حوار الحضارات في أنشطة المؤسسات الثقافية الدولية

مقدمة

في‏ مطلع الحديث عن قضية حوار الحضارات في‏ أنشطة المؤسسات الثقافية الدولية، وما يدور حول دور هذه المؤسسات في‏ تفعيل أو التقليل من شأن هذه القضية لابد من إثارة مجموعة من التساؤلات منها: هل للفكر مؤسسات وسياسات؟ وهل قضية حوار الحضارات هي ‏قضية نظرية وفكرية بحتة أم أن لها تجليات في‏ الواقع؟ وما مدى إلحاح قضية حوار الحضارات على أجندة المؤسسات الثقافية الدولية؟ وإذا كانت ملحة فهل هي ‏الأجدر بالتناول في‏ هذا التوقيت بالذات؟ ما مدى جدوى وجدية الحوار البيني في‏ العالم الإسلامي؟ كل هذه الأسئلة وغيرها الكثير تطرأ على ذهن الباحثين في‏ كل ما يتعلق بالثقافة والحضارة لا سيما إذا ما اقترنت بمفهوم الحوار وما له من دلالات ومعانٍ وعلاقات ومجالات.
كما يمكنني أن أسجل ملحوظة مبدئية، وهي ‏أنه ليس هناك مؤسسات ثقافية دولية بالمعنى الدقيق للكلمة وذلك أن مؤسسات كاليونسكو والايسيسكو والاليسكو، لها مجالات متعددة بجوار الثقافة، وإن كانت مرتبطة بالثقافات والحضارات إلى حد كبير، ومن ثم فإنني ربما لن أقف كثيرًا عند أداء هذه المؤسسات وما أركز عليه هنا هو أنشطة المؤسسات الثقافية غير الرسمية؛ حيث إن متابعة أنشطة المؤسسات الثقافية الدولية يحتاج إلى جهود جبارة لإنجازه لأن ما هو مكتوب عن أنشطتها وواقع هذه الأنشطة هو بين السطور وفي‏ طيات موضوعات متشعبة.

مؤسسات الفكر وسياساته

ليس من الغريب أن نجد أن من تحدث عن المؤسسية بكثافة في‏ كتاباته الأكاديمية ومقالاته المنشورة في‏ العديد من المجلات والدوريات العلمية الدولية هو ذاته الشخص الذى تحدث عن صدام الحضارات وصراعها، إنه صموئيل هنتنجتون، والفكرة هنا أنه أطلق الفكرة وراح يزكي نارها في‏ المؤسسات التي عمل بها فيما يسمى بالـ Think Tanks، وهذا أيضا مجال فريد لتميز السياسة الأمريكية عن غيرها، أنها تدخل العوامل كافة في‏ تحليل التغيرات العالمية والتحديات التي يمكن أن تواجهها، كما أنها تعتمد على ربط النظرية بالتطبيق والعلم بالواقع فيما يعرف بـ revolving door أو سياسة الباب الدوار، والتى تعني اشتغال رجال الفكر بالسلطة وخروجهم منها وعودتهم إليها وهكذا.
ولئن كانت فكرة حوار الحضارات ذاتها قد جاءت كرد فعل لفكرة صدام الحضارات، فإن فكرة حوار الحضارات وتحالفها كما طرحها الرئيس الإيراني محمد خاتمي لم تحظَ باهتمام مؤسسي أو حتى أكاديمي في‏ نظري مثل ذلك الذى حظيت به فكرة صدام الحضارات ذلك أن فكرة حوار الحضارات وبرغم أنها فرضت نفسها على أجندة الأمم المتحدة واعتبر عام 2001 عام حوار الحضارات لم تجد لها إطارًا مؤسسيًا يضمن استمراريتها وتحقيق نتائجها المرجوة للجميع، ذلك أن فكرة الصدام كانت تتبناها القوة القائدة للنظام الدولي ومن ثم انخرط الجميع في‏ تبنيها سيرًا حثيثًا في‏ مسار الاستتباع وسياساته التي ارتبطت بالمنع والمنح وكذلك بالهيمنة المعرفية الغربية سواء في‏ الناحية الأكاديمية والمعرفية أو الواقعية السياسية.
لكن فشل السياسات الأمريكية المتتالي في‏ التعامل مع قضايا الإرهاب والصراعات سواء في‏ الشرق الأوسط أو في‏ إفريقيا، وانقلاب الفوضى الخلاقة إلى فوضى خانقة للهيمنة وسياساتها، وخصوصًا فشل الولايات المتحدة وحلفائها في‏ إغلاق ملفي‏ العراق وأفغانستان من دون إشراك قوى سياسية داخلية وإقليمية ودولية ربما لا تتوافق مع التوجهات الغربية، وكذلك ملفات الدول المارقة أو الدول الساعية لتطوير برامج نووية أو المناوئة لسياسات الولايات المتحدة بل وتزايد حدة الصراع في‏ المجتمع الدولي بوسائل مختلفة خلال العقد الأول من القرن العشرين، كل ذلك استتبع بالضرورة مراجعات واسعة للسياسات المتبعة من قبل الجميع سواء الحكومات أو مراكز الأبحاث، أو حتى الفكر والوعي لدى المواطن العادي في‏ كل مكان من العالم، وبرز ما يعرف بالسياسات العالمية والمواطن العالمي والمجتمع المدني العالمي بقوة في‏ كافة الخطابات الأكاديمية والسياسية.
ولقد كانت لهذه المتغيرات وتلك المراجعات تجلياتها في‏ الواقع فبرزت مؤتمرات عدة للحوار وكذلك بعض السياسات المبنية على الحوار والتعاون، وإن كانت ليست كافية وتدور في‏ فلك حسابات المصالح الآنية وفي‏ فلك الحسابات الاقتصادية للمكاسب والخسائر دون النظر بجدية في‏ جدوى الحوار للجميع.
ولئن كان البعض قد أشار إلى تطور فكرة حوار الحضارات سواءً باعتبارها منظورًا بديلا للعلاقات الدولية أو باعتبارها قضية من قضاياها في‏ الواقع أكثر منه في‏ التنظير، وذلك نظرًا للهيمنة المعرفية والمركزية الغربية في‏ التفكير الأكاديمي لدى هؤلاء الباحثين في‏ العلاقات الدولية ومنظريها ورؤيتهم للعالم من منظور واحد[1]، فربما يصلح هذا التحليل للحديث عن التناول الغربي للحوار الحضاري، إلا أنه يمكن القول أن مثل هذا الحوار تطور لدينا في‏ العالم الإسلامي في‏ التنظير أكثر منه في‏ الواقع؛ فالطرح العربي الإسلامي لموضوع حوار الحضارات هو طرح قديم وهو الطرح الأصيل، لأنه يبدأ من المصدر الأساسي وهو القرآن والسنة، وهو أساس من الأسس الإسلامية الأولى في‏ التعامل مع الشعوب الأخرى انطلاقًا من الاعتراف بالتعددية الدينية والثقافية[2]، ومع ذلك فلم نرَ مؤسسات رسمية تتبنى هذا الحوار ولم نرَ أقسامًا أو وحدات في‏ وزارات الخارجية لدول العالم الإسلامي مهتمة بهذا الحوار أو معتقدة في‏ جدواه، وإن كانت لدينا بعض المراكز البحثية المهتمة بالتنظير لحوار الحضارات وربما هي ‏متطورة –رغم تواضع إمكانياتها وما تعانيه من تضييق على أنشطتها– في‏ هذا الصدد عن مراكز بحثية في‏ دول متقدمة. ومن هنا فمن المهم التأكيد على أننا بحاجة إلى نقد الجانب المؤسسي للحوار وما آل إليه، وفي‏ حاجة ماسة إلى مأسسة هذا الحوار بشكل فعال بينيًا وعالميًا، ولنستفيد من تجارب الآخرين في‏ نقد الذات؛ فلقد قدم فابيو بتيتو نقدًا حادًا للجماعة الأكاديمية الغربية لعدم إعطائها حيزًا كافيًا لفكرة حوار الحضارات من الناحية الأكاديمية، ومن هذا المنطلق فإننا يمكننا توجيه النقد لأنفسنا للتقصير في‏ الجانب المؤسسي لهذا الحوار، وإن كان الجانب الأكاديمي يحتاج إلى مزيد من التدعيم والمراجعة والوقوف على أحدث التطورات في‏ الواقع.
والملاحظة المفصلية هنا أن الفكرة التي لا تصل لدرجة المؤسسية والتنظيم الجيد لحامليها والداعين إليها يكتب لها الفناء والموت بشكل سريع، أما الأفكار التي تتحول إلى مؤسسات وسياسات فهي ‏التي تظل مطروحة وبقوة على الساحة وتزداد فعالية يومًا بعد يوم.

جدوى وجدية الحوار البيني في‏ العالم الإسلامي

العالم الإسلامي متسع ومترامي الأطراف وبه من التباينات والاختلافات الكثير والكثير، إلا أن رباط العقيدة الذي يجمع بين أبنائه هو الرباط الأقوى والأقدر على تجميعهم، والحق أن الاختلافات اللغوية والعرقية والمذهبية بين أبناء العالم الإسلامي ووحداته تتطلب حوارًا مستمرًا وممنهجًا، وليس مجموعة مؤتمرات دورية كما تفعل المؤسسات، والحق أن هذا الاختلاف أيضًا هو في‏ جوهره اختلاف تنوع لا تضاد.
وفي‏ السنوات القليلة الماضية، وربما طيلة العِقد الأول من القرن العشرين، تفشت الدعوات الطائفية والنزعات والنزاعات العرقية والإثنية والدينية في‏ العالم كله وإن اتضحت بشكل أكبر في‏ العالم الإسلامي وإفريقيا، وليس محض صدفة أن تتزايد هذه النبرات وتلك الصيحات، وليست أيضا محض مؤامرة، وإن كانت نظريات الفوضى الخلاقة التي وضعها هنري كيسنجر منذ أن كان وزيرًا للخارجية الأمريكية تتحقق الآن وبكثافة في‏ معظم دول العالم الثالث، وتعيد تركيب الخريطة السياسية للعالم دون أن يكلف ذلك القوة التي تسعى إلى الهيمنة على النظام الدولي الكثير، فنجد أن العراق ولبنان ودول الخليج العربى في‏ معظمها بدأت تتهدد كياناتها من خلال الطائفية سواء العرقية أم الدينية أم المذهبية، والحق أن هذه النبرة لم تتعالى بهذا المستوى من قبل الاحتلال الأمريكى للعراق وإن كانت التنوعات والتباينات موجودة لكنها لم تكن بهذه الحدة بحيث تتحول إلى صراعات دامية، كذلك فإن ما يتبادله الأكاديميون والصحفيون من مصطلحات من قبيل (الصراع السني –الشيعي، الهلال الشيعي،…..الخ) كلها مصطلحات زائفة ومحملة بما ليس فيها وهي غريبة على قاموسنا السياسي والثقافي‏ وتحتاج إلى تدقيق وتحقيق.
وقد رأينا في‏ عام 2010 كيف أن صراعًا من نوع آخر يشتعل وهو الطائفية بين المسلمين والمسيحيين في‏ العراق، وانتشاره في‏ العديد من الدول العربية والإسلامية، وإن كنت أشكك كثيرا في‏ تكييفه على أنه فتنة طائفية، إلا أن استشراءه استدعى بحثًا وتحليلا معمقًا لنكتشف أن بعض الدول العربية ليست لديها مناهج دينية للمسيحيين ومنها العراق، وكذلك فإن مادة التربية الدينية للمسلمين هي ‏مادة يعتبرها الغالبية العظمى من الطلاب هامشية، إن لم يكونوا يستغربون وجودها أصلا، وهذا تقصير ذاتي وجب أخذه في‏ الاعتبار لأنه يرتبط بالتنشئة الفكرية والعقلية والعلمية والثقافية، ناهيك عن أن هذه التنشئة تنظم سلوك صاحبها، وتحدد خياراته وتؤثر عليه في‏ حاضره ومستقبله.
كما أنه لابد من استنارة الوعي للعلاقة بين السياسي والثقافي التي تتنامى في‏ الإستراتيجية الأمريكية بصفة خاصة والغربية بصفة عامة تجاه العالم العربي والإسلامي في‏ المرحلة الراهنة من تطور النظام الدولي.

حوار الحضارات في‏ المؤسسات الثقافية الدولية خلال عام 2010

قد تختلف التسميات حول مسمى واحد، والمتابع لأنشطة اليونسكو والايسيسكو والاليسكو، يلاحظ تسميات عدة لحوار الحضارات، ما بين حوار الحضارات وحوار الثقافات وحوار الأديان وتحالف الحضارات وتقارب الحضارات إلى غير ذلك من التسميات التي تحتاج إلى تدقيق وتوضيح ربما ليس هنا محله.
فخلال عام 2010 عقدت اليونسكو مؤتمرًا مؤتمرًا عربيًا أوروبيًا لتقارب الحضارات في‏ السابع والعشرين من شهر يناير، في ظل إعلان المديرة العامة لليونسكو أن عام 2010 هو عام التقارب بين الثقافات في‏ قمة دول جنوب شرق أوروبا، وقد انعقد في‏ اسطنبول، العاصمة الأوروبية للثقافة لعام 2010، وكان الهدف الرئيسي منه تعزيز الدور الحاسم الذي تؤديه الثقافة في تثبيت التفاهم في المنطقة. ويندرج هذا اللقاء في إطار السنة الدولية للتقارب بين الثقافات لعام 2010؛ حيث أعلنت الجمعية العامة للأمم المتحدة سنة 2010 سنة دولية للتقارب بين الثقافات وأسندت إلى اليونسكو دور الوكالة الرائدة في إعداد الاحتفال بهذه السنة، وقد تمخض عن القمة إعلان اسطنبول 23 يونيو 2010. وبرغم ما تعلنه اليونسكو من إعلانات عن التنوع الثقافي[3]، إلا أن الباحث والمدقق لا يستطيع أن يصدق كل هذه الشعارات؛ فانتخابات اليونسكو ذاتها تشوبها الطائفية الفكرية والتحيز، فأين إذن تحالف الحضارات؟ وأين إذن تنوع الثقافات؟
أما عن الإيسيسكو، فإن المتابع لبيانها الختامي في‏ الاجتماع التنسيقي الثامن لرؤساء وفود الدول الأعضاء في منظمة المؤتمر الإسلامي المشاركة في الدورة 35 للمؤتمر العام لليونسكو (مقر اليونسكو، باريس، 8 أكتوبر 2009)[4] يلاحظ مجموعة من الإشادات والدعوات دون آليات للتفعيل أو استراتيجية للعمل. وإذا كانت جامعة الدول العربية نفسها تحتاج إلى عمليات إصلاح كبيرة فإن دور الإليسكو من الأفضل أن يصبح مسكوتا عنه.
خلاصة القول في‏ هذه المؤسسات الدولية الثلاثة أنها تحتاج إلى تفعيل وتشغيل، وتفعيلها لن يكون إلا بنقد الذات والسياسات المتبعة من قِبل الكافة في‏ هذه المؤسسات، وربما يكون أمرًا غير مقبول أن نقول بإبعاد آلياتها عن المصالح الآنية للدول، ولكن دورها الحقيقى لابد أن يكون التنسيق بين مصالح هذه الدول، فالعامل الثقافي‏ قد يكون عامل تقريب بين المصالح حال تصحيح الصور النمطية المتبادلة.
كذلك فإن هذه المؤسسات يغلب على أنشطتها الطابع العولمي التفكيكي للمجتمعات؛ حيث تتحدث عن حقوق الطفل أو حقوق المرأة أو ما إلى ذلك وكأنها متضادات أو تعيش كوحدات منعزلة، وبالتالي فإنها ‏تدعم الصراع وليس الحوار لأنها في‏ معظمها دعاوى تفكيكية تجد لها صدى واسعًا في‏ مجتمعاتنا العربية والإسلامية والإفريقية، خاصة وأن النخبة التي تدعى بالمثقفة عندنا هي ‏نتاج نظم تعليمية تعاني من قطيعة تاريخية فتعتبر التاريخ هو تاريخ الاستعمار فقط، وبقية المجتمع يعتبر التاريخ هو التاريخ الإسلامي فقط.

الحوار بين الأزهر والفاتيكان، والعلاقة بين الخارجي والداخلي

في‏ مطلع عام 2010 أطل علينا شيخ الأزهر الجديد الدكتور أحمد الطيب، وحاول مرارًا أن يرسي دعائم الحوار البيني داخليًا بالتأكيد على أهمية الوحدة الوطنية، وإقليميًا بالسعي نحو حوار بين مختلف مذاهب وعرقيات الأمة، ودوليًا بمحاولات التأكيد على وسطية الإسلام ودوره الحضاري.
وعلى مستوى الحوار بين الأزهر والفاتيكان، فإن بالأزهر لجنة للحوار مع الفاتيكان تعقد اجتماعها مرتين سنويًا لاستعراض كل ما يتعلق بالتعاون بين الجانبين، ولكن المعروف عن بابا الفاتيكان بنديكت السادس عشر تعصبه ضد المسلمين وهو ما يتضح من خلال رؤاه وآرائه المسبقة عن الإسلام والمسلمين، واستخدامه المتكرر لورقة الأقليات المسيحية في‏ الشرق الأوسط؛ فهناك تصريحات عديدة لبابا الفاتيكان أدان فيها الهجمات على الكنائس في مصر والعراق ونيجيريا وقال إنها بينت الحاجة لتبني إجراءات فعالة لحماية الأقليات الدينية، باعتباره حاميًا لها ومدافعًا عنها. وعلى الرغم من أن مؤسستي الأزهر والفاتيكان تجمعهما الكثير من الأنشطة الحوارية والتعاونية، إلا أن استخدام ورقة الأقليات سبب الكثير من التوتر في‏ العلاقات بين الجانبين من وقت لآخر، ومن ثم فلا عجب أن يتم تجميد ذلك الحوار من حين لآخر بينهما. وقد دفع ذلك السلوك الأزهر إلى تجميد للحوار مع الفاتيكان[5] باعتباره تدخلا في‏ الشئون الداخلية المصرية، وشئون العالم الإسلامي.
ويكشف هذا الأمر عن مدى تماهي العلاقة بين الداخلى والخارجى، كما يثير تساؤلات عدة حول مدى تداخل المصالح الاستراتيجية في‏ خطاب حوار الثقافات والحضارات، وبالتالي تساؤلات حول تبني الدول الكبرى موقفًا معينًا من أحداث في‏ دول صغرى وقد لا تتبنى نفس المواقف إزاء دول أخرى تربطها بها مصالح استراتيجية. والحق أن هذا توظيف للقيمي لخدمة الصالح العام في‏ تلك الدول وإذا كانت الفكرة صالحة في‏ حد ذاتها فإنه يرد عليها تساؤلات عدة حول الثابت والمتغير في‏ هذا القيمي، وكذلك أولوية القيمي على غيره، وهل هي ‏بالضرورة متناقضات. ومن هنا فإن أحدًا لا ينكر أن هذه الدول لازالت تستبطن نموذجًا معرفيًا وضعيًا ماديًا –وإن تم تطعيمه بالقيمي على النحو الذي يخدمه– إلا أنه يظل يحمل أولوية المادي على القيمي في‏ التعامل مع الآخر، ومن هنا فإن علينا كأفراد ودول ومؤسسات في‏ العالم الإسلامي أن نستبطن نموذجنا المعرفي‏ الخاص بنا في‏ كل ميدان وأن ندافع عنه، وأن نسعى إلى ربط المصالح الاستراتيجية للأمة به، وعلى الأزهر أن يستعيد دوره في‏ الداخل والخارج الإقليمي والدولي من خلال التبادل الطلابي والمشاركة الفعالة في‏ المؤسسات الدولية المختلفة، وعلى الدول الإسلامية أن تسخِّر تراثه العريق ووسطيته ومكانته في‏ تدعيم الحوار العربي الإفريقي والحوار العربي الإيراني وكذلك الحوارات الإسلامية مع القوى الصاعدة الجديدة كالهند والصين والبرازيل ودول شرق آسيا للتقريب بين وجهات النظر وإعادة ترتيب الأولويات الإسلامية من جديد.

ملاحظات حول الحوار البيني في‏ المؤسسات الثقافية الدولية

المتابع للحوار البيني والحوار الحضاري على المستوى الدولي يمكنه رصد مجموعة من الملاحظات سنوضحها بالأمثلة:
· ففي‏ مجال الحوار البيني ‏على مستوى الأمة الإسلامية نجد تعددًا في‏ محاور ومجالات الحوار، فمثلا هناك الحوار العربي التركي يرعاه المنتدى العربي التركي الذي أقيم في‏ اسطنبول من 9-13/ 6/ 2010، وكذلك المؤتمر العربي التركي الأول للعلوم الاجتماعية، وتدعم الجامعة العربية ومركز الدراسات الحضارية وحوار الثقافات والجمعية العربية التركية للحوار والثقافة ومؤسسات بحثية كثيرة مثل هذه الأنشطة. وهناك أيضًا الحوار العربي الإيراني الذي بدأت تتجدد الدعوات إليه في‏ عام 2010 في‏ أكثر من مناسبة، وبالطبع فإن تنوع الحوارات البينية ومستوياتها المختلفة (ثنائية وجماعية) مطلوب، ولكن التنسيق بينها أمر في‏ غاية الأهمية. إلا أن تصارع الأدوار يحول دون أن تؤتي هذه الحوارات أُكلها بالشكل الأمثل.
ويرد هنا -على سبيل المثال- ما يثار من أقاويل حول مزاحمة تركيا لأدوار الدول الأخرى في المنطقة على الرغم من صعوبة العثور على تصريحات رسمية تركية تدعم هذه الفكرة، سواء في كلمة وزير الداخلية في المؤتمر العربي-التركي أو في جل التصريحات الصادرة عن المسئولين الأتراك منذ حرب غزة 2008/2009[6]، بل يمكن إثبات العكس تمامًا عبر قراءة جوهر دبلوماسية داود أوغلو القائمة على عدم عزل أي فواعل إقليمية مؤثرة في إطار سياسة تعدد البعد، التي تقوم على عدد من الآليات الجديدة في السياسة الخارجية التركية، وأهمها[7]:
1. صياغة مقاربة متكاملة للسياسة الخارجية بما يعني النظر إليها كعملية وليس من خلال منعطف زمني قصير.
2. تطوير سياسة خارجية استباقية تدعمها دبلوماسية متناغمة وحل المشكلات مع جميع جيران تركيا.
3. تطبيق آلية التواجد على الأرض خاصة في أوقات الأزمات سواء في البلقان أو في الشرق الأوسط أو في القوقاز.
4. الحرص على مشاركة الجميع مع الاحتفاظ بمسافة متساوية عن كل منهم؛ حيث تعمل تركيا على ضم كافة اللاعبين ذوي الصلة، حتى يؤلّفوا ائتلافًا واسعًا لحل المشكلات وتطوير المبادرات، مع حرص الساسة الأتراك على تحاشي الانضمام إلى أي تحالف إقليمي.
كذلك فإن الأبعاد الثقافية والحضارية في‏ الحوار العربى التركي تتحاضن مع الحقائق الجغرافية والسياسية، لما للمنطقة بقواها الإقليمية المختلفة من أهمية استراتيجية جعلت من دولها هدفًا للغزاة على مر العصور وأوجدت تاريخًا مشتركًا بين هذه الشعوب عضد منه وحدة العقيدة وإن اختلفت المذاهب. تأسيسًا على ذلك ووفقًا لبعض المحللين الاستراتيجيين[8] تعد الشريحة العربية الإيرانية التركية الشرط الأساسي للسيطرة على جغرافيا العالم، وهو ما يصنع مشتركًا جيوبوليتيكيًا بين الأطراف الثلاثة يمكن إضافته إلى مشتركات الثقافة والجغرافيا والتاريخ بينها، وصولا إلى درجات أعلى من التنسيق والتعاون الإقليميين، كبداية على الطريق الطويل نحو إعادة اكتشاف سكان المنطقة لمصالحهم المشتركة.
· يمكن أيضا ملاحظة فعالية الجانب غير الرسمي غير المؤسسي للحوار بشكل أكبر من الجانب المؤسسي للحوار، ويمكن إثبات ذلك من خلال النظر إلى أنشطة المراكز البحثية الداعية للحوار والداعمة له ودورها في‏ إقامة هذه المؤتمرات والمنتديات، وهو دور محوري لكن مأسسته أمر يحتاج إلى دعم كبير ولو معنويًا من الحكومات في‏ الدول الإسلامية.
· كذلك يلاحظ غياب اللغة المشتركة في‏ الحوار البيني، وذلك ربما للقطيعة التاريخية بين دول العالم الإسلامي وبعضها البعض والتي أوجدها الاستعمار ودعمتها النظم التي ورثته من خلال الاستمرار على طرائق التعليم التي وضعها المستعمر.
فالصور النمطية المتبادلة بين العرب والأتراك والإيرانيين، ناهيك عن الصور النمطية بين معظم الدول الإسلامية وبعضها البعض، ‏صور مشوهة وربما تحتاج إلى مجهودات مضنية لتصحيحها ذلك أنها تمر عبر شبكة فلترة للقوى المهيمنة على النظام الدولي لتمرير ما يتوافق مع مصالحها.
كذلك الصور النمطية المتبادلة بين المسلمين وغيرهم سواء داخل الدولة الواحدة أو العالم ككل هي ‏صورة مشوهة ومشوبة بكثير من التعتيم على الحقائق، في‏ عصر لم يعد التعتيم فيه أمرًا مقبولا أو متوقع أن يستمر، وذلك في‏ محاولات منا كأفراد وكدول لإثبات الذات ونفي‏ الآخر، وهو ما يجعل الحوارات تسير مسار الصراع أو الجدل العقيم من أجل الجدل ليس إلا.

متطلبات الحوار البيني ‏وفقًا لعوامل القصور في‏ أنشطة المؤسسات الثقافية الدولية

أولا- تصحيح الصور المتبادلة بين الدول العربية والإسلامية وبعضها البعض من ناحية وبينها وبين الدول الغربية من ناحية أخرى، وهو ما يتطلب جهدًا مشتركًا متبادلا سواءً على مستوى الشعوب أم على مستوى الحكومات، وذلك من خلال تشجيع دور مراكز الأبحاث ومنظمات المجتمع المدني المحلية والدولية على توضيح الصور المتبادلة على حقيقتها ونقد الزائف منها مما يسهم في‏ إيضاح الحقائق، وتوضيح أوجه القصور في‏ رؤية الذات والآخر.
ثانيًا- إيجاد لغة مشتركة بين المشاركين في‏ الحوار البيني ‏على مستوى العالم الإسلامي وذلك بتعزيز اللغة العربية كلغة للحوار بين الدول والشعوب الإسلامية مع تفعيل التعلم المتبادل للغات دولنا الإسلامية، ومن خلال تشجيع تعلم اللغات وليس التعلم بها لتفعيل الحوار بين العالم الإسلامي والغرب.
ثالثًا- إعادة النظر في‏ مفهوم المصلحة القومية للدول القطرية العربية والإسلامية ولتحل محلها مفاهيم مصلحة الأمة عند الحوار مع الآخر بما يضمن تحاضن وتكامل هذه المصالح بدلا من الفهم المغلوط لهذه المفاهيم والذى قد يحكم بتصارعها وتعارضها من دون ما دليل، وتوظيف العامل الثقافي‏ في‏ توضيح تلك الرؤى ومناقشتها بمنتهى ‏الصراحة بحثًا عن الحقائق وليس إثباتًا للذات.
رابعًا- تجنب مسألة تصارع الأدوار فيما بين دول العالم الإسلامي وشعوبها فكلنا يسعى لأهداف واحدة وإن اختلفت الوسائل، ويتحقق ذلك من خلال التحديد الدقيق للمفاهيم سواء السياسية أو الثقافية وأبعادهما الاقتصادية، وبما يضمن تكامل الأدوار وتقاسم الخيرات والمنافع الناتجة عن الحوار لا الصراع عليها. وتجدر الإشارة في‏ هذا الصدد إلى فكرة رابطة دول الجوار[9] التي أطلقها الأمين العام لجامعة الدول العربية السيد عمرو موسى في‏ قمة سرت الليبية مارس 2010 وهي ‏فكرة متميزة نتمنى أن تصل إلى حيز التطبيق يومًا ما.
من المهم كذلك أن تكون هناك دراسات جدوى لهذا الحوار سواء على المستوى البيني ‏(بين الدول الإسلامية وبعضها) أو المستوى العالمي (بين دول العالم الإسلامي والدول الأخرى)، ولا بد من إجادة استخدام ورقة الأقليات العربية والإسلامية في‏ الدول غير الإسلامية في‏ مسألة توضيح الصورة وتصحيحها، وذلك من خلال إيجاد مصادر للتلاقي والعمل المشترك بين مؤسسات العمل الإسلامي في‏ الدول غير الإسلامية وبعضها البعض، وبينها وبين المؤسسات الأخرى العاملة في‏ ميدان الحوار الحضاري والثقافي‏ وفي‏ المجالات الأخرى كلما أمكن مع التركيز على تلافي‏ الخلافات المذهبية والعرقية وطرحها جانبًا في‏ الحوار مع الآخر، واعتبارها قضية حوار بيني ‏أصيلة.
والمضي قدما في‏ المنتديات الحوارية البينية، وإعطائها طابع غير رسمي بالإضافة إلى طابعها الرسمي، مثل منتدى الحوار العربي -التركي، وإنشاء منتدى حوار عربي – إيراني للتواصل مع فاعل إقليمي قوي لم يعزل دولنا عنه سوى رؤيتها لمصالحها من خلال مرآة غربية وغريبة عنها. وتشجيع التبادل الطلابي بين دول العالم الإسلامي وبعضها البعض وبينها وبين الدول الإفريقية ودول العالم أجمع لأن هؤلاء الطلاب من دول أخرى هم سفراء لنا في‏ دولهم وهم أكثر من يستطيع توصيل الصورة الحقيقية لنا عند دولهم وشعوبهم.
كما ينبغى أن نفهم أن ليس كل الآخر ضدنا فهناك مفكرين غربيين منصفين، وهناك أناس يسعون إلى معرفة الحقائق واستيضاح الصورة عن الآخر غير الغربى، وهناك الكثير من الكتابات التي تدعو للحوار بجدية، بل إن اللحظة الراهنة لحظة تاريخية في‏ توضيح الصور المتبادلة لأن وسائل التعتيم لم تعد مقبولة لدى الكثيرين، ولأنه لا أحد يستطيع أن يصادر على حق الآخرين في‏ الوصول للحقيقة وهم أكثر تقبلا لنقد الذات منا فها هو ذا روجيه جارودي يقول “إننا بحاجة إلى الآخرين وأتمنى أن يأتي متعاونون من آسيا وإفريقيا ليكملوا تربيتنا إننا في‏ عدد كبير من النقاط في‏ الحياة متخلفون”[10] وهناك الكثير من المستشرقين المنصفين، كما أن لدينا في‏ ثقافتنا الشائعة نفي‏ للآخر يحتاج إلى إعادة نظر.

خاتمة

من خلال البحث والتدقيق في‏ أنشطة المؤسسات الثقافية الدولية أمكن ملاحظة أن حوار الحضارات حوار هامشي في‏ أنشطة تلك المؤسسات، وربما يأتي في‏ سياق حوارات اقتصادية وسياسية، كلما استدعت الحاجة لذلك، وإن كنت أؤمن أن حوار الحضارات مفهوم شامل له أبعاد اقتصادية وسياسية وعسكرية وأمنية، وربما لا يشاطرني الكثيرون هذه الرؤية، لكنني على قناعة أن هذا المفهوم سيثبت شموله وأجدريته بالتناول في‏ عالم لم نعد نتحدث فيه عن سياسات دولية بل سياسات عالمية بما تحمله الكلمة من معانٍ تتمثل في‏ أن هذا القرن هو قرن حقوق الأفراد بامتياز بحيث تعاظمت حقوق الأفراد وبدأنا نتحدث عن تراجع سيادة الدولة لصالح سيادة الفرد وكذلك الحديث عن العولمة التي بدأت تتحول إلى واقع وسياسات ومؤسسات وتغير في‏ بنى المجتمعات التقليدية بوسائل غير تقليدية، وتحقق نتائج غير متوقعة، كذلك الحديث عن دور التكنولوجيا في‏ تغيير السياقات الاجتماعية وظهور ما يسمى بالمجتمعات الافتراضية وكذلك سحبها للتحكم من الدول الصغرى مع السماح لها بالحكم بحكم الفجوة التكنولوجية بين الشمال والجنوب.
في‏ خضم التطورات السابقة فإن حوارًا بينيًا بين أفراد الأسرة الواحدة وبين الدول والشعوب الإسلامية وبعضها البعض وبينها وبين العالم بشعوبه وأعراقه المختلفة يبدو أمرًا حتميًا يفرض نفسه، وإن لم يتم استيعابه مؤسسيًا فسوف يجري بوسائل أخرى وقد تقود إلى صراع أو تكامل، ومن هنا فمأسسة الحوار هي ‏الحل الأمثل، وهذا لا يعني اتباع الحوار كخيار وحيد ونفي‏ الصراع وإنما الحوار لابد أن يكون خيارًا وحيدًا بين أبناء الأمة الواحدة، أما فيما عدا ذلك فهو وسيلة من ضمن وسائل أخرى لإدارة علاقات العالم الإسلامي مع ما يحيط به من قوى ومشكلات وأزمات. لكن أن نصبح أكثر تشتتًا وابتعادًا عن فهم بعضنا البعض في‏ عالم تدعو كل المؤشرات فيه في‏ جوهرها إلى التقارب لتلافي‏ الصراع فهذا هو الأمر الغريب.
*****

الهوامش:

[1] Michalis S.Michalis and Fabio Petito, ” IMPERIAL MONOLOGUE OR CIVILIZATIONAL DIALOGUE?” , in Michalis S.Michalis and Fabio Petito (Eds.),” civilizational dialogue and world order” ,pal grave, Macmillan press 2009.ch 1 pp 1-25
[2] د. نادية محمود مصطفي‏، سلسلة محاضرات حوار الحضارات (2)، خطابات عربية وغربية في‏ حوار الحضارات، على‏ موقع مركز الدراسات الحضارية وحوار الثقافات بجامعة القاهرة، على الرابط التالى :
http://www.hewaronline.net/Publications/4.htm
[3] http://www.unesco.org/ar/cultural-diversity
[4] للاطلاع على البيان انظر: www.isesco.org.ma/english/confSpec/…/Communiqué%20finalAr.DOC
[5] حيث قام الأزهر ومجمع البحوث الإسلامية بتجميد الحوار مع الفاتيكان كرد فعل للتصريحات التى أدلى بها بابا الفاتيكان عن أوضاع المسيحيين في‏ مصر، على خلفية أحداث كنيسة القديسين بالاسكندرية مطلع 2011، لمزيد من التفاصيل انظر موقع إسلام أونلاين الخمييس 20/1/ 2011 على الرابط التالى: http://www.islammemo.cc/akhbar/arab/2011/01/20/115741.html
[6] انظر تغطية أمجد جبريل للمؤتمر العربى التركى الأول للعلوم الاجتماعية بعنوان ” حوار هادئ في أعقاب المؤتمر العربي – التركي الأول للعلوم الاجتماعية الأكاديميا والسياسة.. علاقة لمشروع نهضوي فعال”، على الرابط التالى:
http://www.onislam.net/arabic/madarik/culture-ideas/127485-turkish-arab-academy.html
[7] بولنت أراس، حقبة أحمد داود أوغلو في السياسة الخارجية التركية، ترجمة: غسان رملاوي، شؤون الأوسط، العدد 135، ربيع 2010، ص 49-51.
[8] د. مصطفي‏ اللباد، “الأبعاد الجيوبوليتيكية للحوار العربي التركي الإيراني “، في‏ موقع مركز الجزيرة للدراسات، على الرابط التالى: http://www.aljazeera.net/NR/exeres/DB5675F3-44F1-4EB5-A9C4-C9D258F0980F.htm
[9] تقوم فكرة رابطة دول الجوار على أن تقوم رابطة اقتصادية وسياسية وثقافية بين دول الجوار للمنطقة العربية وبين دول الجامعة بشكل مؤسسي ومن الدول التي كانت مطروحة للدخول في‏ الرابطة إيران وتركيا وتشاد وربما باكستان وبعض الدول المهمة في‏ العلاقات العربية.
[10] روجيه جارودى، في‏ سبيل حوار الحضارات، ترجمة الدكتور عادل العوا، بيروت: عويدات للنشر والطباعة، ط4، 1999، ص 107.

نشر في حولية أمتي في العالم، عدد 2011

للتحميل اضغط هنا

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى