القواعد العسكرية الأمريكية والسياسة في أمريكا اللاتينية

مقدمة:

يتناول كتاب “القواعد وشبه القواعد العسكرية الأمريكية والسياسة الداخلية في أمريكا اللاتينية[1]” التحوُّل في سياسات إنشاء القواعد العسكرية الأمريكية في أمريكا اللاتينية، ذلك أنه منذ العام 1999 فشلت جميع المفاوضات الأمريكية لفتح قواعد جديدة -كبيرة كانت أم صغيرة- في أمريكا الجنوبية. وذلك بعد تاريخ طويل من الهيمنة والتواجد العسكري الأمريكي المكثَّف في المنطقة، وهو ما دفع العديد من الباحثين لدراسة مسألة التراجع والفشل الأمريكي في افتتاح قواعد عسكرية جديدة في المنطقة. وبينما جادلت معظم الدراسات التي تناولت المسألة بأن الأمر راجعٌ إلى تراجُع النفوذ والهيمنة الأمريكية في أمريكا اللاتينية، وكذلك صعود منافسين عالميِّين كالصين وإقليميِّين كالبرازيل وفنزويلا، فإن هذه الدراسة ترى أن قصْر هذا التراجُع والفشل في إنشاء قواعد جديدة على الافتراضات الواقعية القائلة بصعود منافسين جُدد وتحوُّل النظام الدولي نحو تقويض الهيمنة الأمريكية، يُغفل أسبابًا أخرى أهم، وهي المؤثِّر الحقيقي في هذا الفشل؛ ألا وهو تحوُّلات السياسة الداخلية وتصاعُد الديمقراطية في دول أمريكا اللاتينية.

ومن ثم فإن هذا الكتاب يسْعى إلى الإجابة عن تساؤلٍ رئيسيٍّ هو: لماذا عجزت الولايات المتحدة عن فتح قواعد عسكرية رسمية جديدة في أمريكا اللاتينية، بينما فعلت ذلك بنجاح في الماضي؟ ولماذا فشلت في الاحتفاظ ببعض القواعد التي نصبتها سابقًا في المنطقة؟ وذلك من خلال تقديم نموذج يمكن من خلاله تفسير عملية إنشاء قواعد عسكرية رسمية ونجاح المفاوضات بين الدولة المُنشِئة والدولة المستضيفة أو فشلها؛ ومن ثم اللجوء إلى ترتيبات شبه القواعد “Quasi- bases”.

  • تاريخ التدخُّل الأمريكي في أمريكا اللاتينية

بدأ التواجد العسكري الأمريكي في أمريكا اللاتينية منذ تأسيس قناة بنما والتدخُّل الأمريكي لطرد الإسبان من بورتوريكو وكوبا، فقد صاحب تأسيس بنما عام 1903 شبكة من القواعد العسكرية على طول خَطِّ القناة كانت تمثِّل بدايةَ التواجد العسكري الأمريكي في المنطقة، ثم جاءت اتفاقية باريس 1898 والتي قَضَتْ بخروج الإسبان من منطقة الكاريبي، ممَّا مَكَّنَ الأمريكيِّين من تواجد عسكري حقيقي في بورتوريكو. كما منحت الاتفاقية المبرمة بين الولايات المتحدة وكوبا بشأن تأجير الأراضي لمحطَّات قوَّات التحالف والبحرية في عام 1903 الولايات المتحدة إيجارًا دائمًا لمنطقة في جزيرة جوانتانامو لقاعدة جديدة؛ وهذه الأحداث الثلاثة هي التي شكَّلت المبرِّرات للوجود العسكري الأمريكي في أمريكا اللاتينية طوال القرن العشرين.

وخلال الحرب العالمية الثانية استخدمت الولايات المتحدة قواعدها في الإكوادور وبيرو وجواتيمالا وكوستاريكا ونيكارجوا وكثيرًا من القواعد البريطانية في منطقة الكاريبي. وفي فترة الحرب الباردة رأت الولايات المتحدة أن الثورات في كوبا ونيكارجوا تهدِّد مصالحها ووجودَها في المنطقة، فأسَّست شبكةً من القواعد وشبه القواعد العسكرية لمواجهة الشيوعية وإطلاق العمليات ضد الحكومات المعادية للولايات المتحدة والتي قد تسبِّب تهديدًا لمصالحها. أمَّا بعد انتهاء الحرب الباردة فقد ركَّزت الولايات المتحدة استراتيجيَّتها في المنطقة على مواجهة تجارة المخدِّرات، ولقيت تعاونًا كبيرًا من معظم دول المنطقة وعلى رأسها كولومبيا، والتي كانت تنتج آنذاك قرابة 90٪ من إنتاج الكوكايين في العالم، وأصبح تعاون الولايات المتحدة في تلك المنطقة يكاد يكون مقصورًا على محاربة تجارة المخدِّرات. وأخيرًا وبعد أحداث 11 سبتمبر وسَّعت الولايات المتحدة استراتيجيَّتها لتشْمل مواجهة العصابات المسلَّحة وحركات التمرُّد التي تستفيد من الاتِّجار بالمخدِّرات، وهكذا وجَّهت قواعدها العسكرية لتنفيذ الاستراتيجية الجديدة.

  • التحول في استراتيجية الولايات المتحدة بخصوص القواعد العسكرية

أعلن الرئيس الأمريكي الأسبق جورج بوش الابن في عام 2004 مراجعةً شاملةً لاستراتيجية الولايات المتحدة الخاصَّة بتأسيس القواعد العسكرية عبر البحار، وكان الهدف من المراجعة تقليل القوَّات عمَّا كانت عليه في الفترة التي أعقبت انتهاء الحرب الباردة. ولم تَعُدْ تهتمُّ الولايات المتحدة بشكلٍ كبيرٍ ببناء قواعد كبيرة وثابتة ودائمة على غرار تلك التي كانت في كوبا وبنما، وفضَّلت عوضًا عنها القواعد السرِّية “شبه القواعد” والصغيرة، حيث تستطيع إطلاق العمليات السرِّية وعمليَّات الانتشار غير الخاضعة للرقابة، دون أن يعلم بذلك المواطنون المحليُّون في الدول التي بها العمليات ولا المواطنون الأمريكيُّون.

ظهرت تفسيرات عديدة لهذا التحوُّل في الاستراتيجية الأمريكية، فأرجعَها البعضُ لتراجُع الهيمنة الأمريكية في أمريكا اللاتينية ونُزوع دول المنطقة نحو مزيدٍ من الاستقلالية، وذلك بسبب تراجُع الخطر الشيوعي الذي دفع واشنطن سابقًا للانخراط بقوة في المنطقة. واستدلَّ أصحاب هذا التفسير بالعديد من الشواهد؛ كفشل إتمام اتفاقية التجارة الحرة للأمريكتين (FTAA)، وظهور الصين في الوقت ذاته كمنافسٍ للولايات المتحدة في المنطقة، وقيامها باستثمارات ضخمة ومميَّزة عن نظيرتها الأمريكية، فقد قدَّمت لدول المنطقة استثمارات ومساعدات بدون قيود، وأخيرًا ظهور قوى مستقلَّة تناهض الولايات المتحدة وسياساتها كالبرازيل في عهد لولا دا سيلفا، والتي تزعَّمت مقاطعة دول أمريكا اللاتينية لمحادثات عام 2005 بشأن اتفاقية التجارة الحرة، وكذلك فنزويلا في عهد هوجو تشافيز.

  • السياسة الداخلية في دول أمريكا اللاتينية وأثرها على تحوُّلات السياسة الخارجية الأمريكية في إنشاء القواعد العسكرية

تُقَدِّمُ هذه الدراسةُ تفسيرًا آخر لأسباب التحوُّل في الاستراتيجية الأمريكية عن القواعد الكبيرة والدائمة والرسمية، إلى شبه القواعد السرِّية والصغيرة، وكذلك لما يبدو أنه تراجُع في النفوذ والهيمنة الأمريكية في أمريكا اللاتينية. إذ يرى الكتاب أن اعتماد مقولات النظرية الواقعية القائلة بأن الدولة هي المؤثِّر الوحيد في السياسة الخارجية، بما يتضمَّنه هذا من مقولات صعودِ قوى جديدة منافسة، لا يكفي لفهم التحوُّل الحادث في استراتيجية الولايات المتحدة تجاه أمريكا اللاتينية. ويقدِّم في المقابل تفسيرًا يركِّز على السياسة الداخلية لدول أمريكا اللاتينية كمتغيِّر هامٍّ ومؤثِّرٍ قويٍّ في تحوُّلات السياسة الخارجية وسياسات بناء القواعد الأمريكية في دول المنطقة. فالديمقراطية والمجتمع المدني ومؤسَّسات الدولة المستقلَّة والقويَّة وقوى المعارضة واستقلالية القضاء، كلها عوامل تلعب دورًا هامًّا في نجاح أو فشل مفاوضات تأسيس قواعد جديدة أو تجديد عقود قواعد قديمة. وفي هذا الإطار، يقدِّم الكتاب نموذجًا تفسيريًّا لفهم علاقة السياسة الداخلية بعملية إنشاء القواعد، يقوم على خمسة افتراضات رئيسة هي:

1- إذا رأت المعارضة المحلية فوائد من فتح قواعد عسكرية أجنبية، فلن تُعيق المفاوضات التي تجريها الحكومة والدولة الأجنبية، ويصبح من الممكن إنشاء قواعد رسمية. وبهذا لن تصبح القواعد الأمريكية قضايا خلافية مُسَيَّسَةً تستخدمها المعارضة ضد الحكومة، كما ستتمُّ مناقشة اتفاقية القاعدة في الهيئة التشريعية للبلد المضيف بمشاركة المعارضة، وبهذه الطريقة تكتسب شرعية التصديق التشريعي.

2- عندما لا ترى المعارضة منافع من القواعد العسكرية الأجنبية، وتكون قوية بما يكفي لمنع الاتفاقيات الخارجية من خلال التهديد بهزيمة الحكومة في الانتخابات، فإن الحكومة سترفض إنشاء قواعد عسكرية رسمية، حتى لو كان من مصلحتها إنشاؤها. وفي المقابل إذا لم تكن المعارضة قوية بما يكفي لتشكيل تحدٍّ سياسيٍّ أو انتخابيٍّ للحكومة، فإن هذه الآلية لا تعمل ولا يزال بإمكان الحكومة الموافقة على عقد إيجار رسمي للقواعد تستفيد منه بشكل أساسي النخبةُ الحاكمة.

3- إذا لم تُشكل المعارضة المحلية تحديًا انتخابيًّا للحكومة ولكن يمكنها استخدام مؤسَّسات الدولة بنجاح لتقييد تصرُّفات الحكومة والطعن في شرعية القواعد العسكرية الأجنبية -وهنا يبرز دور المؤسسة القضائية المستقلة والقوية- فإن ذلك قد يجعل تكاليف تقديم القواعد إلى الدول الأجنبية مرتفعة، مما يزيد من احتمالية اللجوء للاتفاقات البديلة (اتفاقيات شبه القواعد).

4- عندما تكون المعارضة المحلية ضعيفة للغاية من الناحية الانتخابية ولا يمكنها كذلك الاعتماد على المؤسسات الدولية لتقييد تصرُّفات الحكومة، فإن القواعد الرسمية تصبح ممكنة إذا وافقت عليها الحكومة المضيفة والدولة الأجنبية.

5- عندما تفشل مفاوضات تأسيس القواعد الرسمية بسبب النقطة 2 أو3؛ تسْعى الحكومات إلى أشكال بديلة من الاتفاقات للسماح للقوات الأجنبية بالعمل واستخدام القواعد العسكرية المحلية دون معاهدة رسمية، وعادة ما يكون ذلك من خلال تأطير الالتزامات الجديدة على أنها استمرارٌ لاتفاقيَّات التعاون السابقة والتي لا تتطلَّب بالضرورة الموافقة التشريعية. وهنا نجد أنه يصعب على المجتمع المدني مراقبة ترتيبات “شبه القواعد”، أو قيام أحزاب المعارضة بمنعها.

  • اتفاقيات قواعد ناجحة: السلفادور والإكوادور

في ضوء النموذج التفسيري الذي يقدِّمه الكتاب، فإنه يعرض لاتفاقيات تأسيس قواعد عسكرية ناجحة تمَّت في كلٍّ من السلفادور والإكوادور. ففي السلفادور حظيت الولايات المتحدة بعلاقة خاصة مع الحزب الحاكم في التسعينيَّات، وهو ما دفع واشنطن للنظر إليها كموقع ملائم لإنشاء قاعدة جديدة ثابتة. وهكذا تمَّت عملية بناء قاعدة كومالابا وفقًا للفرضية الرابعة في النموذج السابق. فقد عارضت المعارضة المحلية بقيادة جبهة “فارابوندو مارتي للتحرير الوطني” الاتفاقية وحاولت منعها من خلال البرلمان والقضاء، إلا أنها فشلت في وقف الاتفاقية لأنها لم تُمَثِّلْ تحديًا انتخابيًّا كافيًا للحزب الحاكم من ناحية، ومن ناحية أخرى لم تكن المؤسَّسة القضائية مستقلَّة بالدرجة التي تُمَكِّنُها من إبطال الاتفاقية. فقد طعن بينيتو لارا عضو جبهة فارابوندو مارتي في عام 1999 ثم وزير العدل لاحقًا في صلاحية الاتفاقية في المحكمة العليا بحجَّة أنها تؤثِّر على سيادة الدولة وأنها غير دستورية، إلا أنه حتى عام 2014 لم تكن المحكمة قد أصدرت قرارًا بشأن هذه المسألة.

وفي الإكوداور أنشأت الولايات المتحدة قاعدة مانتا البحر-جوية، وهي قاعدة احتاجت لها الولايات المتحدة أثناء مواجهتها للقوَّات الثورية المسلَّحة في كولومبيا، حيث كانت القوات الأمريكية تتمركز في غابات الأمازون في الإكوادور والبيرو على حدود كولومبيا. وتمَّ افتتاح القاعدة دون الكثير من الجدل السياسي، لأنه على الرغم من إدانتها الشديدة للقاعدة لم تتمكن قوى المعارضة في الإكوادور من وقف الاتفاق، سواء من خلال التحديات الانتخابية أو من خلال الآليات المؤسَّسية. فالمؤسَّسات السياسية الرئيسة في الإكوادور كانت ضعيفةً بشكلٍ بالغ، ولم يكن في الدولة نظام حزبي ناضج وقوي، وكذلك كان القضاء الإكوادوريُّ ضعيفًا وخاضعًا للسلطتين التشريعية والتنفيذية، كما شهدت البلاد عدَّة انقلابات عسكرية على مدار الأعوام العشرين الماضية، وهو ما جعل الوضع السياسي الداخلي متدهورًا وضعيفًا، ونتج عن ذلك إنشاء الولايات المتحدة القاعدة وقامت بتشغيلها حتى مطلع القرن الحالي.

  • اتفاقيات قواعد فاشلة: الإكوادور وكولومبيا

شهدت الإكوادور تغييرًا عميقًا في الوضع الداخلي للبلاد، فبعد سلسلة من الأزمات الاقتصادية والسياسية أدَّت لاضطراب الوضع السياسي بدأ نوعٌ من الاستقرار السياسي يبرز مع صعود رفاييل كوريا أول سياسي يُكمل فترة دستورية في الرئاسة وأُعيد انتخابه مرتين منذ فوزه الأول عام 2006. في جوهر هذا التغيير كان التحوُّل في علاقة الإكوادور مع الولايات المتحدة، حيث برز الاستخدام الفعَّال للخطاب المناهض للولايات المتحدة لكسْب دعم منظمات المجتمع المدني والأصوات الشعبية. كما حشدت إدارةُ الرئيس القاعدةَ الشعبيةَ للبلاد من خلال الخطابات القومية وإعلان معارضة المصالح الأمريكية في الإكوادور وأمريكا اللاتينية، وفي هذا الإطار أصبحت قاعدة “مانتا” أحد رموز الصراع ضدَّ الولايات المتحدة كما أَمْسَتْ أحدَ أهداف حملة رفاييل كوريا الانتخابية، وأخيرًا طُرِدَ الجيشُ الأمريكيُّ من القاعدة عام 2009، وبهذا تُظهر هذه التجربة صلاحية الافتراض الثاني في النموذج.

أما في كولومبيا فقد اتَّفقت الولايات المتحدة مع الحكومة في الفترة ما بين 2006 وحتى 2010 على افتتاح 7 قواعد عسكرية أمريكية جديدة، وقد اعتقد الطرفان بأن الاتفاقيات ستتمُّ بسهولة بسبب العلاقات الوثيقة بين الرئيس الكولومبي ألبارو أوريبي وواشنطن. وظنَّ الطرفان أيضًا أنه لا حاجة لعرض الاتفاقيات على البرلمان الكولومبي لأن حزب أوريبي له الأغلبية، إلا أنه على عكس الإكوداور فإن المحكمة الدستورية الكولومبية كانت قوية بحيث تمكَّنت المعارضة من الاعتماد عليها لاعتراض الاتفاقية. وهو ما حدث بالفعل؛ فحكمت المحكمة الدستورية ضدَّ الاتفاقيات عام 2010 وتمَّ قبول حكمها دون الكثير من الاعتراض من قبل الحكومة الكولومبية والولايات المتحدة، وبدورها تُظهر تجربة كولومبيا فاعلية الافتراض الثالث من النموذج.

  • شبه القواعد في أمريكا اللاتينية

شبه القواعد: هي قواعد عسكرية أجنبية لا تدعمها اتفاقية رسمية. يمكن أن تعمل هذه القواعد عمليًّا بنفس الطريقة التي تعمل بها القواعد الرسمية، ولكن بلا اتفاق رسمي يحدِّد شروطَ استخدام القاعدة ونوع العمليات المسموح بها فيها، وغالبًا ما يتم وضعها كملاحق غامضة لاتفاقيات التعاون السابقة أو من خلال اتفاقيات ضمنية بين الدولة التي تُنشئ القاعدة والحكومة المضيفة دون أي مواصفات قانونية. وقد لجأت الولايات المتحدة إلى ترتيبات شبه القواعد بسبب تحوُّلات السياسة الداخلية في دول أمريكا اللاتينية، والتي جعلت من الصعب إنشاء قواعد جديدة أو حتى الحفاظ على القواعد الأمريكية القائمة هناك من خلال تجديد عقودها.

يمكن تقسيم أنواع شبه القواعد إلى ثلاث فئات مختلفة بناءً على إمكانية وصول الولايات المتحدة لمرافق الدولة المضيفة وكذلك الطبيعة الزمنية لوجودها: النوع الأول- يُمكِّن من الوصول للحدِّ الأدنى من المرافق، كأن تهبط الطائرات الأمريكية للتزوُّد بالوقود من مطارات الدولة أو قواعدها العسكرية وتنطلق مرة أخرى، وكذلك تسْمح بنشر طائرات للمراقبة لجمع المعلومات، ولا تسْمح بتمركُز القوَّات أو المعدَّات على أراضي الدولة. النوع الثاني- اتفاقيات يُسْمَحُ فيها للقوَّات والعمليَّات الأمريكيَّة باستخدام القواعد العسكرية المحلِّيَّة، وذلك دون عقد إيجار رسمي ولكن باتِّفاق يحدِّد الفترة الزمنية قبل أن يتمَّ إخلاءُ القواعد أو أن يتمَّ تجديدُ إمكانية الوصول. النوع الثالث- اتفاقيات تسْمح باستخدام طويل الأجل وغير محدود للقواعد العسكرية المحلية، وهو الشكل الأقرب للقواعد العسكرية الرسمية. وكما ذُكِرَ سابقًا فإن ما يدفع لهذا النوع من الاتفاقيات والترتيبات هو فشل التوصُّل لاتفاق إنشاء قاعدة رسمية. وتُعتبر الإكوادور وبيرو أمثلة على الدول التي تسهِّل للولايات المتحدة النوعَ الأولَ من ترتيبات شبه القواعد، أمَّا النوع الثاني فتُعد كوستاريكا وجواتيمالا أبرز الأمثلة عليه، وأخيرًا تُعتبر كولومبيا وهندوراس مثاليْن على النوع الأخير من هذه الترتيبات.

خاتمة:

اعتمدت الدراسة نموذجًا تفسيريًّا يركِّز على السياسة الداخلية لدول أمريكا اللاتينية لفهم التحوُّلات التي حصلت في سياستها الخارجية تجاه الولايات المتحدة في فترة نهاية التسعينيَّات وبداية الألفية الجديدة من القرن الحالي. إذ كانت التحوُّلات الداخلية نحو ترسيخ الديمقراطية وبناء نظام حزبي ناضج وقوي وكذلك وجود حركات مجتمع مدني وحركات أهلية تمثِّل الشعوب، عاملًا جوهريًّا في رفض الهيمنة الأمريكية والوجود العسكري الأمريكي في تلك الدول؛ ومن ثم إفشال اتفاقيات إنشاء القواعد العسكرية الرسمية. كما لعبت مؤسَّسات الدولة القوية والمستقلَّة وخاصةً المؤسَّسة القضائية والمحاكم العُليا دورًا هامًّا في حفظ السيادة الشعبية وتحقيق متطلبات الشعوب في رفض التواجُد العسكري لدولة أجنبية واستغلالها لأراضي البلاد لتحقيق مصالحها.

ومن ثم فإن أبرز الدروس المستفادة من تجربة دول أمريكا اللاتينية والتي يمكن الاستفادة منها في العالم الإسلامي والعربي ما يلي:

1- وجود استقلال وتمايُز حقيقي وفعلي بين السلطات الثلاث داخل الدولة (التنفيذية والتشريعية والقضائية)، يُفيد في حماية الإرادة الشعبية والحفاظ على سيادة الدولة من الانتهاك.

2- وجود حركات معارضة وأحزاب وطنية قوية ذات تمثيل شعبي حقيقي، يساعد على تقويض النخبة الحاكمة والموجودة في السلطة ويمنعها من اتِّخاذ أيِّ قرارات تحقِّق مصالحَها دون مصالح الشعب بشكل عام. وكذلك يمنعُها من التحالف مع دول أجنبية ضدَّ الإرادة الشعبية الداخلية.

3- إذا تعذَّر قيامُ نظام حزبي قوي وحركات معارضة فعَّالة، فإن تنظيمات المجتمع المدني والتكوينات الأهلية والنقابات بإمكانها أن تعلب دورًا هامًّا من خلال الاعتماد على الآليَّات المؤسَّسية، في منع الحكومة من اتِّخاذ أي قرارات من شأنها تهديد سيادة البلاد وأمنها القومي.

4- لا تَكُفُّ الدولُ الأجنبيةُ وعلى رأسها الولايات المتحدة من البحث عن سُبُلٍ لتحقيق مصالحها الذاتية، ومن ذلك ما يعرضه الكتاب من فكرة “شبه القواعد” العسكرية والتي تُسهل الوصول الأجنبي لأراضي الدولة بعيدًا عن الرقابة المؤسَّسية والتشريعية، وهو ما يلْفت النظر لضرورة أن تكون المؤسَّسة العسكرية ومنشآتها خاضعةً للرقابة من جهات من خارجها.

 

فصلية قضايا ونظرات – العدد الثامن والعشرون – يناير 2023

_____________________

 الهوامش

[1] Sebastian E.Bitar, US Military Bases, Quasi-bases, and Domestic Politics in Latin America, (New York: Palgrave Macmillan, 2016).

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى