الأبعاد الاقتصادية للحرب الروسية ضد أوكرانيا (الطاقة، والغذاء)

مقدمة:

جاء الغزو الروسي لأوكرانيا في 24 فبراير من عام 2022 في وقتٍ تتنازع الاقتصاد العالمي مجموعة من الأزمات المتوالية منذ عام 2018، بدأت بالحرب التجارية الأمريكية- الصينية، تلتها أزمة جائحة كورونا وما صاحبها من تبعات بينها؛ توقف الأنشطة التجارية والإغلاق الكلي واضطرابات الشحن الدولي، التي خفضت الطلب لأقصى درجاته، وأسفرت عن ركود اقتصادي واسع النطاق (ورغم تحسن الأوضاع نسبيًا، إلا أن ذلك لا يعني أن السياق الاقتصادي العالمي قد تعافى بعد). في هذا الإطار؛ اشتعلت الحرب الروسية الأوكرانية لتُلقي بظلالها وتداعياتها على الاقتصاد العالمي بدورها، محدثة ارتفاع غير مسبوق في أسعار الطاقة، إضافة إلى تهديد الأمن الغذائي للعديد من الدول النامية والصغيرة التي تعتمد على الدولتين المتحاربتين في استيراد معظم احتياجاتها من الحبوب الغذائية.

تختلف التداعيات الاقتصادية للحرب بين دول العالم؛ فبينما تتأثر الدولة الأوروبية والصناعية الكبرى بارتفاع أسعار الطاقة وتتخوف من نقص إمدادات الغاز الروسي، فإن التداعيات الاقتصادية بين دول الشرق الأوسط وأفريقيا تأتي متفاوتة؛ بين آثار سلبية متعلقة بالأمن الغذائي في مصر وتونس ولبنان وتركيا ودول غرب أفريقيا، وفوائد اقتصادية تتحصل عليها دول مجلس التعاون الخليجي والعراق. هذا حيث قد عطل الهجوم الروسي على أوكرانيا إمدادات القمح والحبوب في منطقة الشرق الأوسط وأفريقيا؛ وعلى جانب آخر صاحب ذلك ارتفاع في أسعار النفط والخبز، وهو ما قد يؤدي إلى اضطرابات اجتماعية في بعض تلك البلدان.

يتناول هذا التقرير التداعيات الاقتصادية للحرب الروسية- الأوكرانية على الاقتصاد العالمي، بحيث يرصد الأهمية الاقتصادية للدولتين أولًا، ثم يركز على الآثار المتباينة للحرب على العالم الغربي والدول الكبرى من ناحية، مقابل الدول النامية ومنطقة الشرق الأوسط وأفريقيا من ناحيةٍ أخرى، خاصةً فيما يتصل بالطاقة والغذاء.

أولًا- الأهمية الاقتصادية لروسيا وأوكرانيا

تعد روسيا ثالث أكبر منتج للنفط بعد الولايات المتحدة الأمريكية والمملكة العربية السعودية، وثاني أكبر مصدر للنفط الخام في العالم بعد السعودية. حيث يمثل إنتاج روسيا من النفط الخام وفقًا لإحصاءات عام 2021 نحو 5 ملايين برميل يوميًا، أى ما يُعادل 12٪ من التجارة العالمية، كما يمثل إنتاج موسكو من الغاز الطبيعي نحو 761 مليار متر مكعب وفقًا لإحصاءات عام 2021، أي ما يُعادل 18٪ من إنتاج الغاز العالمي. كما تعد كل من روسيا وأوكرانيا من بين أهم منتجي السلع الزراعية في العالم، حيث يبلغ متوسط مجموع إنتاج الدولتين من الشعير والقمح والذرة 19٪ و14٪ و4٪ على الترتيب من الإنتاج العالمي وذلك في الفترة ما بين 2016 إلى 2020، كما أن إنتاجهما من البذور الزيتية يزيد على نصف متوسط الإنتاج العالمي خاصةً زيت عباد الشمس. وقد سجلت روسيا عام 2021 المرتبة الأولى كمصدر عالمي للقمح، حيث تصدر 32.9 مليون طن من القمح بما يعادل 18٪ من الصادرات العالمية. كما سجلت أوكرانيا المرتبة الخامسة في تصدير للقمح عام 2021، حيث قامت بتصدير 20 مليون طن من القمح بما يُعادل 10٪ من الصادرات العالمية[1].

ولهذا أربكت الحرب بين الدولتين الاقتصاد العالمي بشكلٍ غير مسبوق، وأضعفت من ثقة المستثمرين والمستهلكين في النشاط الاقتصادي العالمي، وسط ارتفاع تكاليف أسعار السلع الأساسية ومنها الطاقة والغذاء، وارتفاع تكاليف المعيشة للكثير من الأسر حول العالم. كما أثرت الحرب على سلاسل الإمداد والتوريد العالمية في البحر الأسود وأدت إلى تفاقم أزمة الشحن والنقل العالمي للبضائع، وشهدت الأسواق المالية بدورها تخبطات، وهو ما يُنذر بموجة من التضخم تُلقي بظلالها على الاقتصاد العالمي كله. ووفقًا لمدونة نشرها صندوق النقد الدولي، فإن تأثيرات الحرب على الاقتصاد العالمي تبرز عبر ثلاث قنوات بالأساس، وذلك على النحو التالي[2]:

1- ارتفاع أسعار السلع الأولية كالغذاء والطاقة سيدفع التضخم نحو مزيد من الارتفاع، ما يؤدي بدوره إلى تآكل قيمة الدخول وإضعاف الطلب.

2- الاقتصادات المجاورة بصفةٍ خاصة سوف تصارع الانقطاعات في التجارة وسلاسل الإمداد وتحويلات العاملين في الخارج، كما ستشهد طفرة تاريخية في تدفقات اللاجئين.

3- تراجع ثقة مجتمع الأعمال وزيادة شعور المستثمرين بعدم اليقين سيفضيان إلى إضعاف أسعار الأصول، وتشديد الأوضاع المالية، وربما الحفز على خروج التدفقات الرأسمالية من الأسواق الصاعدة.

ثانيًا- تأثير الحرب على مجال الطاقة العالمي:

شهدت أسعار النفط ارتفاعًا قويًا؛ حيث ارتفعت أسعار خام برنت لأعلى مستوياتها منذ عام 2008، لتسجل قرابة 130 دولارًا للبرميل في الأسبوع الثاني من مارس 2022، فيما تم تداول 200 عقد آجل لخام برنت تسليم مايو في البورصة الأوروبية عند مستوى قدره 200 دولارًا للبرميل. وفي ضوء الحرب الراهنة بين روسيا وأوكرانيا، سترتفع احتمالات حدة التقلبات في أسعار النفط، لتتراوح بين 100 و200 دولارًا للبرميل[3].

المصدر: موقع صندوق النقد الدولي، متاح عبر الرابط التالي: https://cutt.us/wNowo

غير أن الدول لم تتأثر بنفس الشكل بارتفاع الأسعار هذا، وإنما تفاوت التأثر ما بين الدول الغربية الكبرى والدول الصناعية عامةً، والدول المنتجة والمصدرة للبترول، وأيضًا الدول المستوردة ذات الاقتصاديات الضعيفة. وهو ما نتناوله بالتفصيل فيما يلي:

أ) الدول الغربية والدول الصناعية:

تمثل الطاقة القناة الرئيسية لانتقال التداعيات إلى بقية دول أوروبا، إذ تعتبر روسيا أكبر مورد للطاقة للاتحاد الأوروبي؛ حيث تستحوذ على حوالي 40٪ من واردات الدول الأوروبية من الغاز الطبيعي، وقرابة ثلث وارداتها من النفط. ومع اشتعال فتيل الحرب الروسية الأوكرانية، تصاعدت المخاوف الأوروبية بشأن احتمالية قيام روسيا بوقف الإمدادات بسبب العقوبات الغربية المفروضة على موسكو. وبالرغم من أن تدفقات الغاز الروسي لا زالت مستمرة لأسواق الاستهلاك في ظل الأزمة ومع استبعاد أوروبا فرض عقوبات على قطاع الطاقة الروسي، فإن أسعار الطاقة قد ارتفعت إلى مستويات قياسية منذ بداية الحرب، إذ شهدت أسعار الغاز الطبيعي في أوروبا ارتفاعًا قياسيًا لتصل إلى 3300 دولارًا لكل 1000 متر مكعب في 7 مارس 2022، كما اخترقت أسعار خام برنت في الفترة نفسها مستوى 127 دولارًا للبرميل، قبل أن تتراجع لاحقًا عند ما يقارب 112 دولارًا للبرميل. وتفرض تلك الزيادات أعباءً إضافية على الميزانيات الأوروبية، حيث لجأت كثير من الحكومات الأوروبية مؤخرًا لتخصيص مبالغ مالية كبيرة كإعانات للأسر، لاحتواء آثار ارتفاع أسعار الطاقة[4].

وبسبب الاعتماد الأوروبي الكبير على الغاز الروسي وخاصةً من قبل ألمانيا، فإنها رفضت مرارًا فرض عقوبات اقتصادية  على روسيا في مجال الطاقة، بينما توجهت إيطاليا إلى الجزائر في محاولة لتأمين بديل إذا ما توقف الغاز الروسي أو نقصت إمداداته، إذ توجه وزير الخارجية الإيطالي في 28 فبراير 2022 إلى الجزائر في محاولة لزيادة إمدادات الغاز عبر أنبوب “ترانس ميد” الذي يربط إيطاليا بالجزائر عبر تونس، لكن الجزائر لا تقدر على ملء فراغ الغاز الروسي في أوروبا في المدى المنظور، فالجزائر تصدر لإيطاليا نحو22 مليار متر مكعب من الغاز في أنبوب قادر على ضخ 32 مليار مليار متر مكعب كحد أقصى سنويًا، في حين استوردت أوروبا من روسيا حوالي 168 مليار متر مكعب عام 2020[5].

أما الولايات المتحدة التي تحاول تضييق الخناق على روسيا بكل السبل الممكنة، فقد أبرمت اتفاقًا مع دول الاتحاد الأوروبي ينص على تزويد واشنطن دول الاتحاد بغاز إضافي، يعادل 10٪ مما تستقبله الآن من روسيا، بنهاية العام الجاري، في محاولة منها لتقليل اعتماد الدول الأوروبية على الغاز الروسي[6]. كما حاولت واشنطن الضغط على مجموعة “الأوبك بلس” لضخ مزيد من من النفط الخام لتهدئة الأسعار التي ارتفعت لمستويات قياسية، غير أن تلك الأخيرة رفضت وتمسكت بسياسة إنتاج النفط الحالية بزيادة قدرها 432 ألف برميل اعتبارًا من مايو 2022، بحسب بيان صادر يوم 31 مارس 2022، وأخيرًا تدرس إدارة “بايدن” الآن سحب ما يصل إلى 180 مليون برميل نفط من الاحتياطيات الاستراتيجية لديها، ولم توضح ما إذا كان سحب الكمية سيكون عبر تبادلات من الاحتياطي يتم استبدالها بشركات نفطية في تاريخٍ لاحق، أو مبيعات كاملة، أو مزيج من الاثنين، إلا أن إطلاق النفط سيزيد الإمدادات بمقدار مليون برميل يوميًا لمدة 6 أشهر، ويساعد على استعادة توازن السوق هذا العام، لكنه لا يحل عجز العرض الهيكلي[7].

وبالنسبة للصين وهي أكبر مشتر منفرد للنفط الروسي، حيث حصلت على نحو 20٪ من صادرات روسيا النفطية عام 2021، إلا أنها تمكنت من ترويض ارتفاع أسعار المصانع مع تخفيف قيود العرض العالمية واتخذت الحكومة خطوات للحد من تكاليف السلع الأساسية، كما أدى الارتفاع الأخير في أسعار الطاقة العالمية إلى زيادة الضغط على الشركات المُصنعة الصينية، ما يهدد برفع التكاليف مرة أخرى وضغط الأرباح وإبطاء النمو الاقتصادي بشكلٍ أكبر[8].

ب) الدول العربية والإسلامية:

يعد أكبر المستفيدين من ارتفاعات أسعار النفط هي الدول المنتجة له؛ وذلك بسبب زيادة عوائد مبيعاتها وهو ما يصب في تقليص العجز المسجل بسبب تداعيات جائحة كورونا، كما يُعزز ارتفاع النفط خطط النمو وعودة التعافي الاقتصادي، وتتصدر الإمارات والسعودية قائمة الدول المستفيدة من ارتفاع الأسعار. ووفقًا لبحث أجرته مجموعة “ميتسوبيشي” المالية في فبراير 2022، من المرجح أن تشهد دول مجلس التعاون الخليجي ارتفاعًا في الناتج المحلي الإجمالي بنسبة 6.1٪ في عام 2022 بسبب ارتفاع أسعار النفط[9]. أما العراق فكانت أيضًا من المستفيدين من زيادة أسعار النفط، فقد أعلنت وزارة النفط العراقية أن صادرات بلادها من النفط بلغت 100 مليون و563 ألفًا و999 برميلًا، بمعدل يومي قدره 3244 برميل وبسعر متوسط تجاوز 110 دولارات، وبإيرادات بلغت 11.07 مليار دولار، محققة أعلى إيراد مالي منذ عام 1972[10].

ومن ناحيةٍ أخرى، فإن إيران جاهزة لملء فراغ الغاز الروسي في حال ازدياد عزلة “بوتين” الدولية. فبعد أن استفادت روسيا، على امتداد فترة طويلة، من العقوبات الأمريكية والدولية على إيران، قد تنعكس الأمور الآن؛ فتصبح إيران هي المستفيدة من عزلة روسيا المستجدة في حال إعادة إحياء الاتفاق النووي الإيراني. وإذا صحت تقديرات احتياطي الغاز في حقل “تشالوس” للغاز في بحر قزوين، فإن إيران ستكون قادرة، على المدى الطويل، على نزع أوراق ضغط قوية من أيدي روسيا في تعاملها مع تركيا والاتحاد الأوروبي، إن قررت التنافس مع روسيا على تصدير الغاز، ما قد ينعكس سلبًا على العلاقات الثنائية بينهما. لكن إيران تحتاج إلى ترتيبات لوجستية ودبلوماسية قد تستغرق وقتًا لنقل الغاز إلى أوروبا التي لا يمكن أن يصمد اقتصادها طويلًا في حال توقفت إمدادات الغاز الروسي. وفي المدى المنظور لا يبدو أن إيران راغبة في إعلان هذا التحدي[11].

وعلى جانب الدول المتضررة، تأتي تركيا على سبيل المثال، فتركيا خلال الفترة بين عامي 2010 و2020 استوردت من الخارج نفطًا وغازًا وفحمًا بقيمة 45 مليار دولارًا سنويًا، فيما ارتفع هذا الرقم عام 2021 إلى 55 مليار دولارًا بسبب الزيادة التدريجية في أسعار الطاقة عالميًا. وعلى الرغم من أن اتفاقيات تركيا لاستيراد الغاز طويلة الأمد ومحددة السعر مسبقًا، فإن سعر الغاز الذي تشتريه تركيا يحدده سعر النفط وفق الاتفاقيات التي وقعتها تركيا. وكانت أكبر زيادة في أسعار المحروقات التي تستوردها تركيا من الخارج للفحم الذي كان سعره عام 2021 نحو 150 دولارًا، فيما صعد حاليًا ليصل إلى 330 دولارًا. ومن المتوقع أن تصل فاتورة الطاقة المستوردة في تركيا خلال عام 2022 إلى نحو 65-75 مليار دولار. وقد جاءت الزيادة في أسعار الطاقة على المستهلك التركي بالليرة التركية مضاعفةً بسبب توجه الحكومة إلى خفض سعر الليرة مقابل الدولار اعتبارًا من نوفمبر 2021، فكل زيادة بنسبة 20٪ في أسعار الطاقة بالدولار تصل إلى المستهلك التركي بزيادة قيمتها 40-50٪ على الليرة التركية، وهو أمر أشعل نار التضخم ودفع البنك المركزي إلى وقف الحديث عن ضبط معدلات التضخم اعتبارًا من تقاريره في شهر مارس المنصرم[12].

ثالثًا- تهديد الأمن الغذائي لدول الشرق الأوسط وأفريقيا:

جاء الغزو الروسي لأوكرانيا في وقتٍ كانت فيه سلاسل الإمدادات الغذائية والزراعة العالمية في وضعٍ هشٍ بالفعل. حيث أدى الجفاف الذي ضرب جميع أنحاء الولايات المتحدة وكندا في عام 2021، وهما من أكبر منتجي ومصدري القمح والحبوب الأخرى في العالم، إلى انخفاض إنتاجية هذه المحاصيل. كما ألحق الطقس الجاف الضرر بالمصدرين الزراعيين الرئيسيين في نصف الكرة الجنوبي، ما أدى إلى خفض حجم المعروض في السوق من بعض الحبوب، مثل الذرة، على سبيل المثال. كما عانى صغار الدول المنتجة للحبوب مثل سوريا والعراق من الجفاف، على نحوٍ أدى إلى انخفاض إنتاجهم وبالتالي زيادة الطلب على الواردات. وقامت روسيا، وهي أكبر مصدّر للقمح في العالم، بتخفيض حصتها التصديرية لعام 2022، من أجل تأمين إمداداتها المحلية. وحتى قبل اندلاع الحرب، أظهرت التوقعات العالمية لوزارة الزراعة الأمريكية للسلع الحيوية مثل القمح والذرة وبعض البذور الزيتية خلال الفترة 2021-2022 انخفاض العرض وزيادة الطلب وتدني المخزونات في نهاية العام[13].

تم إغلاق موانئ البحر الأسود منذ الأيام الأولى للحرب. وكذلك أصدر مجلس الوزراء الأوكراني في 9 مارس 2022 قرارًا بحظر تصدير الجاودار (حبوب حولية تشبه القمح والشعير) وكذلك الشعير والحنطة السوداء والذرة الرفيعة والسكر والملح واللحوم حتى آخر العام. وحتى قبل إصدار هذا القرار، كانت حصص كبيرة من الإنتاج الزراعي الأوكراني لعام 2021 لا تزال قيد النقل؛ ما يقرب من 30٪ من القمح، و45٪ من الذرة ومقدار الربع من محصولها من الشعير وزيت عباد الشمس. ويبدو أنه من غير الممكن أن تصل هذه البضائع إلى الأسواق في عام 2022.

وتعد الدول الأكثر تضررًا في تلك الأزمة هي الدول التي يتوفر فيها شرطان: الأول أنها تعتمد اعتمادًا كبيرًا على واردات الحبوب والبذور الزيتية، والثاني أن مورديها الرئيسيين هما روسيا و/أو أوكرانيا. ومن ثم تحتل دول البحر المتوسط الواقعة ​​في شمال إفريقيا والشرق الأوسط المرتبة الأولى بين الدول التي تقع على خط النار. وتتصدر مصر وتونس ولبنان وتركيا حتى الآن قائمة الدول الأكثر تضررًا من هذه الحرب.

فالبنسبة إلى مصر، نجد أنها تعتمد على الواردات في استهلاكها من القمح والذرة بنسبة 60٪ تقريبًا، وتحصل على 86٪ من وارداتها من القمح و40٪ من وارداتها من الذرة من كل من روسيا وأوكرانيا. وهكذا أدى الاختلال في إنتاج القمح الأوكراني وسلاسل التصدير، فضلًا عن التبعات الحادة للعقوبات التي فُرضت على الأنشطة الاقتصادية والتجارية الروسية، إلى ارتفاع شديد في أسعار القمح. وسيكون على الحكومة المصرية استخدام المزيد من مواردها المالية لتأمين إمدادات القمح ودرء المخاطر التي تهدد الأمن الغذائي للبلاد. ويعود ذلك جزئيًا إلى التضخم الشديد الذي تعاني منه مصر، ويُتوقع أن يرتفع 2.3 نقطة مئوية ليسجل 7.5٪ هذا العام، فضلًا عن تراجع قيمة الجنيه المصري بعد عملية تعويم أفقدته ما يقارب 14٪ من قيمته. وهو ما أدى بدوره إلى ارتفاع أسعار السلع الأساسية، ومنها الخبز الذي يُسجل ارتفاعًا في سعره بسبب الإجراءات التي أُعلِن عنها سابقًا لإصلاح نظام الدعم. وغالب الظن أن موارد مالية إضافية ستُخصص لضبط أسعار الرغيف، ولا سيما أن معدل الفقر في أوساط السكان يناهز نسبة الـ30٪. ويُعتبر إعلان الحكومة مؤخرًا عن توسيع مساحة الأراضي المخصصة لزراعة القمح بواقع مليونَي فدان بحلول نهاية عام 2024 استراتيجية متوسطة الأجل يمكن تطبيقها لتعزيز الأمن الغذائي في مصر، ولكنه لا يخفف من الأوضاع الهشة الفورية التي يعاني منها السكان بسبب الحرب الروسية الأوكرانية[14].

أما تركيا فتعتمد على الواردات من القمح بنسبة 40٪، ومن الذرة بنسبة 33٪. حيث توفر كل من روسيا وأوكرانيا معًا نسبة 75٪ من وارداتها من القمح و5٪ من وارداتها من الذرة (بالإضافة إلى 51٪ من وارداتها من زيت عباد الشمس). كانت أنقرة بالفعل تواجه معدل تضخم حاد، ما أدى إلى إثارة احتجاجات تتعلق بأسعار السلع الغذائية الأساسية. وعلى الرغم من أن وزارة الزراعة والغابات التركية أكدت للجمهور أنه قد تم بالفعل تأمين إمدادات الحبوب خلال موسم الحصاد المقبل؛ إلا أن أنقرة لم تتمكن بعد من السيطرة على التضخم وتحقيق الاستقرار في أسعار الصرف، وبالتالي حماية الجمهور من ارتفاع أسعار المواد الغذائية، لا سيما تلك المتعلقة بالواردات[15].

شهد الوضع الاقتصادي في تونس بدوره تدهورًا حادًا، فاقتصادها يتعرض أصلًا لضغوط هائلة من قبل الحرب. وتحصل تونس على نحو 80٪ من حاجاتها من القمح من أوكرانيا. ونتيجة للنزاع، تسجل أسعار القمح في البلاد معدلات مرتفعة، لذا تواجه الأُسر التونسية صعوبة كبيرة في الحصول على الخبز وغيره من السلع الأساسية. ويشعر التونسيون أيضًا بالتبعات القاسية لارتفاع أسعار النفط عالميًا. فالحكومة التونسية التي تدعم المحروقات، وضعت موازنتها على أساس أن سعر برميل النفط يبلغ 75 دولارًا. لكن مع ارتفاع سعر البرميل إلى ما يزيد على الـ100 دولار، اضطُرت الحكومة إلى زيادة أسعار المحروقات مرتين في فبراير 2022 في محاولة لكبح العجز الكبير في موازنة البلاد. يُضاف إلى هذا أن التقديرات قد توقعت مسبقًا بلوغ معدل التضخم 6.8٪ في عام 2022. لكن لا شك أن الأزمة الحالية سترفعه إلى نحو 8٪ تقريبًا -وفق تحليلات بعض خبراء الاقتصاد- أضف إلى ذلك أن انخفاض قيمة الدينار التونسي مقابل الدولار الأمريكي يؤدي إلى ارتفاع فاتورة الاستيراد، ناهيك عن أن الحاجة إلى العملة الصعبة بات مُلحًا في وقتٍ لا تستطيع تونس الدخول إلى الأسواق المالية العالمية، وهي تتفاوض مع صندوق النقد الدولي لوضع برنامج جديد[16].

أما لبنان فتعد الأسوأ بين الدول المتضررة من الحرب، حيث تستورد لبنان 600 الف طن من القمح، أي بمعدل 50 ألف طن شهريًا؛ 60٪ منها من أوكرانيا ونحو 20٪ من روسيا ورومانيا، وتستورد لبنان عامةً 100٪ من حاجاتها الاستهلاكية. وفي العامين الماضيين، كانت الواردات أكثر حرجًا؛ حيث دمر انفجار ميناء بيروت عام 2020 معظم صوامع الحبوب في البلاد ومن ثم فالدولة غير قادرة على تخزين القمح، كما أن نسبة زيادة الأسعار في العام الجاري قد بلغت 2100٪، فضلا عن أنه قد بلغت نسبة الفقر في الدولة 80٪ من السكان[17]، وأخيرًا أعلن “سعادة الشامي” نائب رئيس الحكومة اللبنانية في 4 أبريل 2022 “إفلاس الدولة ومصرف لبنان المركزي[18]“.

وفي منطقة الغرب الأفريقي والتي تعاني هذه الفترة جفافًا شديدًا يُهدد أمنها الغذائي، جاءت الحرب الروسية لتلقي بمزيد من التدهور الغذائي على تلك البلدان، فموريتانيا التي تستورد 60٪ من حاجاتها من المواد الغذائية من الخارج وتصل نسبة الفقر فيها إلى 31٪، من المتوقع أن يُسهم ارتفاع أسعار الغذاء عالميًا في زيادة معدلات الجوع بين سكانها. كما ذكرت منظمة الأمم المتحدة للأغذية والزراعة (فاو) أن ست دول من غرب إفريقيا تستورد ما بين 30 إلى 50٪ من قمحها من روسيا وأوكرانيا. يأتي ذلك في الوقت الذي أكدت فيه “شبكة الوقاية من أزمات الغذاء في غرب إفريقيا”، أن إنتاج الحبوب في هذه المنطقة، قد انخفض خلال عام 2021/2022 بنسبة 39٪ على أساس سنوي في النيجر، كما انخفض أيضًا بنسبة 15٪ في مالي التي تشهد صراعات سياسية وحرب بين الجيش والجماعات المسلحة[19].

خاتمة:

تتباين التأثيرات الاقتصادية للحرب الروسية- الأوكرانية على اقتصاديات الدول المختلفة حول العالم، فبينما تُعتبر إمدادات الطاقة هى المشكلة الرئيسية للدول الكبرى –الغربية والصناعية- فإنها تستطيع تحمل تكلفة ارتفاعها بسبب قوة اقتصاد تلك الدول من ناحية وقدرتها على إيجاد بدائل من ناحيةٍ أخرى، وفي المقابل تتركز المشكلة الأكبر عند منطقة الشرق الأوسط وأفريقيا في إمدادات الغذاء والحبوب التي تعتمد العديد من الدول في تلك المنطقة على الدولتين المتحاربتين في إشباع احتياجاتها منها. وتعتبر الدول صاحبة النصيب الأوفر من الآثار السلبية، هي الدول ذات الاقتصاد الضعيف المعتمد على الاستيراد من جهة وعلى الاستدانة من الخارج لتوفير حاجاتها وتعويض عجز ميزانيتها من جهةٍ أخرى.

وعلى جانبٍ آخر، تعتبر سلاسل الإمداد من أبرز معالم تأثير الحرب الجارية على الاقتصاد العالمي، والتي تؤثر على كافة الدول التي تستورد من الدولتين المتحاربتين بشكل عام أو تعتمد على موانئ البحر الأسود في حركة تجارتها، وتُعرف سلاسل الإمداد بأنها “الاتجاهات التي يسلكها المنتج منذ بداية تكونه كمادة خام، حتى وصوله إلى يد المستهلك النهائي”. وهنا تحديدًا يكمن التأثير التضخمي المصاحب للأزمة، حيث يقع جزء معتبر من صادرات الدولتين المتصارعتين، سواء من الغلال أو المعادن أو حتى الطاقة بالنسبة لروسيا على رأس سلاسل التوريد كمواد خام. تزيد الحرب من تعطل سلاسل الإمداد والتوريد، فوفقًا لتقديرات وزارة الزراعة الأمريكية يتم شحن 95٪ من صادرات الحبوب الأوكرانية عبر موانئ البحر الأسود، ومع تعطيل النقل في البحر الأسود وبحر البلطيق، فإن ذلك سيُضاعف من أسعار تأجير السفن وحاويات الشحن البحري ورسوم خدمات النقل البحري بالإضافة إلى ارتقاع أسعار الوقود البحري لارتباطه بأسعار النفط، الأمر الذي يزيد من أعباء التضخم وارتفاع أسعار السلع عالميًّا[20].

[1]. نورهان حسن الشيخ، تداعيات التصعيد العسكري الروسي على الاقتصاد العالمي، مجلة السياسة الدولية، مجلد 57، العدد 228، أبريل 2022، ص ص136، 137.

[2]ألفريد كامر وآخرون، الحرب في أوكرانيا وأصداؤها عبر مختلف مناطق العالم، صندوق النقد الدولي، مدونات الصندوق، 17 مارس 2022، تاريخ الاطلاع: 25 مارس 2022، متاح عبر الرابط التالي: https://cutt.us/i85ao

[3]أنس جاب الله، مسارات متفاوتة:الضغوط الـ 10 لحرب أوكرانيا على الاقتصاد العالمي، المستقبل للأبحاث والدراسات المتقدمة، 14 مارس 2022، تاريخ الاطلاع: 20 مارس 2022، متاح عبر الرابط التالي: https://cutt.us/j1hXj

[4]تقديرات المستقبل، ارتداد العقوبات:تداعيات الأزمة الأوكرانية على الاقتصادات الأوروبية في الأمد القصير، المستقبل للأبحاث والدراسات المتقدمة، 17 مارس 2022، تاريخ الاطلاع: 20 مارس 2022، متاح عبر الرابط التالي:https://cutt.us/3w12Q

[5]جو معكرون، تداعيات الغزو الروسي لأوكرانيا على الشرق الأوسط، المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، 9مارس 2022، تاريخ الاطلاع 10 مارس 2022، متاح عبر الرابط التالي: https://cutt.us/IxWzC

[6]روسيا وأوكرانيا: الاتحاد الأوروبي يوقع اتفاقا لشراء الغاز الأمريكي للحد من الاعتماد على روسيا، بي بي سي، 25 مارس 2022، تاريخ الاطلاع: 27 مارس 2022، متاح عبر الرابط التالي: https://cutt.us/npst2

[7]“أوبك+” يتمسك بسياسة إنتاج النفط الحالية بزيادة 432 ألف برميل في مايو، ايكونومي بلس، 31مارس 2022، تاريخ الاطلاع: 31 مارس 2022، متاح عبر الرابط التالي: https://cutt.us/A5nlR

[8]  ارتفاع أسعار الطاقة يهدد توقعات التضخم في الصين، بوابة الأهرام، 9مارس 2022، تاريخ الاطلاع: 1 أبريل 2022، متاح عبر الرابط التالي: https://cutt.us/DPwht

[9]حرب أوكرانيا تنعش موازنات الخليج..وتوقعات بفوائض كبيرة، عربي21، 5 ابريل 2022، تاريخ الاطلاع: 5 أبريل 2022، متاح عبر الرابط التالي: https://cutt.us/b4YYU

[10]صادرات العراق من النفط تحقق أعلى إيراد مالي منذ 50 عامًا، الجزيرة، 2أبريل 2022، تاريخ الاطلاع: 3أبريل 2022، متاح عبر الرابط التالي: https://cutt.us/GN7iK

[11]جو معكرون، تداعيات الغزو الروسي لأوكرانيا على الشرق الأوسط، مصدر سابق.

[12]مركز الإمارات للسياسات، تداعيات الحرب في أوكرانيا على الاقتصاد التركي، مركز الإمارات للسياسات، 29  مارس 2022، تاريخ الاطلاع: 31 مارس 2022، متاح عبر الرابط التالي: https://cutt.us/ehVrI

[13]عادل رفيق، جيوبوليتيكال فيوتشرز: ارتفاع أسعار الغذاء سيزلزل منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، المعهد المصري للدراسات، 14 مارس 2022، تاريخ الاطلاع: 20 مارس 2022، متاح عبر الرابط التالي: https://cutt.us/uXsye

[14]عمرو حمزاوي، كريم سجادبور وآخرون، ما تعنيه الحرب الروسية في أوكرانيا لمنطقة الشرق الأوسط، مركز مالكوم كير-كارنيغي للشرق الأوسط، 1أبريل 2022، تاريخ الاطلاع: 3 أبريل 2022، متاح عبر الرابط التالي: https://cutt.us/D90Xn

[15]عادل رفيق، جيوبوليتيكال فيوتشرز: ارتفاع أسعار الغذاء سيزلزل منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، مصدر سابق.

[16]حمزة المؤدب، من سيّئٍ إلى أسوأ: يفاقم النزاع في أوكرانيا الوضع الاقتصادي المتردّي الذي تعيشه تونس، مركز مالكوم كير-كارنيغي للشرق الأوسط،12 مارس 2022، تاريخ الاطلاع: 31 مارس 2022، متاح عبر الرابط التالي: https://cutt.us/0mF7h

[17]جنى الدهيبي، الحرب الروسية على أوكرانيا تعميق أزمة الأمن الغذائي للبنانيين، الجزيرة، 5مارس 2022، تاريخ الاطلاع: 1 ابريل 2022، متاح عبر الرابط التالي: https://cutt.us/TXn5K

[18] الحكومة اللبنانية تعلن إفلاس الدولة والمصرف المركزي، بوابة الأهرام، 4 أبريل 2022، تاريخ الاطلاع: 5أبريل 2022، متاح عبر الرابط التالي: https://cutt.us/Y2UrH

[19]الحرب في أوكرانيا تنذر بكارثة إنسانية غير مسبوقة غرب إفريقيا، سكاى نيوز عربية، 6 أبريل 2022، تاريخ الاطلاع: 6 أبريل 2022، متاح عبر الرابط التالي: https://cutt.us/EzLmI

[20]نورهان حسن الشيخ، تداعيات التصعيد العسكري الروسي على الاقتصاد العالمي، مصدر سابق، ص 137.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى