قرار “ترامب”: الذاكرة والتوقيت والسياق الأمريكي والإقليمي

مقدمة

“قرَّرت أنه آن الأوان للاعتراف رسميًّا بالقدس عاصمة لإسرائيل”…
هكذا أعلن الرئيس الأمريكي دونالد “ترامب” في السادس من ديسمبر 2017 عن قراره الاعتراف بالقدس الموحدة عاصمة لإسرائيل، وأمره بالبدء في التحضيرات اللازمة لنقل السفارة الأمريكية من تل أبيب إلى المدينة المقدسة، معلنًا بذلك “مقاربة جديدة” تجاه النزاع العربي-الإسرائيلي. وهو القرار الذي تجنَّبه الرؤساء الأمريكيون منذ 1995م، حينما أصدر الكونجرس بأغلبية كبيرة من الحزبين قانون نقل السفارة الأمريكية إلى القدس(1). وهي النقطة التي شدَّدَ عليها “ترامب” في خطابه من خلال القول إنه يفي بوعد “فشل” من سبقوه في الوفاء به.
وقد تصاعدت الانتقادات والاعتراضات على قرار “ترامب” -حتى من قبل إعلانه رسميًّا- من قبل القوى الدولية والإقليمية المختلفة. فقد اعتبر الفلسطينيون أن قرار “ترامب” بمثابة “الصفعة” لعملية السلام وإجهاض لحلِّ الدولتين، الأمر الذي يجعل من الولايات المتحدة وسيطًا غير محايد ويقضي على دورها في عملية السلام، ويرمي بقرارات الشرعية الدولية عبر الحائط. كذلك حذَّر الملك عبد الله -ملك الأردن ومن الحلفاء الاستراتيجيِّين لواشنطن في المنطقة- من أنَّ اتِّخاذ هذا القرار ستكون له انعكاسات خطيرة على الأمن والاستقرار في الشرق الأوسط، ويؤجِّج مشاعر المسلمين والمسيحيِّين، ويشجِّع على التطرُّف(2). كما هدَّدَ الرئيس التركي رجب طيب أردوغان بأن القدس “خط أحمر” للمسلمين، وأوضح أن تلك الخطوة يمكن أن تؤدِّي إلى قطع تركيا علاقتها الدبلوماسية مع إسرائيل)[3](. كما صدرت اعتراضات -وإن كانت على غير نفس الدرجة من القوة- من عواصم عربية أخرى.
لم يَلْقَ القرار أيضًا قبولًا من قبل العواصم الأوروبية التي أعربت عن قلقها من تلك الخطوة لما قد يترتَّب عليها من تبعات خطيرة على الرأي العام في مناطق كبيرة من العالم، وضرورة أن يأتي أي قرار في هذا الشأن في إطار مفاوضات بين الإسرائيليِّين والفلسطينيِّين)[4](. بل تناقلت وكالات الأنباء أيضًا اعتراض كل من وزير الخارجية الأمريكي ريكس تيلرسون ووزير الدفاع جيمس ماتيس على القرار لأسباب أمنية تتعلق بتأمين المصالح الأمريكية والمواطنين الأمريكيِّين في المنطقة)[5](.
وعلى الرغم من التحذيرات وافتقاد واشنطن للدَّعم، حتى من قبل حلفائها الغربيِّين، أصرَّ “ترامب” على قراره الذي أعلنه عشية احتفال البيت الأبيض بعيد الأنوار لليهود. وهو الأمر الذي من شأنه إثارة التساؤل حول الأسباب التي دفعت الرئيس الأمريكي إلى اتِّخاذ مثل ذلك القرار رغم المؤشِّرات التي تدلُّ على عدم خدمته بالضرورة للمصالح الأمريكية، وفي ظلِّ القلق الذي عبَّر عنه حلفاء واشنطن سواء داخل الإقليم أو خارجه.
ويتفرَّع عن هذا التساؤل مجموعة من الأسئلة الفرعية، وهي:
– ما الجديد في الموقف الأمريكي في ظلِّ إدارة دونالد “ترامب”؟
– هل يخالف قرار “ترامب” نموذج الاختيار العقلاني “rational choice”؟
– ما هي المحددات الداخلية لقرار “ترامب”؟
– ما هو السياق الإقليمي الذي أحاط بالقرار؟
وتتطلَّب الإجابة على هذه الأسئلة بداية التطرُّق بشكل سريع إلى القدس في السياسة الخارجية الأمريكية وصولًا إلى قرار “ترامب” الأخير، وذلك للوقوف على عناصر الاستمرارية والتغيُّر في تلك السياسة، وفهم لماذا اعتبر الكثيرون خطوة “ترامب” هذه على درجة كبيرة من الأهمية والخطورة في الوقت نفسه.

أولًا- السياسة الخارجية الأمريكية والقدس: تاريخ من الخذلان

يكشف تتبُّع قضية القدس في السياسة الخارجية الأمريكية عن مرورها بعدَّة مراحل أساسية، تشترك جميعها في أن تطوُّر الموقف الأمريكي كان دائمًا في اتِّجاه المزيد من التقارب مع الرؤية الإسرائيلية حول وضع المدينة. ونظرًا لتعدُّد الإدارات الأمريكية منذ قيام الكيان الصهيوني إلى الآن، سنتوقَّف عند المحطات الأساسية التي مثَّلت نقاط تحوُّل مهمَّة في الاقتراب الأمريكي من القدس. وبناء على ذلك يمكن الحديث عن ستة مراحل محورية:
المرحلة الأولى- مرحلة “التدويل” (ما قبل 1948م): تمحور الموقف الأمريكي في هذه المرحلة حول الكيان المستقل للقدس (corpus separatum) باعتبارها مدينة لها مكانة خاصَّة لا تنتمي لأي طرف وينبغي أن تتمتَّع بمكانة وإشراف دوليِّيْن، وهي تقريبًا النظرة التي تبنَّاها قرار تقسيم فلسطين بين العرب واليهود(6).
المرحلة الثانية- التراجع النسبي عن التدويل والغموض حول مستقبل المدينة (1948 – 1962م): بدأ في هذه المرحلة الحديث الأمريكي عن تدويل “محدود” للقدس واعتبارها مدينة واحدة موحَّدة دولية. وأعربت واشنطن عن اعتقادها بأن فكرة الكيان المستقل للقدس هي غير واقعية ولا يمكن تنفيذها من قبل الأمم المتحدة ضدَّ رغبة الأطراف المعنيَّة وهي إسرائيل والأردن، إلا باستخدام القوَّة. ويلاحظ في هذه المرحلة أن الاهتمام الأمريكي بالقدس قد تراجع بشكل كبير إدراكًا من الحكومة الأمريكية للتعقيدات الخاصَّة بهذا الملف، وعدم تمكُّنها من إثناء إسرائيل عن المضي في مخطَّطاتها الخاصَّة بالتوسُّع في الجزء الغربي من المدينة تمهيدًا للسيطرة عليها فيما بعد. ووقَعت واشنطن في هذه المرحلة بين مطرقة جماعات الضغط اليهودية وسندان اعتبارات الحرب الباردة وما ارتبط بها من تخوُّفات أمريكية من أن تؤدِّيَ السياسات الإسرائيلية التوسُّعية والمستفزَّة للعرب إلى استدراج الاتحاد السوفيتي(7) إلى منطقة نفوذه(8).
المرحلة الثالثة- مرحلة القدس الموحَّدة “الدينية” (1963 – 1969م): اتَّخذ الرئيس الأمريكي “ليندن جونسون” سياسة خارجية أكثر محاباة لإسرائيل، والتي يرجعها البعض إلى المستنقع الفيتنامي الذي وقع فيه ومحاولته الحصول على الدعم اليهودي لإدارته. فلم تعد الولايات المتحدة تؤيِّد الوضع الدولي للمدينة، وأعلنت في المقابل عن دعمها لفكرة بقاء المدينة موحَّدة على أن يُحَدَّدَ مستقبلها من قبل الأطراف ذاتهم، في محاولة لإبعاد أيِّ تسوية عن قرارات الشرعية الدولية الممثَّلة في الأمم المتحدة. كذلك ابتعد الحديث عن القدس عن كونها قضية سياسية من ضمن قضايا الصراع، ولكن باعتبارها قضية دينية يتمحور الاهتمام فيها حول الأماكن المقدسة وتأمين حرية الوصول إليها من قبل أصحاب الديانات الثلاث(9). ولكن اعتبارات الحرب الباردة مرة أخرى جعلت واشنطن تستمر في موقفها الخاصِّ باعتبار قرار إسرائيل اعتماد القدس الغربية عاصمة لها بأنه غير قانوني، واعتبار القدس الشرقية من الأماكن المحتلة(10).
المرحلة الرابعة- مرحلة إرجاء مصير القدس (1977 – 1992م): انتقلت الدبلوماسية الأمريكية إلى سياسة التسوية الشاملة للنزاع الإسرائيلي العربي مع دخول كارتر إلى البيت الأبيض، ولكن دون التطرُّق إلى قضية القدس والتي تمَّ إرجاؤها إلى “مفاوضات الوضع النهائي”. كما انتقل ملف القضية الفلسطينية من الأمم المتحدة إلى إطار المفاوضات الثنائية، واستمرَّ التركيز على الجانب الروحي للقدس وتجاهل الإشارة إلى قرارات الشرعية الدولية المتعلِّقة بالمدينة(11). ويلاحظ من السلوك التصويتي لإدارة “كارتر” في الأمم المتحدة ارتباطها الشديد بالاعتبارات السياسية الداخلية أكثر من كونها عاكسة لسياسة واضحة تجاه القدس. على سبيل المثال، امتنعت الولايات المتحدة في 22 مارس 1979 عن التصويت على قرار مجلس الأمن القاضي بأن المستوطنات الإسرائيلية على الأراضي العربية بما فيها القدس الشرقية ليس لها وضع قانوني وتمثل عائقًا أساسيًّا في سبيل تحقيق سلام شامل وعادل ومستمر في الشرق الأوسط. ويرجع تفسير هذا الموقف إلى توقيت القرار، حيث جاء قبل خمسة أيام من توقيع اتفاق السلام بين مصر وإسرائيل، وهو بالطبع الإنجاز الذي لم يرد “كارتر” أن يتأثَّر بالتصويت في الأمم المتحدة. فقد كان “كارتر” يستعد للترشُّح مرَّة أخرى ويهمُّه التقارب مع اليهود(12) لتعزيز فرصته في الانتخابات(13).
مع رئاسة ريجان (1981 – 1988) ركَّزت الولايات المتحدة على دور إسرائيل في مكافحة المدِّ الشيوعي، ومن هنا كان التحالف الاستراتيجي بينهما، مع الاستمرار في الحديث عن القدس موحَّدة، وإرجاء وضعها إلى مفاوضات الوضع النهائي. وهي الأبعاد التي أصبحت من ثوابت السياسة الخارجية الأمريكية ليضيف إليها “جورج بوش” الأب (1988 – 1993م) التركيز على أولوية أمن إسرائيل باعتباره المفتاح لدفع السلام إلى الأمام، وذلك للالتفاف حول الانتفاضة الفلسطينية الأولى. كما تراجعت الولايات المتحدة عن سياستها الرافضة للاستيطان في الضفة الغربية والقدس، والتجاهل الكبير لدور الأمم المتحدة كمصدر للشرعية الدولية، بل والعمل على التحرُّر من قراراتها كإطار مرجعي لأيَّة مفاوضات وإعادة التفاوض عليها(14). وكان هذا بالطبع استغلالا لظروف إقليمية ودولية معيَّنة تمثَّلت في انتهاء الحرب الباردة وتفرُّد الولايات المتحدة بالزعامة الدولية، والتمزُّق والضعف العربي الذي أعقب حرب الخليج الثانية.
المرحلة الخامسة- الإقرار بالقدس عاصمة لإسرائيل (1995 – 2016م): انتقلت السياسة الأمريكية خطوة أخرى مع “بيل كلينتون” (1994 – 2002م)، فأصبح التركيز على سياسة احتفاظ إسرائيل بالقدس عاصمة موحَّدة لها. وهو الموقف الذي عبَّر عنه “كلينتون” في برنامجه الانتخابي من خلال القول بأن “القدس هي عاصمة إسرائيل ويجب أن تظلَّ مدينة موحَّدة غير مقسَّمة متاحة للناس مهما كانت معتقداتهم الدينية”(15). ولتحقيق ذلك، قامت واشنطن أولًا- بمعارضة شمول القدس بالقرار (242) واعتبارها أراض متنازع عليها يجري حسم السيادة عليها في المفاوضات، وليس من خلال مؤسَّسات الشرعية الدولية. وثانيًا- عدم الممانعة الأمريكية لمواصلة إسرائيل بناء المستوطنات، بما في ذلك في القدس، تحت دعاوى “النمو الطبيعي للسكان” وتبنِّي وجهة النظر الإسرائيلية التي تميِّز بين مستوطناتٍ أمنيَّة غير قابلة للتفاوض، ومستوطنات ذات طابع سياسي يمكن التفاوض حولها (16).
إلَّا إن التطوُّر الأهم في عهد “كلينتون” كان اعتماد الكونجرس سنة 1995م القرار الخاص بنقل السفارة الأمريكية إلى القدس السابق الإشارة إليه. ووجَّه الكونجرس رسالة لوزير الخارجية يعرب فيها عن معارضته لأن تكون القدس محلَّ مفاوضات، حيث إنه -وفقًا للكونجرس- أمر المدينة “محسوم تماما”. وجاءت الترجمة لذلك التوجُّه في مفاوضات “كامب ديفيد” الثانية التي حاولت فيها الولايات المتحدة الضغط على عرفات لقبول تسوية تعطيه دويلة وتبقي على القدس عاصمة موحَّدة وأبديَّة لإسرائيل مع سيادة رمزية وشكليَّة للدولة الفلسطينية على الحرم القدسي مقابل سيادة “تحت-أرضية” لإسرائيل عليه(17).
تحوَّل الصراع على يد “جورج بوش” الابن (2002 – 2008م) إلى صراع إسرائيلي-فلسطيني. وتحت ضغط الانتفاضة الفلسطينية الثانية، بدأت جولة جديدة من المفاوضات. وقدَّمت اللجنة الرباعية للشرق الأوسط والتي تضمُّ الولايات المتحدة وروسيا والاتحاد الأوروبي والأمم المتحدة خارطة طريق تنص على إقامة دولة فلسطينية بحلول عام 2005م مقابل إنهاء الانتفاضة وتجميد الاستيطان اليهودي في الأراضي الفلسطينية، فيما عُرف بحلِّ الدولتين(18)، وغابت القدس مرة أخرى سواء على مستوى المبادرات أو الخطاب.
المرحلة السادسة- نقل السفارة (2017م): وأخيرًا جاء “ترامب” ليحسم الغموض “المتعمَّد” من قبل الإدارات الأمريكية المتعاقبة حول مصير المدينة، ويكشف القناع تمامًا عن الوجه الحقيقي للسياسة الأمريكية إزاء القدس والقضية الفلسطينية بشكل عام، وذلك عندما أعلن عن تنفيذه لقانون الكونجرس واعتباره القدس العاصمة الموحَّدة والأبديَّة لإسرائيل.

ثانيًا- “ترامب” والمباراة المزدوجة

كما هو موضَّح في العرض السابق، صاغ الرؤساء الأمريكيون سياستهم الخارجية تجاه القضية الفلسطينية بشكل عام بناء على عامليْن أساسيَّيْن: عامل داخلي متعلِّق بضغط جماعات المصالح اليهودية من جهة، والحسابات الخاصَّة بالمعركة الانتخابية من جهة أخرى، وعامل خارجي يرتبط بالسياق الإقليمي والدولي المحيطيْن، والمصالح الأمريكية في المنطقة. أي إنهم كانوا دائمًا منخرطين في مباراة مزدوجة: مباراة السياسة الداخلية ومواءماتها، ومباراة السياسة الخارجية واستراتيجيَّاتها المتعلِّقة بالمصالح الأمريكية. وهذا تحديدًا ما يفسِّر قرار “ترامب” الخاص بالقدس والذي يبدو للوهلة الأولى متناقضًا مع نموذج الاختيار العقلاني لصانع القرار. فقد أوضح “ترامب” في كلمته كيف أنه يرى اتخاذ هذا القرار “يصب في مصلحة الولايات المتحدة الأمريكية، وفي مصلحة السعي إلى تحقيق السلام بين إسرائيل والفلسطينيِّين”(19). في الوقت الذي رأى فيه كثيرون أن القرار لا يتوافق مع المصالح الأمريكية في المنطقتين العربية والإسلامية لما قد يترتَّب عليه من عدم استقرار وتوتُّر في منطقة مشحونة بالفعل، ويقوِّض من استئناف عملية السلام. كما تؤدِّي الإهانة التي يحملها القرار واستهانته بمشاعر المسلمين إلى تأكيد فكرة صراع الحضارات، ومن ثم خلق بيئة مناسبة للإرهاب. وأخيرًا، يؤدِّي القرار إلى عزلة الولايات المتحدة عن باقي الجماعة الدولية(20). فكيف كانت إذن حسابات “ترامب” في مباراته المزدوجة؟

ثالثًا- المحددات الداخلية للقرار

يرتبط تحديد العوامل الداخلية بمعرفة الكتلة الانتخابية التي صوَّتت لـ”ترامب” من ناحية، والسياق الداخلي للقرار من ناحية أخرى.فعلى رأس قائمة المؤيِّدين تأتي الجماعات الإنجيلية والتي مثَّلت في انتخابات 2016 حوالي 26% من الهيئة الناخبة والتي صوَّت 81% منهم لصالح “ترامب” على حساب هيلاري كلينتون)[21](. وهم يمثِّلون، على العكس من اليهود أنفسهم، نسبة معتبرة من ناخبي الحزب الجمهوري. ويرى هؤلاء أن نقل السفارة إلى القدس هي خطوة ضرورية في طريق عودة المسيح لقيادة معركة نهاية التاريخ في “مجيدو”، إضافة إلى اتِّباع بعضهم تفسيرًا حرفيًّا للإنجيل والذي ذكر فيه أن “الله يبارك من يبارك إسرائيل ويلعن من يلعن إسرائيل”. ومن هنا، فإن موضوع نقل السفارة لديهم يتعلَّق بأسباب دينية وليست سياسية. ومن هنا يمكن فهم ضغط الكثير منهم على “ترامب” للتعجيل بهذه الخطوة التي وعدهم بها أثناء حملته الانتخابية، ويبرز هنا على وجه الخصوص “جون هاجي” الراعي لمنظمة “مسيحيون متَّحدون من أجل إسرائيل” Christian United for Israel]] التي يبلغ المنتسبون لها ثلاثة ملايين عضو، والتي مارست ضغوطًا على “ترامب” منذ انتخابه لينقل السفارة حتى يثبت التزامه بالقيم الإنجيلية(22).
يأتي تأثير آخر من اللوبي الصهيوني والدور الكبير الذي يلعبه في السياسة الخارجية الأمريكية تجاه الشرق الأوسط. ويعمل هذا اللوبي تحت مظلَّة واسعة تسمَّى “مؤتمر الرؤساء” (the Conference of the Presidents)، ويضمُّ عددًا من الجماعات واللجان الفرعية. وتعتبر لجنة الشؤون العامة الأمريكية-الإسرائيلية (إيباك) هي المحور الأساسي للمنظمة، كما أن قدرتها على التأثير على الأحداث والسياسات في واشنطن من خلال شبكة علاقاتها في الهيئات الحكومية والكونجرس لم يسبق لها مثيل(23). ويكفي هنا ذكر ما صرح به “جون فوستر دالاس” -وزير الخارجية الأمريكي الأسبق- لأحد أصدقائه يوما بأنه “من شبه المستحيل في هذه الدولة أن تضطلع بسياسة خارجية لا يوافق عليها اليهود”(24) للوقوف على حجم النفوذ الذي يتمتَّع به هذا اللوبي. ومن هنا كان حرص المرشحين للرئاسة جميعهم على الحصول على دعم هذه المجموعة. ولم يختلف “ترامب” عمَّن سبقوه، فقد ألقى خطابًا في مارس 2016 أمام “إيباك” -واصفًا نفسه بأنه داعم دائم وصديق حقيقي لإسرائيل- تعهَّد فيه بنقل السفارة الأمريكية إلى “العاصمة الأبدية للشعب اليهودي، القدس”(25).
وتشير تقارير كثيرة إلى أن هذا الخطاب كان السبب في دعم الملياردير اليهودي، “شيلدون أديلسون”، حملة “ترامب” للرئاسة بالملايين من الدولارات. وبعد دخول “ترامب” بالفعل البيت الأبيض، ظلَّ “أديلسون” يذكِّره بضرورة تنفيذ وعده. وهو الأمر الذي أضاف المزيد من الضغوط على الرئيس(26).
ويمكننا بالطبع إضافة تأثير الفريق المحيط بالرئيس وتوجُّهاته المتشدِّدة ودعمه المعروف لإسرائيل، وتبنِّيه في معظمه قرار النقل، فوزير الخارجية السابق ريكس تيلرسون كان يرى أن إسرائيل هي الحليف الأكثر أهمية. أمَّا السفير ديفيد فريدمان فهو من أكثر الشخصيات الأمريكية المساندة لنقل السفارة، وسبق أن صرَّح أن ترامب “سينفِّذ النقل” وأعرب عن أمله في أن ينفِّذ مهمَّته: “من سفارة الولايات المتحدة في عاصمة إسرائيل الأبدية”(27). أما نائب الرئيس مايك بنس فقد حرص أثناء الحملة الانتخابية أن يتوجَّه بالحديث مباشرة إلى الشعب الإسرائيلي ليؤكِّد لهم أن “كفاح إسرائيل هو كفاحنا وقضيتها هي قضيتنا، وقيمها هي قيمنا”، معبرًا عن فخره بأنه يقف إلى جانب إسرائيل(28). ناهيك بالطبع عن دور جاريد كوشنر، صهر الرئيس وكبير مستشاري البيت الأبيض، صاحب التأثير والنفوذ الكبيرين على ترامب، والذي يقال إنه عمل كمدير مشارك لمؤسَّسة في الفترة من 2006 إلى 2015م، قامت بتمويل مستوطنات إسرائيلية في الضفة(29).
إلا أن هذه الاعتبارات وحدها لا تفسر اتِّخاذ ترامب للقرار في هذا التوقيت. فقد توافرت هذه الاعتبارات أيضًا في يونيو 2017، ومع ذلك قرَّرَ ترامب توقيع إعفاء نقل السفارة. ولهذا ينبغي النظر في السياق الداخلي الأكبر الذي ربما عجل باتِّخاذ هذه الخطوة.
بداية، القرار جاء قبل حوالي شهر من إتمام ترامب عامه الأول في الرئاسة والتي شهدت القليل من الإنجازات، خاصَّة على المستوى التشريعي، كما وصلت معدَّلات القبول العام لترامب مستوى متدنِّيًا غير مسبوق. وكلها عوامل قد تكون ساهمت في قراره حول القدس لإنقاذ ما يمكن إنقاذه من شعبيَّته، خاصَّة أن القرار من الناحية السياسية يعتبر سهلا لما يتمتَّع به من دعم من قبل الحزبيْن. كذلك فإن نتائج انتخابات حكَّام كلٍّ من “نيو جيرسي” و”فيرجينيا” في نوفمبر 2017 أثارت القلق داخل الحزب الجمهوري حول حظِّه في انتخابات التجديد النصفي للكونجرس في 2018م(30)، بل وفي فرص ترامب نفسه في إعادة انتخابه في 2020م. وبالتالي فإنَّ القرار قد يكون موجَّهًا للقاعدة الإنجيلية المسيحية للحزب الجمهوري وكذلك تحسين فرص الحزب لدى الناخبين الداعمين لإسرائيل في الولايات المهمَّة التي أصبحت تشهد تنافسًا كبيرًا بين الديمقراطيِّين والجمهوريِّين نظرًا للتغيُّرات الديمُجرافية الحادثة(31).
ولكن القضية التي قد تكون أكثر تأثيرًا من الناحية الداخلية على قرار ترامب هي العلاقة مع روسيا؛ حيث تدور الشكوك حول تواطؤ ترامب وأعضاء من حملته مع الحكومة الروسية للتأثير على الانتخابات الرئاسية الأمريكية، ولاحقًا العمل على عرقلة العدالة من قبل ترامب ومساعديه(32). وهي الشكوك التي نالت رئاسته منذ البداية، والتي تخضع الآن للتحقيق من قبل المستشار الخاص روبرت موللر. وما يهم هنا هو تطوُّران مهمَّان حدثا في الأسبوع السابق لإعلان ترامب نقل السفارة، يتعلَّق التطوُّر الأول بطلب موللر من أحد البنوك الألمانية الاطِّلاع على سجلَّات ماليَّة تخصُّ الرئيس الأمريكي. أمَّا التطوُّر الثاني فهو خاص بإقرار مايكل فيلين -مستشار ترامب السابق للأمن القومي- بالذنب فيما يتعلَّق باتِّهامات جنائية وجَّهها له موللر(33). وبهذا يصبح الشخص الثاني في فريق ترامب الذي يعترف بالذنب.
ولذلك يرى الكثير من المحلِّلين أن قرار ترامب تنطبق عليه كل سمات القرارات التي تتَّخذ لتحويل الانتباه عن القضية الأكثر أهمية(34)، والتي هي في هذه الحالة “الاتصالات مع روسيا”. كذلك قد تكون مغازلة للُّوبي اليهودي، صاحب التأثير النافذ في الكونجرس، لدعمه في مواجهة خصومه الذين يسعون لإدانته تمهيدًا للإطاحة به(35). وقد سهَّل من مهمَّة ترامب هذه السياقُ الإقليمي للمنطقة وعملية إعادة تشكيل التحالفات الجارية حاليًّا.

رابعًا- المحددات الإقليمية

يتَّضح من العرض التاريخي لتطوُّر السياسة الخارجية الأمريكية تجاه القدس أن الموقف الأمريكي غالبًا ما اتَّخذ خطوات أقرب للموقف الإسرائيلي كلما ازدادت حالة الانقسام العربي ودخلت المنطقة عملية إعادة تشكيل. ويزداد هذا وضوحًا في القرار الأخير الخاصِّ بنقل السفارة. فمع ثورات “الربيع العربي” تراجع الاهتمام بالقضية الفلسطينية لصالح القضايا والتحديات والاضطرابات الداخلية والحروب الأهلية التي شهدتها دول المنطقة من ناحية(36)، أو بالتوازن الإقليمي من ناحية أخرى(37). ويضاف لذلك بالطبع استمرار حالة الانقسام الفلسطيني ومن ثمَّ غياب رؤية موحَّدة للفلسطينيِّين يتوجَّهون بها للمجتمع الدولي(38). باختصار، فإن العالم العربي الآن أكثر انقسامًا وضعفًا وتشتُّتًا، وهي حالة مغرية للانقضاض على ما تبقى له من حقوق.
ووفقًا لما يُتداول من معلومات حتى الآن، يبدو أن عملية إعادة تشكيل المنطقة يتمُّ تسويقها تحت مُسَمَّى “صفقة القرن”، والتي بدأت خيوطها تتكشَّف شيئًا فشيئًا من خلال تسريب بعض تفاصيلها لوسائل الإعلام، حيث إن الإعلان الرسمي عنها لم يتم بعد. وظهر مصطلح “صفقة القرن” مع تولِّي ترامب الرئاسة وتكليفه لصهره ومستشاره الخاص -جاريد كوشنر- برئاسة فريقه لعملية السلام(39). وتتلخَّص الصفقة في بُعدين أساسيَّيْن: تصفية القضية الفلسطينية فعليًّا، وتشكيل حلف إقليمي ضدَّ إيران في المنطقة بمشاركة إسرائيل(40).
ووفقًا لما تمَّ كشفه، فإن الصفقة تتضمَّن البنود التالية:
أولا- إقامة دولة فلسطينية تشمل حدودها قطاع غزة والمناطق (أ) و(ب) وأجزاء من المنطقة (ج) في الضفَّة الغربية.
ثانيًا- توفِّر الدول المانحة 10 مليارات دولار لإقامة الدولة وبنيتها التحتية تتضمَّن مطارًا وميناءً بحريًّا في غزة ومشروعات إسكان وزراعة وإننشاء مناطق صناعية ومدن جديدة.
ثالثًا- تأجيل وضع القدس وقضية عودة اللاجئين لمفاوضات لاحقة.
رابعًا- مفاوضات سلام إقليمية بين إسرائيل والدول العربية، بقيادة المملكة العربية السعودية(41).
وقد وضح التقارب بين الموقف الأمريكي والسعودي منذ القمَّة الإسلامية-الأمريكية التي عُقدت في الرياض في مايو 2017، وتمَّ ترجمة هذا التقارب من خلال مجموعة غير مسبوقة من الصفقات الاقتصادية الضخمة بين البلدين، إضافة إلى الاستقبال التاريخي للرئيس الأمريكي وأسرته(42). وكشفت التطورات اللاحقة عن الصفقات السياسية التي فيما يبدو تمَّ الاتِّفاق عليها بين الجانبين ذات الصلة بتوارث العرش في المملكة، ومصير القضية الفلسطينية.
كان واضحًا طموح محمد بن سلمان في تولِّي الحكم منذ تولِّي الملك سلمان العرش. فقد اتَّخذت قرارات تدريجية للتقريب بينه وبين الحكم. وهي الخطوات التي توالَت بعد لقاء “ترامب” وإغداق أموال الصفقات عليه، وتكلَّلَتْ بتصعيد محمد بن سلمان لولاية العهد في يونيو 2017. فقد رأى حكَّام المملكة حاجتهم للدَّعم الأمريكي لاستتْباب عملية نقل الحكم، وكان المدخل لهذا الدعم هو المال من جهة، والتقرُّب لإسرائيل من جهة أخرى. وهي الصفقة التي ذكرها مايكل وولف في كتابه “النار والغضب” والتي -وفقًا للكاتب- أبلغ ترامب أصدقاءه بها وكيف أنه هو وجاريد كوشنر قاما بهندسة انقلاب سعودي قائلا: “لقد وضعنا الرجل الذي يخصُّنا على القمَّة”(43).
العامل الآخر الحاسم في موقف المملكة من الترتيبات الإقليمية هو انخراطها في صراعات متعدِّدة مع إيران في اليمن ولبنان وسوريا والعراق. ولذلك رأت المملكة أن السبيل الوحيد لمواجهة التهديد الإيراني هو التحالف مع إسرائيل، فالأخيرة هي الوحيدة القادرة على التصدِّي لإيران. وبالطبع لا يمكن أن يتشكَّل هذا التحالف إلا بعد التوصُّل إلى اتفاق سلام بين الفلسطينيِّين والإسرائيليِّين أولا. ويبدو أن محمد بن سلمان -ولي ولي العهد السعودي ووزير الدفاع آنذاك- كان داعمًا شخصيًّا لهذه الخطة وأخذ يعمل على تنفيذها. وجاءت أولى خطوات التنفيذ في اتفاقية ترسيم الحدود البحرية بين السعودية ومصر والتي أسفرت عن تنازل مصر عن جزيرتي تيران وصنافير للسعودية، لتصبح للمملكة حدودٌ بحرية مشتركة مع إسرائيل، ومن ثم يكون من حقِّها الدخول في مفاوضات مباشرة في أيِّ صفقة سلام ستشهدها المنطقة في المستقبل(44).
طرف آخر في التحالف الجاري تشكيله، هي مصر، والتي في ظلِّ الظروف التي تولَّى فيها عبد الفتاح السيسي الرئاسة، كان هناك سعيٌ دائم للحصول على الدعم الخارجي لتعزيز شرعية نظام 30 يونيو 2013. ولعبت الظروف التي تمرُّ بها المنطقة وظهور “داعش” دورهما في تعزيز وضع الرئيس المصري وتسويق نظامه على أنه الوكيل الإقليمي في محاربة “الإرهاب”. وبهذا تلاقت المصالح بينه وبين ترامب من جهة، وبينه وبين إسرائيل من جهة أخرى، ووصل التنسيق الأمني والعسكري بين الطرفين في سيناء لدرجات غير مسبوقة، لدرجة أن إسرائيل كانت تمارس نفوذها على الولايات المتحدة والدول الغربية الأخرى لدعم النظام المصري(45).
تنضمُّ إلى هذا التحالف أيضًا الإمارات العربية المتحدة، والتي مارست دورًا محوريًّا في إجهاض ثورات الربيع العربي بسبب توجُّسها وعدائها الشديد للإسلاميِّين، ورؤيتها لأيِّ صعود إسلامي على أنه تهديد وجودي لنظام الحكم(46). جعل هذا الموقف أبو ظبي أقرب إلى النظام المصري ولذلك دعمت بشدَّة نظام ما بعد 30 يونيو، إن لم تكن قد ساهمت بالفعل في تمهيد الطريق له. وأخذت الإمارات في التدخُّل في كلِّ دولة يحتمل أن يلعب فيها الإسلاميون دورًا في الحياة السياسية، وهنا يكمن مفتاح فهم تدخُّلها في مصر وليبيا وسوريا واليمن والعراق وسوريا، ونوعية الأطراف المحلية التي تساندها في كلِّ حالة. يتناقض هذا التوجُّه بشدَّة مع ذلك الخاص بقطر، حيث راهنت الأخيرة على الصعود الإسلامي لتمكين نفوذها في المنطقة، وهذا لب الأزمة الخليجية الراهنة(47).
وهكذا يمكن فهم قرار ترامب من منظور رهانه على حالة الانقسام العربي من ناحية، ومن ناحية أخرى، افتراض أن المواجهة بين إيران والمملكة العربية السعودية سوف تكون عاملا مساعدًا لإنهاء الصراع الفلسطيني-الإسرائيلي، من خلال قبول الدول العربية المنخرطة في منافسة مع إيران بالوضع الجديد للقدس في مقابل مساعدة واشنطن في مواجهة وإضعاف إيران(48)، وأنه -وفقًا لافتراضات الإدارة الأمريكية- على الرغم من الاعتراضات الصادرة من الدول العربية، إلا أن الحلفاء الرئيسيِّين الممثَّلين في المملكة ومصر والإمارات ستكون اعتراضاتهم فقط للاستهلاك المحلي، وسرعان ما ستخفُّ حدَّتها لاعتماد حكَّام هذه الدول شخصيًّا على ترامب لمواجهة قضايا أكثر إلحاحًا بالنسبة لهم كإيران ومحاربة الإسلاميِّين بشكل عام(49).
وبناء على ذلك، يمكن فهم التقارير التي صدرت والخاصَّة بضغوط كل من السعودية ومصر على كل من ملك الأردن والرئيس الفلسطيني لكيلا يحضرا مؤتمر القمَّة الإسلامي الذي دعت إليه تركيا لمناقشة قضية القدس، وذلك حتى تقلَّ أهميَّة المؤتمر بدرجة كبيرة. وكذلك فهم الضغط السعودي على القيادة الفلسطينية للقبول باتِّفاق سلام، والذي في جوهره اتفاق بشروط إسرائيلية، تكون فيه ضاحية أبو ديس المجاورة لمدينة القدس المحتلة عاصمة “لدولة” الفلسطينية بدلا من القدس الشرقية(50). فوفقًا لمصادر “نيويورك تايمز”، وضع محمد بن سلمان عباس بين خيارين: إمَّا قبول شروط الاتِّفاق وعلى رأسها التنازل عن القدس وحق العودة، أو أن يتنحَّى ويفسح الطريق أمام من سيقوم بذلك(51).
وهكذا جاء كل من السياق الداخلي الأمريكي والإقليمي العربي مواتيًا لقرار ترامب الخاص بالقدس، وإذا ما أضفنا لذلك الطبيعة النرجسية لشخصية مثل ترامب وخلفيَّته كرجل أعمال، تزداد الصورة وضوحًا. فالرجل دائمًا ما يصوِّر نفسه وكل ما يخصُّه بأنه غير مسبوق، وبالتالي هناك رغبة قوية لديه في تحقيق مجدٍ شخصي من خلال خطوة لم يسبقه إليها أحد، وتصوير نفسه بمظهر الرئيس الجادِّ صاحب المصداقية. كما أن الرجل معتاد على عقد “الصفقات” والتي تتَّخذ في عالم الأعمال شكل ضغوطات كبيرة من طرف قوي على طرف آخر للفوز بأفضل الشروط. وهو تحديدًا ما سعى إليه ترامب من خلال عزل الفلسطينيِّين عن بيئتهم الإقليمية التقليدية ممَّا يضعف موقفهم التفاوضي، وكذلك تضييق الخناق عليهم من خلال إغلاق مكتب “منظمة التحرير” في واشنطن، والتهديد بحجب الدعم -أو بالفعل حجبه- عن وكالة “غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيِّين (أونروا)”(52). وبالتالي، وهذا هو رهان إدارة ترامب، حتى لو ابتعد الفلسطينيون عن طاولة المفاوضات فترة، إلا أنهم سيضطرون للعودة إليها مرة أخرى بالنظر إلى المعطيات الجديدة(53).

خاتمة

يمكن القول، بناء على التحليل السابق؛ إن قرار ترامب الخاص بنقل السفارة الأمريكية إلى القدس إذا ما نُظر إليه من منظور اللعبة المزدوجة، ليس بالضرورة قرارًا غير عقلاني كما فهمه البعض. فمن وجهة نظر رجل الأعمال -لا السياسي- الذي أضحى رئيسًا، تفوق حسابات المكسب تلك المتعلِّقة بالخسارة في هذه اللعبة المزدوجة. فعلى المستوى الداخلي، القرار لم يَلْقَ معارضة قوية، حيث إن التحيُّز لصالح إسرائيل هو قضية مفروغ منها لدى الحزبين “الجمهوري” و”الديمقراطي”. بل على العكس، يعزِّز القرار من شعبية ترامب لدى القطاعات الانتخابية التي اعتمد -وسيعتمد- عليها في الانتخابات. كما أنه يحوِّل الانتباه عمَّا يتَّصل باتصالات حملته مع روسيا، على الأقل لبعض الوقت.
خارجيًّا، ضَمِنَ ترامب محدودية ردِّ الفعل لدى الدول المحورية في المنطقة (السعودية ومصر) نظرًا لطبيعة “الصفقات” التي توصَّل إليها ترامب معهما كل على حسب أولويَّاته. وإلى حدٍّ ما كانت ردود الفعل أقل من المتوقَّع بشكل كبير، وهو ما ألمحت إليه نيكي هالي -سفيرة الولايات المتحدة لدى “الأمم المتحدة”– بعد يومين من القرار بقولها “السماء لا تزال موجودة… السماء لم تسقط”(54). حتى ما قد يقال عن استفزاز مشاعر المسلمين وتوليد مشاعر الكراهية تجاه الولايات المتحدة لا يعتبر خسارة كبيرة. حيث تدرك الإدارة الأمريكية جيِّدًا وجود هذه المشاعر بالفعل وكيف يُنظر إليها كطرف منحازٍ دائمًا للجانب الإسرائيلي. ومن ثم فإن مثل هذا القرار لا يخلق صورة غير موجودة أو مشاعر مختلفة، هو فقط يعزِّز منهما. بل إنه في حالة ما إذا كان ترامب على دراية بصعوبة -إن لم يكن استحالة- استكمال الصفقة المقترحة، فإن قراره بنقل السفارة سيعطيه الفرصة لإلصاق الفشل بطرف آخر وهم الفلسطينيون(55) على اعتبار أنهم هم الطرف الذي يرفض التفاوض. وهو السيناريو الذي سبق وحدث مع ياسر عرفات من قبل.
أمَّا ما يتعلَّق بتسبُّب القرار في عزلة الولايات المتحدة دوليًّا والذي كان أبرز تجلِّياته تصويت الجمعية العامة بأغلبية ساحقة على رفض القرار في 21 ديسمبر 2017، يمكن القول إن واشنطن بالفعل في عزلة عن حلفائها التقليديِّين منذ دخول ترامب البيت الأبيض وذلك نتيجة لنمط السياسة التي ينتهجها القائمة على الإثارة واللعب على الخطوط التي تمايز بين الأفراد والمجتعات والدول، حتى تظلَّ القاعدة التي تدعمه في حالة تخوُّف من “الآخر” وأكثر اعتمادًا عليه في منع “الهمج” من تهديدهم(56).
كما أن التشديد على مبدأ “الولايات المتحدة أولا” قد أثار حلفاء واشنطن في أوروبا، خاصَّة في ظل تنصُّل ترامب من بعض الاتفاقيات الدولية وعلى رأسها اتفاقية “باريس للمناخ” التي أوْلَتْها أوروبا اهتمامًا خاصًّا، وإفصاحه في أكثر من مناسبة عن تذمُّره من الكلفة المالية التي تتحمَّلها الولايات المتحدة داخل حلف “الناتو”. ويمكن القول بشكل عام إن الولايات المتحدة في عهد ترامب انتقلت -فيما يبدو عن عمد- من “قوَّة النموذج” إلى “نموذج القوَّة المتغطرسة”. ولعلَّ الأسلوب الذي خاطبت به ممثِّلة الولايات المتحدة في “الأمم المتحدة” نيكي هالي ممثِّلي الدول الأخرى قبل وبعد التصويت على القرار المتعلِّق بالقدس هو أكبر تجسيد على هذا النموذج المتغطرس الذي انكشف القناع عنه تمامًا تحت إدارة ترامب(57).
على كلِّ الأحوال، لا ينبغي التعامل مع قرار ترامب على أنه صادم أو مفاجأة، حيث يكشف تاريخ السياسة الأمريكية تجاه القضية الفلسطينية بشكل عام، والقدس بشكل خاص، عن أن واشنطن لم تكن يومًا جادَّةً أوصادقة أو وسيطًا نزيهًا في المبادرات التي سبق وقدَّمَتْها لحلِّ القضية الفلسطينية. ويتبيَّن الآن أن مثل هذه المبادرات هدفت إلى إدارة الصراع وليس حله، ووفَّرت المزيد من الوقت لصالح إسرائيل لفرض حقائق على أرض الواقع يجبر العرب والفلسطينيون على قبولها فيما بعد. ولذلك، فإن السؤال الأصح لا يتعلق بمدى عقلانية قرار ترامب، ولكن مدى عقلانية أن يظلَّ العرب يراهنون على الدور الأمريكي؟!
*****

الهوامش:

(*) مدرس بكلية الاقتصاد والعلوم السياسية، جامعة القاهرة.
(1) نص القانون على ضرورة نقل السفارة الأمريكية إلى القدس في سقف زمني لا يتجاوز 31 مايو 1999. إلا أن القانون تضمن بندًا يسمح للرئيس الأمريكي بتوقيع إعفاء لمدة ستة أشهر إذا ارتأى في ذلك ضرورة لحماية المصالح الأمنية القومية الأمريكية. ومنذ ذلك الوقت والإدارات الأمريكية المتعاقبة توقع الإعفاء تلقائيًّا كل ستة أشهر على الرغم من أن معظمهم كان قد وعد في حملاته الانتخابية بتنفيذ نقل السفارة.
(2) ملك الأردن يحذر ترامب من خطورة نقل السفارة للقدس، موقع قناة العالم الإيرانية، 5 ديسمبر 2017، متاح عبر الرابط التالي: https://goo.gl/mLNPrc
(3) أردوغان يحذر ترامب: القدس خط أحمر، موقعBBC عربي، 5 ديسمبر 2017، متاح عبر الرابط التالي: https://goo.gl/bxUxe9
(4) المرجع السابق.
(5) Ellen Mitchell, “Mattis, Tillerson warned Trump of security concerns in Israel embassy move”, 6 December 2017, http://bit.ly/2JJJwqt
(6) Donald Neff, Jerusalem in U.S. Policy, Journal of Palestinian Studies, Vol. 23, No. 1, (Autumn, 1993), pp. 20 – 45.
(7) على سبيل المثال اعترضت الخارجية الأمريكية بقيادة دالاس في 1953م على قرار إسرائيل بنقل مقر وزارة الخارجية من تل أبيب إلى القدس وامتناعها فيما بعد عن الاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل. ومع ذلك، لم تمارس واشنطن أية ضغوط قوية على الكيان الصهيوني ولا على الدول التي اعترفت بالقدس عاصمة لإسرائيل، انظر المرجع السابق.
(8) فاروق الشناق، سياسة الولايات المتحدة تجاه القدس في ميزان الشرعية الدولية: قرارات الأمم المتحدة، مؤتمر القدس الدولي، (الدوحة: اللجنة الملكية لشؤون القدس – الأمانة العامة)، ص ص 1 – 85.
(9) Donald Neff, op. cit.
(10) Ibid.
(11) فاروق الشناق، مرجع سابق.
(12) مثال آخر على تأثير السياسة الداخلية على قرارات كارتر الخارجية جاء في 1980م عندما صوَّتت الولايات المتحدة في مجلس الأمن على القرار (465) والذي يعتبر المستوطنات الإسرائيلية غير قانونية بما فيها القدس ومطالبة إسرائيل بالتوقُّف عن بناء مستوطنات جديدة وتفكُّك تلك الموجودة؛ جاء رد فعل اليهود وإسرائيل قويًّا بشكل أدركت من خلاله حملة كارتر أن هذا التصويت سيضرُّ بفرصه في الانتخابات، ومن هنا كانت المسارعة بإعلان كارتر في الثالث من مارس أن التصويت كان غلطة ناتجة عن خطأ في الاتصالات بين البيت الأبيض والأمم المتحدة، للمزيد انظر:
– Donald Neff, op. cit.
(13) Ibid.
(14) فاروق الشناق، مرجع سابق.
(15) المرجع السابق.
(16) المرجع السابق.
(17) المرجع السابق.
(18) ما هو حل الدولتين وما هي البدائل التي قد تحل مكانه؟، موقع فرانس 24، 15 فبراير 2017، متاح عبر الرابط التالي: https://goo.gl/4SLXu6
(19) نص اعتراف ترامب بالقدس عاصمة لإسرائيل (وثيقة)، موقع وكالة الأناضول، 7 ديسمبر 2017 متاح عبر الرابط التالي: https://goo.gl/vKdpNu
(20) Nicos Panayiotides, The history and politics behind Trump’s Jerusalem decision, Asia Times, 12 January 2018, https://goo.gl/DDAeuu
(21) Rebecca Shimoni Stoil, How the GOP became a ‘Pro-Israel’ party, FiveThirtyEight, 8 December 2017, https://goo.gl/qVvjt8
(22) Ibid.
(23) John Newhouse, “Diplomacy, Inc. The Influence of Lobbies on U.S. Foreign Policy”, Foreign Affairs, Issue: May-June 2009, pp. 73 – 92, https://fam.ag/2NzCXsY
(24) Cited in: Donald Neff, op. cit.
(25) Sarah Begley, Read Donald Trump’s Speech to AIPAC, TIME, 21 March 2016, https://goo.gl/JTURi1
(26) المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، قرار ترامب إعلان القدس عاصمة لإسرائيل، موقع العربي الجديد، 12 ديسمبر 2017، متاح عبر الرابط التالي: https://goo.gl/Svw67n
(27) ميرفت عوف، «وعد ترامب».. ما الذي يعنيه نقل السفارة الأمريكية في إسرائيل من تل أبيب إلى القدس؟، موقع ساسة بوست، 23 يناير 2017، متاح عبر الرابط التالي: https://goo.gl/CaQkHi
(28) لمشاهدة مقطع فيديو للرسالة انظر:
Mike Pence’s message to Israel, YouTube, 27 December 2016, https://goo.gl/rMci3N
(29) أحمد حسن، كوشنر أخفى دعمه لمنظمة موَّلت المستوطنات غير الشرعية بالضفة، موقع عربي 21، 4 ديسمبر 2017 متاح عبر الرابط التالي: https://goo.gl/bkm99K
(30) John McCormick, Republican Governors Seek to Avoid 2018 Election Damage From Trump, Bloomberg, 16 November 2017, https://bloom.bg/2LtTtNH
(31) أسامة خليل، فرض السلام: ترامب والفلسطينيون، موقع الشبكة، 18 ديسمبر 2017، متاح عبر الرابط التالي: http://bit.ly/2myBF63
(32) للمزيد حول هذا الموضوع، انظر:
– Andrew Prokop, All of Robert Mueller’s indictments and plea deals in the Russia investigation so far, VOX, 20 February 2018, https://goo.gl/NsFfD3
– Michael Crowley, All of Trump’s Russia Ties, in 7 Charts, Politico Magazine, March- April 2017, https://goo.gl/uZbyXc
(33) Alex Ward, “Mueller appears to be looking deep into Trump’s finances”, VOX, 5 December 2017, https://goo.gl/ceMJn4
(34) من أهمِّ ما يميِّز مثل هذه القرارات: أولا- أنها تأتي في وقت يواجه فيه الرئيس مشكلات سياسية، ثانيًا- يتعلَّق القرار بشأن خارجي لما لدى الرئيس من حرية أكثر للتصرُّف في الشؤون الخارجية، وأخيرًا- أنها تنطوي على منافع سياسية عظيمة. انظر إلى:
– David A. Graham, Wag the Embassy, The Atlantic, 6 December 2017, https://goo.gl/srAEHr
(35) سعيد عكاشة، نقل السفارة الأمريكية إلى القدس… حرق مراحل وسيناريوهات محتملة، موقع مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية، 5 ديسمبر 2017، متاح عبر الرابط التالي: https://goo.gl/GQuePa
(36) ميرفت عوف، مرجع سابق.
(37) سلوى الزغبي، 3 أسباب دفعت ترامب لنقل السفارة الأمريكية إلى القدس بعد تأجيل 22 عامًا، موقع صحيفة الوطن، 6 ديسمبر 2017، متاح عبر الرابط التالي: https://goo.gl/3tC132
(38) مركز الزيتونة للدراسات والاستشارات، التقدير الاستراتيجي (93)، آفاق السياسة الأمريكية تجاه فلسطين في عهد ترامب: 2017 – 2021، موقع مركز الزيتونة للدراسات والاستشارات، 14 نوفمبر 2016، متاح عبر الرابط التالي: http://bit.ly/2uTpG76
(39) يضم هذا الفريق عددًا محدودًا من الأعضاء من بينهم جيسون جرينبلات -المبعوث الأمريكي لعملية السلام في الشرق الأوسط- وهو يهودي أرثوذكسي عمل بالمحاماة في مجال العقارات ومقرب من ترامب منذ فترة طويلة. للمزيد انظر: أمين محمد، صفقة القرن.. هكذا يرى ترامب حل القضية الفلسطينية، 4 فبراير 2018، متاح عبر الرابط التالي: http://bit.ly/2LgSTna
(40) المرجع السابق.
(41) المرجع السابق.
(42) عماد عنان، القمة الإسلامية الأمريكية في الرياض: اللقاء من طرف واحد، موقع نون بوست، 21 مايو 2017، متاح عبر الرابط التالي: http://bit.ly/2A0FM4l
)[43] (Michael Wolff, Fire and Fury: Inside the Trump White House, (London: Little, Brown, 2018).
(44) عبد الرحمن يوسف، تيران وصنافير مفتاح صفقة القرن، موقع المعهد المصري للدراسات، نقلا عن موقع المونيتور، 1 يونيو 2017، متاح عبر الرابط التالي: https://goo.gl/4iNUzo
(45) قسم الأرشيف والمعلومات بمركز الزيتونة للدراسات والاستشارات، ملف معلومات (21): الموقف الإسرائيلي من الأحداث والتغيرات في مصر في عام.. منتصف يونيو 2013 – منتصف يوليو 2014، (بيروت: مركز الزيتونة للدراسات والاستشارات، 2014)، ص 60، متاح عبر الرابط التالي: http://bit.ly/2uTDvT2
(46) فريق العمل بموقع ساسة بوست، كيف أجهضت الإمارات الربيع العربي؟، موقع ساسة بوست، 12 مارس 2015، متاح عبر الرابط التالي: https://goo.gl/4Xsmps
)[47]( Giorgio Cafiero, Doha And Abu Dhabi’s Incompatible Visions For The Arab World, Lobe Log, 8 December 2017, https://goo.gl/zNV3hd
(48) For more, See:
– Nicos Panayiotides, The history and politics behind Trump’s Jerusalem decision, op. cit.
)[49]( Shibley Telhami, “Why is Trump undoing decades of U.S. policy on Jerusalem?”, Brookings, 5 December 2017, https://goo.gl/Xycvoh
(50) بلال ياسين، صحيفة: ابن سلمان عرض على عباس أبو ديس بدلا من القدس، موقع عربي 21، 4 ديسمبر 2017، متاح عبر الرابط التالي: https://goo.gl/vnmVHL
(51) David Hearst, The axis of Arab autocrats who are standing behind Donald Trump, Middle East Eye, 6 December 2017, http://bit.ly/2mzUgyJ
(52) جيمس راينل، ما الأسباب التي تدفع ترامب لنقل سفارة الكيان الإسرائيلي إلى القدس؟، موقع نون بوست، 6 ديسمبر 2017، متاح عبر الرابط التالي: http://bit.ly/2O9jd0l
(53) المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، قرار ترامب إعلان القدس عاصمة لإسرائيل، مرجع سابق.
(54) Alan Yuhas, US seeks to quell global outrage over Jerusalem: ‘The sky hasn’t fallen’, The Guardian, 10 December 2017, http://bit.ly/2Oa3IWb
(55) Shibley Telhami, op. cit.
(56) Ishaan Tharoor, “For Trump, Jerusalem is an extension of a global culture war”, The Washington Post, 7 December 2017, https://goo.gl/j2hQ9N
(57) Nicole Gaouette, Richard Roth and Michelle Kosinski, Haley’s vow to ‘take names’ upsets diplomatic norms at UN, CNN, 21 December 2017, https://cnn.it/2LymHuW

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى