صراع الشرعيات في مصر

صراع الشرعيات في مصر : السياسة والقانون والقوة والثورة

تعيش مصر اليوم لحظة من أحرج لحظاتها بين قطبي تغيير نظام مبارك واستمراره. فثورة 25 يناير كشفت وأكدت اتجاها عاما وقويا ينشد التغيير وإصلاح ما أفسدته عقود ما بعد الاستقلال، بينما يصر بقايا المنظومة الفاسدة على مقومة هذا التوجه بالحيلة والمكر وبالقوة والقمع. افتتحت الثورة مسارا سياسيا خاصا لعب فيه القانون والقانونيون دورا مركزيا، بدا كثيرا غير متوائم مع الثورة لكنه استطاع أن يمرر فترة الفوران الثوري، لكي تتلقفه قوى النظام القديم وتترس وراءه بقواتها المالية والأمنية والإعلامية. فشلت القوى السياسية برمتها فشلا ذريعا في قراءة هذا المنحدر فضلا عن الاستعداد المبر لمواجهته.

 

اليوم تقف مصر بين معسكرين واضحين وبآليات وأدوات سافرة: معسكر الثورة وإحياء جذوتها والإصرار على التغيير، ومعسكر الثورة المضادة المنقلب على مكاسب الثورة وأهدافها. بين الناعم والخشن تدور رحى المعركة: القوة والسياسة تتداخلان وتتحاضنان تحاضن السيوف، والقوة العسكرية والأمنية تواجه الثورة بآلياتها وقواها بصرخة البطش والتخويف.

مصر على حافة هاوية جديدة: العسكر يتوعدون أنهم سيقفون بقوة وحزم وسائر تعبيراهم وراء لافتة “الشرعية” التي اصطنعوها ويظنون أنهم أحكموا بناءها، ودعوى لن يحسنوا التدليل عليها وهي تحقيق (الأمن)، والثوار يتلقون ذلك كله بالرفض ويعلنون أنهم لن يتراجعوا عن مبتغاهم ولو كلفهم ذلك دماء فوق التي جرت منذ 25 يناير. والساسة والقانونيون موزعون بين المعسكرين وأكثرهم مترددون مرتعشون، والصوت العالي والمنتشر يقف في صف العسكر وخطتهم، بينما يترقب الجميع ما يجري في باطن الثورة وما قد تسفر عنه من انفجار بركاني مزلزل.

بشروا ولا تنفروا .. نسأل الله تعالى السلامة للوطن وأهله وأن يرزق الجميع الحكمة والإخلاص. لكن التحسب والنظر لغد من واجبات الوقت القصوى، وتصور الأسوأ لتجنبه أولى من الراحة في ظلال الأماني.

فيما يبدو واضحا: العسكر لا يعون القضية بعمق بالرغم من أنهم أداروا الجزء الأخير من المسرحية بمكر ودهاء لا يطاولهما إلا استقواؤهم وعزمهم في إمضاء خطتهم ولو بتهديدات واستعدادات عسكرية. ما لا يعيه العسكر يتلخص في أمرين: الإطار الفكري والسياسي الذي تدور فيه اللحظة ، ثم آلية تعامل الطرف المواجه لهم (الثوار) معها.

أما الإطار فيتلخص في أنهم غفلوا عن متغيرات تأكدت في مصر خلال السنة الماضية ونصف السنة، فقد جرى دم كثير على يد العسكر أو قوات الأمن زلم يقابل بالخوف أو التراجع اللهم إلا في حادثة العباسية وتبدو استثنائية لعوامل عدة. وقد صنع هذا الدم ثأرا مبيتا لم يمح بعد. وقطاعات عريضة من الشعب نفضت عنها حواجز الخوف وغير مستعدة للعودة لأسره، كما أن عددا كبيرا من القوى قد تأسس وحصل على شرعية قانوينة وسياسية وثورية بل الأدهى أن ثمة مؤسسات سيادية تشكلت بشرعية شعبية كبيرة لن يسهل محوها تماما. وإذا كان الخارج السياسي قد تربص بالثورة المصرية إلا أنه في ظل هذه المعطيات لن يمكنه التعاون ضدها كما يتصور العسكر والمرتبطون بالخارج.

الجيش المصري جرى تأطيره سياسيا خلال الفترة القليلة الماضية بأنه جيش الشعب لا النظام، وهذا ليس وهما .. فعند حد معين يمكن بسهولة ان تتوقع عصيانا عسكريا حال يقف الجيش في مواجهة الشعب. وهذا يذر بانقلاب على الانقلاب وتطورات قد يصعب جدا التحكم بها.

الثورة حصلت على شرعية عامة اعترف بها وأكد عليها مرارا المجلس الأعلى للقوات المسلحة وإعلانه الدستوري، والنظام الساقط حصل على كارت أحمر عام، ولن يكون من القوة المعنوية أن يقف معسكر مهما تعددت قواه ليعيد الكرة في مهاجمة الثورة في الوقت الذي يدعي أنه يستند إليها. معضلة النظام الساقط واستعادة ستكون فيما يبدو عصية على الحل السياسي أو الفكري.

في المعسكر المقابل ثورة و فكر وسياسة لا تستند إلى ما يسمى شرعية قانونية جرى تلويثها مرارا ولا شرعية عسكرية تحاول فرض نفسها بقوة الأمر الواقع وبقوة السلاح. ومن ثم فقوى الثورة لا تحتاج إلى كثير مجهود لكي تقنع نفسها ومن يتبعها ويدفعها للأمام بمصداقية الثورة وتجديدها، ولا بأحقيتها في الاستمرار والانتصار.

صراع الشرعيات بين ثورية ودستورية وشعبية وشرعية القوة المسلحة قد يحسم مؤقتا لصالح القوة المسلحة لكن هذا الحسم المؤقت يعظم من حظوظ الشرعية الثورية رويدا ويضيف إليها شرعية شعبية على غرار ما جرى مع الثورة إبان اندلاعها.. الفارق لا يكمن إلا في التوقيتات التي قد تطول شيئا بقدر موازين الصلابة وتأرجحاتها.. لكنها في النهاية تعظم من رصيد الثورة وتقول للعسكر أو قيادات معركة استعادة الماضي: عفوا نفد رصيدكم، وانتهت مرحلتكم، ولن تعودا حتى إلى ثكناتكم..!!

الثورات لا تنهزم.. قدر وقانون.. تنحرف أو تتراجع خطوات.. لكنها روح سارية تنشد التغيير وهو يستجيب لها:

إذا الشعب يوما أراد الحياة           فلابد أن يستجيب القدر

ولابد لليل ان ينجلي                ولابد للقيد أن ينكسر

للحصول علي الملف بصيغة pdf

اضغط هنا

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى