“الردّ الإيراني” من رؤى متقابلة..أين العدوان على غزة والمقاومة؟

عند الساعة الخامسة من مساء الإثنين الأول من أبريل الجاري 2024، قصفت دولة الاحتلال الإسرائيلي القنصلية الإيرانية في دمشق، عبر غارة جوية دمرت المبنى الملحق بالقنصلية المجاور للسفارة الإيرانية؛ ما أسفر عن مقتل 16 شخصًا، من بينهم قائد كبير في فيلق القدس التابع للحرس الثوري هو العميد محمد رضا زاهدي، وسبعة ضباط آخرين في الحرس الثوري الإيراني. أعلن السفير الإيراني في دمشق أن إيران “سترد بحزم على الجريمة التي ارتكبها الصهاينة”، وقال المتحدث باسم الخارجية الإيرانية إن بلاده تحتفظ بحق الردّ واتخاذ إجراءات مضادة على الهجوم ومقتل زاهدي، وستقرر طبيعة ردِّ الفعل ومعاقبة المعتدي[1].

وبناء عليه، ارتفعت عقيرة السياسة الدولية بالتساؤلات الكثيرة عن الرد الإيراني: هل سيكون أو لن يكون؟ هل سيكون مباشرًا أو غير مباشر؟ حقيقيًّا أو زائفًا؟ كيف؟ ومتى؟ وما موقف إسرائيل منه، والولايات المتحدة، والقوى الغربية الأخرى؟ وهل سيؤدي إلى حرب إقليمية واسعة؟ وما تأثيراته المتوقعة على الأزمة الأم في غزة-فلسطين وعلى المقاومة: إيجابًا وسلبًا؟

بعد لغط كثير، جاء “الرد الإيراني” في الساعات الأولى من صباح الأحد الرابع عشر من أبريل نفسه؛ في صورة هجوم عريض بعدد كبير من الطائرات المسيرة وصواريخ كروز والصواريخ الباليستية على مدن في شمال ووسط وجنوب الأرض المحتلة، لكن آثاره على الكيان الصهيوني تكاد تكون معدومة. فقد أعلن الناطق العسكري باسم الجيش الإسرائيلي دانيال هغاري عن إصابة مطار عسكري إسرائيلي في الهجوم الصاروخي الإيراني، فيما سقط أحد الصواريخ في قاعدة للجيش الإسرائيلي في الجنوب ما تسبب في أضرار مادية طفيفة. وقال إن عدد الصواريخ التي أُطلقت باتجاه إسرائيل تجاوز مائتي صاروخ أرض-أرض، بالإضافة إلى عشرات الطائرات المسيرة، معظمها اعتُرضت خارج الحدود الإسرائيلية، ما تسبب بإصابة طفلة بجروح طفيفة[2].

ورغم حديث التلفزيون الإيراني الرسمي عن أن نصف الصواريخ التي تم إطلاقها أصابت أهدافًا إسرائيلية “بنجاح”، فإن وزير الدفاع الإسرائيلي يوآف غالانت أكد أن بلاده “أوقفت” الهجوم الإيراني بالتعاون مع الولايات المتحدة ودول أخرى لم يذكرها. ثم ذكرت المصادر الصهيونية والغربية أن الرد الإيراني تم صده بنسبة تصل إلى 99%، وأن إصاباته طفيفة جدا. ومع الصورة المبهرة لخروج وتحرك الصواريخ والمسيرات الإيرانية، ثم ضآلة الأثر المباشر لها، برزت مقولة “المسرحية الإيرانية”.

وبينما أصدرت حركة حماس بيانا يرى الرد الإيراني حقا طبيعيا لإيران ودفاعا شرعيا بعد قصف إسرائيل للسفارة الإيرانية، توالت ردود الفعل الغربية الرسمية منددة بالهجوم الإيراني على إسرائيل، فيما حذرت إيران من ردٍّ آخر أشد إذا قررت تل أبيب التصعيد[3]. وتباينت ردود الأفعال تجاه الموقف العربي وخاصة الموقف الأردني إذ اعترضت الدفاعات الأردنية العديد من الصواريخ والمسيرات التي مرت في أجوائها باتجاه إسرائيل.

ومن ثم، وامتدادا للّغط السابق، تجدد لغط آخر لتوصيف وتكييف هذه الضربة الإيرانية، تقريبا بالأسئلة ذاتها، وكأنما هذا هو الحدث الأكبر والمركزي، وليس ضرب إسرائيل للقنصلية الإيرانية. ونظرا لغلبة نوع من الدوغمائية والسجالية الأيديولوجية على كثير من التعاطيات، نذكِّر بضرورة طرح سؤال الاستراتيجية العملية: ما دلالة هذا العدوان الإسرائيلي على القنصلية الإيرانية ثم الرد الإيراني ثم ما يمكن أن يترتب عليه من توسعة الحرب إقليميا ودوليا أو تحجيمها على أزمة غزة والمقاومة أو معركة طوفان الأقصى؟

وبقدر ما تعرضت دوافع وأهداف ونتائج طوفان الأقصى لتشكيكات وتأويلات واتهامات، ولوم من بعض الجهات المتصهينة أو مدعية الواقعية، بقدر ما يتعرض الهجوم الإيرانى الآن -كما تعرض الدور الإيراني منذ ستة أشهر- لنفس الأسئلة والاتهامات والشكوك… وغالبا من نفس التيارات غير المؤيدة للمقاومة الفلسطينية الحالية جملة وتفصيلا، إلا أن للعملة دائما وجهًا آخر يستحق الاستدعاء ولو من منطلق يبتعد عن الإطلاق فى التحيزات السياسية والايديولوجية ..على اعتبار أن كافة القوى تحتمل الأخذ والرد؛ لأنها لا تمثل حقيقة مطلقة، وليس هناك فاعل غير قابل للنقد والمراجعة.

نتناول هذه اللقطة الدرامية في صراع المنطقة العربية في فلسطين وحولها، عبر محاولة الكشف عن: طبيعة الدور الإيراني في معركة طوفان الأقصى الجارية منذ نحو مائتي يوم، قصة التناوش الإسرائيلي-الإيراني الأخير، تحليل ذلك لاستخلاص دلالته بالنسبة لتطورات الطوفان وشعب فلسطين ومقاومته في غزة.

أولا- دور إيران في معركة الطوفان عبر أشهر ستة:

إيران حاضرة في قلب الصراع من أوله، بطريقتها في إدارة التدافع الإقليمي منذ أقامت جهوريتها الإسلامية 1979. باركت بصورة علنية ومباشرة ضربة طوفان الأقصى الأولى في 7 أكتوبر 2023. ورددت بعض الأصوات أن إيران هي المدبر والآمر الحقيقي بعملية طوفان الأقصى 7 أكتوبر، لتخريب العلاقات الإسرائيلية-السعودية المتنامية؛ حيث قال رئيس الأبحاث السابق في الشاباك نيومي نيومان إن الهجوم كان من الممكن أن يحدد وقته نوعا ما؛ بسبب آمال إيران في إحباط الجهود المبذولة لتطبيع العلاقات بين إسرائيل والسعودية، منافستها السنية. لكن مبكرا في 9 أكتوبر، نفى المتحدث باسم وزارة الخارجية الإيرانية ناصر كنعاني هذا الكلام.

ثم إن لإيران محورا استراتيجيا عسكريا ظاهرا في المنطقة العربية يحيط بفلسطين؛ يبرز في لبنان، وسوريا والعراق. وقد تداخل هذا المحور مع الصراع في غزة من ثاني يوم (8أكتوبر)، وخاصة حزب الله اللبناني بقيادة حسن نصر الله. وتم الإعلان عن تعاون وتواصل بين المقاومة الفلسطينية (خاصة حركة الجهاد ثم حماس) والنظام الإيراني نفسه (زيارة هنية لطهران في الأسبوع الأول من نوفمبر 2023)، وتعاون وتنسيق مباشر مع حزب الله اللبناني، حتى ظهرت حماس والجهاد في لبنان في تنسيق مع حزب الله.

مضى دور المحور الإيراني بكليته في الصراع العسكري في غزة على قاعدة “الضغط العسكري المحسوب” على حواف الكيان الإسرائيلي. أعلن عن ذلك حسن نصر الله بوضوح في أول خطاباته بخصوص الطوفان، حين أعلن أن ضرباته على الجليل الأعلى شمال فلسطين رهينة بالتصعيد الإسرائيلي على غزة وجنوب لبنان، خطوة بخطوة ودرجة بدرجة. ومن بعده دخلت الميليشات الشيعية العراقية، ومن سوريا أحيانًا، على الخط، كلما تصاعد وتوحش العدوان الصهيوني على غزة، وربما وجهت ضرباتها إلى القواعد الأمريكية في العراق وسوريا. ثم دخل في اللعبة منذ أول نوفمبر 2023 الحوثيون من اليمن، بإرسال صواريخ ومسيرات فوق البحر الأحمر لتصل إلى جنوب الأرض المحتلة أو يجري اعتراضها فوق سيناء، وتطور دور الحوثيين في 19 نوفمبر ببدء منع السفن الإسرائيلية أو المتجهة إلى إسرائيل من المرور في مضيق باب المندب أو الاستيلاء عليها، الأمر الذي أشعل عرضها لهجوم عسكري من الولايات المتحدة وبريطانيا وتحالف من عدة دول أخرى معهما على المواقع العسكرية للحوثيين. واتسع الصراع ليشمل أجزاء من المحيط الهندي وطريق رأس الرجاء الصالح وإعلان الحوثيين استعدادهم لمهاجمة أية سفن تتبع إسرائيل أو الولايات المتحدة أو بريطاني في هذا النطاق، وليس البحر الأحمر فقط. ولا شك أن وراء ذلك تقف إيران.

وعبر الستة أشهر الماضية يمكن تبين ملامح الدور الإيراني في الطوفان في الآتي:

  1. تبني رؤية وموقف المقاومة الفلسطينية تبنيًا مبدئيًّا وسياسيًّا وأخلاقيًّا كاملاً، والدفاع عنه في المحافل الدولية الإسلامية والعالمية، وعبر قنواته الإعلامية المختلفة.
  2. تحريض العالم الإسلامي (الأمة) على معاونة الفلسطينيين بكل شيء؛ ومنه مطالبة الدول المصدرة للنفط بوقف تصديره عن الدول المؤيدة للعدو وعدوانه.
  3. إدارة صراع عسكري مع إسرائيل ومن ورائه التحالف الغربي عبر الوكلاء؛ المشار إليهم، والتنسيق الصريح معهم (زيارات وزير خارجية إيران إلى لبنان واجتماعه بقادة قوات المقاومة)، ودعمهم عسكريا وماليا وغير ذلك.
  4. تجنب توسع الصراع الجاري إلى صراع إقليمي ضد قوى المحور الإيراني، أو إلى صراع تضطر إيران إلى التدخل المباشر فيه، والتحذير والتخويف المستمر من ذلك.
  5. اعتماد استراتيجية ضبط نفس كبرى، (تسميها إيران الصبر الاستراتيجي!)، ليس من الآن، ولكن منذ سنوات حين تحولت استراتيجية الولايات المتحدة ضد البرنامج النووي الإيراني من الضغوط الدبلوماسية لأوباما، إلى الضغوط القصوى والتهديدات في ولاية ترامب والتي شهدت اغتيال الولايات المتحدة لقاسم سليماني، واغتيال إسرائيل لفخري زادة خبير الشأن النووي في طهران، وغير ذلك.
  6. ومنذ بدء الطوفان، استهدفت إسرائيل قادة ومستشارين عسكريين إيرانيين في سوريا أربع مرات، ما أدى إلى مقتل احد عشر قائدا ومستشارا عسكريا إيرانيا على الأقل. ولعل إسرائيل تختص سوريا بذلك بسبب الوجود الإيراني المباشر والكبير في سوريا منذ اندلاع ثورتها 2011، ومن ثم إصابتها مباشرة في قادتها الإقليميين. وهددت إيران في كل مرة بالردّ، ولم يأت الرد المباشر إلا هذه المرة.
  7. ومن ثم يمكن التمييز –لا الفصل طبعا- بين الصراع الإسرائيلي-الإيراني، وصراع إسرائيل مع محور المقاومة العربية المتحالف مع إيران[4]، أو ما اسماه مقال نشر على وكالة بلومبيرج الأمريكية: حرب الظل بين إيران وإسرائيل.
  8. بعد عملية طوفان الأقصى، وما أعقبها من مساندة عسكرية مختلفة من المجموعات المنضوية في محور المقاومة، نفت إيران إصدار أوامر بشن هجمات على القوات الأمريكية في العراق وسوريا والأردن والبحر الأحمر، قائلة إن كل فصيل في “محور المقاومة” يعمل بشكلٍ مستقل لمواجهة “العدوان والاحتلال”[5].

لكن خلاصة الأمر، كما يقول الباحث محمد علي إسماعيل: فإن الدور المهم الذي لعبته إيران ومحور المقاومة كان بمثابة سد الفراغ الذي تركته القوى العربية والذي لو كان استمر لأدى إلى إنهاء القضية الفلسطينية؛ كون إيران دخلت إلى المنطقة عقب اتفاقيات السلام العربية الإسرائيلية وإبعاد منظمة التحرير من لبنان عام 1982. عملت إيران على تدعيم قوى المقاومة التي ظهرت لسد الفراغ في لبنان -حركة أمل وحزب الله- كما ساندت قوى فلسطينية أخرى منها الجهاد وحماس[6].

ثانيا- الهجوم الإسرائيلي والرد الإيراني.. لماذا الآن؟ وما الجديد؟

بالنظر في الهجوم الإسرائيلي على القنصلية الإيرانية في دمشق أول أبريل 2024، فإنه يدخل في إطار حرب الظل السابقة، والفرع الذي يقوده غالبا الموساد لتكبيد إيران خسائر في قادتها الإقليميين، خاصة قادة الحرس الثوري وفيلق القدس. وتعتبر إسرائيل ذلك جزءا من حربها الأوسع ضد إيران، والأضيق ضد قوى المقاومة في المحيط العربي. وتحقق هذه الضربات لإسرائيل عدة أهداف: استراتيجية، وسياسية في الداخل والخارج. وتصنف الكثير من ضربات إسرائيل ضد أهداف إيرانية، بأنها تتغيا أن تعطل مشروعها الإقليمي من جهة، وتستبق اقترابها من حدود الكيان الصهيوني من جهة ثانية، وتكشف عن حضور إيران في وسوريا والعراق، وتحقق أهدافا مشتركة مع الولايات المتحدة وقوى أوربية، وأخيرا تعمل على تحريك الصراع باتجاه صراع أمريكي-إيراني مباشر.

وفي هذا الإطار تأتي الضربة الأخيرة في أول أبريل، والتي أظهرت إسرائيل قادرة على الاستمرار في هذه الاستراتيجية بكفاءة عالية، ومد يدها إلى قادة إيرانيين مؤثرين مثل زاهدي ورحيمي، وهي تعمل على إظهار رأس الممانعة ضعيفا مهزوما غير قادر على حماية قادته أو الانتقام لهم على غرار ما حدث من قبل، أو تستمر في استفزازه حتى يقع الصراع المباشر المشار إليه. ومن ناحية أخرى أشارت تحليلات إلى رغبة إسرائيل في تحويل اتجاه الاهتمام العالمي من غزة إلى إيران ومحورها الاستراتيجي الإقليمي. وقد كان شيء من ذلك.

فقد انشغل الإعلام الإقليمي والعالمي بعنوان “الرد الإيراني” أسبوعين كاملين، وتضاربت وجهات النظر حول توقع حصوله من عدمه، ثم حول مباشرته من عدمها، ثم حول قوته وضعفه، وأخيرا حول احتمالات تسببه في حرب إقليمية أو عالمية من عدمه. وقد غلب على التحليلات أنه سيكون ردا محدودا ومحسوبا، خاصة في ظل التصريحات السياسية الأمريكية والإفادات الاستخبارية بهذا الشأن. وغلب على التحليلات العربية والإسلامية الاستقطاب الأيديولوجي، مع وضد الموقف والدور الإيراني من الطوفان، بين مشكك في أصل الدور الإيراني تجاه فلسطين، بل تجاه أهل السنة الذين يمثلون الأغلبية المسلمة، وبين مشيد بالدور الإيراني المساند للمقاومة لا سيما في ظل الخذلان الكبير من الأنظمة العربية والإسلامية.

وفي مساء السبت 13 أبريل أو أول صباح 14 أبريل جاء الرد الإيراني في الصورة المشار إليها بشنّ هجوم غير مسبوق على إسرائيل أطلقت طهران خلاله أكثر من 300 مقذوف بين صاروخ باليستي ومجنّح ومسيّرة تجاه الأرض المحتلة. وأعلنت إسرائيل أنها نجحت، بمساعدة من حلفائها، في اعتراض الغالبية العظمى من هذه الصواريخ والمسيّرات باستثناء بضع صواريخ باليستية ولم تخلّف سوى أضرار محدودة. وبناء عليه توالت التعليقات حول مسرحية الرد وردود على مقولة المسرحية، خاصة أن صور المقذوفات وهي خارجة من الأراضي الإيرانية أو طائرة في سماء الأردن ثم الأرض المحتلة. لكن في يوم الخميس الماضي 18 أبريل أوردت صحيفتا معاريف وهآرتس الإسرائيليتان معلومات جديدة عن الصواريخ والمسيرات الإيرانية التي أطلقت على مواقع عسكرية إسرائيلية.

ووفق موقع الجزيرة نت: تناقض المعلومات -التي أوردتها الصحيفتان- الرواية الرسمية الإسرائيلية التي تحدثت عن أضرار طفيفة والتصدي لمعظم الصواريخ والمسيرات الإيرانية. وقالت معاريف -نقلًا عن باحث عسكري- إن الدفاعات الجوية صدت نحو 84% فقط من الهجوم الإيراني وليس 99% كما قال المتحدث باسم الجيش دانيال هاغاري. وأضافت الصحيفة أن صورا للأقمار الاصطناعية تظهر إصابة واحدة على الأقل في أحد مباني المفاعل النووي في ديمونة في النقب، وإصابتين في محيطه. وأوضحت معاريف أن مقاطع فيديو تظهر 4 إصابات في قاعدة نيفاتيم الجوية جراء سقوط صواريخ، وليس بسبب شظايا صواريخ اعتراضية. ورجحت الصحيفة -استنادا لتحليل مقاطع فيديو- وقوع 5 إصابات في قاعدة رامون الجوية في النقب. ومن جهتها، نشرت هآرتس صورا تظهر الأضرار الناجمة عن الهجوم الصاروخي الباليستي الإيراني على قاعدة جوية إسرائيلية. وتظهر صورة بالقمر الاصطناعي، التقطت بعد ساعات من الهجوم الإيراني، الأضرار التي لحقت بمدرج في الجزء الجنوبي من قاعدة نيفاتيم بالقرب من سرب طائرات من طراز “سي-130”. وقد تعرضت قاعدة نيفاتيم (جنوبي إسرائيل) لـ4 صواريخ باليستية في الهجوم الإيراني[7]. وقال رام أميناخ المستشار الاقتصادي السابق لدى رئاسة الأركان الإسرائيلية إن هذا الهجوم الإيراني كلف ما بين 4 و5 مليارات شيكل (بين 1.08 و1.35 مليار دولار)، وأوضح أن التكلفة تشمل فقط التصدي للمسيرات والصواريخ دون إدراج الخسائر الميدانية[8].

ومن ثم أعلنت تل أبيب أنها سترد ولكنها تفكر في كيفية الرد على الهجوم الإيراني والأهداف المحتمل ضربها. بينما أوردت شبكة “إيه بي سي” الإخبارية الأميركية، نقلا عن مصادر إسرائيلية، أن تل أبيب تراجعت عن مهاجمة إيران مرتين على الأقل خلال أسبوع الضربة الإيرانية.

لكن في السبت الثاني 20 أبريل شنت إسرائيل ضربة انتقامية محدودة أصابت موقعًا قريبًا من منشأة نووية في أصفهان بإيران، بالإضافة إلى تفجيرات وقعت في مواقع تابعة للحشد الشعبي العراقي في بابل. وهونت إيران من الضربة، وصرح مسئولوها بانعدام آثارها، فيما فسرها الباقون بأنها إثبات حضور دون تصعيد؛ أي إنها ضربة محسوبة، تقع تحت ضغوط الواقع الصهيوني في الأرض المحتلة، فضلا عن الضغوط الأمريكية.

فكتبت صحيفة “واشنطن بوست” أن إسرائيل وجّهت ضربة “انتقامية محدودة ومصممة بعناية” ضد إيران لتجنب التصعيد. وذكرت “أن التزام إسرائيل الصمت بعد الهجوم وتقليل إيران من أهميته يوحيان بأن الجانبين يأملان أن تكون الضربات المتبادلة حتى الآن كافية لإرضاء الرأي العام في الجهتين دون الحاجة لمزيد من الانتقام”. ونشرت صحيفة “نيويورك تايمز” مقالا جاء فيه “أن الضربة الانتقامية الإسرائيلية تشير إلى محاولة للانسحاب من دائرة الخطر -على الأرجح- للعودة إلى حرب الظل مع إيران”، بعد أن أخرجت الجولة الأخيرة من الضربات المتبادلة الصراع بينهما للعلن وأثارت مخاوف من اندلاع حرب واسعة بالمنطقة. في حين رأت صحيفة “الغارديان” في مقال أن رئيس وزراء إسرائيل بنيامين نتنياهو قد يستفيد على المدى القصير من ما وصفه المقال رد إيران الهادئ. وأضاف المقال “أن طبيعة الهجوم لا يمكن أن تعيد لإسرائيل مستوى الردع الذي كانت تتمتع به قبل هجوم حركة المقاومة الإسلامية (حماس)”، محذرا من أن نشوب حرب متعددة الجبهات لا يزال احتمالا قويا.

وكما تقدم، دافعت حركة حماس من ناحيتها، عن الهجوم الإيراني على إسرائيل، وقالت في بيان، اليوم الثاني على الضرية الأحد “نعتبر العملية العسكرية التي قامت بها الجمهورية الإسلامية في إيران ضد الكيان الصهيوني المحتل حقا طبيعيا وردا مستحقا على جريمة استهداف القنصلية الإيرانية في دمشق واغتيال عدد من قادة الحرس الثوري فيها”. وأضافت حماس في بيانها: “إننا وإذ نؤكّد على الحق الطبيعي للدول ولشعوب المنطقة في الدفاع عن نفسها في مواجهة الاعتداءات الصهيونية، لندعو أمّتنا العربية والإسلامية وأحرار العالم وقوى المقاومة في المنطقة لمواصلة إسنادهم لطوفان الأقصى، ولحق شعبنا الفلسطيني في الحرية والاستقلال وإقامة دولته الفلسطينية وعاصمتها القدس”. وباركت حركة المجاهدين الفلسطينية في غزة الهجوم الإيراني وقالت: “نبارك الرد والهجوم الإيراني على الكيان والذي جاء في سياق الرد الطبيعي على تماديه في غطرسته وجرائمه ضد قيادات عسكرية وديبلوماسية إيرانية”.

ثالثا- رؤى متقابلة عن الرد والدور الإيراني

من ناحية أخرى، أثارت هذه المعركة الفرعية التي أنذرت أن تتحول إلى حرب كبيرة، تعليقات وتحليلات كثيرة، كشفت عن تمايز معسكرات عدة حول الدور الإيراني في الصراع مع الصهيونية وخاصة معركة طوفان الأقصى، ودوائر أخرى له: طائفية، أيديولوجية، استراتيجية، سياسية، اقتصادية، علنية وسرية، ظاهرة ومستبطنة، وهل هو إيجابي بالنسبة إلى القضية الفلسطينية والطوفان أو سلبي.

أ- دور سلبي ووهمي وردّ مسرحي:

فقد بدا للبعض كأن هناك تنسيقا جزئيا، بين إيران وأمريكا، غالبا على سقف الرد، وليس على ما تحته بطبيعة الأمور، فهما خصمان لكن عاقلان. لكن تبدى أن الدعاية الصهيونية ستستخدم هذه اللعبة في تحويل -أو تخفيف- التركيز العالمي عن غزة إلى العنوان الجاري. ثمة مخاوف من اندلاع حرب إقليمية فعالمية… وهذا قد يضر بغزة وقد ينفع الصهيونية، أو يغير دفة المعركة. فقد قال أحدهم على سبيل المثال: “لكِ اللهُ يا غزّة، حتّى ضرباتهم وتدخّلاتهم تَضُرّكِ ولا تنفعك، …”.

  1. وضمن رؤى القول بالمسرحية، نشرت وول ستريت جورنال:
  • إيران اطلعت الدول الخليجية على الخطوط العريضة وتوقيت الضربة حتى تتمكن تلك الدول من حماية مجالها الجوي.
  • دول الخليج نقلت المعلومات إلى الولايات المتحدة، مما أعطى واشنطن وإسرائيل تحذيرًا مسبقًا حاسمًا.
  • وافقت الإمارات والسعودية بشكل خاص على تبادل المعلومات الاستخبارية بشأن الهجوم الإيراني مع الولايات المتحدة وإسرائيل.
  • وافق الأردن على المساهمة العسكرية في التصدي للهجوم الإيراني في أجوائه.
  • تم تعقب الصواريخ والطائرات بدون طيار الإيرانية منذ لحظة إطلاقها بواسطة رادارات الإنذار المبكر في دول الخليج العربي المرتبطة بمركز العمليات الأمريكية في قطر، والتي نقلت المعلومات إلى الطائرات المقاتلة من عدة دول في المجال الجوي فوق الأردن ودول أخرى[9].

 

2. قالت صحيفة يديعوت أحرونوت الإسرائيلية: “بعد الهجوم الهزلي المسرحي الذي شنته إيران على إسرائيل يمكن القول بكل تأكيد إن إيران فشلت حيث لم تتمكن أي طائرة بدون طيار أو صاروخ كروز من اختراق أجواء إسرائيل، وتم اعتراض الصواريخ التي تم إطلاقها من إيران بنجاح فوق الأراضي العراقية والأردنية والسورية من الطائرات الأمريكية والبريطانية والدفاع الجوي الأردني، ويشاع في الصحف الغربية أن الدفاع الجوي السعودي تصدى لبعض المسيرات التي اخترقت الأجواء السعودية… وكانت نتائج الهجمة الإيرانية الهزلية على إسرائيل: 1- إصابة طفلة عربية بدوية تبلغ من العمر 7 سنوات بجراح خطيرة، 2- تعزيز موقف إسرائيل في العالم، وعودة دفء العلاقات بين إسرائيل والدول الغربية التي تقدم الدعم الكامل لإسرائيل بعد أن انقلبت معظم هذه الدول على إسرائيل نتيجة حرب الإبادة فى غزة. 3- الهجوم أدى إلى خلق حالة هستيريا غير مسبوقة في إيران أدت لانهيار العملة… “.

وقالت الصحيفة إن الهجوم الإيراني الذي وصفته بالفاشل، تحول لنعمة لم تكن متوقعة لإسرائيل مما يستدعي التريث وضبط النفس ورباطة الجأش. وأكدت في تحليل لكاتبها أتيلا سومفالفي أن الرد المدروس غير المتسرع من شأنه أن يعطي نتائج أفضل من ردات الفعل الفورية، مبرزا أن الهجوم الإيراني “الفاشل” منح إسرائيل فوائد لا تحصى ولا تعُد. وعدد الكاتب في تحليله الأمور السبعة التالية كأهم تلك المكاسب:

  • أصبح ينظر لإيران الآن على أنها هي المعتدية، والعالم كله ضدها.
  • توقف العالم ولو لحظة عن التركيز على غزة، مما يمثل فرصة لبعض التحسينات الدبلوماسية.
  • أصبح العالم يتفهم السردية الإسرائيلية التي تزعم أن “إيران دولة إرهابية” وأصبح الجميع يتحدث عن الصواريخ والطائرات المسيرة الإيرانية الفاشلة، وعن أنظمة الدفاع الجوي الإسرائيلية المذهلة.
  • عملت الدول الغربية الرئيسية، بقيادة الولايات المتحدة، العمود الفقري الحقيقي لإسرائيل -إلى جانب الدول “المعتدلة” في الشرق الأوسط- معًا لمنع هجوم إيراني على إسرائيل، وهذا أمر غير مسبوق، وهو إنجاز لم يكن ليخطر على بال أحد.
  • استعادت إسرائيل بين عشية وضحاها مكانتها كقوة تكنولوجية عظمى في كل ما يتعلق بالدفاع الجوي وحسنت صورتها بشكل كبير في مجال الاستخبارات الدقيقة، وهو ما يعتبر مهما جدا لرفع المعنويات بعد عملية 7 أكتوبر.
  • أصبحت لدى إسرائيل فرصة استثنائية لتغيير الخطاب وتصدر المشهد، وتأطير إيران بشكل سلبي للغاية، والأمر يعتمد على قدرات النفوذ لدى النظام الإسرائيلي، فهناك إمكانات هائلة الآن لتحويل كل الأنظار نحو طهران بوصفها “عاصمة الإرهاب العالمية.”
  • لقد رأى العالم كله “قوة إيران” التي هددت بها إسرائيل لسنوات بعروض عسكرية شبيهة بالعروض العسكرية الكورية الشمالية، وأدرك مدى هشاشتها أمام أنظمة الدفاع الإسرائيلية، وفي الخلاصة اتضح أن “إسرائيل قوية وإيران ضعيفة، وأن إيران هي المعتدية، وإسرائيل الصغيرة تدافع عن نفسها بنجاح”.

ويرى الكاتب، في ظل هذه المكاسب، كما وصفها، أن أي هجوم إسرائيلي علني وغير متطور لا يعطي إنجازات أمنية ملموسة لن يفيد إسرائيل، ولذلك فإنه يقترح أن تلجأ إسرائيل للعمليات السرية مثل قصف الأهداف الإيرانية دون ترك أي أثر، معتبرا أن ذلك هو ما سيعزز بالتأكيد الهالة المحيطة بإسرائيل، ويسمح للقوى العالمية بمواصلة دعمها، على حد قوله[10].

ب- دور إيجابي وحقيقي:

في المقابل، تأتي الرؤى الآتية من قبيل:

” تحليلي هو أن حجم الهجوم الإيراني، وتنوع المواقع التي استهدفها، والأسلحة التي استخدمت خلاله، أجبر إسرائيل على الكشف عن غالبية التقنيات المضادة للصواريخ التي تمتلكها هي والولايات المتحدة في جميع أنحاء المنطقة. لم يستخدم الإيرانيون أي أسلحة لم تكن إسرائيل تعلم بالفعل أنها تمتلكها، بل استخدمت الكثير منها فقط. لكن من المرجح أن الإيرانيين أصبح لديهم الآن خريطة كاملة تقريباً لما يبدو عليه نظام الدفاع الصاروخي الإسرائيلي، فضلاً عن الأماكن التي توجد بها قواعد ومنشآت أمريكية في الأردن والخليج. كما أنها تعرف كم من الوقت يستغرق إعدادهم، وكيف يستجيب المجتمع الإسرائيلي…إلخ. هذه تكلفة استراتيجية باهظة بالنسبة لإسرائيل، في الوقت الذي تتعرض فيه الأنظمة العربية لضغوط من شعوبها، وخاصة النظام الأردني، لأنها لم تفعل شيئًا لحماية الفلسطينيين في غزة ثم بذلت قصارى جهدها لحماية إسرائيل. ومن الأهمية بمكان أن تتمكن إيران الآن من إجراء هندسة عكسية لجميع المعلومات الاستخبارية التي تم جمعها من هذا الهجوم لتنفيذ هجوم أكثر فتكًا. بينما سيتعين على الولايات المتحدة وإسرائيل إعادة تصميم نموذج دفاعي جديد مختلف عن نموذجهما الحالي الذي تم اختراقه. وبالتالي فإن نجاحها في وقف هذا الهجوم المخطط له لا يزال مكلفًا للغاية. أيضًا، مع التهديد بحرب إقليمية لا ترغب الولايات المتحدة ولا الأنظمة العربية في حصولها، فمن المرجح أن تتزايد ضغوطها على إسرائيل للتراجع، مما يجعل وقف إطلاق النار أكثر جدوى. إن من يفترض أن هذا الهجوم مجرد عرض مسرحي، يفتقد سياق كيفية تقييم الجيوش للاستراتيجية مقابل التكتيكات. الجانب الاستعراضي قد يكون جانبًا مهمًا، لكن جمع المعلومات الاستخبارية عن موقف “العدو” أكثر أهمية بكثير، خاصة إذا كان الطرفان يعتقدان أنهما في حرب استنزاف طويلة. نتنياهو وحكومة إسرائيل يفضلان حرباً سريعة وساخنة وعاجلة يمكنهم فيها جر أمريكا إلى الصراع. ويفضل الإيرانيون حرب استنزاف أطول تحرم إسرائيل من قدرات الردع وتجعل من تحالفها مع الأنظمة العربية والولايات المتحدة أمرًا مكلفًا وعبئًا لا يمكن احتماله طويلًا. في النهاية، إذا كنت شخصًا يكره الحرب، وإذا كنت تريد السلام، فإن الطريقة الوحيدة لتحقيق ذلك هي دعم النضال الفلسطيني من أجل الحرية والعدالة والكرامة. ولن يكون هناك سلام شامل ومستدام ما دام الفلسطينيون يعيشون في ظل نظام فصل عنصري قمعي”[11].

رابعا- نحو رؤى استراتيجية أشمل:

برزت ردود أقرب إلى النظر الاستراتيجي الأشمل، من مثل:

  1. “الرد المباشر والواضح هو أن إيران: أولا تريد إرسال رسالة إلى إسرائيل بأنها قادرة على الرد. وثانيا تسجيل موقف عند أمريكا ودول المنطقة بأنها قوة إقليمية كبرى. وثالثا رفع الحرج عن نفسها أمام شعبها وحلفائها ووكلائها بأن إهانة إسرائيل لإيران تستدعي إهانة مقابلة ومقنعة. لكن إيران قطعا لا تريد حربا شاملة مفتوحة مع إسرائيل وحليفتها أمريكا. لذلك بدا الهجوم الإيراني مع إشارات مسبقة من إيران إلى أمريكا وإسرائيل وكل الجيران بموعد ونوع وكم الرد الإيراني، وكأنه رد ممسرح: الفاعل فيه إيران ووكلاؤها والمفعول به إسرائيل ومخرج المسرحية، جزئيا، هو الولايات المتحدة الأمريكية. ولكن مع إعلان نبأ انطلاق الصواريخ والمسيرات الإيرانية، بدا الأمر وكأنه أمر جاد وجديد ومفاجئ يحدث. هذا التخوف الإسرائيلي الأمريكي جعل الرئيس الأمريكي يقطع إجازته ويعود للبيت الأبيض وجعل حكومة الحرب الإسرائيلية تجتمع تحت الأرض في مكان سري وجعل دولا تمنع رعايها من السفر للمنطقة ومخاوف عدة من أن تشتعل حرب إقليمية كبرى في المنطقة. لماذا يبدو هناك تخوف وقلق وترقب في إسرائيل وأمريكا ودول المنطقة رغما عن مؤشرات عن حدوث هذه “المسرحية العسكرية” المعلنة من أكثر من أسبوع؟ هناك عدة أسباب: ١- خوف إسرائيل وأمريكا من خروج إيران عن المعقول والمتناسب أو حتى المتفق عليه، بما يستدعي ردا على الرد. ٢- إيران لن تضرب منفردة فمعها وكلاء وعملاء ولهم أسبابهم في التصعيد ضد إسرائيل. وهنا قد تضطر إسرائيل وأمريكا للرد على حلفاء إيران وليس على إيران. ٣- إيران ستطلق لأول مرة صواريخ ومسيرات من قلب إيران إلى قلب إسرائيل. وهذا أمر جديد على الطرفين وعلى المنطقة كلها بما سينال من عقيدة إسرائيل العسكرية التقليدية القائمة على الردع الذي يبدو الآن في أسوأ أحواله منذ السابع من أكتوبر. ٤- قتيل واحد إسرائيلي، مدنيا كان أو عسكريا، سيخدم البروباجاندا الإيرانية بقوة وسيضع القيادة الإسرائيلية في وضع المتسبب في تحركات عسكرية متهورة وغير محسوبة تشعل المنطقة كلها وليس حدودها المباشرة فقط. ٥- الحرب النفسية التي مارستها إيران  على إسرائيل وأمريكا بأنها سترد مباشرة بأسلحتها ومن على أرضها أكسبت إيران نفوذا معنويا كبيرا لدى حلفائها، وهذا أمر لا تريده إسرائيل لأنه سيغري فاعلين إقليميين آخرين بالتطاول على إسرائيل. ٦- إيران، حتى لو كان ردها ممسرحا ومتفقا عليه، لكنه رد عكس الخطوط الحمراء المتفق عليها بعدم الدخول في مواجهة مباشرة. بمنطق انه تصعيد مباشر في مواجهة تصعيد مباشر وأن إيران قادرة ومستعدة وراغبة في تبني استراتيجية العين بالعين والبادي أظلم في المواجهات المباشرة. ٧- إسرائيل اعتادت على حرب العرب، دولا وتنظيمات، لكنها الآن تواجه الفرس الذين يرفعون شعارات دينية تقابل الشعارات الدينية الإسرائيلية وبالتالي من الممكن أن تتحول المواجهة إلى استدعاء التنظيمات والأصوات الدينية الإسلامية على نحو يجعل المواجهة خارج نطاق المنطقة وإنما مسرحها العالم كله. وختاما فلنتذكر أن من ضمن أهم دروس الحروب الكبرى أن بعضها مثل حوادث الطرق لم يكن مخططا لها وإنما نتجت عن سوء فهم وليس عن سوء قصد وتصعيد متبادل لم يكن مخططا له. وإيران وإسرائيل تلعبان بنيران منطقة مليئة بالغاز والنفط”[12].
  2. الوازن الاستراتيجي هو الولايات المتحدة آخذين في الحسبان أوضاعها الداخلية والخارجية، والطرفان إيران وإسرائيل يقرآنها جيدا، كلاهما يعرفان انها لا تريد حربا إقليمية وتحذر ذلك وتحذر منه، وإيران تعرف ان أمريكا لن تضربها لمثل هذه العملية الرمزية، وأن إسرائيل لن تصعد معها أيضا لأن أمريكا لا تريد تصعيدا وغير مستعدة له، خاصة بعد أن أعلن الطوفان خسارتها في أوكرانيا وتراجعها النسبي في الشرق الأقصى. والمؤسسة الحاكمة في إسرائيل لن تطاوع نتنياهو في الذهاب بعيدا عن الولايات المتحدة أكثر من ذلك. وثمة تأثير مهم جانبي على الخليج، في التراوح بين الارتباطات الجديدة مع إسرائيل وحلف صفقة القرن، وبين المخاوف القديمة المتجددة من إيران. وإسرائيل وأصدقاؤها –العرب للأسف- فضلا عن الغرب، عندهم ورقة رابحة خطيرة اسمها الانقسام الفلسطيني، وهذه يدخرونها لليوم التالي.
  3. قال كبير محللي “يديعوت” عن ليلة المسيّرات والصواريخ: “أول ليلة سعيدة منذ 7 أكتوبر”.. فمن الفائز الأكبر؟ مما قاله ناحوم برنياع (اليوم): “كانت الليلة بين السبت والأحد أفضل ليلة منذ 7 أكتوبر. في الأساس، أول ليلة سعيدة. كل ما كان ينبغي أن يحدث صباح 7 أكتوبر ولم يحدث؛ حدث فيها”. لكنه يضيف: “نجاح ليلة الأجسام الطائرة المجهولة لا يمكن أن يمحو سجل طاعون أكتوبر ولا الأسئلة الصعبة التي يثيرها بطريقة ما”. “الفائز الأكبر في تلك الليلة هو جو بايدن. لقد ضرب عصفورين بحجر واحد: أولا، أثبت للناخبين، ولترامب، وربما لنفسه، أن الولايات المتحدة تحت قيادته هي القوة العسكرية المهيمنة في الشرق الأوسط. لديها قدرات ولا تتردد في استخدامها ضد الأشرار، دون الإضرار بالأبرياء.. ثانيا، أوضح للإسرائيليين أنه ليس لديهم من يثقون به سوى العم جو وأسلحته العسكرية”. “تستطيع إسرائيل أن تلدغ إيران؛ ولا يمكنها مهاجمتها ووقفها وردعها إلا بمباركة الإدارة في واشنطن. وأوضح بايدن ما يمكنه فعله، وكذلك ما يمكنه منعه. هذا كثير جدا مقابل ليلة واحدة، من رئيس يبلغ من العمر 81 عاما ونصف”. (انتهى الاقتباس). يقول ياسر الزعاترة تعليقا على ذلك: ما ذكره صحيح.. وقلنا ذلك سابقا: بايدن هو الفائز الأكبر.. أمريكا بتعبير أدق. منعت حربا شاملة تهدّد مصالحها.. حمت “كيانها” المدلل، وإن أرضت إيران التي تريد حفظ ماء الوجه، ولا تريد حربا تعطّل مشروعها الإقليمي “الناجح” من وجهة نظرها. تبقى تكملة المهمة بمنع الردّ الإسرائيلي، وهو ما أكّد عليه بايدن لنتنياهو؛ أقله كردّ يفضي للحرب، وليس ردّا من مستوى يمكن استيعابه. ماذا عن غزة؟ يجيب برنياع أن “الفيتو” الأمريكي هنا يصعب تجاوزه، لكن في رفح يمكن ذلك. لم يقل طبعا إن السبب هو أن غزة ليس وحيدة فحسب، بل هي أيضا ضحية تآمر من “عرب” غاضبين بسبب تأخر الصهاينة في سحقها. لكنها صامدة رغم ذلك[13].
  4. ثم إن ضربة إيران لها دلالة مهمة: إسرائيل قابلة لأن تُضرب، وهذا يكسر عقدة ٧٥ عاما أنها تضرب ولا تُضرب، وخاصة داخل الأرض المحتلة. والطوفان نفسه يعد أول هجوم منذ زمن الفدائيين ونقلة في استراتيجية في المقاومة، وضربة إيران كذلك. طبعا ستترجم غربيا ترجمة أخرى. وشعبيا وإعلاميا ستعمل الصهيونية على ترجمتها لصالحها، سيقولون: إسرائيل تحت العدوان الإرهابي الإسلامي… حماس إيرانية إرهابية….الخ هذه النغمة. لكن أثر الإبادة في غزة ليس سطحيا وسيقاوم ذلك. وإيران ذاتها ذات تراث فارسي؛ يعني تجيد لعبة السلم والحرب بالوكالة أكثر من الحرب المباشرة، ستردد أنها ضحية، وستهدد أنها ستشعلها… هي معركة دائرة نعم، لكن يجب ألا تشغلنا نحن عن غزة.

هذا جانب من تقييم أشمل لأن الوضع معقد ومركب جدا، لا يحتمل رؤية واحدة فقط على أنها كل الحقيقة، فلابد من رأي استراتيجي يحكمه التخصص والاهتمام العملياتى وليس الموقف الأيديولوجى فقط. الرأي الاستراتيجي يبحث عن الكامن والمحتمل، الذى يتطلب حسابات مركبة. نعم نعتقد أن إيران لن ترمى بنفسها فى فم السبع كما يقولون، ولكنها تناور هذا السبع، لمصلحتها، وإن بدت أنها تساعد غيرها.

إن إيران لم تكن يوما مجابهة لإسرائيل ولا الولايات المتحدة مجابهة مباشرة، رغم الكثير الكثير من الاستفزازات.. وليس آخرها مقتل قاسم سليماني بمسيرة أمريكية. والرد الإيراني دائما ما يكون أقل من المتوقع بكثير، حتى المتوقع المعلن من أمريكا… ولعل هذا يشبه حال جمال عبد الناصر حين أمم قناة السويس 1956 واعتبرناه نصرا مؤزرا (بينما هي خاضعة لاتفاقية 1888 التي تفقدنا السيطرة عليها)، وساعتها ذكر مايلز كوبلاند أنهم في أمريكا توقعوا هجوما مصريا على إسرائيل بينما هذا كان أبعد من أبعد من خيال ناصر ومن معه. عامة تظل إيران محافظة على مقعد المدير من بعيد، ودور المناوش -بقواتها الوكيلة- تحت سقف معين، وقد أخذت خلال العقد الأخير مهلتها الكاملة لتطوير سلاحها النووي… فإن طورته فستدخل في المعادلة الباكستانية مع فارق حيازتها محورًا إقليميًّا ظاهرا في الشام واليمن، وآخر كامنا في وسط آسيا وشرق الخليج.

وبعد،، ما المردود على غزة وطوفانها؟

فإن الذي يهمنا من هذا الدور الإيراني والرد على العدوان الصهيوني على القنصلية ثم الرد الإسرائيلي على الرد، هو مردود مثل هذه الضربات والردود عليها، بالنسبة لغزة. فالبعض يحاول إبراز الأمر بوصفه مصدرًا لتهديد ما يسمى الأمن الاقليمى لمصلحة الكبار، ولكن لابد من رؤية متعددة الجوانب حتى لا نسقط فى قصة حتمية تفوق الكبار على كل أنماط المقاومة.

وهذا يطرح العديد من الأسئلة الأولى بالرعاية:

  • هل المحصلة هى أن تتنازل حماس فى مطالبها…أم تقدم إسرائيل على اجتياز رفح … وما مصدر المساندة الباقية لحماس.. طبعا بعد الله سبحانه؟
  • هل الوضع الراهن يؤكد أنه لا نجاح كامل لثورة أو حركة مقاومة مسلحة بدون نظام إقليمي مساند.. قيادة الإقليم المعادية للثورات كانت أهم عناصر الثورة المضادة وحتى الآن..؟ هل تختلف حركة المقاومة المسلحة عن الثورات… أم إن محصلة ٦ أشهر في غزة حتى الرد الإيراني تبين أن الفروق بسيطة؟
  • كيف تستفيد المقاومة من هذه الرؤى؟

إن هذه المعركة الاعتراضية لا تنفصل عن معركة غزة وما يجري فيها، بل غزة هدف أيضًا وليست ورقة فقط من أوراق هذه المعركة.

لكن نصيب غزة من ذلك يتعلق بتداعيات ذلك على الصهاينة أولا. أزمتهم (فإنهم يألمون كما تألمون) هي نافذتنا الأساسية ويجب استغلالها. وصمود المقاومة واحتفاظها بالأسرى ورفضها الخضوع في المفاوضات هو أقرب أوراقها الرابحة. يبقى تحويل الظهير الشعبي الإقليمي إلى حراك وهذا سيأخذ سنوات قادمة، وإن شاء الله تعالى يتقدم بالقضية، طبعا وسط أشواك وتحديات كثيرة لا يعلمها إلا الله، لعل أشدها مقاومة النفاق المتصهين.

إن الغوغائية والدجمائية سائدتان بشكل كبير… ما يعني أن أكثر الذين يتحدثون عن “مسرحية” تفكيرهم تلقائي وسطحي… ولا يراعون سوابق سياسات ولا ذاكرة حدث ولا غيره… تبسيط المعقد يعد اختزالا وتشويها لا إيجازا وإجمالا. وما ينبغي وضعه في الحسبان هو تكوين الرؤية عبر إدامة النظر ومراكمة الخلاصات.

لكن المطلوب هو مقاومة حضارية ممتدة لا تنتهى مهما كانت نتائج الحروب المتعاقبة، تتضمن عودة إلى مواجهة مشكلتنا الحضارية والسياسية. فالأعداء من الخارج يحاربوننا لكي لا نستقل بإرادتنا وقوانا عنهم، والطغاة من الداخل يحاربوننا لكي لا نتحرر من استبدادهم وفسادهم، ونحن نحارب أنفسنا لكي لا نتوحد ونعود يدا واحدة ضد هؤلاء وأولئك، ثم نحن نحن.. فينا فساد، وفشل، وضعف، في تنمية قوانا، وترتيبها، وتوجيهها إلى مصالحنا، وهذا لا يمنع أن فينا خيرا كثيرا، وفينا إسلام، وشريعة، وأخلاق، وتماسك مجتمعي، وإن كنا ساقطين سياسيا واقتصاديا بصورة كبيرة.

ولعل أول تجديد الطريق أو طريق التجديد يتعلق بأهدافنا ومصالحنا… يجب أن نحددها ونجددها ونؤكدها:

  1. الاحتفاظ بالذاتية التي تستحق التحرر والاستقلال والعيش الكريم: ذاتنا الدينية والدنيوية؛ سعيًا لبناء القوة والاستقلال الحضاري.
  2. الحفاظ على تماسك المجتمعات من كل طريق، وبالأخص عبر قيم الدين بوصفها جوهر ثقافتها السائدة ونواتها الصلبة.
  3. الحفاظ على تماسك “الدول” جدرانا لبنية الأمة وقوتها.

__________

هوامش

[1] ماذا نعرف عن محمد رضا زاهدي القيادي الإيراني الذي قتل في الهجوم الجوي على دمشق؟، BBC NEWS عربي، 1 أبريل 2024، متاح عبر الرابط التالي: https://2u.pw/qXQyv0S7

[2]  ما الذي حدث في إسرائيل بعد هجوم إيران؟، BBC NEWS عربي، 14 أبريل 2024، متاح عبر الرابط التالي: https://2u.pw/Emi6TllN

[3] حماس: العملية العسكرية الإيرانية ضد إسرائيل رد مستحق، الجزيرة نت، 14 أبريل 2024، متاح عبر الرابط التالي: https://2h.ae/xdVO

[4]  لمعرفة المزيد حول طبيعة محور المقاومة هذا وعلاقته بإيران؛ ومن ثم لنطاق وحدود الدور الإيراني في طوفان الأقصى وصد العدوان الصهيوني انظر:

– محمد علي إسماعيل، مستقبل محور المقاومة وسيناريوهات التوسع الإقليمي للحرب، فصلية قضايا ونظرات العدد الثالث والثلاثون – أبريل 2024، متاج عبر الرابط التالي: https://2h.ae/isiz

[5] Cassandra Vinograd, Iran Denies Ordering Drone Strike as Biden Weighs a Response, The New York Times, 29 January 2024, Available at: https://2u.pw/ZOClulWa.

[6] محمد علي إسماعيل، مستقبل محور المقاومة وسيناريوهات التوسع الإقليمي للحرب، مرجع سابق، ص 107.

[7] معاريف تفند رواية الجيش وتكشف إصابة إيران لمفاعل ديمونة، الجزيرة.نت، 18 أبريل 2024، متاح عبر الرابط التالي: https://2h.ae/RBQy

[8] إسرائيل أنفقت 1.5 مليار دولار في ليلة واحدة لصد الهجوم الإيراني، الجزيرة. نت، 14 أبريل 2024، متاح عبر الرابط التالي : https://2u.pw/6lUgr8t4

[9] رؤى لدراسات الحرب، ١٥ أبريل ٢٠٢٤، على منصة إكس: https://2h.ae/oYvg

[10] يديعوت أحرونوت: 7 أمور مهمة استفادتها إسرائيل من الهجمات الإيرانية، الجزيرة نت، 15 أبريل 2024، متاح عبر الرابط التالي: https://2h.ae/qoVQ

[11] عبد الرحمن عياش Abdelrahman Ayyash @3yyash، تحليل وجيه عن الضربة الإيرانية؛ على: منصة إكس: https://2h.ae/DWqe

[12] معتز عبد الفتاح، ماذا تريد إيران بصواريخها ومسيراتها الطائرة إلى إسرائيل بعلم الجميع؟، المشهد، 15 أبريل 2024، متاح عبر الرابط التالي: https://2h.ae/iQgn

[13]  ياسر الزعاترة، ١٥ أبريل ٢٠٢٤، على حسابه على منصة إكس: https://2h.ae/HWgo

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى