد في مقابل الحد من سلطات وحقوق الدولة، واعتبارها حارسا وميسرا فقط.

هذا الطرح يوضح أهمية أن نضيف إلى العلم من مدخل “الخبير” الذي يفيد الآخرين بخبرته، وكذلك أهمية الاستنباط والنمذجة من القرآن الكريم وخاصة في الجانب الاجتماعي.

وحول الفرق بين اللحظة الراهنة في عمر المدرسة الحضارية ولحظة نشأتها على يد الرواد، ختمت د. أميرة اللقاء بالإشارة إلى أن هناك الآن من يتحدث في سياقات مختلفة عن أهمية وجود رؤية إسلامية  في العلاقات الدولية وعلم السياسة؛ من منطلق الالتفات لحالة المسلمين إما بغرض إحسان فهمهم والتوصل للنظريات الأنسب لفهم واقعهم، أو بغرض إظهار التشابه بين المسلمين والغرب، أو بغرض نقد الهيمنة الغربية وتقديم بدائل لها.

والمنظور الحضاري يتسع لتعددية المداخل والإسهامات النظرية –وإن كان لا يحتمل تعددية الرؤى المعرفية-، لذا كان إسهامه في العقدين الأخيرين متنوعا في إطار المقارنة مع الاتجاهات النقدية وما بعد الوضعية. وذلك نتاج محاولات بناء نموذج معرفي إسلامي، ومنظور حضاري يمثل مظلة تندرج تحتها نظريات ومناهج وتطبيقات مختلفة (من أبرز أمثلتها مشروع العلاقات الدولية في الإسلام وما تلاه من مشروعات ودراسات نظرية وتطبيقية في حقول علم السياسة المختلفة).

فالمنظور الحضاري الآن يسهم في قراءة ونقد وإضافة الجديد للعلم، ومحاولة الاتصال مع حضارات الأخرى؛ من أجل التغيير والتجديد في الواقع. قد تكون هذه الإسهامات ماتزال في حاجة إلى التنقيح والإيضاح، وهذا جزء من جهود الجيل الراهن والأجيال القادمة ودورها في استكمال الإسهام المعرفي للمنظور الحضاري.

 

الموسم العلمي لمركز الحضارة، للعام 2023/2024

اللقاء الرابع: السبت 10 يونيو 2023

 

يمكن مشاهدة المحاضرة من خلال هذا الرابط

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى