طوفان الأقصى والحرب على فلسطين بعد 45 يومًا: تقدير موقف

بعد ستة أسابيع من بدء طوفان الأقصى، وثلاثة منها في حرب برية إسرائيلية في قطاع غزة، تتجلى كثير من ملامح المشهد على أصعدة: العدو، المقاومة، السياق الإقليمي والعالمي، مما يمكن إجماله في الآتي:

أ- العدو

  • من الواضح أن العدو لا يملك خطة حقيقية واضحة، تربط بين السياسي والعسكري، وبين الأزمة الداخلية والضغوط الخارجية. وخطة العدو العسكرية أيضًا لا تتحرك بشكل فعّال ولم تحقق على الأرض ما يمكن وصفه بأهداف فعّالة؛ لا في تكبيد المقاومة خسائر فادحة واضحة، ولا في تحديد مهام ذات دلالة لقواتها التي أخذت مواقع داخل شمال غزة. الفعل الأساسي الثابت للعدو هو قصف المدنيين وارتكاب مجازر يومية يذهب ضحيتها الأطفال والنساء بصفة أساسية، وتتدمر معها البنية التحتية والمعيشية في القطاع.
  • خطاب العدو –على لسان ثلاثي القيادة والمتحدثين عن الجيش ومكتب نتيناهو– لا يزال يرواح مكانه، ويمارس الحرب النفسية بإطلاق الأهداف العالية المبالغ فيها، وإظهار عدم المبالاة بـ: التطورات على الأرض في غزة، وفي الداخل الإسرائيلي (إلا نسبيًّا فيما يتعلق بملف الأسرى والمتحجزين)، فضلاً عن تحولات الرأي العام والمواقف الدولية ضدها باطراد متصاعد (إلا قليلاً أيضًا في التعامل مع الموقف الأمريكي وضغوطه الضعيفة، وتحرك الموقف الفرنسي قليلا، والموقف التركي، وأخيرًا موقف السلطة الفلسطينية، ولكن كل ذلك وقتيًا وبشكل متقطع).
  • إظهار عدم المبالاة بالآثار السياسية لعمليات (القصف الشامل الدامي) على القطاع؛ قد يعني أن الخطة العسكرية (غير المتماسكة) هي التي تقود الإدارة السياسية للأزمة من جهة العدو. ويرتبط بذلك تزايد الضغوط الاقتصادية على دولة العدو ومجتمعه، واستمرار تقييد مستوطنيه ومواطنيه في الشمال والجنوب جراء الصراع. وحتى الآن يُظهر العدو لامبالاة (مضطربة) أمام انكشاف صورته الشائهة عالميًّا.
  • ما وصل إليه العدو حتى الآن هو: محاصرة الثلث الشمالي للقطاع بألوية مدرعة من الشمال والغرب وجنوب مدينة غزة، وفصله عن الجزءين الأوسط والجنوبي. + إجبار نسبة كبيرة من سكان شمال القطاع ومدينة غزة على التهجير أو النزوح القسري إلى الوسط والجنوب. + هدم البنية الأساسية في الجزء الشمالي الذي يحاصره (وخاصة المستشفيات التي قطع معها شوطًا طويلاً باسم حرب المستشفيات) + التمشيط المستمر لأنحاء من الجزء الشمالي الذي يحاصره لاكتشاف أنفاق ومقرات تابعة لفصائل المقاومة وتدميرها (وليس واضحًا كيف يتعامل مع فتحات الأنفاق المكتشفة). ويدعي العدو أنه قتل الآلاف –ثم يقول المئات- من جنود المقاومة، وقتل العديد من القيادات، دون أن يوضح عددهم، ولا أيًا من بياناتهم أو كيفية قتلهم (مع شدة احتياجه إلى استعراض ذلك ليبين لجبهته الداخلية وحلفائه تقدمه ونجاحه في تحقيق أية أهداف)؛ ما يشكك في تحقيقه نجاحات فعلية أو مؤثرة في هذا الصدد.
  • أما على المستوى الإنساني، فقد صنع العدو كارثة ومأساة إنسانية كبرى في القطاع، وشدد الحصار المعيشي، وقتل الآلاف وأصاب عشرات الآلاف؛ ما يعسر فهمه عسكريًا وسياسيًّا، وبدا في البداية أنه لا يعدو أن يكون انتقامًا أعمى وإرواء للغليل، وردّ فعل على صدمة وجودية حيث تصور العدو أنه كان على وشك الانهيار والزوال. ولكن مع الوقت فهم بعض ذلك على أن عدة ممارسات: نوع من تفريغ الأرض من السكان والمباني من أجل إدارة معركة أسهل، ونوع من القتال عبر استدعاء المشاة والمدرعات للضربات الجوية لعدم قدرتهم على الاشتباك مع مقاتلي المقاومة، وأخيرا نوع من تفعيل مخطط التهجير (سواء الداخلي من الشمال للجنوب أو إلى خارج القطاع).
  • على المستوى السياسي، يعاني العدو أزمتين متداخلتين: أزمة في الداخل تتألف من (الانقسام حول الثقة في الحكومة ورئيسها – عدم التكامل بين عناصر الحكومة – ملف الأسرى والمتحجزين وضغوط أهاليهم – التحليلات المتضاربة حول الحرب – الضغوط الاقتصادية المتزايدة – ظهور أصوات تدعو لوقف الحرب – عدم تحديد مستقبل الصراع وخطة استعادة الردع والأمان الاستراتيجي)… وأزمة خارجية تتألف من (تكشف الصورة البشعة للاحتلال – تصاعد رأي عام عالمي ضد الاحتلال ومع تحرير فلسطين – مطالب رسمية وغير رسمية كثيرة لوقف العدوان على غزة – قطع بعض الدول علاقاتها الدبلوماسية مع الكيان – تراجع نسبي للتأييد والتفويض المطلق من شركاء إسرئيل خاصة الولايات المتحدة وفرنسا –ارتفاع صوت الشباب العربي والمسلم بالعداوة المباشرة لإسرائيل والالتصاق بالمقاومة /حماس- انفتاح جبهة محور مقاومة ضد إسرائيل في جنوب لبنان، والعراق وسوريا ثم اليمن، تعثر واحتقان العلاقة مع السلطة الفلسطينية، ضغوط إقليمية لإدخال المساعدات، تعثر ملف المحتجزين من ذوي الجنسيات الأخرى…).

وبناء عليه؛ فإننا أمام عدو:

  1. ينتقم انتقامًا أعمى من أهل غزة والمقاومة، ويصر على استمرار القصف الوحشي الشامل.
  2. لا يملك خطة عسكرية فعّالة، واضحة الأهداف أو المسارات أو المراحل.
  3. يكذب على نفسه وشعبه بخصوص خطته وإدارته للصراع، ومجرياته، ووعوده المستقبلية.
  4. يكابر في التعامل مع أزمته السياسية الداخلية والخارجية، ومشكلته الاقتصادية، وإدارته الحكومية.
  5. يكابر في التعامل مع الأزمة الإنسانية والموقف العالمي منها، المضادّ له والمطالب له بالتوقف.
  6. يكابر في التعامل مع عنصر “الوقت” وكأنه لا يبالي به؛ لتأكيد ادعائه الاستعداد لحرب طويلة.

ب- المقاومة والصمود:

  • تدير المقاومة معركة عسكرية جيدة نسبيا في الظاهر وفق بياناتها ذات المصداقية ووفق معطيات الأرض، وتكبّد العدو خسائر يومية (ركزت في البداية على المعدّات والآليات ثم بدأت من الأسبوع الثالث للحرب البرية تُظهر الخسائر البشرية التي يعلن العدو عنها بحدود دنيا)، وتدير المقاومة معركة ثبات وصمود وصبر (غالبا لإدارة حرب مقاومة قد تكون طويلة زمنيًا)، ومعركة استنزاف يومي تهدف من ذلك إلى جعل وجود العدو في غزة مكلفًا، وحتى تجبره على التراجع والانسحاب، أو تغيير أهدافه.
  • وقد ظهرت قوات القسام شبه منفردة بساحة المقاومة منذ بدء الحرب البرية، حتى تصاعد في الأسبوع الثالث حضور فصائل المقاومة الأخرى (وخاصة سرايا القدس) في المشهد بوضوح (يوم الاثنين 20/11 يمكن القول إنه كان لسرايا القدس بصفة أساسية واضحة؛ في إدارة العمليات والإعلان عنها). ولا تعلن المقاومة عن خسائرها سواء البشرية أو المادية. وتستمر المقاومة –القسام والسرايا بالأساس- في إرسال رشقاتها الصاروخية على مناطق مختلفة من الأرض المحتلة في الشمال والوسط والجنوب، وفي الأسبوع الثالث من الحرب البرية حظي غلاف غزة بالنصيب الأكبر من هذه الرشقات.
  • ويسند محور المقاومة خارج فلسطين المقاومة الفلسطينية في غزة؛ عبر جبهات: جنوب لبنان الذي يديره حزب الله بتصعيدات محسوبة تقوم على قاعدة (الاستمرار المحسوب)، فيزيد ويقل بحسب حساباته هو؛ الأمر الذي يحترمه العدو ويقابله بنفس الدرجة باستمرار لكن ضمن الإطار ذاته؛ مع تحقيق خسائر بشرية ومادية متبادلة ومحدودة، ومع استمرار تهديدات العدو الخطابية بضرب لبنان وبيروت بصورة غير مسبوقة، في صورة واضحة التهيب والتحسب لعدم توسيع دائرة الحرب إقليميًّا؛ الأمر الذي تشدد عليه الولايات المتحدة، ثم جبهة اليمن التي دخلت على الخط مع بدء الحرب البرية (30 أكتوبر) وتصعيدها التدريجي (وصولاً إلى الأسبوع الرابع الذي شهد استيلاء الحوثيين على سفينة إسرائيلية في البحر الأحمر الأحد 19/11/2023). هذا فضلاً عن تهديدات لجماعات عراقية وسورية لقواعد عسكرية أمريكية في العراق وسوريا، وتعامل قوات الولايات المتحدة معها في بعض الأحيان.
  • تستمر الضفة المقيّدة ببعض المواجهات المحدودة المستمرة المقلقة للعدو والمتضامنة مع المقاومة في غزة، في مدن نابلس وطولكرم وجنين والخليل وقليقلية والقدس وغيرها، وتتحمل الضفة ارتقاء عشرات الشهداء ومئات المصابين ومئات الأسرى المعتقلين كل يوم، وهدم بيوت وتجريف شوارع وغيرهم من العقوبات من قوات الاحتلال في الضفة، فضلاً عن تعديات قطعان المستوطنين.
  • وعلى المستوى السياسي، تظهر قيادة المقاومة أداء جيدًا، يواجه الواقع وتغيراته بخطابات مكافئة ومتوازنة، وترد على أكاذيب العدو ببيانات واضحة وأكثر مصداقية (وكذلك تفعل بيانات المقاومة المقاتلة)، وتعلق بالحديث عن نفسها بصدقية وأخلاقية عالية. وقد نجحت الإدارة السياسية للمقاومة مبكرا في ردّ الهجمة الدعائية السوداء للعدو، وأدارت ملف (الصورة) بصورة جيدة، كشفت عن بشاعة العدو الذي لا يتأخر هو بنفسه –عبر ممارساته- عن فضحها كل يوم بوقاحة كبيرة. وكذلك تدير قيادة المقاومة ملف الأسرى والمتحجزين بطريقة جيدة، تظهر تجاوبها مع الحلول السياسية (وفق الإطار الذي وضعته بصرامة ووضوح من أول أن ارتفع صوت القضية)، وتتحرك داخل هذا الإطار بمرونة وجرأة أظهرت العدو في خانة الدفاع والتردد والتعطيل، وحملته -بطريقة عملية- مسئولية هذا التعطيل وكذلك مسئولية مقتل من يقتلون من الأسرى والمتحجزين. كذلك تدير قيادة المقاومة معركة الأصدقاء والأعداء والمناصرين والخاذلين بكفاءة ملحوظة حتى الآن، تتسم بالتوازن والحفاظ على المكاسب، والحرص على عدم فتح جبهات جانبية غير جبهة العدو. وتتعاون الإدارة السياسية مع قطر –بالأخص- في ملف الأسرى بشكل جدّي؛ من أجل الحصول على هدنة، وتحرير أسرى، وإدخال إغاثات لشعب غزة، والاستمرار في كسب صورة خارجية جيدة، مع الضغط على العدو داخليًّا، وخارجيًّا. وحتى الآن يتسم خطاب الإدارة السياسية بالتكامل والتناغم مع تعدد مصادره ومتحدثيه، ويكتسب الكثير من المصداقية العامة، ويتسم أيضًا بالتناسب مع مراحل الصراع وعدم الخوض في مواضيع ثانوية، أو الانجرار إلى فوائض قول لا أهمية لها. ومن ذلك لا يطيل خطاب المقاومة السياسي في الرد على ملف (ما بعد العدوان)، ويكتفي بإحالة الأمر إلى الشعب الفلسطيني. ومع هذا فإن خطاب المقاومة السياسي –بل العسكري- لا يزال يفتقد إلى أفق مستقبلي، سواء في الأهداف أو الوسائل.
  • تعلن إدارة القطاع الحكومية عن بيانات وإحصاءات: المأساة الإنسانية، وجرائم العدو، والخسائر البشرية والمادية، كل يوم. وعن كثب، وعن ثبات ومثابرة من الموظفين الإدرايين والقطاع الصحي والدفاع المدني في مواقعهم، تتابع إدارة/حكومة القطاع مجريات المأساة في جميع أنحاء القطاع، بتواصل دائم مع وسائل الإعلام الموجودة في القطاع؛ لنقل الصورة كاملة، صوتًا وصورة، وعبر إحصائيات مدققة ومحدّثة كل دقيقة تقريبًا.

وبناء عليه:

  • تعتمد قوات المقاومة على مبدأ الصمود والتصدي والعمل على دحر العدو في داخل القطاع وتكبيده خسائر متزايدة ومستمرة ورفع تكلفة بقائه.
  • تعترف المقاومة بتأزم أوضاعها؛ لذا تضم السياسة إلى الجهد العسكري بقوة، وتستثمر في الوقت، وفي زيادة الضغوط على العدو في داخله ومن خارجه.
  • تظفر المقاومة بحاضنة شعبها المعنوية، والمكانية (التي يحاول العدو إزاحتها) وبدعم معنوي وسياسي شعبي عالمي، وتعاني أيضا خذلانا عربيا رسميًا غير ضئيل.
  • لكن تستمر تحديات وتهديدات كبيرة أمام المقاومة أهمها:
  • استمرار الحصار على القطاع وتفاقم الأزمة وتزحزح الشعب باتجاه الجنوب؛ بما لها من تأثير عسكري (تفريغ الشمال تدريجًا)، وخاصة مع بقاء احتمال استمرار الضغط من أجل النزوح إلى الحدود مع مصر، وتأثير سياسي يتعلق بمستقبل حكم القطاع.
  • استمرار واشتداد الحصار على المقاومة نفسها؛ ومن ثم تراجع مخزونها من السلاح والذخيرة والوقود والمؤن؛ ما يمثل عامل ضغط مستمر عليها، حال استمرت الحرب إلى فترة طويلة.

ج- استمرار المشاركة الرسمية الغربية للعدو في الحرب على المقاومة، فيما تعاني المقاومة خذلانًا عربيًا كبيرًا؛ الأمر الذي يحصر مناصرة المقاومة في محور المقاومة العسكرية عبر جبهات الإشغال والإرباك المشار إليها.

د- تمثل الرؤية والخطة المستقبلية تحديًا كبيرًا أمام المقاومة وقيادتها؛ وخاصة الأهداف المرحلية (الهدف الجاري- الهدف التالي، الهدف الاستراتيجي).

وهكذا يظل “الوقت” عامل ضغط على كلا الطرفين، بل على جميع الأطراف؛ ما ينبغي تفصيله في مبحث خاص.

ج- السياق الإقليمي والعالمي وآثاره على مسار الصراع

إقليميا (عربيا وإسلاميا):

  • يتعرض النظام الإقليمي العربي لاختبار عصيب، تتحجر فيه مواقف دوله الرئيسية خارج دائرة التأثير. وبينما تستشعر الأردن الخطر، تظهر الحكومة اللبنانية مساندة لحزب الله وثباتا في وجه تهدديات العدو، وتتمسك مصر بموقف معلن من رفض التهجير إلى سيناء، والعمل عند الحد الأدنى من إدخال المساعدات مع الاستسلام للموقف الإسرائيلي الرافض والمقيد لذلك، وتحجم أكثر الحكومات العربية عن الاشتباك السياسي مع العدو أو المقاومة أو الاستجابة لاستغاثات أهل غزة في بلواهم الإنسانية المتفاقمة كل ساعة. مع الاكتفاء بالمطالبات بوقف إطلاق النار وإيقاف المأساة الغزاوية، والحلي السياسي، على غرار ما تجلى في القمة العربية الإسلامية المشتركة في الرياض 11 نوفمبر. وتزايد معدل الصمت الرسمي العربي منذ شن إسرائيل معركتها البرية.
  • تتميز دولة قطر بالدور المركزي في التوسط بين القماومة وكل من الولايات المتحدة وإسرائيل، وخاصة في ملف الأسرى والمحتجزين، وتتخذ قطر من هذا الملف بابا للمطالبة بوقف إطلاق النار ووقف المأساة الإنسانية البشعة.
  • تقف تركيا في فجوة بين الأهداف والمبادئ التي يعبر عنها الخطاب، وبين الوسائل والقدرة على الفعل المؤثر، وتفتقد تركيا لأدوات مؤثرة في هذا الصراع. وأدنى من ذلك بكثير بقية دول العالم الإسلامي الكبيرة: ماليزيا، باكستان، إندونيسيا، نيجيريا،.. بما لا يكافئ مواقف دول مثل دول لاتينية ودولة جنوب أفريقيا، وبعض المواقف الأوروبية في إسبانيا والنرويج مثلا.
  • تحتل إيران موقعا متميزا في الاشتباك مع العدو عبر محورها ضمن إطار محسوب ومراقب دوليا. ويمكن القول إنها الطرف الإقليمي الأكثر تأثيرا في الصراع والأكثر استفادة منه.
  • فيما يغيب أي دور لكل من الجامعة العربية أو منظمة التعاون الإسلامي اللهم ما برز في الايام الأخيرة من لجنة سباعية انبثقت عن القمة العربية الإسلامية، وتحركها باتجاه الصين وروسيا ودول البريكس للمطالبة بدعم الضغوط لوقف إطلاق النار.

عالميًّا (الغرب والشرق وأقاليم الظل ورأي عام عالمي):

  • لا تزال الولايات المتحدة تتضامن من سياسة واهداف العدو بشكل شبه تام، ولم تتزحزح إلا قليلا جدا وفي الإطار القانوني والإنساني، ومن أجل تحريك ملف تحرير المحتجزين، بالرغم من تصاعد المعارضة داخل أروقة الحكومة والكونجرس والحزب الديمقراطي فضلا عن قطاعات شعبية شديدة التنوع وكثيفة الحراك. وتصر الإدارة الأمريكية على الترويج للرواية الإسرائيلية للصراع ومساره، واتهامات إسرائيل للمقاومة، مع بروز اختلافات في قضايا تكميلية؛ مثل: رفض إعادة إسرائيل احتلال القطاع، أو ضمه، وترجيح أنه توكل إدارته إلى السلطة الفلسطينية بخلاف خطاب رئيس وزراء العدو، والحديث عن أنها تدعو لفتح معبر رفح لإدخال المساعدات الإنسانية، وإعرابها عن الرفض النظري والمحدود جدا للممارسات الإجرامية للعدو في قصف المستشفيات والمدارس وقتل المدنيين وخاصة الأطفال.
  • يراوح الاتحاد الأوروبي مكانه في متابعة الموقف الأمريكي، مع تعرض دوله الرئيسية المؤيدة للعدو إلى حالة شقاق شعبي متزايدة، وكذلك على مستوى الأحزاب والقوى السياسية والمدنية، لكن تظل المواقف الرئيسية ملتصقة بالعدو ومساندة له، ومقاومة لحراك انتقاد ممارسات إسرائيل البشعة، مع تغييرات خطابية طفيفة لا تؤثر على الموقف العملي الملتصق بالعدو. ومع ذلك تشهد مدن أوروبا الكبرى وفي الولابات المتحدة تظاهرات دائمة وصاخبة ليس فقط من أجل وقف إطلاق النار، ولكن للدعوة إلى الحق الفلسطيني في الاستقلال والحرية. وتظهر مواقف رسمية معدودة من إسبانيا والنرويج وإيرلندا واسكتلندا ترفض الحرب وتدعو إلى وقف المأساة وتأييد الموقف الفلسطيني.
  • يظهر الموقف الروسي مدافعا عن ضرورة وقف إطلاق منذ البداية، وبدا مستغلا وموظفا للصراع في إطار صراعه مع الولايات المتحدة في حرب أوكرانيا وغيرها، وتحرك بصمود ودأب في مجلس الأمن من أجل استصدار قرار بوقف إطلاق النار أعاقته الولايات المتحدة في كل مرة. هذا بينما يقف الموقف الصيني عند الحد الأدنى والضئيل جدا من التدخل في الصراع، ولو حتى بالخطاب الملحوظ. بينما تغيب الهند واليابان وكوريا الجنوبية وأقاليم عالمية عديدة عن المشهد وكأنها لا ترى ولا تسمع.
  • أقاليم الظل لا تزال ضعيفة التأثير في مجرى الصراع حتى الآن، فيما عدا مواقف من أمريكا اللاتينية قادتها كل من بوليفيا وكولومبيا وتشيلي (سحبوا سفراءهم من إسرائيل)، البرازيل والمكسيك وفنزويلا (أدانوا وجرموا إسرائيل ووحشية عملياتها العسكرية). وتسعى دول جنوب أفريقيا وبنجلاديش وبوليفيا وجزر القمر وجيبوتي، إلى محاولة تقديم ملف إسرائيل وقادتها إلى المحكمة الجنائية الدولية لمحاكمتهم بتهم جرائم حرب.

أما بالنسبة للرأي العام العالمي فمن المهم تصنيفه وتحليله وتفسيره جيدًا:

  • من حيث الجغرافيا؛ حيث يتحرك الرفض للعدوان والمذبحة في أوروبا والولايات المتحدة -بصفة أساسية- فيما يظهر لنا إعلاميًّا أكثر من أي مكان آخر، وفي العالم العربي والاسلامي تستمر نماذج من التظاهرات في عدد من البلدان، وتخرج بعضها في أمريكا اللاتينية وأفريقيا ودول آسيوية قليلة، فالرأي العام المعارض للحرب والمذبحة بالتظاهر أكثره أمريكي وأوروبي ويبدو ذلك لأن حكوماتهم مشاركة في المأساة مشاركة فعلية أو بالسكوت عليها.
  • يشهد الغرب شقاقًا كبيرًا على مستويات عدَّة بين الحكومات ما بين قوى حكومية مع دولة الاحتلال، وأقلية من الحكومات رافضة وتنتقد دولة الاحتلال، خاصة ما تقوم به من مجازر، وقسم كبير من الحكومات الأوروبية مندمج في موقف الاتحاد الأوروبي ومؤسساته المؤيدة لدولة الاحتلال مع التحفظ الضعيف على التداعيات الإنسانية القاسية. لكن داخل الحكومات المتصدرة لتأييد ومشاركة العدو في عدوانه، تظهر شقاقات وربما انشقاقات كما حدث في الإدارة الأمريكية والحكومة البريطانية، لكن الشقاق الأكبر هو بين حكومات هذا القسم في الغرب وبين حراك شعبي معارض للمذبحة بأشكال مختلفة تستعمل الشارع ووسائل الإعلام التقليدية ووسائل التواصل الاجتماعي وتضم جماعات يسارية ونسوية وبيئية وغيرها، ورموزًا سياسية وإعلامية وفنية ورياضية واجتماعية، فضلًا عن مناهضي العنصرية والتمييز والمظالم من منظور قيمي عالمي تحت عنوان: “أوقفوا إطلاق النار”.
  • بعد أن تصاعد التيار الأخير المعارض للمذبحة تحول قسم منه إلى المطالبة بالحق الفلسطيني الشامل في التخلص من الاحتلال تحت عنوان: “فلسطين حرة Free Palestine.
  • ولكن بعد هذا التصاعد بدأت تظهر بوادر هجمة إعلامية ومدنية مضادة تدافع عن دولة الاحتلال وحقها في الدفاع عن نفسها، وتردد وتؤيد روايتها المتوقفة عند “7 أكتوبر” وتهاجم حماس بل الفلسطينيين والعرب والمسلمين بأنهم متطرفون وإرهابيون، ويجب قتلهم وهزيمتهم… إلخ، ومن هنا تشتد الحرب المدنية والإعلامية داخل الغرب خصوصًا بين هذين الفريقين.
  • ومن المؤسف أن تتزامن مع هذه الهجمة المضادة لصالح دولة العدو خروج أصوات نشاز داخل العالم العربي من إعلاميين وشيوخ تُحمل حركه حماس مسؤولية المذبحة، وتتغاضى عما تقوم به إسرائيل من مذبحة أو احتلال لـــــ 75 عامًا، فيما يستمر الصوت الإعلامي في عموم العالم العربي مع الحق الفلسطيني وضد العدوان الإسرائيلي ولكن بحدود معينة وبأشكال مختلفة.
  • والخلاصة؛ أنه بعد 45 يومًا يبدو الرأي العام العالمي على مستوى الشارع والإعلام في حالة تماوج شديد وتدافعات بين الحق الفلسطيني والصوت الصهيوني، على خلفية الحرب / المذبحة، ما يبدو تأثيره على أطراف الصراع واضحًا وإن كان غير حاسم.

مستقبل غزة ومستقبل القضية

من المهم الإشارة في الختام إلى تطورات (ملف ما بعد العدوان على غزة)، أو ما عرف بمستقبل غزة، الذي افتتح مبكرا عبر أهداف العدو، ثم تطورت خطاباته تدريجيا ما بين العدو وحلفائه والسلطة الفلسطينية والمواقف العربية، وخاصة قطر، فضلا عن موقف المقاومة الفلسطينية.

بناء على إعلان العدو أن هدفه المحوري من حربه على غزة هو “القضاء” على حماس، وعلى حكمها للقطاع، وعلى قدراتها العسكرية، وعلى قادتها خاصة الذين خططوا وأداروا ونفذوا عملية طوفان الأقصى 7 أكتوبر (وبالأخص يحيى السنوار ومحمد الضيف)، ومع الإلحاح على ترديد هذا الهدف، طُرح لاحقا الحديث عن (مستقبل إدارة القطاع) إذا تمكن العدو من تحقيق هدفه. سخر الكثيرون ومنها المقاومة من هذا الحديث أولا، لكن الحكومات الغربية راحت تدندن حوله، وبدا ذلك في لقاءات بلينكن وماكرون وغيرهما مع أبو مازن في رام الله، وفي بعض خطابات الإدارة الأمريكية. وسرب بعض الأمريكان أن عباس أعرب لبلينكن عن استعداد السلطة للعودة إلى غزة وحكمها بعد القضاء على حماس، وجرى نفي ذلك من قبل السلطة. لكن السلطة أكدت على وحدة الأرض الفلسطينية وأن غزة جزء من الكل الفلسطيني، ورفضت في أول نوفمبر أن يتم اقتطاع مخصصات القطاع من عوائد الضرائب التي تنقلها لها حكومة الاحتلال، وذكرت أنها ستقتسم مع غزة ما يصل إليها ولو كان شيكلا واحدا.

وكان أول توضيح من العدو حول رؤيتها لهذه الإدارة أنها ستكون هناك إدارة مدنية موالية للاحتلال، وسيكون متاحا للجيش وقوات الأمن الإسرائيلية دخول القطاع والتدخل السريع والمباشر لإحباط أي تهديد في القطاع (أي على غرار ما يجري في الضفة في ظل وجود السلطة الفلسطينية منذ نشأت 1994). وردت المقاومة في بعض بياناتها وتصريحات قادتها أن هذه مسألة تخص الشعب الفلسطيني ولا شأن لأحد غيره فيها. وردت أطراف أخرى وخاصة دولة قطر (رئيس وزرائها ووزير خارجيتها محمد بن عبد الرحمن في لقاءاته مع زائرين غربيين) بأن الحديث عن هذا الأمر سابق لأوانه، وأن الذي ينبغي التركيز عليه هو وقف إطلاق النار وإيقاف المذبحة وتحرير الأسرى والمحتجزين.

ومع شن العدو حملته البرية على القطاع، طرح الموضوع في إطار إعلان الولايات المتحدة رفضها لأن تحتل إسرائيل القطاع، أو تظل بقواتها فيه (بعد القضاء على حماس بوصف ذلك ثابتا هدفيا لإسرائيل وشركائها وعلى رأسهم الولايات المتحدة). ومن ثم طرح التساؤل عن من سيدير غزة بعد ذلك. وفي هذا الإطار طور رئيس الوزراء الإسرائيلي موقفه وأعرب عن احتقانه من السلطة الفلسطينية ورئيسها أبو مازن؛ لأنه بعد شهر من 7 أكتوبر لم يدن ما حدث ولم يعزه في قتلاه ولم يتبرأ من الإرهاب..الخ. ومن ثم صرح بأنه لن تكون تلك الإدارة المرتقبة تحت يد هذه السلطة (التي لم ترب أولادها على عدم كراهية إسرائيل!!)، في كشف عن حمولة نفسية عنيفة تجاه السلطة وازدراء لها واعتبارها جزءا من الإدارة الصهيونية ذاتها موكول إليها تحقيق أهدف صهيونية؛ الأمر الذي استنكرته السلطة في البداية استنكارا خفيفا. لكن نتنياهو عاد وكرر ذلك الطرح، فتوالت تصريحات ممثلي السلطة الفلسطينية (أشتية وحسين الشيخ وأبو ردينة..) بأن منظمة التحرير الفلسطينية هي الممثل الشرعي الوحيد للشعب الفلسطيني، وتعالت نبرتها –عن ذي قبل- تجاه حكومة الاحتلال، وبدت وقد اشتبكت بروح جديدة ضد الاحتلال وجرائمه.

مباشرة خرجت تصريحات أمريكية ثم أوروبية بأن من سيدير غزة ما بعد حماس هو السلطة الفلسطينية بقيادة ابو مازن، وخرجت التصريحات المؤكدة من الجانبين بتأييد السلطة. وفي يوم الاثنين 20 نوفمبر الجاري صرج جون كيربي المتحدث باسم البيت الأبيض بأن السلطة الفلسطينية تتمتع بشرعية وشعبية داخلية وتأييد ودعم دوليين؛ وهي التي ستدير غزة (بعد القضاء على حماس)، وكذلك صرح جوزيب بوريل مسئول السياسة الخارجية للاتحاد الأوروبي في زيارته للمنطقة ذلك اليوم بأن السلطة ستكون هي المسئولة عن إدارة القطاع (بعد القضاء على حماس).

ولكن السؤال المهم في هذا الصدد: وماذا إذا فشل العدو بشركائه –وسيفشلون بعون الله تعالى- في (القضاء على حماس) وفصائل المقاومة في غزة؟ هذا السؤال ينبغي أن يرد عليه بشكل واسع؛ يشير إلى مآلات الصراع واحتمالاته المستقبلية، وفي القلب منه: مستقبل العدو نفسه بعد هذه المذبحة (تقرير منشور)، ومستقبل العلاقة بين المقاومة والسلطة في إطار الموقف المستقبلي للشعب الفلسطيني من جهة، والدوائر المتدخلة في القضية من الأنظمة العربية وإيران وتركيا. (وهذا يستدعي ملفا خاصا).

وبناء عليه، فإن للعدو سياقا مؤيدا نافذا ومؤثرا؛ يدعمه بالسلاح والأموال والدعاية والخطاب السياسي المدافع عن موقفه، والمانع من أية محاسبة له فضلا عن معاقبته، بل إنه سياق مانع من وقف المأساة الإنسانية، وملتصق بالعدو التصاقا قويا في السعي للقضاء على المقاومة الفلسطينية وعدم الاعتراف بها أو بحقها في الدفاع عن شعبها أو حق هذا الشعب في الدولة المستقلة، رغم خطابات ثانوية تجميلية (بأن الحل هو حل الدولتين وأنه يجب.. وينبغي..). هذا بينما تعاني المقاومة سياقا خاذلا كبيرا في العالم العربي والإسلامي خاصة من الحكومات، وسياقا عالميا صامتا بصفة أساسية، اللهم إلا من محور مقاومة توجهه إيران، ومحور رأي عام شعبي مدافع عن الحق الفلسطيني ومندد بالعدو يتسع عبر العالم. ومن ثم فإن العبء الأكبر في إدارة الصراع إنما يقع على الشعب الصامد وفي قلبه مقاومته الباسلة.

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى