بعد الحرب/المذبحة: سؤال المستقبل يتجه إلى الكيان وليس القطاع: إلى أين تذهب إسرائيل؟!

سؤال ما بعد هذه الحرب في فلسطين ليس عن مستقبل حماس أو قطاع غزة. طبعا سيثور بقوة السؤال عن واقع الفلسطينيين بعموم وحقهم المعروف وقضيتهم التي عادت تتصدر –ليس ساحة الاهتمام- ولكن قائمة الأهمية والأولوية في السياسة العالمية. ولكن الحقيقة أن هذه القضية محسومة المعالم: مقاومة حتى قيام الدولة الفلسطينية المستقلة ذات السيادة، فهذا أمر لا خيار فيه لا عند الفلسطينيين ولا أنصارهم ولا الصهاينة ولا شركائهم؛ ستستمر القضية ومآسيها حتى تصل إلى حلها النهائي المذكور. لكن سؤال المستقبل الأخطر والأحرج هو: كيف ستكمل إسرائيل وجودها وحركتها في المنطقة بعد هذه المذبحة المروعة وتداعياتها الخطيرة؟ كيف تتصور هي أو يتصور غيرها علاقاتها وتفاعلاتها ومشروعاتها التي كانت قبل طوفان الأقصى بعد هذه الأحداث الرهيبة التي ضربت الكثير من مكتسباتها عبر عقدين مضيا.

قبل 7 أكتوبر كانت إسرائيل قد حققت عددًا مما يعد مكاسب للصهيونية:

  • على المستوى الفلسطيني، نجح الكيان في:
  • تجميد التسوية السلمية للقضية الفلسطينية تجميدًا تامًّا، واستبعاد حل “الدولتين” بأي من حدوده الدنيا.
  • الزيادة السريعة والواسعة في بناء المستوطنات في الضفة الغربية والقدس، والاستيلاء على ممتلكات مواطنين فلسطينيين كثيرة وتهجيرهم منها، والتحرك باتجاه الاقتطاع من الأهوار.
  • إحكام القبضة الأمنية على الضفة، وكبح محاولات تجديد مقاومتها، وإحكام السيطرة على القدس والدأب في تهويدها، والتحكم بالمسجد الأقصى وتحديد حركة المسلمين فيه.

كل ذلك مع شل قدرة السلطة الفلسطينية بقيادة حركة فتح على مقاومة هذا المسار.

  • إحكام الحصار حول غزة، وامتلاك القدرة على الرد العنيف على كل محاولة من المقاومة للهجوم عليها عبر رشقات صاروخية قليلة الفاعلية.
  • إقليميًا وعالميًا، نجح الكيان في:
  • فتح مسارات تطبيع متقدمة مع دول عربية مهمة: الإمارات، البحرين، ثم المغرب ثم السعودية أخيرًا، مع فتح أبواب لعلاقات جديدة مع سلطنة عمان والسودان وموريتانيا.
  • تشديد استراتيجية الحصار والضغوط القصوى –بفعل الحليف الأمريكي- على إيران، وبرنامجها النووي والصاروخي، وضرب أهداف أساسية لها في عقر دارها (الهجوم السيبراني على مفاعلاتها في نطنز واغتيال العالم النووي فخري زاده، وقاسم سليماني في العراق)، وفي محورها العراقي-السوري-اللبناني.
  • تطوير خطة (شد الأطراف) بعلاقات عميقة ودافئة مع العديد من دول العالم الكبرى والصغيرة؛ وبالأخص في أقاليم الظل في آسيا الوسطى وكردستان وشرق أوروبا وأفريقيا وأمريكا اللاتينية.
  • تطوير الصلات الاقتصادية، والتسويق النوعي لصناعاتها العسكرية والتكنولوجية والتجسسية، والتغلغل بها عبر العالم، وتطوير المقدرات المتعلقة بالموارد الحيوية: الغاز والوقود والمياه وغيرها.
  • الدخول في مشروعات الممرات الدولية المزمع العمل منها بين الشرق والغرب (قناة بن جوريون، المحور الهندي-الشرق أوسطي-الأوروبي EMIC….).
  • الاحتفاظ بنفوذ وتأثير صهيوني قوي وتعظيمه داخل دوائر الحكم والنفوذ لدى القوى الكبرى في الغرب كله أو معظمه، ومثلها بشكل مختلف في قوى الشرق: الصين، الهند، اليابان…الخ؛ ما جعلها طرفًا عالمي النفوذ والتأثير، كما برز في مفاوضات الملف النووي الإيراني، وفي الحرب الأوكرانية، وترتيبات صفقة القرن واتفاقية أبراهام وغيرها.

هذه المكتسبات على مستوى المشروع الصهيوني (والتي ينسب كثير منها إلى إدارة بنيامين نتنياهو)، – بالإضافة إلى الدعاية الكبيرة التي يطلقها الكيان عن نفسه حتى داخل العالم العربي والإسلامي- صوّرت الكيان الصهيوني في صورة فائقة حول تحضره وقوته. لكن 7 أكتوبر وتداعياتها أتت على الكثير من ذلك بآثار عكسية كبيرة؛ ما يطرح السؤال عن مستقبل الكيان الإسرائيلي ومشروعه الصهيوني عقب هذه الحرب.

ويمكن القول مبدئيًا إنه جدّ وستجد بعد هذه الحرب عدة أمور:

  • على مستوى القضية الفلسطينية: سيتوجب عليها التحرك باتجاه حل سياسي ملموس للقضية؛ وهذا يعني انهيار كثير من مكتسبات الصهيونية:
  • ستصبح القضية الفلسطينية أكثر سخونة وحضورا، وعلى إسرائيل أن تقدم حلولاً عملية وعاجلة ترجع بخطة الاستيطان إلى الخلف، وتمنح السلطة الفلسطينية مزايا أكثر من ذي قبل.
  • ستواجه إسرائيل تململاً كبيرًا –قد يصل إلى درجة الانتفاضة- في الضفة، ما لم تتجه إلى حل سياسي سريع وفعّال لمشكلة الاحتلال والاستيطان.
  • سيصعب عليها الاستمرار في محاصرة المقاومة الفلسطينية في غزة بتهمة الإرهاب، فقد زادت شعبية المقاومة عربيًا وإسلاميًا وعالميًّا بشكل غير مسبوق نظرًا لبشاعة الوحشية الإسرائيلية.
  • ستصبح غزة شوكة أمنية وسياسية في حلق المشروع الصهيوني في الأجل القريب والمتوسط حتى يتم تقديم حل أوسع للقضية الفلسطينية برمتها؛ ومن ثم تراجع المشروع الصهيوني الطموح خطوات إلى الخلف.
  • شحنت إسرائيل المنطقة العربية والعالم الإسلامي ضدها بصورة غير مسبوقة، وتعمل الشعوب على تعزيز المقاومة ضدها، ومقاطعة كل من يؤيد إسرائيل. وسيصعب كثيرًا على كثير من الأنظمة والحكومات في المنطقة أن تستمر في التطبيع العلني مع الإسرائيليين اقتصاديًا.
  • إقليميا ودوليا: سيكون على إسرائيل أن تواجه تداعيات عديدة لفشلها وجرائمها التي اقترفتها خلال هذه الحرب؛ من قبيل أنه:
  • تكشفت عالميًا لإسرائيل صورة لا إنسانية شديدة البشاعة مع استمرارها في قتل آلاف الأطفال والنساء من غير رحمة ولا أخلاق.
  • اهتزت –بل ضربت- بصورة كبيرة صورة القوة الإسرائيلية والقدرات على ردع المقاومة. وتتراجع بصورة كبيرة حالة الأمان الإقليمي والدولي التي كانت إسرائيل تتمتع بها، وثمة معدّلات عالية من المخاطر تتعرض لها مستقبلاً. وستصبح فكرة الممرات الاستراتيجية أقل احتمالاً.
  • ربحت إيران ومحورها كثيرًا من التأييد على حساب وضعية إسرائيل، وكانت إداراتها للحرب الجانبية من الذكاء والتوازن؛ بحيث يمكن القول بخروج ميزان القوة من إسرائيل في هذه الحرب لصالح إيران ومحورها. وتشكل ضدها محور مقاومة تقوده إيران، وقد جرّبت إدارة حرب متكاملة ضدها؛ في جنوب لبنان، واليمن والعراق وسوريا، تضامنا مع الحرب في غزة.
  • خسرت إسرائيل العلاقة مع روسيا وتركيا وماليزيا وجنوب أفريقيا والعديد من القوى التي كانت تشدها كأطراف محيطة بالعالم العربي.
  • سيكون على إسرائيل أن تواجه عملية دولية من أجل جرّها إلى محكمة جنائية دولية على جرائمها التي ارتكبتها – بصورة مفضوحة وبشعة- في هذه الحرب. فقد قامت العديد من الحكومات والمنظمات بوصف إسرائيل بالكيان الإرهابي والعنصري والإشارة إلى قيادتها وسياساتها بجرائم الحرب، وحرب الإبادة، وارتكاب المذابح والمجازر.

ومن ثم تتأكد فرضية أنه بعد انتهاء هذه الحرب/ المذبحة، سيكون سؤال المستقبل متوجها بالأساس نحو الكيان الصهيوني وليس نحو قطاع غزة والمقاومة، حيث يتراجع رصيد المشروع الصهيوني وتتزايد الضغوط على الكيان؛ ما ينبغي على قوى المقاومة وقوى نصرتها العمل على استثماره واستكماله حتى تحقيق غاياته؛ نحو استعادة الحق الفلسطيني الكامل العادل.

بالطبع لن يستسلم الكيان لهذا السيناريو، وسيقاومه بكل ما أوتي من قوة ذاتية وإضافية من خارجه، خاصة من الصهيونية الغربية والأطراف التي شدت إلى الصهيونية عبر نصف قرن، وستكون معظم حكومات الإقليم بين تابع ومتابع، وسيسعون جميعا لقلب الطاولة على المقاومة القضية وشعبها، ولكن المقاومة ونصرتها أثبتت أنها يمكن أن تنجح وتنتصر، ويجب عليها أن تكمل الطريق حتى منتهاه العادل.

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى