الحوار بين الثقافة والسياسة

أولاً
في الستينيات من القرن العشرين، في عزّ تشكُّل حركات الاستقلال الوطني في بلاد أفريقيا وآسيا وأمريكا اللاتينية، وفي عزّ انتصار هذه الحركات في بلادنا وإقامتها حكومات الاستقلال الوطني وتنقيبها عن سُبل النهوض بالشعوب وامتلاكها لزمامها السياسي والاقتصادي، ومع قدر اليقظة المستطاع في متابعة تجارب النهوض الاجتماعي وما تواجه من نجاح وفشل، أو من تسارع وتباطؤ، في ذلك الوقت بدأ الجدل يدور بين المفكرين والمتخصصين من النخب الثقافية لهذه البلاد حول تبادل الخبرات، فصار المصريون مثلاً ينظرون إلى الصين مثلاً وإلى الجزائر مثلاً، وصار الجزائريون مثلاً ينظرون إلى غينيا مثلاً وتنزانيا مثلاً وهكذا. وكنا نقرأ لمثل فرانز فانون عن “معذبو الأرض”، الكتاب الذي يوضح أساليب التحرر، ولمثل كتاب “ثورة على الثورة” الذي يتحدث عما اعترى ثورات وحركات تحرر من جمود وترهل، وما أنتجت من ظهور طبقات حاكمة جديدة، وما اعترى هؤلاء من ملامح التخلي عن جزء من مثالياتهم وتوجهاتهم الفلسفية ونزعتهم الطوباوية، وكيف السبيل لاسترداد هذه المُثل.
وفي إحدى المقدمات التي كتبها جان بول سارتر، الفيلسوف الفرنسي المعاصر الذي اشتُهر وقتها بمواقفه شديدة التعاطف مع حركات تحرير شعوب العالم الثالث، ووقف ضد سياسة فرنسا الاستعمارية متعاطفًا مع حركة تحرير الجزائر، في إحدى هذه المقدمات حفظت ذاكرتي ملاحظةً له بالغةَ الذكاء: قال إن شعوب آسيا وأفريقيا ومفكريها، كانوا عندما يتكلمون يخاطبون الغرب والغربيين، وكان الغرب هو من يوجَّه إليه أحاديث هؤلاء، ولكن ثمة جديدًا ظهر في الخمسينيات والستينيات من ذلك القرن العشرين مع حركات التحرر والاستقلال؛ وهو أن شعوب هذه البلدان صاروا يتخاطبون بين بعضهم البعض ولا يوجِّهون حديثهم إلى الغربيين، وصار الغرب يتسمع إلى أحاديث هؤلاء وهم يتبادلون حواراتهم.
هذه ملاحظة بدت لي ذاتَ أهمية، حفظتها في وجداني؛ لأنها ذات دلالة مهمة فيما تشير إليه من تحرر الوعي والإدراك لدى شعوبنا التي كانت محتلة ومستعمَرة، والتي كان الاستعمار قد تغلغل لدى مثقفين من أهلها حتى ارتبط لديهم الوعيُ والإدراك برباط التبعية والإلحاق. ونحن نعرف أن أي حديث أو خطاب لا يكتمل مفاده لدى متابعه إلا من خلال إدراكه للعلاقة التي تربط بين طرفي الحديث؛ أي المتكلم المخاطِب والسامع المخاطَب، وأن دلالة الخطاب تكون ناقصة ومبتسرة إن عزل الخطاب عن متلقيه؛ لأن الخطاب علاقة وليس فعلاً منفردًا وحيد الطرف، ولأن طبيعة العلاقة بين الطرفين هي ما يعين جوهر المعنى المؤدَّى من الخطاب.
إننا بالخطاب الموجَّه للغرب إنما نتحاور معه، والحوار مطلوب طبعًا بين كل من تجمعهم علاقةٌ ما، ولكن المشكلة هي مدى ملاءمة “موضوع” الحوار “لنوعية” العلاقة القائمة، ومَن الطرفُ الذي يحدد العلاقة ويعيّن النوعية.
وفي إطار هذه العلاقة نلحظ أن الحوار يدور عن “أنفسنا”، وأن الغرب هو من رسم موضوعه، فهو الأصل ونحن المتغير، وهو مَن يقود الحوار ويسأل ونحن نجيب، وهو من يرتب المسائلَ المسئولَ عنها ونحن نتبعه في ذلك، وهو يصوغ المفاهيم الخاصة بالعلاقة ونحن نستخدم ذات المفاهيم، ثم هو يقرر أن مفاهيمه هي “العلم” بما يفضي إليه ذلك من جبر الآخرين على الانصياع لها لأنها “الحقيقة الموضوعية”، فيصير: هو النظام ونحن الإرهاب وهو الاستقرار ونحن القلاقل وهو السلم ونحن الحرب.
إن التبعية والإلحاق في مجال الوعي والإدراك، تفضي بنا إلى أن ننظر إلى أمورنا لا كما هي عندنا، ولكن ننظر إليها كما يراها غيرُنا، وهذا هو عين الاغتراب؛ عين الذهول عن الذات. نحن نكون بذلك كالطفل الذي ينجرح أُصبعه فيقول: “أصبعه انجرح”، بدلاً من: “أصبعي انجرح”. ولكنّ عذر الطفل أنه صغير وناقص الإدراك، وأنه في حضن أمه التي ترعاه أكثر من رعايتها لنفسها، فلا يسوغ ذلك لكبيرٍ مدرِك إزاء طامع فيه مستكبِر عليه.
التبعية والإلحاق في مجال الوعي تجعلنا ننظر إلى ذوينا بعيون غربية، ونصنف مشاكلنا بمثل ما يصنفها الغرب، ونرتب أولوياتنا بالترتيب الذي يصفه، ونحكم على أنفسنا بميزانه، ونسمى أحوالنا بما يطلقه عليها من أوصاف، ونعتمد لشئوننا جدول الأعمال الذي يصفه هو، فتصير حقوق الأفراد أهمَّ من حقوق الشعوب، وتحرُّر المرأة من جبروت الرجل أهمّ من تحرر البلد المحتل من سطوة الاحتلال الاستيطاني وطرد الشعوب من أوطانها. ومن هذا جميعه، تظهر أهمية الملاحظة التي ذكرها “سارتر” حول تبدُّل الطرف المخاطب؛ لأنه صار طرفًا مثيلاً وليس طرفًا متناقضًا، فاختلفت طبيعة العلاقة بين الطرفين واختلف موضوعها ومعايير تبادلها، وكان ذلك في لحظات تاريخية لم يُكتب لها البقاء.
ثانيًّا
أسفرت الأوضاع الثقافية الظاهرة الآن عما تنشره المنابر الرسمية والحكومية وأجهزة الإعلام المدعومة من الخارج أو من الحكومات التابعة للمصالح الغربية اليوم. وصرنا نسمع النفخ في النفير يأتي من ناحية الغرب، وبخاصة الغرب الأنجلوساكسوني، وبوجه أخص من غرب المحيط الأطلسي: من الولايات المتحدة الأمريكية. ويتحرك أناسٌ عندنا بهذا النفخ ويتراقصون على نغمات النفير. ولولا ذلك لما كان هذا الاهتمام العجيب الذي لا ينتهي بمقولات هانتجتون عن صراع الحضارات أو مقالات فوكوياما عن نهاية التاريخ، وهي أعمال لا تنبئ بصواب ظاهر ولا بأعماق ثقافية يؤبه بها. ولولا ذلك لما كان هذا الاهتمام الأعجب بفكرة “الشرق الأوسط الكبير” التي أطلقتها السياسة الأمريكية، أو بفكرة “تجديد الخطاب الديني” و”الحداثة” و”العولمة” بالصور التي يظهر بها كل ذلك؛ فصارت هي جدول أعمالٍ لمفكرين ومثقفين ذاهلين عن أنفسهم وعن متطلبات شعوبهم في الاستقلال وتحرير الإرادة السياسية لدولهم التابعة، وكفالة أمنهم القومي من المخاطر الخارجية، وتنمية الاقتصاد بما يكفل إشباع الحاجات الأساسية للشعوب.
كم تمنيت أن يعكف بعض الدارسين على إحصاء عدد الندوات والمؤتمرات وخطب المسئولين وغيرهم وأحاديث الصحف ومناقشات الإذاعة والتليفزيون والمقالات والكتب، التي جرت في بلادنا العربية في السنوات الأخيرة، وها نحن نجد جهدًا من هذا النوع الذي يشير إلى هذا الأمر ويجهد في أن يفرز توجهاته وأنماطه.
وأهم ما يبدو لي مما أود إيضاحه هنا، أن ما يتعين أن تكون عليه نظرتنا، في زماننا هذا وفي مكاننا هذا، أن جوهر الصراع القائم بيننا وبين الغرب هو صراع سياسي، وهو صراع متولد عن استعمار استيطاني في فلسطين، وعن سيطرة عسكرية واقتصادية وسياسية في الخليج العربي، وعن احتلال عسكري في أفغانستان، وعن غزوٍ للعراق واحتلالٍ له وتدمير، ثم عن سيطرة سياسية على الكثير من بلادنا العربية وغيرها، يتمثل في استتباع أجهزة الحكم ورجاله لقوى الهيمنة الدولية، وللولايات المتحدة الأمريكية على وجه التحديد، ويتمثل في إثارة وجوه التفكيك في الوحدات السياسية القائمة كما يحدث في السودان والعراق والصومال، أو في تهديد الأمن القومي؛ ضغطًا على الإرادة السياسية وإخضاعًا لها. وإذا لم يكن ذلك كله سياسية، فماذا تكون السياسة؟
ولكن أجهزة الفكر والإعلام السياسي الأمريكية على وجه الخصوص، تصور الأمر على أساس أن الصراع الدائر هو صراع ثقافي يدور في هذا المجال، هكذا أعلنها هانتجتون وغيره، وهكذا يجري وصفه وتصويره الآن.
والسبب في ظني يرجع إلى أنه إذا وصفت طبيعة الصراع باعتباره صراعًا سياسيًّا فإنه يظهر مباشرة أن الولايات المتحدة هي المعتدية ونحن المعتدَى علينا؛ لأن المكافحة تدور على الأرض العربية وأراضي شعوب المسلمين وليس غيرها، وهي تدور بين العرب والمسلمين في بلادهم وبين الأمريكيين ومَن تحالفَ معهم من دول الغرب؛ ولأن حجم الضحايا العرب والمسلمين في بلادهم أضعافَ أضعاف حجم الضحايا من جيوش الغزو والاحتلال؛ ولأن حجم التدمير الهائل يجري في الأراضي المحتلة، كما أن موطن الثروات الطبيعية المطموع فيها هي أرض العرب والمسلمين؛ ولأن الحل الوحيد الحاسم لهذا الصراع هو أن يعود الغريب الأجنبي إلى بلده وأن ترتفع الأيدي عن أرض الغير وشعوبهم.
إنما إذا وصفت المسألة -كما هو حادثٌ الآن- وصفًا ثقافيًّا، ووُصف الصراع بأنه صراع فكري وثقافي أو حضاري، فإن ذلك معناه أن شعوبًا وأناسًا بسبب ما يدينون به من دين وما يملأ رؤوسهم من عقائد وما يقتنعون به آراء وأصول فكرية، إنما يُمسكون بالسلاح ويقتلون الآخرين. والعدوان المادي على الآخرين يحتاج إلى صياغات فكرية مواتية، والحديث عن الصراع الثقافي يخدم هذه الصياغة، بل هو هذه الصياغة. ومن يضرب أقوامًا لابد أن يرميهم بالنقص أو بالخيانة أو القسوة وبكل ما هو قبيح. وهذا لا يصدر فقط عن الرغبة في تسويغ العدوان لدى الغير، بل يصدر أيضًا عن التصميم على إشعار المضروب بالنقص المعنوي ليسلَم زمامه للمعتدِي.
إن من استسلم منّا للعدوان في هذه المرحلة الأخيرة من نهايات القرن العشرين وبوابات هذا القرن، صار يستجيب لتلك الصياغة، سواء كان من الحكومات أو من المفكرين والقائمين على أجهزة الإعلام. ومن هنا نلحظ هذا النشاط الدائب لعقد المؤتمرات والندوات وحشد الأحاديث والمقالات عن سماحة الإسلام وتجدد الإسلام ومرونة الفكر الإسلامي، وعن “نحن والآخر” ونظرتنا إلى غيرنا… وهكذا.
والحقيقة أننا عندما نحتاج إلى نظر جديد في رأي من الآراء المستمدة من المرجعية الإسلامية، إنما نثير هذا الأمر في صوره العينية الملموسة وفي سياقه الحاصل لنصل إلى الرأي بشأنه. وكذلك الأمر بالنسبة لأية مسألة تتعلق بعلاقتنا بغيرنا، تثور في إطار محدد معين بالزمان والمكان والسياق الحاصل، ونصل إلى الرأي في إطار أوضاعنا واحتياجاتنا الذاتية. أما أن نبذل كل تلك الجهود تفكيرًا وإعلانًا وتثبيتًا لنقول إننا نقبل التجديد بعامة وإننا متسامحون مرنون ونألف الآخرين بعامة، فهذا من أفعال المواجَهين بالتهم والأقاويل يريدون أن ينفوها عن ذواتهم ليثبتوا لمن يتهمهم أنهم أبرياء. إن الأصل هو ألا نقبل التهمة وألا نُستدرج إلى حوارات من هذا النوع؛ لأن أول مراحل الاستسلام للاستعباد الفكري هي أن تقبل التهمة الموجهة إليك وتقبل التخاطب بشأنها مع مَن يوجهها إليك ممن هم الأحق بأن تُوجه إليهم.
لذلك يتعين أن نعود إلى الموقف الذي كنا عليه مما سبق لجان بول سارتر أن وصفه.
ثالثًا
كان أحمد لطفي السيد، المفكر والسياسي المرموق في بدايات القرن العشرين في مصر، ومَن أطلق عليه أهل جيله من المحدَثين المصريين وقتها لقب “أستاذ الجيل”، كان (رحمه الله) أستاذَ الحداثة ورائدًا من كبار دعاة النزعة العلمانية بين مصريي هذا الجيل، وهو ممن قاوم مفهوم “الجماعة الإسلامية” بوصفها جماعة سياسية، وحبَّذ النظر إلى مصر في الإطار القطري لها، وكان ممن يسوون بين التبعية للخلافة العثمانية الإسلامية وبين التبعية للإنجليز؛ ومن ثم فهو ممن لا يمكن أن تفسر أقوالهم ولا مواقفهم بأنهم ذو نزعة إسلامية سياسية، ولا يمكن اتهامه بعصبية دينية إسلامية.
أقول ذلك قبل أن أنقل عنه عبارة كتبها في مقال نشره في صحيفته “الجريدة” في 9 أبريل سنة 1908 بعنوان “نحن والاستقلال”، كتب يقول: “كنا نظن أن إشاعة التعصب الديني وإيهام أوروبا أن في مصر خطرًا يجب الاستعداد له كانت من بنات أفكار اللورد كرومر يستعين بها في الدفاع عن نفسه وتبرير أعماله أمام أعدائه وأعضاء البرلمان الإنجليزي، ولكن يظهر أن هذه “مودة” إنجليزية يلبسها الإنجليزي كما يلبس رداءه الواسع وحذائيه الثقيلين، وأن تهمة التعصب يظهر أنها قاعدة سياسية يعتنقها الإنجليز ليعملوا بها في مصر، فإنها عندهم تساوي قاعدة الباب المفتوح في التجارة، أو قاعدة الفرار من النظريات إلى العمليات في العلوم”.
أُثبت هذه العبارة لأوضح للقارئ، أننا في يومنا هذا بعد مائه سنة وسنة، إذا استبدلنا باسم “كرومر” اسم الرئيس الأمريكي “جورج بوش” وبالإنجليز الأمريكيين، لصحّ قول لطفي السيد ولَخِلْناه واصفًا به حالنا في سنة 2009، وأن ما يقال اليوم عن الإسلام والتعصب، له أقرانه بما يسمونه في الغرب عنفًا أو جمودًا أو تخلفًا، هو جزء من سياسات الغرب التوسعية في بلادنا، وهو يرد مع مبدأ الباب المفتوح الذي نسميه اليوم بالانفتاح أو حرية التجارة مما صمم لغزو بلادنا واستتباعها اقتصاديًّا. ولا أريد أن استطرد بذكر ما كان في حادث دنشواي بمصر في سنة 1906 الذي أعُدم فيه مصريون بغير جريرة وبرر الإنجليز ذلك بتعصب المصريين المسلمين الديني.
والسؤال الذي لابد أن يثور هو: هل كان من الممكن أن يجري احتلال أفغانستان ثم العراق وإعادة ضرب الصومال وحصار السودان ومحاولة تفكيكه والسيطرة على حكومات الدول الموالية للغرب، دون أن يصحب ذلك أنواعٌ من الحروب النفسية تمثَّل أهم ميادينها في تهمة التعصب الإسلامي.
إن ما ينبغي أن نتنبّه إليه أن التهم التي تُكال علينا في هذا الشأن إنما هي نوع من ممارسة العدوان؛ فإن استباحة الحدود بالعدوان المسلح يصاحبها استباحة السوق بحرية التجارة، ويصاحبها استباحة الحرمات بالسيطرة على الإرادات الوطنية للدول، ويصاحبها كذلك استباحة العقول بالطعن في العقائد والقيم بغية تغييرها والإحلال محلها. ولا يُعقل ألا يصاحب فعلَ العدوان العسكري والاقتصادي فعلُ عدوانٍ فكري يصور المعتدَى عليهم بالصور المزرية وينعتهم بالهمجية أو بالجمود أو التخلف أو التعصب، ولا يعقل أن يمتدح المعتدي أيَّ أمرٍ لدى المعتدى عليه وهو يمارس العدوان عليه. إن المتلاكمين والمتصارعين في حلبات الضِّراب يتشاتمون وهم يمارسون الضرب والركل، رغم أن أعمالهم لعب وليست جدًا…
أقصد بهذا الحديث أن أخطأ ما نقع فيه من خطأ، هو أن نُستدرج إلى مناقشةِ ما يفرضه المعتدي علينا من موضوعات حوار تتعلق بذواتنا الثقافية والحضارية والفكرية، وأن نتصور أن دفاعنا عن أوضاعنا في هذه المجالات وعن عقائدنا وقناعاتنا هو مما يمكن أن يقنعهم بجدراتنا لعدم عدوانهم علينا، فيقتنعون بحقوقنا ويحترموها ويسلموا بها، وأن استدراجهم لنا في هذه الأمور يشغلنا ويصرفنا عما يتعين أن تكون له الأولوية في نشاطنا الفكري، إذا رتبنا احتياجاتنا بما يستجيب لحقيقة مشاكلنا وأوضاعنا. فهو نوع من تبديد الطاقة والإلهاء بالأقل أهمية. وفضلاً عن ذلك فإن الانصياع للحديث عن الذات فيه قدر من الاعتراف بالتهمة، وفيه معنى التسليم ببعض ما يثار، وفيه أيضًا قبول لحاكمية الآخر المعتدي والاحتكام إلى مسلماته والتوسل إلى قناعاته؛ لأن أول خطوات إقناع الآخر هو أن تبدأ من مسلماته وتقرّ بأوليات ما يذكر. مع أن الأمر كله أمر عدوان ثقافي يستر أو يصاحب عدوانًا سياسيًّا من ساسة ذوي أطماع وأهداف أنانية في السيطرة والتحكم.
رابعًا
في إطار أن يتحاور بعضنا مع بعض في شئوننا الذاتية، لنفهم وقائعنا وحقائق أوضاعنا وما نعالج به شئوننا، فأظن أننا نحتاج إلى إدراك عدد من الأمور:
أولها- أحسب أن مذهبًا فكريًّا أو مدرسة فكرية لا تظهر في ظرف اجتماعي وتاريخي معين، إلا أن تكون تعبيرًا عن ظاهرة حاضرة في هذا الظرف الاجتماعي التاريخي، قوية كانت هذه الظاهرة الحاضرة أو ضعيفة، وصائبًا كان هذا التعبير أو خاطئًا، فهي تكون معبرة عن رؤية للظاهرة وعن وجهة نظر معينة في تحديد ما ينشأ عنها من أمور، ووجهة نظر معينة في تبين جوانب الاستجابة والحلول لهذه الأمور.
وأن كل جماعة ثقافية وهي تتعامل مع ما جدّ في حاضرها من مواجهات، إنما تتعاطى من مخزون ثقافتها وتسحب من رصيدها الفكري المتراكم عبر المراحل التاريخية السابقة، والذي يتكون منه التشكل العقلي والنفسي لهذه الجماعة: عقائد ومواريث وخبرات تاريخية.
ونحن نعرف أن حركات تحرير الشعوب المستعمَرة وحركات مقاومة الغزو الأجنبي والعدوان، إنما اتخذت تعبيرات شتى مع اختلاف عقائد الشعوب وتجارب الأمم، فاتخذت حركة غاندي في الهند تعبيرًا يستمد أصوله من الهندوسية، واتخذت ذات حركة التحرير المهدية في السودان تعبيرًا مستمدًا من إسلامية الشعب السوداني، وكذلك كان فكر الأفغاني ثم الحزب الوطني في مصر. فلما حدث الازدواج الحضاري الثقافي في مصر وبلاد الشام مع العشرينات من القرن العشرين، ظهر تعبيران عن الحركة الوطنية، مثل التعبير الوفدي العلماني في مصر، وتعبير الإخوان المسلمين في مصر أيضًا يرد من المورد الثقافي الإسلامي.
وفي أوروبا مثلاً، فإن بناء النموذج الديمقراطي في فرنسا أوائل القرن التاسع عشر استدعى رصيدًا تاريخيًّا من نظم الإغريق المسماة بالديمقراطية. وعلى خلاف ذلك فإن بناء الدولة القومية الموحدة لألمانيا وولاياتها المبعثرة في منتصف القرن التاسع عشر استدعى رصيدًا تاريخيًّا ثقافيًّا من نظم الإمبراطورية الرومانية القديمة. وحتى النظم الفاشية والنازية التي عرفتها أوروبا في النصف الأول من القرن العشرين، فقد ظهرت فاشية إيطاليا في العشرينات متشحة بعباءة الأمجاد الرومانية القديمة وبعثها، وظهرت نازية ألمانيا في الثلاثينيات من خلال الفكر الاشتراكي السائد هناك وقتها ممتزجًا بالفكر العنصري. ويقال إنه عندما ظهرت في الولايات المتحدة الأمريكية حركة شبيهة تسربلت بالفكر الليبرالي، وكذلك حدث مع مكارثي في الولايات المتحدة في خمسينيات القرن العشرين.
ثانيًا- إن كل تيار فكري أو سياسي إنما يحتوي على إمكانات غلوّ وإمكانات اعتدال، وأن الواقع المعيشي أو الظرف التاريخي أو موقف جماعة معينة ورؤيتها فيما يتضمنه هذا التيار، إن أيًّا من ذلك هو ما يُنعش أيًّا من إمكانات الغلو أو الاعتدال أو يضمرها. كما أنه في كل من الحركات السياسية تقوم إمكانات لاستخدام العنف وإمكان لاتّباع الأساليب السلمية، وأن الغلو والاعتدال يتعلقان بالأهداف المبتغاة، وهو يقاس بتقدير مدى الفروق بين أوضاع الحاضر في رؤية تيار سياسي محدد، وبين الأهداف المطالب بها أو صورة المستقبل التي يرنو لتتحقق على يديه، وكلما اتسعت الفجوة بين رؤيته للحاضر وبين ما يستهدفه مستقبلاً كان هذا التيار أجنح للغلوّ، وكلما ضاقت هذه الفجوة كان أجنح للاعتدال. كما أن العنف والسلم يتعلقان بالوسائل المتخذة لبلوغ الأهداف، فحيث ترى أي حركة سياسية إمكان تحقيق الأهداف بالتداخلات الاجتماعية والتخلل الاجتماعي والسياسي والأسلوب التدريجي، تتبع الحركة الأساليب السلمية، وحيث ترى حركة سياسية ما -وفق تقديرها- أن الوضع القائم يستعصي على التغيير المطلوب بالسلمية وبالتدرج، لا تجد هذه الحركة مناصًا من استخدام العنف. واستخدام العنف يقتضي مفاصلة ومفارقة بين حركة التغيير السياسية وبين هيئات المجتمع ومؤسساته القائمة، واستخدام الوسائل السلمية يقتضي الاندماج والاشتباك والتخلل لمؤسسات المجتمع وهيئاته… وهكذا، وكلٌ يستدعى من وجوه النظر الفكري ما يناسب حاله ورؤيته وأهدافه.
خامسًا
كل ذلك تقوم فيه الخيارات والتنوع على أساس تقدير الواقع وفق رؤية تيارات بعينها أو حركات فكرية وسياسية معينة في الزمان والمكان المعيّنين. والتفكير السياسي والاجتماعي في كل ذلك إنما يظهر من واقع يستدعي “مخزونًا ثقافيًّا”. ومن هنا ندرك التباين الواسع بين ما اتصف به في مصر كل من الحزب الوطني وحزب الوفد في بدايات القرن العشرين: ما اتصف به كل منهما من النشاط السلمي المشروع، وبين النشاط المغالي والعنيف فترات ليست طويلة ولكنها موجودة من جماعات سياسية أخرى، وبين سلوك طريق الدعوة السلمية السياسية وبين ظهور منظمات سرية لأي من هذين الحزبين في فترات ما. كما ندرك التباين في الثلث الأخير من القرن العشرين داخل الحركات الإسلامية المصرية مثلاً، بين نمط الإخوان المسلمين المعتدل والسلمي الثابت، وبين نمط الجهاديين والجماعة الإسلامية المغالي والمستخدم للعنف، وكل ذلك أساسه الاختلاف في رؤية الواقع المعيش.
كما نلحظ خارج مصر، حركات وطنية اعتمدت على الوسائل السلمية مثل الهند، وحركات وطنية اعتمدت على حروب العصابات مثل الصين وفيتنام، وكذلك حركات اشتراكية اعتمدت على العنف وكانت مغالية مثل شيوعيِّ روسيا، وحركات اشتراكية اعتمدت على السلمية في نشاطها مثل الشيوعيين في إيطاليا. وكذلك بالنسبة للحركات القومية؛ مثل الفارق بين حركة توحيد ألمانيا وحركة توحيد إيطاليا في القرن التاسع عشر. وكذلك الشأن في الحركات الإسلامية، نلحظ الفارق بين حركة تحرير أفغانستان الإسلامية العنيفة ثم حركة طالبان وما يعكس من واقع جبلي وقبلي في البلاد، التباين بين ذلك وبين الحركات الإسلامية في تركيا البلد الآسيوي الأوروبي والمسلم الوارث لبيزنطة منذ عهد العثمانيين، وما تتصف به هذه الحركات من مرونة وسلمية وقدرة على الالتفاف.
ثمة تنوع هائل وتعدد في الرؤى السياسية ووجهات النظر الاجتماعية، حسب ظروف الزمان والمكان، وحسب نوعية المشاكل المطروحة ونوع الصراع الذي يقوم وأطرفه الآخرين، وحسب توجه الجماعة السياسية الاجتماعية التي تتبلور على يديها حركة معينة.
أليس هذا كله ما يتعين أن يدور الحوار بشأنه بين بعضنا البعض، بدلاً من أن نستهلك الجهد والوقت التاريخي المتاح في أن نؤكد ونعيد التأكيد ونزيده بأن فكرنا الإسلامي متسامح ويقبل التجديد ويتصف بالمرونة ويوصي بالإخاء مع الآخرين، هكذا على وجه الإطلاق المجرد من ظروف الواقع المعيش في كل زمان ومكان؟!
والحمد لله

*****

(*) افتتاحية العدد الثامن من حولية أمتي في العالم “الأمة ومشروع النهوض الحضاري: حال الأمة 2008″،(القاهرة: مركز الحضارة للدراسات السياسية،1430هـ/2009م).

للتحميل اضغط هنا

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى