أبعاد اقتصادية للأزمة السياسية في تونس

«.. لو كان التاريخ يقول لنا شيئًا، فما يحدِّثنا به هو أنه لا توجد طريقة لتبرير العلاقات القائمة على العنف أفضل من اتخاذها مظهر الأخلاقيات عن طريق إعادة صياغتها في إطار لغة الديون – لأنها فوق كلِّ شيء، تجعل الضحية مباشرة في وضع من ارتكب فعلًا شائنًا».

الأنثروبولوجي الأمريكي ديفيد جريبر، من كتابه «الدَّيْن.. الخمسة آلاف سنة الأول»،

ترجمة: أحمد زكي أحمد، (القاهرة: المركز القومي للترجمة، ٢٠١٩)، ص١٣

مقدمة:

تَمُرُّ تونس بأزمة متعدِّدة الأبعاد سياسيًّا واجتماعيًّا واقتصاديًّا، وتتمثَّل الأزمة السياسية في تأميم الرئيس قيس سعيد للحياة السياسية، عبر فرض سيطرته المطلقة على المؤسسات الدستورية والتنفيذية المختلفة؛ في انتهاك لدستور 2014 الذي يعطي صلاحيات أوسع لرئيس الحكومة والبرلمان الذي يأتي من خلاله. في إجراء لاحق، قام سعيد بطرح مشروع دستور جديد للاستفتاء يقوم بإضفاء طابع رسمي وقانوني على خطواته السلطوية التي كان قد اتَّخذها قبل عام في 25 يوليو 2021.

في خضمِّ هذا التغوُّل الواسع وغير المسبوق من قبل الرئيس قيس سعيد، تَمُرُّ تونس بأزمات اقتصادية واجتماعية متعدِّدة، تُفَاقِمُ من أثرها الأزماتُ الاقتصادية العالمية التي أعقبتْ جائحةَ كورونا والحرب الروسية-الأوكرانية. فبعد مرور عامين على وصول سعيد إلى السلطة، لا ينفكُّ الوضع الاقتصادي في تونس يتدهور، في ظلِّ نقص الغذاء وارتفاع أسعار السلع الأساسية؛ ما أدَّى إلى تنامي الإحباط والغضب في أوساط التونسيِّين.

في ضوء ذلك، تسعى هذه الورقة إلى الإجابة على عدد من الأسئلة، هي: ما هي الأزمة السياسية في تونس؟ وما هي أبعادها الاقتصادية؟ وما هي تداعيات الأزمة الاقتصادية العالمية على الاقتصاد التونسي؟ وهل من سياسات اقتصادية يطرحها الرئيس للخروج من الأزمة الاقتصادية الراهنة؟ وما هو مستقبل الأزمة التونسية؟

أولًا- البعد الداخلي للأزمة

على الرغم من النموذج الواعد الذي كانت تبشِّر به الحالة التونسية في الانتقال الديمقراطي عبر التوافق بين الكتل الأساسية الممثِّلة للمجموعات الإسلامية والعلمانية التي حازتْ على أغلبية البرلمان، وإعدادهم لدستور توافقي حظي بإجماع، فإن الاقتصاد التونسي كان قد تضرَّر بفعل تباطؤ معدلات النمو وزيادة الإنفاق والتراجع الحاد في الاستثمارات الأجنبية المباشرة وانهيار القطاع السياحي الذي ترافق مع تصاعد الهجمات الإرهابيَّة[1].

مَرَّ الاقتصاد التونسي بمصاعب خلال السنوات الثماني التي أعقبت انتفاضة 2010-2011، ولا يزال، ذلك أن متوسط نسبة النموِّ السنوي خلال الفترة من (2011 حتى 2019) لم تتجاوز 1.8 في المائة[2]، ونسبة البطالة لم تنخفض عن 15 في المائة على المستوى الوطني في الفترة نفسها[3]، أي ما يعادل 635 ألف عاطل عن العمل[4]. وتتجاوز البطالة الضعف في مناطق غرب البلاد وجنوبها، ويمثِّل حامِلو الشهادات العُليا حوالي 40 في المائة من تلك النسبة، ما يخلق ضغطًا مستمرًّا على الدولة[5].

كما أدَّى تراجُع الاستثمار الأجنبي المباشر إلى زيادة عجز الموازنة العامة للدولة، الذي استمرَّ في الاتساع عامًا بعد آخر، حيث انزلق من 2.8 في المائة سنة 2011 إلى 6 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي بنهاية سنة 2017، وهي أعلى نسبة وصل إليها العجز، وفي العام 2019 وصل العجز إلى 3.4 في المائة. كما أن العجز في ميزان المدفوعات ارتفع من نسبة 4.8 في المائة في عام 2010 إلى نسبة 10.1 في المائة في عام 2017. كما ارتفعت نسبة الدَّيْن العام من 44 في المائة سنة 2011 إلى 73.3 في المائة سنة 2019. وبالتوازي، فإن الاختلال الكبير في ميزان المدفوعات، بتمويل من الدين الأجنبي، دفع بالدين الخارجي من نحو 40 إلى 85 في المائة من إجمالي الناتج المحلي بين 2010 و2019[6].

يُشير حمزة المؤدب إلى أن انهيار القطاع السياحي بسبب الهجمات الإرهابية، وزيادة هجرة رؤوس الأموال “أَدَّيَا إلى انخفاض حادٍّ في احتياطيات العملات الأجنبية، إذ شهدت هبوطًا من 9.8 مليارات دولار في العام 2010 إلى 4.8 مليارات دولار في العام 2018، ما مارس ضغوطًا على الدينار التونسي فانخفضت قيمته؛ ما أدَّى إلى ارتفاع معدَّل التضخُّم”[7].

أدَّت هذه الأزمات لسخط الشارع التونسي على النخب السياسية، ما مهَّد الطريق لبروز شخصية شعبويَّة جاءت من خارج الطيف السياسي واستطاعت العزْف على مزاج الشارع الساخط على تلك النُّخب. لذا حملت الانتخابات الرئاسية والبرلمانية، في سبتمبر وأكتوبر 2019، عدَّة مفاجآت، كان أبرزها حصول سعيد على مقعد الرئاسة، وتشرذم مقاعد البرلمان بين الأحزاب السياسية. ذلك التشرذم كان في صالح قيس سعيد، الذي أجْبر البرلمان على قبول اختياراته لرئاسة الحكومة، والتي جاءت جُلُّهَا من شخصيات مستقلَّة، خشية حَلِّ البرلمان والدعوة لانتخابات مبكرة[8].

بدأ الرئيس التونسي ولايتَه بافتعال الأزمات مع البرلمان والأحزاب الرئيسية فيه، خاصةً عقب فشل تشكيل حكومة الحبيب الجملي مرشح حركة النهضة لرئاسة الحكومة الذي استمرَّ في مشاورات التشكيل لشهرين[9]، الأمر الذي دفع الرئيس سعيد إلى تكليف شخصية من خارج الكتل النيابيَّة هو “إلياس الفخفاخ” بتشكيل حكومة تكنوقراط، لم تكد تمرُّ ستة أشهر على التئامها، حتى قامت أحزاب الأكثرية في البرلمان التونسي -والتي أكرهت على تمرير حكومته، خوفًا من حل البرلمان- بسحب الثقة منها بعد الكشف عن شبهات تضارب مصالح طالت شركة يساهم فيها رئيس الحكومة[10].

تعمَّقت حدَّة الأزمة عقب تكليف الرئيس لوزير الداخلية في حكومة الفخفاخ “هشام المشيشي” لتولِّي رئاسة الحكومة، كون سعيد اختاره كسلفه من خارج ترشيحات الكتل النيابية، ولأنه ما لبث أن طالب تلك الكتل بعدم التصويت للمشيشي في البرلمان والعودة إلى حكومة الفخفاخ المسحوب بعد إجراء تعديلات عليها، مع وعد رئاسي بعدم حَلِّ البرلمان. شهدت الشهور التي أعقبت حصول المشيشي على ثقة البرلمان أزمات مع الرئيس بدءًا من رفض لإجراء رئيس الحكومة تعديلات على تشكيلة الحكومة وعدم استقباله للوزراء الجدد لحلف اليمين، مرورًا بانتهاء التواصل المباشر بين رئيس الجمهورية ورئيسي الحكومة والبرلمان، ووصولًا إلى قيام الرئيس بانقلاب غير دموي في 25 يوليو 2021، أطاح فيه بالبرلمان المنتخب والحكومة المعيَّنة بتوافق واسع بين الكتل البرلمانية[11].

مَثَّلَ استيلاء سعيد على السلطة بالنسبة إلى المزاج العام -غير المنظم وغير المعروف حجمه كذلك- أملًا في الخروج من شهور من الشلل السياسي والمناكفات بين الرئاسات الثلاث، ومباشرة إصلاحات اقتصادية واجتثاث الفساد الذي ما فتئَ الرئيسُ في شَنِّ هجمات كبيرة على رموزه من دون تعيينهم. وعلى الرغم من إدانة خطوة سعيد من قبل الأحزاب الأربعة الكبرى في البرلمان -النهضة وائتلاف الكرامة وقلب تونس والتيار الديمقراطي وهم خليط إسلامي وعلماني- باعتبارها تمثِّل انقلابًا دستوريًّا، فإن الوقت كان قد مَرَّ ولن ترجع عقارب الساعة إلى الوراء.

عزف سعيد على المزاج الشعبوي المتنامِي بين الأوساط الجماهيرية غير المنضوية تحت مظلَّة الأحزاب السياسية، مستفيدًا من حالة عدم الثقة بتلك الأحزاب، ومقدِّمًا نفسه على أنه الوحيد المعبِّر عن مطالب الشعب والساهر عليها، لكن المفارقة في شعبويَّة سعيد على عكس الحركات الشعبويَّة هي أن لغة خطاب الرجل ليست بسيطة وإن كانت متفاعلة مع هموم المواطن، فالرجل في أدائه يتمثَّل خطاب القرون الوسطى على أبسط توصيف.

نجح الرئيس قيس سعيد في تحقيق ثلاثة أهداف منذ استيلائه على السلطة في 25 يوليو من العام 2021. أولها- تركيز السلطة في شخصه من خلال توسيع صلاحياته التنفيذية وإقرار ذلك في استفتاء لاحق على دستور جديد. وثانيها، إضعافه للأحزاب السياسية خاصة حزب النهضة الذي أدَّى دورًا فعَّالًا في المرحلة الانتقالية التي أعقبت انتفاضة 2010-2011. أما ثالث النجاحات التي حقَّقها سعيد فقد تمثَّلت في إخراجه للاتحاد العام التونسي للشغل من دائرة التأثير في المشهد السياسي.

حقَّق سعيد كلَّ هذه النجاحات بالرغم من عدم تقديمه لتصوُّرٍ للخروج من الأزمة الاقتصادية والمالية التي تفاقمت خلال تواجده في السلطة جرَّاء الارتفاع الكبير في أسعار الطاقة وتكلفة المعيشة نتيجة جائحة كورونا والحرب الروسية-الأوكرانية. فبعد مرور أكثر من عامين على استيلاء سعيد على السلطة، لا ينفكُّ الوضعُ الاقتصاديُّ في تونس يتأزَّم.

ثانيًا- البعد الخارجي للأزمة: تداعيات الأزمة الاقتصادية العالمية على تونس

قبل حلول الجائحة والحرب الروسية الأوكرانية، كان الاقتصاد التونسي يعاني من أزمات في إدارة الدين وميزان المدفوعات، حيث سجَّل الدين العام ارتفاعًا حادًّا من 39.2 في المائة من إجمالي الناتج المحلي في 2010 إلى 77.5 في المائة. ذلك الارتفاع كان مدفوعًا بتمويل الموازنة من خلال الدين المحلي والأجنبي. كما أدَّى الاختلال الكبير في ميزان المدفوعات إلى ارتفاع الدين الخارجي لمستويات قياسية من نحو 40 إلى 85 في المائة من إجمالي الناتج المحلي بين 2010 و2019[12]. أدَّت تلك الأزمات إلى سخط كبير على كامل الطبقة السياسية التي أثَّرت في المشهد منذ 2011، ومن ثم مهَّدت الطريق إلى الرئيس سعيد للتحكُّم الكامل بالمشهد بالرغم من عدم تقديمه أي طرح بديل سوى إدانته للطبقة السياسية التي وصفها بالفساد.

حلَّت الجائحة، وأعقبتها الحربُ الروسية الأوكرانية، ليُفاقما من حدَّة الأزمة الاقتصادية التي تعاني منها تونس، وتؤدِّيا إلى انكماش الناتج المحلي الإجمالي بمقدار الضعف، بنسبة غير مسبوقة بلغت 8.2 في المائة، وهو أكبر انخفاض في الناتج المحلي الإجمالي منذ الاستقلال. كما انهارت السياحة وتراجع التصنيع في القطاعات الموجَّهة للتصدير. ونتيجة لذلك، قفزت البطالة إلى 16.2 في المائة، مع ارتفاع معدَّل الفقر من 14 في المائة إلى أكثر من 20 في المائة في عام 2020. وقفز الدين العام بمقدار 15 نقطة مئوية من 72 في المائة إلى 87 في المائة في عام 2020[13].

نظرًا للوضع الصعب، تقدَّمت الحكومة التونسية رسميًّا بطلبٍ للحصول على برنامج تمويل من صندوق النقد الدولي في إبريل 2021، ولم يتمَّ الاتفاق بين تونس والصندوق بعد مرور أكثر من عامين نتيجة رفض الرئيس سعيد ما أسْماها إملاءات الصندوق. خلال العامين الذين تولَّى فيهم سعيد سدَّة الرئاسة عانت المالية العامة في تونس من مصاعب، فقد بلغ العجز السنوي في الموازنة نحو 9.784 مليار دينار (حوالي 3.03 مليار دولار) في أكتوبر عام 2022، وهو ما يمثِّل 10 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي و23.6 في المائة من إيرادات الدولة. وتتوزَّع إيرادات الدولة البالغ قدرها 41.13 مليار دينار (12.8 مليار دولار) بين 36.04 مليار دينار (11.37 مليار دولار) إيرادات ضريبيَّة و3.9 مليار دينار (1.21 مليار دولار) إيرادات غير ضريبيَّة و1.11 مليار دينار (346 مليون دولار) من الهبات[14].

نسبة الدين الحكومي التونسي إلى الناتج المحلي الإجمالي في الفترة من 2012 وحتى 2021.

المصدر: Trading Economics، متاح عبر الرابط التالي: https://bit.ly/3pkBEGW

على مدار 20 عامًا لم تلْجأ تونس إلى صندوق النقد الدولي، قبل أن تطلب قرضًا من الصندوق، في عام 2013، حيث صدَّقت على برنامجها الأول مع صندوق النقد الدولي بعد انتفاضة 2011، مرفقةً إياه باقتراح لبرنامج إصلاح؛ وذلك بعد تدهور الأوضاع الاقتصادية في البلاد[15]. وفي 2016، عادت تونس لتطلب قرضًا جديدًا، واعدةً صندوق النقد بتطبيق الإصلاحات المطلوبة، غير أنها لم تفِ بالتزامها مرة أخرى، مما جعل الصندوق يفرض عقوبات ويلغي قسطًا قدره 1.2 مليار دولار[16].

في دراسة للباحثيْن عمرو عادلي وحمزة المؤدب، عن العلاقة بين زيادة الاعتماد على الديون الخارجية والتهميش الجيوسياسي لمصر وتونس، خَلَصَا إلى أن اعتماد مصر وتونس المتزايد على الديون الخارجية أدَّى إلى تهميشهما على مستوى الاقتصاد العالمي وفي المشهد الجيوسياسي لمنطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا. ما يهمُّنا هنا في دراسة عادلي والمؤدب كون تونس أضحت أكثر اعتمادًا على المنح والديون الخارجية في تمويل عجز الموازنة لديها. فمنذ الانتفاضة الشعبية في 2010-2011، تدفَّقت التمويلات المختلفة على تونس، وتراوحت بين القروض منخفضة الفوائد، والودائع لدى المركزي التونسي، والمنح التي قدَّمها الاتحاد الأوروبي في مجال التمويل الكلي للميزانية[17].

ساعدت هذه التدفُّقات تونس على التعامل مع التراجع الحادِّ في الاستثمارات الأجنبية المباشرة وانهيار القطاع السياحي بعد الهجمات الإرهابية في العاميْن 2015 و2016. ولكنها أدَّت إلى حصْر تمويل عجز الموازنة على تلك التدفُّقات الخارجية؛ لاعتقاد النخب السياسية التونسية وصنَّاع القرار بأن الشركاء الغربيِّين سيدفعون في مسار تمويل دعم الانتقال الديمقراطي في تونس إلى ما لا نهاية، لذلك لم يتولَّد لديهم الحافز لخفض أعباء الديون، وعمدوا إلى المماطلة في تنفيذ الإصلاحات الهيكلية والمالية اللازمة.

قُدِّرَ حجم الهبات التي حصلت عليها تونس من الشركاء الدوليين بما مجموعه (4356 مليار دينار) أي حوالي مليار ونصف المليار دولار بسعر صرف يونيو 2023، جاءت هذه الهِبات من المفوضية الأوروبية والاتحاد الأوروبي (3,5 مليار دينار) وتركيا (250 مليون دينار) والجزائر (200 مليون دينار)، ربع هذه الهِبات حصلتْ عليها تونس في العام 2022[18]. جادل ريكاردو فابياني مدير مشروع شمال أفريقيا في مجموعة الأزمات الدولية، بأن السلطات التونسية تمكَّنت من استخدام ما أسماه “الربيع الديمقراطي” لتأخير إجراءات التقشُّف القاسية؛ وذلك بهدف تغذية المحسوبيَّة، وتجنُّب وضع نموذج جديد للتنمية الاقتصادية[19].

في نهاية المطاف أضْحت تونس مدمنةً للدعم الخارجي، ولمواصلة ذلك الطريق كان عليها إيجاد مموِّلين جدد، خاصةً في ظل الأزمة الاقتصادية العالمية التي أدَّت إلى عزوف المموِّلين الغربيِّين عن الاستمرار في تقديم التمويل منخفض التكلفة، الأمر الذي دفعهم إلى ممارسة الضغط على تونس لإجراء إصلاحات اقتصادية يشرف عليها صندوق النقد الدولي.

ثالثًا- ما بين العزلة والاصطفاف الاقليمي والدولي: مساعي قيس سعيد لجذب التمويل

كان من الطبيعي أن يؤدِّي هذا الاعتماد الكبير على الديون الخارجية في سَدِّ عجز الموازنة، إلى ربط سياسة تونس الخارجية بالأطراف المانحة، حيث تنخرط تونس بشكل مضطرد في التحالفات الإقليمية والدولية في المنطقة، وذلك نتيجة عدم صياغة الرئيس سعيد لملامح سياسته الخارجية بعد[20]. تقف تونس اليوم على حافَّة الانهيار الاقتصادي مع اقتراب الدين العام التونسي، في 2022، إلى أكثر من (111.435) مليارات دينار، أي نحو (35.5) مليار دولار أميركي، ما يشكِّل 80.2 بالمائة من الناتج المحلي الإجمالي، مقابل 47.7 في المئة من إجمالي الناتج المحلي في عام 2012. وهي نسبة شديدة الخطورة تتجاوز حدودَ الأمان في الدول الصناعية الكبرى الأكثر تقدُّمًا وتنوُّعًا في حصيلة الدولة من الإيرادات والتي تحدِّد نسبة الأمان عند أقل من 60 بالمائة[21].

ما يُفاقم المخاطر أيضًا ارتفاع حجم الدين الخارجي، ففي نهاية شهر ديسمبر 2022، بلغ نحو 66.5 مليار دينار (21.732 مليار دولار)، وتبلغ خدمتُه نحو 2.4 مليار دينار (784.313 مليون دولار)، وتستحوذ المؤسسات المالية العالمية والشركاء الأوروبيُّون على النسبة الأكبر من هذا الدين وخدمته[22]. وكان نتيجة لذلك أن خفضت وكالة فيتش للتصنيف الائتماني، في العاشر من يونيو 2023، تصنيف تونس، الأمر الذي أرجعه مختصُّون إلى عدم اليقين بشأن قدرة تونس على جمع التمويل الكافي لتلبية متطلباتها المالية الكبيرة.

عقب خفض الشركاء الغربيِّين التمويل المقدَّم لتونس على أثر المسار الذي اتخذه سعيد من 25 يوليو 2021[23]، عمدت تونس إلى الاعتماد على الجارة الجزائر بصورة أساسية في تلقِّي الدعم الذي جاء على شكل قروض وودائع وإمدادات غاز بأسعار تفضيليَّة، وبلغ حجم القروض والودائع الجزائرية، منذ وصول سعيد إلى سدَّة الحكم، في البنك المركزي التونسي نحو (800 مليون دولار) أمريكي. الأمر الذي دفع بالسياسة الخارجية التونسية للاصطفاف مع المواقف الجزائرية، خاصةً في القضايا الشائكة مثل قضية الصحراء الغربية، ما أدَّى إلى أزمة دبلوماسية بين تونس والمغرب[24].

كما قام سعيد بزيارة القاهرة والرياض في عام 2021، وذلك بدعوى زيادة التجارة والاستثمار. ومع ذلك، يعتقد العديد من المراقبين أن الرحلة إلى المملكة العربية السعودية كانت محاولةً لتأمين قروض ومساعدات -من الرياض وأبو ظبي- بشروط أكثر ملاءمة ممَّا اقترحه صندوق النقد الدولي[25]. الأسباب الدقيقة لزيارة سعيد إلى مصر أقل وضوحًا، فالدعوة كانت من الرئيس السيسي[26] في إبريل 2021، وذلك قبل إجراءات سعيد السلطوية، ولكن من المحتمل أن تكون الزيارة بهدف تأمين الدعم للإجراءات التي اتَّخذها فيما بعد، وهو ما حدث بالفعل[27].

سعى سعيد كذلك إلى تأمين الدعم من الصين، وذلك خلال مشاركته في القمة العربية الصينية، في الرياض، ديسمبر 2022، وعلى الرغم من تأكيد الرئيس الصيني لسعيد خلال لقائهما على دعم الصين لتونس بقوة في اتباع مسار تنمية يناسب ظروفها الوطنية، ومعارضة تدخُّل القوى الخارجية في الشؤون الداخلية لتونس[28]، فإن سفير بلاده في تونس، وان لي، أكَّد على صعوبة أن تحصل تونس على مقرض بديل عن صندوق النقد الدولي[29].

لم تتلق تونس الدعم المالي من تلك الأطراف الإقليمية والدولية، نظرًا لهامشيَّتها الجيوستراتيجية بالنسبة لدول الخليج العربي والصين، ما يفاقم الأزمات الاقتصادية والسياسية في تونس، سواء استمرَّت في تلقِّي الدعم المحدود من الجارة الجزائر أو قامت بالعدول عن موقفها من شروط صندوق النقد الدولي وتلقَّت حزمةَ المساعدات المقدَّرة بـ 1.9 مليار دولار.

خاتمة

مستقبل الأزمة التونسية: شعبوية سعيد دون شعب

في السنوات التي تلَت انتخابه، لم يفعل سعيد شيئًا يُذكر لمعالجة المشاكل الهيكليَّة في الاقتصاد التونسي، أو في إصلاح منظومة الحكم التي اعتبرها فاسدة. بدلًا من ذلك، ركَّز رأسماله السياسي على “الإصلاح الدستوري” لتعزيز سلطته في مقابل الحدِّ من استقلال البرلمان والسلطة التنفيذية والقضائية. على الصعيد الاقتصادي تفاقمت الديون التونسية الداخلية والخارجية مع اطِّراد في عجز الموازنة وخدمة الدَّيْن، واجتماعيًّا عجزت الحكومة عن توفير كثيرٍ من المواد الأساسية التي تحتكر توريدها والإشراف على توزيعها مثل المحروقات والمواد الغذائية، في الوقت الذي ارتفعت فيه أسعار الخدمات الأساسية مثل الكهرباء والغاز والماء واللحوم والأسماك بشكل غير مسبوق[30].

نجح سعيد في تقويض كامل التقدُّم الديمقراطي الذي ناضلَ التونسيُّون بشدَّة من أجله منذ انتفاضة 2010-2011، مرتكزًا في ذلك على خطاب شعبوي ودعم من قبل الجماهير التي يئِست من السياسية، لكن شعبوية سعيد تُبرز مأساة الشعبويَّات العربية، كونها شعبويَّات بدون شعب، بمعنى أنها تؤسِّس خطابها على مصالح الشعب والجماهير ولكنها في الوقت نفسه لا تعطي ذلك الشعب الحق في تنظيم نفسه من خلال نقابات اجتماعية أو في الانخراط في أحزاب سياسية حتى يعبر عن مصالحه واحتياجاته من خلالها.

هذا العداء للسياسة والتنظيم مع السعي لتأمين الموارد من قبل الأطراف الخارجية، التي إن عبَّرت عن احتجاج بسيط؛ فإن ذلك يجعل النظام يبحث عن الموارد عند أطراف مضادَّة لهذه الأطراف التي لم تلبِّ مطالب الدعم. كل هذا يطرح عددًا من الأسئلة حول أثر الديون على التنمية الاقتصادية في تونس؟ وأثر هذا على تبعية أو ارتهان السياسة الخارجية التونسية للدول المقرِضة؟ كما تطرح مسألة إدمان تونس على الديون السؤال حول ما إذا كانت بحاجه فعليَّة إلى الاقتراض؟

في كتابه شديد الأهمية “قصة الاقتصاد المصري من عهد محمد علي إلى عهد مبارك“، يُقِرُّ الدكتور جلال أمين عددًا من المقولات الكاشفة عن أزمة العلاقة بين اقتصاديات الدول النامية والدول الرأسمالية الكبرى، من بينها أن تورُّط “المدين في الاستدانة لا يرجع إلى حاجته إلى الاقتراض بقدر ما يرجع إلى حاجة الدائن إلى الإقراض[31]. من هنا ما هي حاجة تونس الفعلية لتلك القروض؟ وماذا عن ضغوط المقرضين التي اتَّضحت من خلال إجماع القوى الغربية والخليج والصين على ضرورة ذهاب تونس إلى صندوق النقد الدولي للحصول على حاجاتها المالية.

لقد أضْحى الاستثمارُ الخارجيُّ الأفضل للحكومات التي لديها فوائض مالية، يتمثَّل في تقديم القروض للدول النامية عبر صندوق النقد الدولي، وذلك للحصول على فوائد عالية نتيجة خدمة الدَّيْن، وشراء الشركات الوطنية التي تدخل في حزمة ما يسمِّيها الصندوق “الإصلاح الاقتصادي”.

في مواجهة هذا الوضع، لا يكْفي خطاب الرئيس سعيد الرافض للرضوخ لصندوق النقد وسياساته التي سوف تفرض خفض الدعم الاجتماعي وبيع الشركات الحكومية والبنوك وتقليل الإنفاق على التعليم والصحة وغيرها، بل إنه من اللازم وضع خطة وطنية للتعامل مع المشاكل الهيكليَّة في الاقتصاد التونسي بعيدًا عن التبعيَّة للخارج.

لكن آخر ما يهمنا في الحكومات الشعبوية خطابها، حيث إن خطواتها أهمُّ كثيرًا من بياناتها التي تُلهب المشاعر الوطنية، فتحرُّكات الرئيس التونسي تنبئ بالرضوخ في نهاية المطاف إلى الحصول على القرض ولو بشروط جديدة، فالرجل أسيرٌ لتخوم عالم التبعية الاقتصادية شرقًا أو غربًا، ولا يقدِّم أيَّ خطة للخروج من المأزق سوى مزيد من الارتهان للأطراف التي تقدِّم التمويل.

___________________

الهوامش

[1] Chris Stephen, Tourists desert Tunisia after June terror attack, The guardian, 25 September 2015, Accessed: 17 May 2023, 07:20, available at: https://cutt.us/t59S4

[2] معدل النمو في الناتج المحلي على أساس سنوي، وفقًا لمعلومات البنك الدولي، متاح عبر الرابط التالي: https://cutt.us/r0Vi6

[3] تحدي تونس المقبل: إصلاح الاقتصاد قبل فوات الأوان، مبادرة الإصلاح العربي، 23 سبتمبر 2019، تاريخ الاطلاع: 18 مايو 2023، 09:00، متاح عبر الرابط التالي: https://www.arab-reform.net/ar/publication/6597

[4] إيمان الحامدي، البطالة تتصاعد في تونس وسط تراجع النمو، العربي الجديد، 7 سبتمبر 2019، تاريخ الاطلاع: 19 مايو 2023، 11:00، متاح عبر الرابط التالي: https://cutt.us/f1ReF

[5] في ذكراها الثامنة.. صنَّاع ثورة تونس “منسيون ومحبطون”، الجزيرة نت، 14 يناير 2019، تاريخ الاطلاع: 19 مايو 2023، 11:30، متاح عبر الرابط التالي: https://cutt.us/95uoP

[6] اعتمدت الأرقام التي جاءت في دراسة مبادرة الإصلاح العربي، انظر: تحدي تونس المقبل: إصلاح الاقتصاد قبل فوات الأوان، مرجع سابق.

[7] حمزة المؤدب، عقب أخيل تونس، مركز مالكوم كير-كارنيغي للشرق الأوسط، 2 يوليو 2019، تاريخ الاطلاع: 20 مايو 2023، 05:00، متاح عبر الرابط التالي: https://cutt.us/YTy6A

[8] تونس: حكومةٌ جديدة وديناميّاتٌ جديدة؟، مبادرة الإصلاح العربي، 24 يونيو 2020، تاريخ الاطلاع: 20 مايو 2023، 06:00، متاح عبر الرابط التالي: https://cutt.us/diRcU

[9] حكومة الحبيب الجملي تفشل في نيل ثقة البرلمان التونسي، الجزيرة نت، 11 يناير 2020، تاريخ الاطلاع: 20 مايو 2023، 07:00، متاح عبر الرابط التالي: https://cutt.us/kUeaO

[10] رجب عز الدين، الرئيس المعطِّل: مستجدات تعثر المشهد السياسي في تونس ومآلاته، مركز الحضارة للدراسات والبحوث، 31 يوليو 2021، تاريخ الاطلاع 20 مايو 2023، 08:00، متاح عبر الرابط التالي: https://cutt.us/AHDHg

[11] المرجع السابق.

[12] تحدي تونس المقبل: إصلاح الاقتصاد قبل فوات الأوان، مرجع سابق.

[13] The Tunisian debt crisis in the context of the COVID-19 pandemic: Debt Repayments over Human Right?, Friedrich Ebert Stiftung, 30 June 2020, Accessed: 26 May 2023, 10:20, Available at: https://cutt.us/d88fO

[14] مشروع قانون ميزانية الدولة لسنة 2023، ص19 -20.

[15] اتفاق تونس مع صندوق النقد في يونيو 2014، موقع صندوق النقد الدولي، متاح عبر الرابط التالي: https://bit.ly/3JxCY09

[16] ماتيو طرابلسي، ما هي بدائل تونس عن صندوق النقد الدولي؟، انكفاصة، 1 يونيو 2023، تاريخ الاطلاع: 26 مايو 2023، 11:00، متاح عبر الرابط التالي: https://cutt.us/T1gPg

[17] عمرو عادلي وحمزة المؤدب، هل ينذر ارتفاع الديون بالمزيد من التهميش الجيوسياسي لمصر وتونس؟، مركز مالكوم كير-كارنيغي للشرق الأوسط، 14 يونيو 2023، تاريخ الاطلاع: 08 يونيو 2023، 09:00، متاح عبر الرابط التالي: https://cutt.us/I1Cn7

[18] تفاصيل الهبات التي تحصلت عليها تونس بعنوان “دعم الميزانية” للفترة الممتدة من سنة 2011 الى سنة 2022، مرصد رقابة، 14 يونيو 2023، تاريخ الاطلاع: 8 يونيو 2023، 11:00، متاح عبر الرابط التالي: https://cutt.us/p3YMo

[19] Riccardo Fabiani, Tunisia and the International Community since 2011: Rentierism, Patronage and Moral Hazard, 29 January 2018, Accessed: 9 June 2023, 11: 20, Available at: https://cutt.us/xgsyp

[20] Thomas Hill, Sarah Yerkes, Tunisian Foreign Policy Under Kais Saied, 11 January 2023, Accessed: 9 June 2023, 01: 00, Available at: https://cutt.us/G8oom

[21] في هذا الشأن أشكر الباحث الاقتصادي مجدي عبد الهادي على إيضاحه لعدد من المفاهيم والأمور الخاصة بالموازنة والمالية العامة.

[22] ارتفاع خدمات الديون الخارجية لتونس بنسبة 23٪ في الأشهر الثلاثة الماضية، وكالة شينخوا، 8 إبريل 2023، تاريخ الاطلاع: 19 يونيو 2023، 09:00، متاح عبر الرابط التالي: https://cutt.us/wQDsy

[23] Sabina Henneberg, US Foreign Policy in Tunisia: Dilemmas and Prospects, 1 June 2023, Accessed: 19 June 2023, 09:30, Available at: https://cutt.us/4YgiC

[24] عمرو عادلي وحمزة المؤدب، هل ينذر ارتفاع الديون بالمزيد من التهميش الجيوسياسي لمصر وتونس؟، مرجع سابق.

[25] Kais Saied seeks Saudi and UAE financial aid in Riyadh, Africa Intelligence, 22 October 2021, Accessed: 21 June 2023, 05:00, Available at: https://cutt.us/S8bxd

[26] الرئيس التونسي يزور مصر بدعوة من السيسي، القدس العربي، 8 إبريل 2021، تاريخ الاطلاع 21 يونيو 2023، 06:00، متاح عبر الرابط التالي: https://cutt.us/Gf7zE

[27] من تونس.. وزير الخارجية المصري يؤكد دعم بلاده لإجراءات سعيد، دويتش فيله، 3 أغسطس 2021، تاريخ الاطلاع: 22 يونيو 2023، 09:00، متاح عبر الرابط التالي: https://cutt.us/6jjdK

[28] Xi Jinping Meets with Tunisian President Kais Saied, mk.china-embassy, 9 December 2022, Accessed: 22 June 2023, 11:20, Available at: https://cutt.us/RQHFF

[29] Tunisia: Saied rejects the diktats of the International Monetary Fund, but the economy collapses while China slips away, Agenzia Nova, 1 June 2023, Accessed: 22 June 2023, 01:00, Available at: https://cutt.us/xJJSO

[30] كمال بن يونس، تونس أمام أزمة اجتماعية – اقتصادية… وجو سياسي متفاقم، الشرق الأوسط، 1 أكتوبر 2022، تاريخ الاطلاع: 23 يونيو 2023، 09:00، متاح عبر الرابط التالي: https://cutt.us/RX5yl

[31] جلال أمين، قصة الاقتصاد المصري من عهد محمد علي إلى عهد مبارك، (القاهرة: دار الشروق، 2012)، ص15.

 

فصلية قضايا ونظرات – العدد الثلاثون – يوليو 2023

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى