دلالات العودة الأمريكية إلى الاتفاقيات والمنظمات الدولية مع بداية إدارة بايدن

مقدمة

تُعد المنظمات الدولية والاتفاقيات الدولية جزءً أساسيًا من مكونات النظام الدولي، وهي تمثل أدوات فاعلة مهمة في العلاقات الدولية وساحة تأثير وتأثر في السياسات العالمية في مجالات التعاون والصراع والتنافس الدولي، إذ تسعى من خلالها الدول الأعضاء لتحقيق مصالحها السياسة والاقتصادية والحفاظ على أمنها وتعزيز مكانتها.

وللقوى الكبرى في السياسة العالمية تأثير بارز وعميق على مسارات ومواقف المنظمات الدولية، وهي تسعى دومًا لصياغة اتفاقيات دولية تعزز مصالحها وتحقق لها ما ترجوه من مكاسب على كافة الأصعدة من خلال أدواتها الخشنة والناعمة.

وقد سعت الولايات المتحدة، منذ عام 1945، للدفاع عن مصالحها العالمية من خلال المشاركة في تأسيس الأمم المتحدة والمنظمات التابعة لها، بالإضافة إلى إنشاء مؤسسات اقتصادية دولية ورعايتها، وكذلك منظمات أمنية إقليمية. واقترن بذلك الدخول في اتفاقيات دولية ذات طبيعة سياسية واقتصادية وعسكرية، وبالطبع كانت مصالح الولايات المتحدة على مر السنين ومختلف الحقب من ثنائية قطبية مع الاتحاد السوفيتي أو أحادية قطبية بعد انهياره، وتعدد الأقطاب (أو القوى) في النظام الدولي بعد عودة روسيا وصعود الصين، هي المحدد الأهم في تعاملها مع هذه المنظمات والاتفاقيات.

تحقيق هذه المصالح الأمريكية هو ما يجمع الجمهوريين والديمقراطيين -بالطبع مع وجود هامش للخلاف على تحديد هذه المصالح- عبر الإدارات المتعاقبة حسب الحقب التاريخية وما تطرحه كل منها من تحديات وتهديدات وفرص. ويمكن الإشارة إلى تيارين أساسيين تأرجحت بينهما السياسة الخارجية الأمريكية: تيار العزلة وتيار الاندماج في النظام الدولي، وهذا منذ نشأتها وحتى يومنا هذا.

وقد شهد عهد الرئيس الأمريكي، دونالد ترامب، في الفترة من 2016 وحتى 2020 انسحاب الولايات المتحدة من العديد من الاتفاقيات والمنظمات الدولية المهمة، ومع تقدم «بايدن» في الانتخابات الرئاسية الأمريكية تعالت الأصوات المنادية بعودة واشنطن لتلك المنظمات والاتفاقيات التي انسحبت منها. وبالفعل، مع بداية تولي إدارة بايدن مقاليد الأمور أعلنت الولايات المتحدة الأمريكية عودتها إلى عدد من المنظمات والاتفاقات التي كانت قد خرجت منها إدارة دونالد ترامب، إذ يسعى بايدن من خلال تلك العودة لترميم مكانة الولايات المتحدة الأمريكية دوليًا وصورة دبلوماسيتها.

من ثم، يناقش هذا التقرير عودة الولايات المتحدة الأمريكية إلى عدد من المنظمات والاتفاقيات الدولية منذ تولي إدارة بايدن مقاليد الحكم وحتى منتصف يونيو 2021. ويسعى إلى معرفة دلالات هذه العودة، ويتطرق في هذا السياق بشيءٍ من التفصيل لعودة الولايات المتحدة إلى منظمة الصحة العالمية، واتفاقية باريس للمناخ، ومجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة، ومعاهدة “ستارت الجديدة” النووية مع روسيا، فضلا عن العودة لتمويل الأونروا.

ثم يتطرق التقرير للعودة المحتملة للولايات المتحدة لمنظمة اليونسكو والشراكة عبر المحيط الهادئ، ومعاهدة تجارة الأسلحة، ويختتم بخلاصة عن دلالات عودة الولايات المتحدة لهذه الكيانات. علمًا أن هذا التقرير لا يتعرض للمفاوضات الجارية بشأن عودة الولايات المتحدة الأمريكية للاتفاق النووي مع إيران، حيث إن هذا العدد من فصلية (قضايا ونظرات) يفرد تقريرًا مفصلا عن هذا الموضوع.

لكن هذا عقب أن نتناول بإيجاز في هذه المقدمة أبرز ملامح السياسة الخارجية لإدارة بايدن (كما تبدو حتى الآن) مع التركيز على ما يتصل بالمشاركة في المنظمات الدولية.

ملامح السياسة الخارجية لإدارة بايدن:

تعهد الرئيس الأمريكي المنتخب جو بايدن باستعادة دور بلاده القيادي في العالم، عبر التخلي عن السياسات الأحادية التي اتبعتها إدارة الرئيس المنتهية ولايته دونالد ترامب وإعادة التركيز على التحالفات الدولية القائمة منذ مدة طويلة. ويقول بايدن إن إدارته سترتقي بأهمية الدبلوماسية، وستقود عن طريق”قوة النموذج” وليس فقط “نموذج القوة”[1].

اتخذ بايدن بالفعل خطوات لتعزيز مجال التعاون الدولي لأمريكا. فبعد تنصيبه في 20 يناير 2021، قام بإعادة الولايات المتحدة إلى اتفاقية باريس ومنظمة الصحة العالمية لمعالجة تغير المناخ بشكل أفضل فضلا عن التصدي لوباء كوفيد-19.

وفي خطاب مهم ألقاه يوم 4 قبراير 2021 حول السياسة الخارجية، قال بايدن إن الولايات المتحدة ستعمل مع المجتمع الدولي لمواجهة التحديات العالمية مثل وباء كوفيد-19 وتغيّر المناخ، وتعزيز الحرية والكرامة للناس في جميع أنحاء العالم. وصرح بايدن في هذا الخطاب الذي ألقاه في وزارة الخارجية الأمريكية في واشنطن: “إن تحالفات أمريكا هي أعظم ثروة لدينا”. فالتحديات العالمية لن “تحلها إلا الدول التي تعمل معًا وبصورة مشتركة .”ومن خلال تجديد الالتزام بالمشاركة مع شركائها الدوليين، قال بايدن إن الولايات المتحدة يمكنها أن تعزز المثل الديمقراطية الأساسية لأمريكا في جميع أنحاء العالم وأن تتصدى بشكل أفضل للمنافسين والخصوم .وحدد بايدن عدة أولويات للقيادة الأمريكية في جميع أنحاء العالم: إنهاء جائحة كوفيد-19، مكافحة تغيّر المناخ، الحد من الانتشار النووي، التوصل إلى حل سلمي للحرب في اليمن، الترحيب باللاجئين وتعزيز برامج المساعدات الإنسانية.

وفيما يخص المشاركة مع المنظمات الدولية، اتخذ بايدن بالفعل خطوات لتعزيز التعاون الدولي لأمريكا. فبعد تنصيبه في 20 يناير، قام بإعادة الولايات المتحدة إلى اتفاقية باريس ومنظمة الصحة العالمية لمعالجة تغير المناخ بشكل أفضل والتصدي لوباء كوفيد19 .وقد وعد بايدن بدعم السلك الدبلوماسي الأمريكي وموظفي وزارة الخارجية الآخرين؛ إذ يقومون بتعزيز العلاقات مع الشركاء والحلفاء والتعامل مع الخصوم والتصدي للتحديات العالمية. وقال بايدن لمسؤولي وزارة الخارجية “سأكون ظهيرًا لكم” وأضاف “بمساعدتكم، تقوم الولايات المتحدة بدورها القيادي مرة أخرى، ليس فقط بنموذج قوتنا بل بقوة نموذجنا”[2].

“أمريكا عادت” هذا عنوان السياسة الخارجية الأمريكية في عهد بايدن، الذي كرر هذه العبارة في أكثر من مناسبة، وهدفها الأول والأساس -كما هي في كل الإدارات الجمهورية والديمقراطية- المصالح القومية الأمريكية، وتعبر الفقرة التالية من خطاب بايدن عن ذلك بوضحٍ تام:

“الاستثمار في دبلوماسيتنا ليس شيءً نقوم به لمجرد أنه الشيء الصحيح الذي يجب فعله للعالم. نحن نفعل ذلك من أجل العيش في سلام وأمن وازدهار. نحن نفعل ذلك لأنه في “مصلحتنا الذاتية المجردةour own naked self-interest “. عندما نعزز تحالفاتنا، فإننا نعزز قوتنا وكذلك قدرتنا على كبح التهديدات قبل أن تصل إلى شواطئنا”[3].

أولا: عودة من أجل المصالح وضد الخصوم:

عادت الولايات المتحدة مع بداية إدارة بايدن إلى منظمة الصحة العالمية، ومجلس حقوق الإنسان، واتفاقية باريس للمناخ ومعاهدة “ستارت الجديدة” النووية مع روسيا، كما استأنفت تمويل وكالة الأمم المتحدة لإغاثة وتشغــــــيل اللاجئــــين الفلسطينيين “الأونروا”. ويعرض التقرير لتفاصيل هذه العودة فيما يلي:

  • منظمة الصحة العالمية

في ظل انتشار فيروس كورونا ازدادت انتقادات الرئيس الأمريكي ترامب لمنظمة الصحة العالمية، محملا إياها بجانب الصين مسؤولية انتشار الفيروس، واتهمها بالتأخر في التصدي له .وفي يوليو 2020، أعلن ترامب انسحابه من المنظمة المختصة بالرعاية الصحية على مستوى العالم. وكما هو معروف، فإن الولايات المتحدة عضو مؤسس في المنظمة الأممية التي تأسست عام 1948، وكان من المزمع إن يستغرق القرار عامًا ليدخل حيز النفاذ.

وقد أثار قراره انتقادات واسعة، وتعهد حينها بايدن، في تغريدة له على «تويتر» بأنه سيلغي قرار ترامب من اليوم الأول لتسلمه السلطة حال فوزه في الانتخابات[4].

فتعهدت إدارة بايدن بالعودة على الفور إلى منظمة الصحة العالمية، والسعي لقيادة الجهود التي تبذلها المنظمة لمحاربة فيروس كورونا. وقد كانت الولايات المتحدة تتمتع بنفوذ كبير في هذه الهيئة المهمة العاملة في مجال الصحة العامة، إذ كانت تساهم بنحو 15 بالمائة من ميزانيتها.

وبالفعل، في اليوم الأول من تولي إدارة بايدن مقاليد الحكم وقع أمرًا تنفيذيًّا بعودة الولايات المتحدة الأمريكية لعضوية منظمة الصحة العالمية. وبالإضافة إلى التراجع عن إخطار الانسحاب والاحتفاظ بعضويتها في المنظمة، أعلنت الولايات المتحدة وقف قرار سحب الموظفين الأمريكيين في المنظمة والوفاء بالتزاماتها المالية تجاهها، والتعاون المشترك لدحر جائحة كوفيد-19.

وشارك د.أنثوني فاوتشي، خبير الأمراض المعدية في الولايات المتحدة، الذي عينه بايدن كرئيس لوفد بلاده لدى منظمة الصحة العالمية، في الجلسة الـ 148 للمجلس التنفيذي للمنظمة عبر تقنية الفيديو، مؤكدًا أن بلاده ستعمل بشكلٍ بنّاء مع الشركاء لتقوية وإصلاح منظمة الصحة العالمية، والمساعدة في قيادة الجهود المشتركة لتقوية الاستجابة العالمية لجائحة كـوفيد-19 ومعالجة آثارها على الناس والمجتمعات والأنظمة الصحية حول العالم.

كما أكد اعتزام بلاده استئناف التعاون التقني على جميع المستويات باعتباره جزءً أساسيًا من العلاقات مع منظمة الصحة العالمية .وقال د.فاوتشي: “يُشرفني إعلان أن الولايات المتحدة ستبقى عضوة في منظمة الصحة العالمية. وبالأمس وقع الرئيس بايدن على قرارات التراجع عن إعلان الإدارة السابقة بالانسحاب من المنظمة، وقد تم إرسال هذه الرسائل إلى الأمين العام للأمم المتحدة وإلى د. تيدروس”[5].

وأشار بايدن لأهمية عودة الولايات المتحدة لمنظمة الصحة العالمية للمساهمة في مواجهة جائحة كورونا وغيرها من الأوبئة التي تتوقع إداراته أن تواجه العالم في المستقبل قائلا: “أعدنا أيضًا مشاركتنا مع منظمة الصحة العالمية. بهذه الطريقة، يمكننا بناء استعداد عالمي أفضل لمواجهة كوفيد-19، وكذلك اكتشاف ومنع الأوبئة في المستقبل، لأنه سيكون هناك المزيد”[6].

والعودة الأمريكية لمنظمة الصحة العالمية تعني أن الولايات المتحدة لا تريد أن تترك هذه الساحة المهمة والتي تزايدت أهميتها مع جائحة كورونا لخصومها ومنافسيها، وخاصة الصين، دون أن تستخدمها لمصلحتها وضدهم، خصوصًا بالنظر للظروف التي أحاطت بمنشأ فيروس كورونا.

وهو ما عملت عليه البعثة الدائمة للولايات المتحدة الأمريكية بمقر الأمم المتحدة بجنيف التي وصفت، المرحلة الأولى من الدراسة التي أعدتها منظمة الصحة العالمية حول مصدر فيروس كورونا، بأنها كانت غير كافية وغير مكتملة، وذلك بعد يوم من إعطاء الرئيس الأمريكي جو بايدن أجهزة الاستخبارات الأمريكية مهلة 3 أشهر لمضاعفة جهودها للتوصل لمنشأ الفيروس. ودعت البعثة، في بيان للانتقال إلى المرحلة الثانية، التي يجب خلالها إجراء البحوث مرة أخرى، بما في ذلك في الصين، مؤكدة أنه من المهم للغاية أن تسمح الصين للخبراء المستقلين بإطلاع شامل على البيانات والعينات الأولية الكاملة، لفهم مصدر الفيروس والمراحل المبكرة للوباء[7].

  • اتفاقية باريس للمناخ

دأب بايدن -الذي لعب التعهد بمكافحة تغير المناخ دورًا في انتخابه- على القول إنه سيعود فورًا إلى اتفاقية باريس للمناخ. وكان ترامب، الذي يُنكر تغير المناخ، قد سحب الولايات المتحدة من هذه الاتفاقية في الأول من يونيو 2017، زاعمًا أنها تصب في مصلحة الصين بصورة غير عادلة.

وتُعد الولايات المتحدة الأمريكية ثاني أكبر مصدر للتلوث في العالم بعد الصين. وفي حين تناول ترامب المسألة باعتبارها عديمة الفائدة من الناحية الاقتصادية ليختار أرباح الوقود الأحفوري على حساب حماية البيئة، وعد بايدن ببناء اقتصاد معتمد على الطاقة النظيفة، لتمويل برامج طموحة لخفض الانبعاثات[8].

وكان الانسحاب من اتفاقية باريس للمناخ من أكثر القرارات المثيرة للجدل، وهي الاتفاقية التي وُقعت، في ديسمبر عام 2015، ونالت دعمًا عالميًا واسعًا، وشاركت نحو 171 دولة في التوقيع، وهو عدد قياسي للدول الموقعة على اتفاقية دولية، وتبلغ حاليًا الدول الموقعة 195 دولة، منها 189 دولة منضمة. وكان ترامب قد أعلن في 1 يونيو 2017، انسحاب الولايات المتحدة من اتفاقية باريس (ودخل الانسحاب حيز التنفيذ اعتبارًا من 4 نوفمبر 2020)، الأمر الذي أثار سخط المجتمع الدولي، ولاقى انتقادات عدة، خاصةً أن الولايات المتحدة، كما أُشير، ثاني الدول في العالم -بعد الصين- من حيث الانبعاثات الغازية، التي تسبب الاحتباس الحراري، علمًا أن الاتفاق يهدف إلى الحد من الاحتباس الحراري لمستوى لا يزيد على درجتين، عبر تقليل الانبعاثات الغازية[9].

  • مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة

أعلن وزير الخارجية الأمريكي أنتوني بلينكين في 8 فبراير 2021، أن الولايات المتحدة ستعاود الانضمام إلى مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة الذى تأسس عام 2006، من أجل تعزيز ومراقبة وحماية حقوق الإنسان في جميع أنحاء العالم. وأصدر الرئيس جو بايدن تعليماته لوزارة الخارجية بـ “إعادة الانخراط على الفور وبقوة” مع الهيئة كجزء من التزام إدارته باتباع سياسة خارجية تركز على الديمقراطية وحقوق الإنسان والمساواة مع استخدام الأدوات متعددة الأطراف.

كان الرئيس السابق دونالد ترامب قد أصدر أمرًا بانسحاب الولايات المتحدة من المنظمة الدولية التي كثيرًا ما تتعرض لانتقادات في عام 2018. ففي يونيو من ذلك العام، أعلنت سفيرة ترامب لدى الأمم المتحدة، نيكي هايلي، انسحاب الولايات المتحدة من المجلس. وجاءت هذه الخطوة متوافقة مع تهديدات الإدارة المتكررة بمغادرة الهيئة المكونة من 47 عضوًا، والتي وصفتها هايلي بأنها “منظمة منافقة تخدم مصالحها الخاصة وتحول حقوق الإنسان إلى مادة للسخرية”، مشيرة إلى ما وصفته بـ “التحيز المزمن ضد إسرائيل”، كما عبرت عن معارضتها لأن تكون دول مثل الصين وكوبا وفنزويلا التي تنتهك حقوق الانسان أعضاء في المجلس. ودعت الولايات المتحدة إلى إجراء إصلاحات في المجلس، وكثيرًا ما اصطدمت بأعضاء آخرين بسبب دفاعها عن إسرائيل لأنها تغض الطرف عن الانتهاكات الإسرائيلية لحقوق الإنسان.

وقالت إدارة ترامب إن المجلس سارع إلى التغاضي عن الانتهاكات التي ارتكبتها الأنظمة والحكومات الاستبدادية -بل وقبولها كأعضاء. وضمت عضوية الهيئة في ذلك الوقت الصين وكوبا وإريتريا وروسيا وفنزويلا، وجميعهم متهمون بارتكاب انتهاكات لحقوق الإنسان. علمًا أن إعلان الانسحاب قد جاء بعد يوم من استنكار المفوض السامي لحقوق الإنسان في الأمم المتحدة، زيد رعد الحسين، لإدارة ترامب لفصلها الأطفال المهاجرين عن والديهم.

ووصف وزير الخارجية بلينكين خطوة الانسحاب من مجلس حقوق الإنسان إنها “لم تفعل شيء لتشجيع التغيير الهادف، لكنها خلقت بدلا من ذلك فراغ في القيادة الأمريكية”. وقال بلينكين أيضًا في تغريدة على تويتر: “عندما يعمل بشكل جيد، يُسلط مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة الضوء على البلدان التي لديها أسوأ سجلات حقوق الإنسان، ويمكن أن يكون بمثابة منارة لأولئك الذين يكافحون ضد الظلم والاستبداد، لهذا السبب عادت الولايات المتحدة إلى الطاولة .”

وأضاف بلينكين أن المجلس “معيب ويحتاج إلى إصلاح، لكن الابتعاد لن يُصلح .إن أفضل طريقة لتحسين المجلس، حتى يتمكن من تحقيق إمكاناته، هي من خلال القيادة الأمريكية القوية والقائمة على المبادئ .”وقال في بيانه على المدى القريب، إن الولايات المتحدة ستشارك كمراقب، مضيفًا: “نحن نؤمن بشدة أنه عندما تشارك الولايات المتحدة بشكل بناء مع المجلس، بالتنسيق مع حلفائنا وأصدقائنا، فإن التغيير الإيجابي في متناول اليد”[10].

ومع ذلك، أعربت الإدارات السابقة أيضًا عن مخاوفها بشأن مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة، وشككت في كثير من الأحيان في رغبة المجلس في أن تكون الدول المنتهكة لحقوق الإنسان أعضاء فيه. وٍكان الرؤساء الديمقراطيون يميلون إلى الرغبة في الحصول على مقعد بالمنظمة بينما لا يُبالي الجمهوريون بذلك بسبب الانتقاد الدائم الذى يوجهه مجلس حقوق الانسان للانتهاكات الإسرائيلية لحقوق الانسان.

لكن على جانب آخر، فإن العودة الأمريكية لمجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة تتيح لها استخدام المجلس في مواجهة الصين وروسيا وغيرهم من الأعداء والخصوم والمنافسين؛ بالنظر إلى سجلهم الحافل بانتهاكات حقوق الإنسان حتى وإن كان سجلها هي ذاتها لا يخلو من انتهاكات.

  • معاهدة “ستارت الجديدة” النووية مع روسيا

مدّدت الولايات المتحدة، معاهدة الحد من الأسلحة الاستراتيجية (ستارت الجديدة) الموقعة مع روسيا لمدة خمس سنوات تبدأ اعتبارًا من الثالث من فيراير 2021، وكانت إدارة الرئيس الأمريكي جو بايدن قالت في يناير 2021 إنها ستسعى لتمديد الاتفاقية لأن الوقت لا يسمح بالتفاوض على اتفاقية جديدة.

وقال وزير الخارجية الأمريكي انتوني بلينكين، في بيان: “تعهد الرئيس بايدن بالحفاظ على الشعب الأمريكي في مأمن من التهديدات النووية من خلال استعادة القيادة الأمريكية في مجال الحد من التسلح ومنع الانتشار .وأضاف بلينكين “اليوم، اتخذت الولايات المتحدة الخطوة الأولى نحو الوفاء بهذا التعهد عندما مددت معاهدة ستارت الجديدة مع الاتحاد الروسي لمدة خمس سنوات”. وكانت روسيا قد صادقت، أواخر شهر يناير 2021، على تمديد المعاهدة التي كان مقررًا أن تنتهي بعد أيام من من ذلك التوقيت .وأكد وزير الخارجية الأمريكي: “تمديد معاهدة ستارت الجديدة يضمن أن يكون لدينا حدود يمكن التحقق منها بشأن الصواريخ البالستية الروسية العابرة للقارات والصواريخ البالستية التي تُطلق من الغواصات والقاذفات الثقيلة حتى الخامس من فبراير 2026”[11].

وكانت «معاهدة ستارت الجديدة»، بين روسيا والولايات المتحدة الأمريكية، والتي وٌقعت عام 2010، وكان من المقرر أن تنتهي مدتها في الخامس من فبراير 2021-وتلزم الولايات المتحدة وروسيا بخفض رؤوسهما النووية الاستراتيجية المنشورة بحيث لا تزيد عن 1550 رأسًا لكل منهما- هي أكثر المعاهدات المهددة بالإلغاء. ولما كانت هذه الاتفاقية تُعنى بالحد من الأسلحة الاستراتيجية بين أكبر قوتين عسكريتين في العالم، وتمحور الخلاف بين موسكو وواشنطن بشأن الشروط اللازمة لتجديد الاتفاق، ولم تعرب إدارة ترامب عن نيتها تجديده، لكن «ترامب» ترك السلطة، في يناير 2021، أي قبل انتهاء الاتفاق بأيام.

نجت معاهدة “ستارت الجديدة” من المصير الذى لقيته معاهدة “الأجواء المفتوحة”، فقد أصر الرئيس الأمريكي جو بايدن على البقاء خارج معاهدة “الأجواء المفتوحة” للمراقبة العسكرية، وذلك لإظهار حزمه في مواجهة روسيا بعد خطوات عدة تُظهر انفتاحًا. وجاء هذا القرار المخالف لإرادة الرئيس الأمريكي الجديد بالتنسيق مع موسكو في المسائل المرتبطة بالأمن الدولي، قبل أقل من ثلاثة أسابيع من قمّته الأولى مع نظيره الروسي فلاديمير بوتين التي عُقدت في 16 يونيو2021 في جنيف .وقال ناطق باسم وزارة الخارجية الأمريكية إن “الولايات المتحدة تشعر بالأسف لتقويض انتهاكات روسيا معاهدة الأجواء المفتوحة. “. وأضاف “في ختام مراجعتها للمعاهدة، لا تنوي الولايات المتحدة بالتالي السعي للعودة إليها، لأن روسيا لم تقم بأي خطوات لمعاودة الامتثال بها”.

وبعد اتهام موسكو بانتهاكها، انسحب الرئيس السابق دونالد ترامب من معاهدة “الأجواء المفتوحة” التي دخلت حيّز التنفيذ عام 2002 وكان هناك في البداية 35 دولة موقعة عليها تسمح بتسيير رحلات جوية لمراقبة الأنشطة العسكرية لبعضها البعض .وردًا على ذلك، تخلّت روسيا عن المعاهدة. وصوّت النوّاب الروس في 19 مايو 2021 لصالح الانسحاب منها، لكن الحكومة أكدت أنها مستعدة للتراجع عن هذه الخطوة في حال اقترح الأمريكيون “حلا بناءً. “.

عند الانسحاب الأمريكي، انتقد بايدن الذي كان لا يزال مرشحًا ديموقراطيًا للانتخابات الرئاسية آنذاك، قرار الرئيس الجمهوري معتبرًا أنه ينم عن “قصر نظر”، بعدما كان ترامب سحب الولايات المتحدة من اتفاقات دولية ومنظمات كثيرة. وأقرّ بايدن بوجود “مخاوف حقيقية” حيال “انتهاكات” روسيا للمعاهدة، لكنه اعتبر في بيان صدر في مايو 2020، أن الحلّ ليس إدارة الظهر للنصّ “إنما السعي إلى حلّها من خلال آلية حلّ المنازعات”[12].

وأشار بايدن إلى أن “الشفافية التي تجلبها” المعاهدة “مهمة بشكل خاص للدول التي ليس لديها قدرات خاصة لالتقاط صور من الأقمار الصناعية”، وأن حلفاء الولايات المتحدة لا يؤيدون انسحابها. وحذّر من أن “الانسحاب سيؤجج الخلافات بين الغرب وروسيا، وسيزيد مخاطر إساءة الحسابات والنزاع”. لكن بعد توليه الحكم اختلف موقف بايدن فيما يخصّ معاهدة “الأجواء المفتوحة”، حيث بقيت إدارة بايدن في البدء متكتمةً، قبل إعلانها مطلع مايو 2021 أنها بدأت مراجعة الانسحاب منها[13].

ورغم أن جو بايدن يُبدي حزمًا كبيرًا حيال روسيا مشددًا العقوبات والتهديدات بردود على أنشطة موسكو التي يعتبرها “مؤذية” (تدخل في الانتخابات، وهجمات إلكترونية، وانتشار عسكري على الحدود الأوكرانية، وتوقيف المعارض أليكسي نافالني)، إلا أنه يؤكد إرادته التوصل إلى أرضية تفاهم حول المسائل المرتبطة بالأمن الدولي. وقد واجه بايدن انتقادات من جانب المعارضة الجمهورية وكذلك معسكره الديموقراطي؛ لأنه تخلى عن فرض عقوبات حاسمة ضد مشروع أنبوب غاز “نورد ستريم 2” بين روسيا وألمانيا. وعُقد اللقاء الأول بين وزيري الخارجية الأميركي أنتوني بلينكين والروسي سيرغي لافروف، في أجواء هادئة في آيسلندا[14].

ومن الملاحظ أن واشنطن تواصل تبديل مواقفها فيما يخصّ العلاقات الأمريكية الروسية التي تُعدّ حالياً في أدنى مستوياتها منذ الحرب الباردة، إلا أنها تبدو هذه المرة تريد توجيه رسالة حزم. وقال المتحدث باسم الخارجية الأميركية لتبرير القرار بشأن معاهدة “الأجواء المفتوحة”، إن “سلوك روسيا، بما في ذلك خطواتها الأخيرة فيما يتعلّق بأوكرانيا، لا يعد سلوك شريك ملتزم ببناء الثقة”. ومع الانسحاب من معاهدة “الأجواء المفتوحة”، تصبح معاهدة ستارت الاتفاق الكبير الوحيد في مجال الأمن الذي لا يزال سارياً بين القوتين النوويتين[15].

  • العودة لتمويل الأونروا

أعلنت الإدارة الأمريكية العودة لتمويل وكالة الأمم المتحدة لإغاثة وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين «الأونروا» في 7 أبريل 2021، على أن تبلغ جملة المساعدات الأمريكية للفلسطينيين 235 مليون دولار، وقالت إدارة الرئيس جو بايدن إن الولايات المتحدة ستدعم مجددًا الأونروا بمساهمة قدرها 150 مليون دولار. كما ستقدم الولايات المتحدة 75 مليون دولار كمساعدات اقتصادية وتنموية للضفة الغربية وقطاع غزة و10 ملايين دولار لجهود بناء السلام .وفي تغريدة له على تويتر قال وزير الخارجية الأمريكي أنتوني بلينكين: “يسعدنا أن نُعلن استئناف المساعدة الأمريكية للشعب الفلسطيني. سنوفر إغاثة إنسانية مهمة لنعزز الازدهار والاستقرار الإقليميين، مع تعزيز القيم والمصالح الأمريكية”[16].

كانت إدارة ترامب قد وقفت تمويلها للأونروا، في سياق ما عُرف بصفقة القرن، حيث أعلنت وزارة الخارجية الأمريكية، في أغسطس 2018، عن تجميد مساعدات بنحو 65 مليون دولار مقدمة لوكالة الأمم المتحدة لإغاثة وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين «الأونروا».

والعودة لتمويل الأونروا تأتي في إطار خطوات تسعى لتعزيز الدور الأمريكي في الصراع العربي الإسرائيلي والتأكيد على دور الوسيط الفاعل الراعي لعملية السلام، ومن هذه الخطوات إعادة فتح القنصلية الأمريكية في القدس الذى رأت فيه السلطة الفلسطينية أنه يشكل أرضية صالحة لإعادة العلاقة بينها وبين الولايات المتحدة الأمريكية لتكون طرفًا فعالًا ومؤثرًا في إطار الرباعية الدولية للتوجه لمفاوضات تستند لقرارات الشرعية الدولية[17].

كما أن استئناف تمويل الأونروا يأتي لتهدئة وترضية أطراف أخرى اعترضت على قرار توقف الولابات المتحدة عن هذا التمويل، وهو القرار الذي نددت به جامعة الدول العربية، محذرةً من أنه سيُلحق أضرارًا كبيرة بنحو 5 ملايين لاجئ فلسطيني يعتمدون في معيشتهم اليومية على ما تقدمه الوكالة من خدماتٍ، خاصة في مجالات الصحة والتعليم والتشغيل. كما أن البرلمان الأوروبي رفض في أكتوبر 2019، قرارًا يقضي بقطع المساعدات عن الوكالة[18].

ثانيًا: عودة محتملة: مزيد من المصالح:

يتوقع بعض المحللين عودة الولايات المتحدة إلى الشراكة عبر المحيط الهادئ، ومنظمة اليونسكو، ومعاهدة تجارة الأسلحة[19]. ويعرض هذا الجزء بإيجاز لهذه العودة المحتملة.

  • الشراكة عبر المحيط الهادئ

في عام 2017، وفي أول قراراته التنفيذية، قرر ترامب انسحاب الولايات المتحدة من اتفاقية «الشراكة عبر المحيط الهادئ»، وهي اتفاقية تجارية تضم 12 دولة مطلة على المحيط الهادئ، ووصفها بأنها “صفقة سيئة” .وهذه الشراكة اتفاقية تجارية ضخمة كانت حجر الزاوية في سياسة الرئيس السابق باراك أوباما تجاه آسيا ولكن لم يوافق عليها الكونجرس مطلقًا.

علمًا أن تلك الاتفاقية كانت مبادرة من الرئيس السابق، باراك أوباما، وتمثل الدول المنضمة لها40% من الاقتصاد العالمي، وهي الولايات المتحدة وأستراليا وكندا واليابان وماليزيا والمكسيك ونيوزيلندا والبيرو وسنغافورة وفيتنام وتشيلي وبروناي. جدير بالذكر أن ترامب أعرب فيما بعد عن استعداده للانضمام للاتفاق، قائلًا في تغريدة له على «تويتر»: «إذا كان الاتفاق أفضل بكثير مقارنةً مع ما عُرض على أوباما».

بعد مغادرة الولايات المتحدة، مضت الدول الإحدى عشرة الأخرى قدمًا في نسخة جديدة من الاتفاقية، الاتفاقية الشاملة والمتقدمة للشراكة عبر المحيط الهادئ . (CPTPP) كنائب للرئيس، دعم بايدن الشراكة عبر المحيط الهادئ، ثم في عام 2019 أخبر مجلس العلاقات الخارجية أن “الفكرة الكامنة وراءها كانت فكرة جيدة”. وخلال الانتخابات التمهيدية للديمقراطيين، قال إنه سيحاول إعادة التفاوض بشأن الشراكة عبر المحيط الهادئ ومعالجة المخاوف التي أثارها بعض الديمقراطيين، بما في ذلك عن طريق إضافة حماية للعمال والبيئة[20].

  • اليونسكو

لم تقدم الولايات المتحدة أي تمويل إلى منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلوم والثقافة (اليونسكو) -الوكالة التي اشتهرت بتصنيف مواقع التراث العالمي- منذ عام 2011 بسبب اعتراف الهيئة بالأراضي الفلسطينية. وقد سحب ترامب عضوية الولايات المتحدة بالكامل مشيرًا إلى مخاوف مماثلة. وسيحتاج بايدن إلى موافقة الكونجرس لاستئناف تمويل اليونسكو[21] .

وأشارت إدارة ترامب إلى مزاعم بوجود صراعات تدور حول تسمية مواقع التراث الثقافي العالمي -التي قالت الولايات المتحدة وإسرائيل إنها تجاهلت الروابط التاريخية اليهودية عل حد وصفهم- كسبب للانسحاب من اليونسكو. كما أن تسمية المواقع تمس أيضًا قضايا أعمق تخص السيادة الدولية بإعلان مدينة الخليل القديمة والحرم الإبراهيميّ مواقع فلسطينية بحسب زعمهم.

وفي أكتوبر 2017، رافقت الولايات المتحدة إسرائيل وأعلنتا الانسحاب من منظمة اليونسكو، بسبب انحياز المنظمة ضد إسرائيل، على حد زعمهم، وطالبت الولايات المتحدة “بإصلاح جذري” في الوكالة التي اشتهرت ببرنامج التراث العالمي لحماية المواقع والتقاليد الثقافية. ووصفت مدير عام المنظمة، الانسحاب بأنه”خسارة”، ودخل القرار حيز النفاذ في 31 ديسمبر من عام 2018.

ومن الجدير بالذكر أن تلك ليست المرة الأولى التي تنسحب فيها واشنطن من المنظمة بل سبق ذلك انسحابها من اليونسكو عام1984 في عهد الرئيس رونالد ريجان، وانضمت إليها مرة أخرى عام 2002 في عهد جورج دبليو بوش. وعلى الرغم من أنه تم تجميد المساهمات الأمريكية في المنظمة لمدة تسع سنوات في ظل إدارة أوباما- بايدن، إلا أن الولايات المتحدة احتفظت بعضويتها.

  • معاهدة تجارة الأسلحة

ألغى ترامب توقيع الولايات المتحدة على معاهدة تجارة الأسلحة، وهي اتفاقية تحدد المعايير العالمية للتجارة الدولية للأسلحة التقليدية. وقد وقع أوباما على المعاهدة في عام 2013، لكن مجلس الشيوخ لم يصوت أبدًا على الموافقة عليها، مما جعل الولايات المتحدة واحدة من الدول القليلة التي وقعت على المعاهدة ولم تصدق عليها. ويمكن أن يعيد بايدن التوقيع عليها، لكن من المرجح أن يواجه معارضة مجلس الشيوخ للتصديق[22] .

هذه العودة المحتملة للمنظمات الدولية –في حال تحققها- ستسعى لمزيد من مصالح الولايات المتحدة سواء كانت تجارية في حالة الشراكة عبر المحيط الهادئ، أو سياسية وثقافية لدعم الحلفاء كإسرائيل في منظمة اليونسكو، أو استراتيجية أمنية كما في حالة معاهدة تجارة الأسلحة في مواجهة الصين وروسيا.

خاتمة

من الناحية العملية، فإن عودة الولايات المتحدة للمنظمات والاتفاقيات الدولية تدل على أن المبدأ أو السياسة التي عنون بها بايدن سياسته الخارجية وهي “أمريكا عادت” هو الموجه لسياسات إدارته على الساحة العالمية، وهي عودة من أجل المصالح الأمريكية وضد الأعداء والخصوم والمنافسين، خصوصًا الصين وروسيا.

فالولايات المتحدة عادت لمنظمة الصحة العالمية بالأساس حتى لا تترك هذه الساحة المهمة، والتي تزايدت أهمتيها مع جائحة كورونا، للصين دون أن تستخدمها لمصلحتها وضد بكين خصوصًا بالنظر للظروف التي أحاطت بمنشأ فيروس كورونا.

كما أن العودة الأمريكية لمجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة تمكنها من استغلال المجلس ضد الصين وروسيا وغيرهم بإثارة قضايا وملفات حقوق الإنسان الممتلئة بالانتهاكات من أطراف عديدة، مع الدفاع عن سجلها الذي لا يخلو من انتهاكات.

ومدّدت الولايات المتحدة، معاهدة الحد من الأسلحة الاستراتيجية (ستارت الجديدة) الموقعة مع روسيا لمدة خمس سنوات لتنجو من المصير الذى لقيته معاهدة “الأجواء المفتوحة”. فقد أصر الرئيس الأمريكي جو بايدن على البقاء خارج معاهدة “الأجواء المفتوحة” للمراقبة العسكرية، وذلك لإظهار حزمه في مواجهة روسيا بعد خطوات عدة تُظهر انفتاحًا في إطار إبداء الحزم والمرونة في التعامل مع روسيا.

ومن أهم دلالات عودة الولايات المتحدة لعدد من المنظمات الدولية والاتفاقيات االدولية؛ أن هذه القوة الكبرى تسعى بكل السبل إلى أن تكون قادرة على تحقيق أهدافها سواء في مكافحة أي تهديدات عسكرية أو سياسية أو توفير بيئة صحية لها وللعالم (وفق رؤيتها وأولوياتها) أو الحصول على مكاسب تجارية.

وثمة دلالة أخرى أساسية تتمثل في أن قوة الولايات المتحدة ما زالت تمكنها من حساب يتسم بالحرص والدقة لوزن التكلفة والمنفعة من انخراطها في التعاون الجماعي الدولي، وأن تكون انتقائية فيما يخص شروط وظروف هذا الانخراط والاشتباك مع المنظمات الدولية

ومن ثم، فإن عودة الولايات المتحدة للمنظمات الدولية والاتفاقيات الدولية تحمل دلالة مهمة مفادها أنها لا تفضل أن تكون منعزلة تمامًا عن المنظمات الدولية ولا أن تقبل بالانخراط فيها دون شرط، بل هي تفضل أن تكون مواقفها تتسم بأنها داعمة أداتيًا للتعاون الدولي الجماعي Instrumental Multilateralism.

يُضاف على ذلك أن قرارات الولايات المتحدة بالتعاون في المحافل متعددة الأطراف دوليًا ترتبط بالدرجة الأولى بالمدى الذي ينظر فيه إلى هذه المنظمات من قبل الجهات الفاعلة المحلية الأمريكية المهمة على أنها وسيلة فعالة وملائمة لتعزيز أهداف أمريكا. كما أن الإدارات الأمريكية، بغض النظر عن كونها جمهورية أو ديمقراطية، تسعى دوما إلى أن تعمل المنظمات الدولية والاتفاقيات الدولية التى تعد الولايات المتحدة طرفًا فيها في إطار القيود والشروط المباشرة وغير المباشرة التي تفرضها الانتقائية والذرائعية الأمريكية.

وهذه العودة تشير إلى أن إدارة بايدن ترى كلفة العزلة عن مؤسسات التعاون الدولي ممثلا في المنظمات والاتفاقيات الدولية أعلى بكثير من أعباء المشاركة فيها، وأن العائد الذي تناله من المشاركة في تلك المنظمات والاتفاقيات يفوق التكاليف والجهود المستثمرة فيها.

ويمكن القول إن المحك في تفضيل الولايات المتحدة للعمل الدولي الجماعى من عدمه يتخلص في حساب التكلفة والعائد كما عبر عنه جيمس بيكر وزير الخارجية الأمريكي الأسبق: “ستكون التكاليف أكبر بكثير، وكذلك المخاطر السياسية، المحلية والدولية، إذا انتهى بنا الأمر بمفردنا”، جاء هذا قُبيل عقد التحالف الدولي لمواجهة غزو العراق للكويت عام 1990. ومن الواضح أن تعددية بيكر هي تحليل للتكلفة والعائد، وليست التزامًا مبدئيًا بالعمل متعدد الأطراف باعتباره حجر الزاوية للنظام العالمي، فصلب حجة الأمريكين أنصار العمل الجماعي متعدد الأطراف على الساحة الدولية براجماتي فهي عمل جماعى على الطريقة الأمريكية[23].

والخلاصة أن عودة الولايات المتحدة للعديد من المنظمات والاتفاقيات الدولية مع بداية إدارة بايدن تعني فصلا جديدًا مكررًا من سعى الإدارات الأمريكية لتحقيق مصالحها من خلال المشاركة الفعالة على الساحة العالمية في مواجهة الأعداء والخصوم والمنافسين، وبصفةٍ خاصة الصين وروسيا. وهذه العودة هي نتيجة لحساب التكلفة والعائد بحسب رؤية إدارة بايدن، ويأتي بعد ذلك وفي مرتبة تالية سعي بايدن لترميم مكانة الولايات المتحدة الأمريكية دوليًّا وصورة الدبلوماسية الأمريكية التي بدت أخشن من اللازم في ظل إدارة ترامب، فهي عودة بقفاز ناعم لتحقيق المصالح الأمريكية.

___________________

الهوامش

[1] لاستعادة “زعامة أمريكا”.. بايدن في مواجهة إرث ترامب الصعب، DW، 15 نوفمبر 2020، تاريخ الاطلاع: 28 مايو 2021، متاح عبر الرابط التالي:https://bit.ly/3c3B1Yn

[2] بايدن: سوف نحل التحديات العالمية معًا، ShareAmerica، 5 فبراير2021، تاريخ الاطلاع: 1 يونيو2021، متاح عبر الرابط التالي: https://bit.ly/3hYvbLO

[3] Remarks by President Biden on America’s Place in the World, White House, 4 Fubraury,2021, Accessed: 26 May 2021, 11:00, https://cutt.us/CEtuF

[4] عمر علاء، 9 اتفاقيات ومنظمات دولية انسحبت منها الولايات المتحدة في عهد ترامب، المصرى اليوم، 13 نوفمبر 2020، تاريخ الاطلاع: 23 مايو 2021، متاح عبر الرابط التالي: https://cutt.us/a7fV4

[5] بعد عودة واشنطن لمنظمة الصحة العالمية، إشادة أممية بدعمها للإتاحة العادلة للقاحات كوفيد-19، 21 يناير 2021، أخبار الأمم المتحدة، تاريخ الاطلاع: 25 مايو 2021، متاح عبر الرابط التالي:  https://cutt.us/UFuT2

[6] Remarks by President Biden on America’s Place in the World, Op. cit.

[7] بعد مهلة بايدن.. واشنطن تطالب الصحة العالمية بتقرير آخر عن مصدر كورونا، الوطن، 28 مايو 2021، تاريخ الاطلاع: 2 يونيو 2021، متاح عبر الرابط التالي: https://cutt.us/WUawJ

[8] لاستعادة “زعامة أمريكا”.. بايدن في مواجهة إرث ترامب الصعب، مرجع سابق.

[9]عمر علاء، 9 اتفاقيات ومنظمات دولية انسحبت منها الولايات المتحدة في عهد ترامب، مرجع سابق.

[10] Biden administration to rejoin U.N. Human Rights Council in another reversal of Trump, NBCnews, 8 February 2021, Accessed: 5 June 2021, https://cutt.us/vqjs6

[11] واشنطن تمدد معاهدة “ستارت الجديدة” النووية مع روسيا، الاتحاد الإماراتية، 3 فبراير 2021، تاريخ الاطلاع: 7 يونيو 2021، متاح عبر الرابط التالي: https://bit.ly/3zHYuc3

[12] بايدن ينتقد موسكو ويصرّ على الانسحاب من معاهدة “الأجواء المفتوحة”، يورونيوز، 29 مايو 2021، تاريخ الاطلاع: 6 يونيو 2021، متاح عبر الرابط التالي: https://cutt.us/P0DxR

[13] بايدن يحمل على موسكو ويُصر على الانسحاب من معاهدة “الأجواء المفتوحة”، الأهرام، 29 مايو 2021، تاريخ الاطلاع: 6 يونيو 2021، متاح عبر الرابط التالي: https://cutt.us/D15gI

[14] بايدن يحمل على موسكو ويصرُّ على الانسحاب من معاهدة “الأجواء المفتوحة”، 29 مايو 2020، swissinfo، تاريخ الاطلاع: 29 مايو 2021، متاح عبر الرابط التالي: https://bit.ly/3urJOtL

[15] بايدن يحمل على موسكو ويصرُّ على الانسحاب من معاهدة “الأجواء المفتوحة”، فرنسا 24، 29 مايو 2021، تاريخ الاطلاع: 6 يونيو 2021، متاح عبر الرابط: https://bit.ly/3gFMG2k

[16] واشنطن تستأنف مساعدتها للفلسطينيين بقيمة 235 مليون دولار، يورونيوز، 8 أبريل 2021، تاريخ الاطلاع: 7 يونيو 2021، متاح عبر الرابط التالي: https://cutt.us/Ef2aS

[17] إشادة فلسطينية وتنديد إسرائيلي بقرار واشنطن إعادة فتح قنصليتها بالقدس، اندبنتنت عربية، 26 مايو 2021، تاريخ الاطلاع: 8 يونيو 2021، متاح عبر الرابط التالي:  https://bit.ly/3iVyGTC

[18] عمر علاء، 9 اتفاقيات ومنظمات دولية انسحبت منها الولايات المتحدة في عهد ترامب، 13 نوفمبر 2020، مرجع سابق.

[19] Lindsay Maizland, Biden’s First Foreign Policy Move: Reentering International Agreements, Council on Foreign Relations, 21 January 2021, Accessed: 3 June 2021, https://cutt.us/gubX8

[20] الخطوة الأولى في السياسة الخارجية لبايدن: إعادة الدخول في الاتفاقيات الدولية، البيان، 31 يناير 2021، تاريخ الاطلاع: 26 يونيو 2021، متاح عبر الرابط التالي: https://cutt.us/CkGWv

[21] انظر على سبيل المثال: انسحاب الولايات المتحدة من اليونسكو لأنها “معادية لإسرائيل”، فرنسا 24، 12 أكتوبر 2017، تاريخ الاطلاع: 26 يونيو 2021، متاح عبر الرابط التالي: https://cutt.us/ksAQI

[22] انظر على سبيل المثال: دونالد ترامب يعلن انسحاب بلاده من المعاهدة الدولية للأسلحة، فرنسا 24، 27 أبريل 2019، تاريخ الاطلاع: 26 يونيو 2021، متاح عبر الرابط التالي: https://cutt.us/aXJTJ

[23] Robert Kagan ,Multilateralism, American Style, Carnegie, 13 September 2002, Accessed: 6 June 2021, https://cutt.us/DxU5P

فصلية قضايا ونظرات- العدد الثاني والعشرون ـ يوليو 2021

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى