تقييم المنظور الحضاري ونظرة إلى المستقبل

 

  1. مقدمة: أهمية المؤتمر ومدى الحاجة إليه

يمثِّل هذا المؤتمر الذي استغرق أربعةَ أيام، بما قُدِّم فيه من أوراق وما دار فيه من نقاشات، أحدث صورة للمنظور الحضاري. وتتتبَّع الورقة الحالية المقدَّمة من باحث لا ينتمي لهذا المنظور التوجُّهَ العامَّ للمؤتمر. فبعد توثيق المؤتمر توثيقًا موجزًا لاستمرار وجود مسلَّمات معينة في حقل العلاقات الدولية، ركَّز التحليل الرئيسي فيه على كيفية تصدِّي المنظور الحضاري لتلك الهيمنة الثقافية عقب هذا المؤتمر البارز.

وعلى مدار تلك الأيام الأربعة والجلسات السبع، أَنْصَتَ المشاركون في المؤتمر لـ17 ورقة بحثية، بلغ مجموعها 673 صفحة. وتجاوز حجمُ العديد من تلك الأوراق البحثية 60 صفحة (وبعضها تراوح بين 65 و75 صفحة)؛ أي بحجم كتيِّب صغير. وتعكس الأوراق المقدمة أيضًا جهدًا بحثيًّا جادًّا، كما يظهر من هوامشها التي تجاوزت 1200 هامش، ويحتوي الكثير منها على عروض/ تعليقات على المدارس والقضايا الأساسية في حقل العلاقات الدولية. فإذا أضفنا إلى عروض الأوراق تلك التعقيبات، التي قام بها رؤساء الجلسات، وكذلك القضايا التي أُثيرت خلال فترات النقاش، لأدركنا أنَّ مؤتمر القاهرة هذا كان حقًّا مناسبة لمناقشة أحدث ما يتعلَّق بالعلاقات الدولية؛ سواء كحقل أكاديمي أو كممارسة عملية.

وفيما يتَّصل ببؤرة تركيز هذا المؤتمر؛ ألا وهي المنظور الحضاري ذو الأساس الديني، فربما تراود البعضَ شكوكٌ إزاء إبراز دَور الدين في العلاقات الدولية. وتشدد تلك الاعتراضات، التي يشترك فيها دارسون من حقول أكاديمية أخرى، على بعض المسائل المنهاجية وعلى أبعاد أخرى، ككون الدين مسألة خاصة وشخصية، في حين تتعلَّق العلاقات الدولية بمسائل عامة كالقوة والتفاعلات بين مختلف الفاعلين الدوليين. وفي الحقيقة، فإن هذا التشكُّك هو جزء من افتراض منتشر في أرجاء العالم، يشترك في التسليم به دارسون من حقول أكاديمية أخرى غير العلاقات الدولية، ويذهب إلى أن تراجع دور الدين/ صعود العلمانية إنما هو تتمة ضرورية لعملية التحديث. غير أن البيانات تُظهر عكس ذلك بأي حال. فقد أشار استطلاع للرأي، أجرته مؤسسة جالوب عام 2009، أنَّ الدين ما يزال يُضفي المعنى والتماسك على الرؤية الكونية عند قرابة 82% من سكان هذا العالم (Spiele et al, 2013:7). وإن الدين ليلعب أدوارًا مهمة عديدة، من الدفاع عن الهُوية إلى الحضِّ على العنف (مثال: الحريديم في إسرائيل أو اليهود الأرثوذوكس وسياسة الاستيطان؛ وابن لادن والقاعدة).

ونتيجة لذلك، يصرُّ الكثيرون الآن على عدم إمكانية تجاهل تحليل الدين وأثره، ويلفت هؤلاء انتباه المراقبين إلى “الدين كبُعد ائب في فن الحكم” (Johnston and Sampson 1994)، ويصرون على “إعادة الدين” إلى العلاقات الدولية (Fox and Sandler 2004)، ويعملون على “عودة الدين من المنفى” (Petito and Hatzopoulos 2003). ويوجد بالفعل تأييد متزايد للحضور المتنامي للدين في العلاقات الدولية، لدرجة أنه لم يعد بالإمكان تفسير بعض المعالم الرئيسية في العلاقات الدولية تفسيرًا كاملًا من دون أخذ عامل الدين في الحسبان؛ مثل: تأسيس بلدان كإسرائيل أو باكستان أو العربية السعودية؛ وتوظيف -وكذلك امتهان- الدين في التسويق السياسي، مثلما حدث في الحادي عشر من سبتمبر؛ والصعود الحالي للعداء للإسلام (الإسلاموفوبيا) والتصدي له (فضلًا عن مُعاداة السامية في وقت سابق)؛ وتسمية اتفاقات السلام المعقودة بين إسرائيل والعديد من البلدان العربية اتفاقيات إبراهيم. ويدرك مُنظِّرون بارزون في حقل العلاقات الدولية، لم يُعرف عنهم من قبلُ الكتابة عن الدين، أنه صار لزامًا عليهم في الحاضر تناول موضوع الدين (مثال Snyder 2011). وعلاوة على ذلك، تُصدِر العديدُ من دُور النشر الكبرى، مثل بالجريف-ماكميلان، سلاسل خاصة عن “الثقافة والدين في العلاقات الدولية”، ليس كاقتراب ثيوقراطي ولكن كظاهرة اجتماعية وتجسيد للهُويَّة. وهذا هو السبب في أن المنظور الحالي يطلق على نفسه وصف الحضاري؛ ويعدُّ ذاته جزءًا من الاقتراب النقدي العالمي للعلاقات الدولية، ومحاولةً لسد الثغرة بما يمكِّن حقل العلاقات الدولية من أن يعكس التنوُّع الكائن في العالم المعاصر، كما ينبغي أن يكون عليه ذلك.

بعد نشر العديد من إصدارات هذه المدرسة منذ منتصف ثمانينيات القرن العشرين، أتى التركيز في هذا المؤتمر الدولي الهام على ما أطلقت عليه د. نادية مصطفى بحق: التشغيل والتفعيل (انظر بالإضافة إلى ورقتها الضخمة المقدَّمة للمؤتمر، وإشرافها على الإصدار المؤلَّف من 12 مجلدًا الذي يفصل في هذا المشروع في عام 1996، ذلك التركيب الفائق للتوجه العام للمشروع وأسسه في: مصطفى، 2013). ويتصل هذان البُعدان المشار إليهما اتصالًا وثيقًا أحدهما بالآخر؛ إذ سيساعد التفعيل (بمعنى ترجمة المفاهيم المجردة والمتغيرات إلى مؤشرات واقعية محددة) على تطبيق هذا المنظور الهام في الواقع. ولكن، لحسن الطالع أيضًا، ستساعدنا معظم الأوراق السبع عشرة المقدَّمة خلال الأيام الأربعة، وكذلك ملاحظات رؤساء الجلسات، والمناقشات والتعقيبات، على تحقيق هدفَي هذا الاقتراب الحضاري: التشغيل والتفعيل. وبرأيي سيكون الوصول للمزيد من النجاح في تحقيق هذين الهدفين دالًّا في عمليتين اثنتين: أولاهما- عملية أطلق عليها اسم التشابك أو “التفاعل النقدي مع الآخر”؛ بمعنى المواجهة الممنهجة للمسلَّمات السائدة في علم العلاقات الدولية؛ وثانيتهما- التشبيك؛ بمعنى التعاون مع الاقترابات النقدية الأخرى، في بلدان الجنوب وفي الغرب وفي أية مناطق أخرى، بغرض بناء وترسيخ تحالف عالمي فعَّال لدفع التحول في علم العلاقات الدولية (Acharya’s 2014-ISA Presidential Address ; Acharya& Buzan 2019 ;Korany 1983 ;1986;2015).

وبناءً على ما سبق، ستنقسم هذه الورقة إلى ثلاثة أجزاء. يوثِّق الجزء الأول منها المسلمات السائدة في علم العلاقات الدولية، ويتناول ضرورة التشابك من أجل منازلة تلك المسلمات السائدة على أرضها. ولقد اتَّخذتُ أمثلةً على ذلك من بعض الأوراق المقدَّمة للمؤتمر، كي أُشير إلى كيفية المُضِيِّ على هذا الدرب. أما الجزء الثاني من الورقة فيتناول عملية التشبيك الرامية إلى بناء تحالف مع الاقترابات النقدية الأخرى. وستُذكر هنا بعض الأسماء البارزة في الحقل، التي تشترك مع المنظور الحضاري في غاياته، وسيتمُّ التركيز على رائد الاقتراب النقدي في عِلم العلاقات الدولية، روبرت كوكس، لبيان بعض الاهتمامات المشتركة، وحتى بعض النقاط المفصلية المحددة. ويحاول الجزء الثالث من الورقة عرض كيفية الجمع بين عمليتَي التشابك والتشبيك وقيام تدعيم متبادل بينهما. ويتَّخذ هذا الجزء من الدراسات الأمنية (النقدية) والنشأة الناجحة لمفهوم الأمن الإنساني نموذجًا لإلهام المنظور الحضاري. وأخيرًا، تحاول خاتمة الدراسة الربط بين الخيوط الثلاثة.

  1. التشابك أو التفاعل مع “الآخر”: توثيق الهيمنة ومُنازلتها

على الرغم من وجود تلك الهيمنة في العديد من الحقول المعرفية، فإنها غير متوقعة، بل ضارة في حقل العلاقات الدولية، الذي يُظهر سبب وجوده -وحتى اسمه- أنه ينبغي أن يكون مرآة عاكسة للعالم؛ كل العالم (Korany 1983; Korany 1974). وعلى الرغم من الوعي بذلك، فإنَّ ضِيق الحيِّز غير المتوقَّع في الحقل قد احتلَّ مركز النقاش بفضل بحثٍ شديد النقدية نُشِرَ في عام 1977، بعنوان “علم العلاقات الدولية: مدرسة أمريكية في العلوم الاجتماعية”. ويعدُّ مؤلِّف هذا البحث، ستانلي هوفمان، دارسًا بارزًا في إحدى مؤسسات القمَّة في الولايات المتحدة؛ وهي جامعة هارفارد. وهوفمان ينحدر من أصل أوروبي، وكان تلميذًا لعالم الاجتماع الفرنسي الشهير ريمون آرون. وبعد قرابة 45 عامًا من نشر مقال هوفمان، ما يزال السؤال قائمًا: هل تغيَّر ذلك الانحراف المتعلق بالتركيز والتوجُّه القوميين في حقلٍ يُفترض أن يكون عالميًّا؟ بماذا تُخبرنا البيانات؟

1.1- أخذًا في الحسبان للتحديد الكيفي للهيمنة السائدة في علم العلاقات الدولية عند هوفمان، فإن هدفي هنا هو أن أكون محددًا بدرجة أكبر، وأن أبحث عن بيانات تعضِّد وتحدِّث البيانات القديمة، إن وُجدت. وبالفعل توجد بيانات قديمة؛ لعلَّ أكثرها صِلةً وأهمية هو ذلك التحليل الذي أُجريَ عام 2011 للمقررات الدراسية الواسعة الاستخدام؛ إذ صدرت الطبعة الرابعة، بل السادسة للعديد منها (Nossal, 2001). وتبيِّن تلك الكتب بالفعل أنَّ الهيمنة وضيق النظرة ما زالا قائميْن.

وتكررت بعد ذلك نتائج أول مجموعة بيانات في مجموعة بيانات ثانية، وهي تحليل المضمون الذي أجريته لدليلين مؤثرين صدرا حديثًا عن ناشريْن شهيريْن، وهما Oxford Handbook of International Relations (حرَّره كلٌّ من كريستيان ريوس سميث ودانكان سنيدال في عام 2008)؛ وHandbook of International Relations (حرره والتر كارلسنيس وتوماس ريس وبيث سيمونز) (وصدرت الطبعة الثانية منه عام 2013). ومثلما نعلم يعدُّ الدليل تجميعًا وتأليفًا للمعارف في الحقل الدراسي، وهو أيضًا بمنزلة علامة بارزة تكشف عن مستقبل الحقل، بل عن توجهه نحو ذلك المستقبل. ويتألَّف الدليلان السابقان من 77 فصلًا، بإجمالي 1649 صفحة، كتبها 91 مؤلِّفًا من العيار الثقيل في هذا المجال. كما أنَّ أبحاثهم موثَّقة بعناية شديدة، حيث تستند إلى 7762 مرجعًا.

إنَّ هذا العدد الهائل من المراجع ليثير الإعجاب حقًّا، على الأقل من الناحية الكمية. على أن هذه المراجع تقصُّ علينا قصَّة أخرى من الناحية الكيفية، بأي حال. يُظهِر تجاوز السطح أن حقل العلاقات الدولية لم يذهب أبعد من التحديد الكيفي له عند هوفمان، منذ ما يزيد على 45 عامًا، باعتباره “مدرسة أمريكية في العلوم الاجتماعية”. وتوضِّح مجموعتا البيانات للمقررات الدراسية ولهذين الدليلين أن هذا الحقل الدراسي ما يزال يعاني من المشكلات المعرفية والمفاهيمية والمنهاجية نفسها. وفيما يلي بعض هذه الملامح:

  • ما يزال العديدُ من المؤلفين يتحدَّثون باستخدام ضمير المتكلم المفرد “أنا”، وخصوصًا الأمريكيين حينما يخاطبون الأمريكيين، في نقاشاتهم المتكررة مثلًا عن سياستـ”نا” الخارجية. وحتى لو أزلنا أسماء المؤلفين، فلن يجد القارئ صعوبةً في معرفة من أين يأتي أولئك المؤلِّفون ومَن هم جمهورهم الأساسي.
  • يتمُّ تمثيل عِلم العلاقات الدولية باعتباره حقلًا لا يُسهم فيه سوى الأمريكيين أو الأنجلوسكسونيين فقط. ويجري إظهار هذا الحقل على أنه يدور حول الولايات المتحدة، في حين أن العالم الخارجي وراء حافة المياه، على حدِّ تعبير هوفمان في مقاله عام 1977؛ بمعنى أنه “منطقة مظلمة نسبيًّا”. وعندما يُشار في بعض الأحيان إلى هذه “المنطقة المظلمة نسبيًّا”، تحتوي تلك الإشارات على أخطاء في الحقائق.

جـ- وبرغم العدد الهائل من المصادر المستخدمة، فهي في أغلبها مصادر أمريكية ذات لغة واحدة. وإذا جرى الاقتباس من “الأجانب”، فإنهم عادة أولئك الذين ينشرون كتاباتهم في الدوريات الأمريكية أو يتعاونون مع المؤسسات الأمريكية. إن علم العلاقات الدولية ليتحدَّث اللغة الإنجليزية، ويقوم بذلك مؤخرًا بلهجة أمريكية.

د- وليس حقل العلاقات الدولية ذا مركزية أمريكية فحسب، بل يميل إلى ممارسة سفاح القربى (incestuous)، إذا جاز القول. فعلى سبيل المثال، يستاء اتزينشتاين لأنه نادرًا ما يستشهد أولئك المؤلفونيتناولون موضوعات متماثلة، لكنهم ينشرون في دوريات ذات توجهات أيديولوجية مختلفة، حتى في داخل الولايات المتحدة نفسها، مثلJournal of Conflict Resolution في مقابل International Security. وقد دخلت هذه القبائل والكارتلات (الاحتكارات) الأكاديمية الأمريكية بنقاشاتها المتبادلة الضيقة إلى هذا الحقل الأكاديمي، الذي يفترض أن يكون عالميًّا. وهكذا يتمُّ وَأْدُ أية قابلية لتوسيع نطاق النظر.

لا غرابة -إذن- أن وُصفت فترة الحرب الباردة بأنها فترة “السلام الطويل”، في حين كانت تدور فيها رحى أطول حرب في حقبة ما بعد الحرب العالمية الثانية؛ ألا وهي الحرب العراقية-الإيرانية (1980-1988). وعلاوة على ذلك، كان حقل العلاقات الدولية منهمكًا في التَّفرقة غير المُجدية بين الواقعية الجديدة والليبرالية الجديدة وتفريعاتهما المختلفة، حينما كان حائط برلين يسقط والاتحاد السوفييتي يتداعى (Korany ,2015, ISA acceptance Speech).

1.2- وفوْر الكشف عن وجود هذه الهيمنة واستمرارها، سيغدو السؤال المنطقي المتمم لذلك من أجل إزاحة تلك الهيمنة؛ هو: هل ينبغي للمنظور الحضاري أن يعمل بمعزل أو حتى بموازاة الاقترابات السائدة؟ أم يتعيَّن بدلًا من ذلك أن تكون أولويته التشابك معها، حتى ولو على أرضيتها؟ وتبيِّن معظم الأوراق المقدمة أن التشابك صار هو الاختيار. ولعلَّ ذلك هو الاختيار الصحيح بالفعل (وكمثال على تحليل السياسة الخارجية، انظر Brummer & Hudson 2015). ولقد عنونتْ إحدى رائدات هذه المدرسة الحضارية، الراحلة منى أبو الفضل، كتابها حين لتقي الشرق بالغرب (Abu el Fadl, 1994 تمَّت إضافة التوكيد في العنوان). ومع معدَّلات العولمة الموجودة منذ ذاك الوقت، صار التشابك لا الانعزال هو المعيار، شئنا أم أبينا. وبالإضافة إلى ذلك، يُضفي التشابك مع المدارس الأخرى بُعْدًا مقارنًا ويُثري المنظور الحضاري من الناحية التحليلية.

وفي الحقيقة، قامت العديد من الأوراق المقدمة بذلك التشابك بصورة فعَّالة، فعلى سبيل المثال تناولت ورقة ماجدة إبراهيم عن الأمة مستوى تحليليًا ذلك البُعد المتميِّز للأمة، وأخضعته لتحليل كمِّي وكيفي صارم. واستخدمت بشكل ممنهج أحد تكنيكات العلوم الاجتماعية؛ ألا وهو تحليل المضمون، لفحص أربعة مجلدات من 15 مجلدًا لدورية أمَّتي في العالم. وقدَّمت الباحثة البيانات في شكل جدول، حتى تبرز أن الأمة خيارٌ صائبٌ للغاية؛ لأن فكرة الأمة محوريةٌ في الهُوية النفسية الجمعية للمسلمين، وحتى تبيِّن أنَّ هذا المفهوم مستوى تحليلي مركَّب أو متعدِّد الطبقات. وهناك عنصران يمكنهما تدعيم التراكم المفيد للتشابك:

  • دفع هذا التحليل الممنهج أكثر من ذلك، حتى يتجاوز تصوُّر الأمة بوصفها خاصية ثقافية أو مرجعًا للهُوية؛ وصولًا إلى بُعدها السلوكي: أي كيف تتصرَّف الأمة بوصفها فاعلًا دوليًّا؟ وهل تتمتَّع الأمة بسلوك دولي مميز؟ وكيف يمكن مقارنته بفاعلين جماعيين آخرين يتأسسون على الدول؛ مثل: الاتحاد الأوروبي؟ وما دامت “السياسة العليا” ليست هي أقوى مجال للسلوك المميز للأمة، فماذا عن المجالات الأخرى، كالثقافة والاقتصاد؟ وكيف تتصرف الأمة في مواجهة الأزمات الدولية؛ مثل أزمة الرسوم الكاريكاتورية المسيئة للرسول (عليه الصلاة والسلام) التي نشرتها صحيفة دِنماركية عام 2006، وأزمة تشارلز إبدو في عام 2015، والتصريحات والتشريعات الفرنسية بشأن الإسلام والمسلمين في 2020-2021؟ ولماذا لم تُذكر الأمة سوى خمس مرات فقط في ميثاق منظمة التعاون الإسلامي، في الوقت الذي يُفترض أن تكون الأمة هي سبب وجودها وأساسها؟
  • كيف يمكن مقارنة نتائج هذه الورقة البحثية الممتازة مع دراسات جادة أخرى تتناول نفس الموضوع، ولكن من منظور مختلف، مثل ورقة فايز شيخ المقدَّمة لهذا المؤتمر؛ وكذلك دراسات ماندافيل في 2007 و2014 وخصوصًا 2001؛ ودراسة محمد السيد سليم في 1991؟

ومن الواضح أنَّ دراسة واحدة، مهما كانت جادة وممتازة، ليس بإمكانها التفاعل مع كافة تلك المسائل. وقد تمَّت الإشارة إلى تلك المقترحات هنا من أجل إبراز الثراء النسبي الناتج عن التشابك، وذلك بغرض وضع برنامج بحثي تراكمي وشبه عالمي للمنظور الحضاري. وكما نعلم، فإن وجود أجندة بحثية عالمية مميزة هو متطلَّب أساسي لتحول أي منظور عام إلى باراديم مميز وعالمي، يتجاوز الحدود الجغرافية. ولذلك نرى أن اختيار ماجدة إبراهيم للأمة مستوى تحليليًّا مركبًا، ولدورية أمتي في العالم، مثالان جيدان حقًّا على التشابك والإعداد لمثل هذه الأجندة البحثية المشتركة.

وتسير أوراق أخرى في نفس الاتجاه الداعم لعملية التشابك، كتلك الورقة التي تناولت الهيمنة وقارنتها بتصور جرامشي عنها؛ وتلك التي عالجت “المقاصد” أو “السُّنن” لربطها بالمفاهيم الأساسية في العلاقات الدولية، كالمصالح أو المبادئ. ويمكن لتلك الأوراق هي الأخرى أن تذهب أبعد من ذلك، بتقديم مزيد من الأمثلة عن القابلية للتطبيق في الوقت الحالي، حتى يمكن أن يستوعب تلك المفاهيم مَن ليست لهم دراية بالفقه الإسلامي. وتشير هذه الأوراق فعلًا إلى الطريق المؤدِّي إلى الثراء النسبي للمنظور الحضاري وتفنيد الاتهامات الباطلة بضيق أُفقِه.

2- التشبيك:

كما نعلم بالقطع، فإنَّ التحالفات وبناء التحالفات مكون أساسي في العلاقات الدولية، كما أنها أيضًا من متطلبات أنشطة أخرى، من ممارسة الأعمال إلى الحياة اليومية ومسيرة العالَم الأكاديمي؛ أي بين ما يسمَّى بالجماعات المعرفية. ولمَّا كان بناء التحالفات جزءًا لا يتجزأ من أي نشاط اجتماعي، فليست محاولاتُ المنظور الحضاري بناءَ شراكاتٍ استثناءً من هذا، ولا ينبغي أن تكون كذلك. وفي الواقع، لا تعدُّ إقامة شراكات مع الاقترابات النقدية ذات التوجهات المماثلة أمرًا طبيعيًّا فحسب، بل قد تكون بالفعل متطلبًا هامًّا للفعالية والظهور على المستوى العالمي، في مواجهة الاقترابات المهيمنة والأخطبوطية للعلاقات الدولية. ويمكن أن يتشارك المنظور الحضاري في العديد من الأبعاد المعرفية مع بعض الاقترابات النقدية بدرجة أكبر من بعضها الآخر؛ مثل البنائية ذات التوجُّه الثقافي أكثر من الماركسية “الملحدة”. ولعلَّ مسألة اختيار الشركاء قد تكون محلًّا للنقاش، لكن الشراكة في ذاتها وبناء التحالفات أمر لا مفر منه. ويمكن أن يكون ذلك بالفعل هو الاقتراب المناسب للتمكُّن من مقاومة “الخصم المشترك”؛ ألا وهو هيمنة المسلَّمات السائدة في علم العلاقات الدولية.

على أن التحذير الأساسي الموجَّه للمنظور الحضاري هو ضرورة تجنُّب تعريض علامتها التجارية النقدية للخطر؛ بمعنى وجوب وضع “الخطوط الحمراء” الخاصة به مسبَّقًا، عند الانضمام أو الإسهام في تحالف نقدي للعلاقات الدولية.

وفيما يتَّصل بالغايات والتوجُّه المعياري للمنظور الحضاري، تَرِد على الأذهان ثلاثة أمثلة لمثقفين بارزين أو إسهامات فكرية ناقدة للعلاقات الدولية: فرانز فانون (مثلًا 1961)، وإدوارد سعيد (مثلًا 1978)، وروبرت كوكس (1981 و1987). وقد ركَّز فانون وسعيد تركيزًا شديدًا على الهيمنة الغربية وضرورة النضال الفكري والسياسي ضد الكولونيالية. وشاركهما كوكس في هذه القيم بالطبع، ولكنني أركز عليه هنا لأن أعماله تمركزت حول نظرية العلاقات الدولية بذاتها والتقييم النقدي لها. وتركزت الحياة المهنية والكتابات الأكاديمية لكوكس، بوصفه متخصصًا في العلاقات الدولية، بصورة أساسية على كيفية عمل النظام العالمي. وعلاوة على ذلك، كان حقًّا واحدًا من أكثر مَن قابلت من دارسي العلاقات الدولية انفتاحًا من الناحية الفكرية، مثلما عاينتُ في مناقشاتنا ولاحقًا في كتابه عن ابن خلدون (Cox 1992)، وكذلك أمور أخرى سأذكرها بأسفل. والأهم من ذلك، أنه قارب العَلاقات الدولية والنظام العالمي من خلال مفهوم الحضارة، مثله في ذلك مثل المنظور الحضاري.

  1. أمضى كوكس معظم حياته المهنية موظفًا دوليًّا في هيئة الأمم المتحدة في جنيف، لكنه كان شديد الاهتمام بالعالم الأكاديمي. وفي هذا السياق، عمل أستاذًا زائرًا في معهد الدراسات العليا للدراسات الدولية والتنمية في جنيف، حيث حضرتُ بوصفي طالبًا أحد مقرراته الدراسية في أوائل السبعينيات من القرن العشرين. وترك في نفسي على الفور أثرًا عميقًا. لكنه سرعان ما غادر جنيف بعد ما يقرب من 25 عامًا؛ إذ لم يستطع تحمُّل القيود البيروقراطية التي فرضتها وظيفته في هيئة الأمم على ما يقول أو يكتب. وأخيرًا، أعاد توجيه مسيرته المهنية والْتحق متأخرًا بالعالم الأكاديمي، ولكن بشكل كامل، في جامعة كولومبيا في البداية ثم في جامعة يورك. ولعلَّ ما يميِّز كوكس هو تركيزه على النظرية وأنماطها، وكذلك قدرته على ربطها “بالعالم الواقعي” للعلاقات الدولية، بفضل خبرته في الأمم المتحدة لمدة ربع قرن. ومكَّنته تلك الخبرة العملية من تجاوز السيادة أو المساواة الشكلية بين الدول، على سبيل المثال، ليرى عِيانًا ومباشرةً التنوُّع العالمي المتزايد بوصفه ملمحًا مميزًا لعصرنا، وخصوصًا في أساسه الاجتماعي. ولذلك، يؤكِّد على التنوع العالمي والدينامية الاجتماعية باعتبارهما السمة الرئيسية للنظام العالمي. واتساقًا مع هذا التأكيد، فهو يصرُّ على ضرورة أن تستند صياغة المفاهيم في العلاقات الدولية إلى العقول المتقصية والمتحفزة فكريًّا لاستكشاف المظاهر الاجتماعية للتنوع، إنها عقول ملتزمة بإبستمولوجيا منفتحة. ويستخدم كوكس دون مواربة مفهومَ الحضارة، حتى يتمكَّن من إتمام مشروعه. ويحمل الفصل السابع من سيرته الفكرية عنوان “الحضارات والنظام العالمي”، ويكشف عن أنَّ اهتمامه بالأمر متجذر بعمق منذ أيام دراسته وقراءته في أعمال المؤرخين العالميين مثل: شبنجلر وتوينبي. وعقب تخرجه والْتحاقه بهيئة الأمم المتحدة، تابع اهتمامه متابعة عملية ومهنية؛ إذ يقول:

“…عشت ربع قرن من الزمان في أوروبا، وحملني عملي مع منظمة العمل الدولية خلال تلك الأعوام الخمسة والعشرين إلى بلدان الشرق الأوسط وآسيا وإفريقيا وأمريكا اللاتينية… وبعد ذلك لم أعد أرى في العالم سوى ساحة للتلاقي بين الثقافات المتميزة والأشكال المختلفة للمجتمعات، وكذلك الأشكال المتباينة وغير المتوافقة في العادة للتنظيمات والأيديولوجيات السياسية؛ أي بكلمات أخرى ساحة للتلاقي بين الحضارات المتعايشة والمتفاعلة. وبدا بنظري أن مفهوم “الحضارة”، بصيغة المفرد، كشيء متأصل في الغرب ويتنامى من قاعدته الغربية ليشمل العالم بأسره، ليس سوى أيديولوجيا إمبريالية (Cox 2013: 300).

وعلى ذلك يشترك كوكس مع المنظور الحضاري في مركزية مفهوم الحضارة، لكنه على خلاف فكرة هنتنجتون الأحادية الجانب عن “صدام الحضارات”، على سبيل المثال، يؤكِّد مفهوم الحضارة مؤشرًا على تنوع العالم، بل على ثرائه.

ويستعين كوكس أيضًا بمدرسة التاريخ الفرنسي: الحوليات، وخصوصًا أعمال بروديل عن البحر المتوسط في العالم القديم؛ للتأكيد على أنَّ السياسة قامت تاريخيًّا على التفاعل والحوار بين الحضارات. ونتيجة لذلك، لا مفرَّ من أن يعكس حكم العالم؛ أي نظام تعددية الأطراف من خلال هيئة الأمم المتحدة أو أية منظمة دولية أخرى، ثراء العالم وتعددية الحضارات. فالنظام العالمي هو بالضرورة نظام بين الحضارات (Cox 2013: 333-383).

  1. وتلك حقًّا هي العناصر المعرفية والمفاهيمية المشتركة التي ستقلِّل من أثر الاختلافات بين المنظوريْن. ويمكن القول -على وجه التحديد- إنَّ واحدًا من أنصار المنظور الحضاري سوف يشعر بالأُلفة مع خمس قضايا تميِّز نظرة كوكس. أولُ مسألة هي التوجه المعياري لدى كوكس الذي يربط النظرية بسياقها الاجتماعي، كما هو ملاحظ في توصيفه الواسع الانتشار للوظيفة الاجتماعية للنظرية: “ليس هناك من شيء… اسمه نظرية معزولة عن منطلقٍ ما في الزمان والمكان… فالنظرية تكون دائمًا من أجل شخص ما ومن أجل غرض ما” (Cox and Sinclair 1996: 87). المسألة الثانية المشتركة مع المنظور الحضاري هي المكانة المركزية التي يمنحها كوكس لمفهوم الهيمنة. ولقد تأثَّر الرجل بجرامشي في ذلك بصورة بالغة، كما تأثر به في العديد من الأبعاد الأخرى لإطاره المفاهيمي. لكنَّ إسهام كوكس هنا يتمثَّل في مدِّه لتركيز جرامشي على الهيمنة من المستوى القومي إلى المستوى الدولي. وفي الواقع، يعدُّ مفهوم الهيمنة مركزيًّا للغاية في تفسير كوكس للعلاقات الدولية، حتى إنه ليصبح كاستخدام المدرسة الواقعية لمفهوم القوة على سبيل المثال. وممَّا يربط كوكس بالمنظور الحضاري بدرجة أكبر هو تلك الصلة التي يعقدها جرامشي وكوكس بين الهيمنة وعدم المساواة/ الظلم، الأمر الذي يقترب إلى حدٍّ كبير من المفهوم الإسلامي للطغيان. أمَّا العنصر الثالث فيتمثَّل في أنَّ كوكس قد أخذ في حسبانه دَور الأفكار، على الرغم من اعتماده على اقتراب الاقتصاد السياسي، حتى إنه استخدم ذلك بصورة صريحة -مثلما رأينا ذلك آنفًا- في مفهوم الحضارة. ويتمثل العنصر الرابع المشترك في استخدام كوكس للتاريخ، وتأكيده المتكرر على الاقتراب التتابعي في صياغة مفاهيم العلاقات الدولية، وهو ما يماثل توظيف المنظور الحضاري للتراث والمفاهيم التاريخية. والعنصر الخامس المشترك هو الاقتراب التصاعدي، القائم على البشر لدى كوكس، بدلًا من الاقتراب التنازلي، المتمركز حول الدولة. ويؤكد عنوانَا مقاله الصادر في عام 1981 وكتابه الصادر في عام 1987، وكلاهما يعدُّ في العادة من الكلاسيكيات في الحقل، تأكيدًا صريحًا على الدَّور المركزي للقوى الاجتماعية لا الدولة. ومن دون إهمال حضور الدولة، تعدُّ فكرة الامتداد عبر الحدود القومية (transnationalism) هي القوة التفسيرية الأساسية المميزة للنظام العالمي وتطوره، وتتَّصل هذه الفكرة بشكل واضح بتحليل الأمة، وهُويتها وتفاعلاتها العابرة للدول.
  2. وبكل تأكيد تُشير القراءة الأكثر تدقيقًا لكوكس، وغيره من الدارسين المنتمين للمدرسة النقدية، إلى أمثلة إضافية على إمكانية إقامة الشراكة وبناء التحالف المضاد للهيمنة، ويمكن أيضًا تأسيس مثل هذه الشراكات والتحالفات مع المدارس “القارية” أو “القومية” في العلاقات الدولية. ويجدر بنا هنا تذكُّر التطوُّر التاريخي لاقتراب التبعية في سبعينيات وثمانينيات القرن العشرين؛ وهو قد نشأ أساسًا في أمريكا اللاتينية. وفي الوقت الحالي، يتزايد الحديث حسبما أشارت بعض أوراق المؤتمر عن مدرسة أفريقية أو صينية في العلاقات الدولية. ولما كانت مقاومة الهيمنة (الغربية) هدفًا مركزيًّا لتلك المدارس، فهناك بالفعل أساس مشترك لاستكشاف الشراكة معها. وسيكون بناء التحالفات قيِّمًا للغاية على الصعيد المؤسسي العالمي، خصوصًا بين صفوف المنظمات الأكاديمية العالمية للعلاقات الدولية، مثل رابطة الدراسات الدولية أو الجمعية الدولية للعلوم السياسية. وتعدُّ تلك التنظيمات تقليديًّا هيئات مؤثرة بدورياتها، التي تروِّج المسلَّماتِ السائدةَ، وكذلك بحراس بواباتها التي تهمِّش الأصوات المعارضة وتعمل على استبعاد أفكارها.

وعلى أيِّ حال، سيكون هناك العديد من المتعاطفين، داخل هذه المنظمات، الذين يشعرون بالانزعاج من سيادة أو احتكار مدرسة واحدة للعلاقات الدولية للحقل بأسره، وهؤلاء على استعداد لمساندة التعددية والتنوُّع بين الباراديمات. ويمكن أن يضمن اختراق مثل هذه المؤسسات العالمية الحضور الفعلي للمعادين للهيمنة؛ الأمر الذي سيسفر عن وجود تنوُّع في المخرجات الفكرية. فعلى سبيل المثال، يمكن أن يساعد حضور هؤلاء في مختلف لجان صنع القرار في جعل الدوريات المحكَّمة أكثر انفتاحًا وتمثيلًا للمنظورات الرئيسية، من الناحية المعرفية والمفاهيمية والمنهاجية. ويمكن لهذا الحضور أن يعيد هيكلة السياسة المتعلقة بالمنح، من أجل مساعدة المشاركين الآتين من بلدان، ذات موارد مالية محدودة للسفر، للقدوم وعرض أوراقهم وبحوثهم الجارية. وسيُسهم هذا النجاح المؤسسي إسهامًا هائلًا في ظهور الأفكار المضادة للهيمنة ونشرها.

3- كيف يساعد التشابك والتشبيك معًا على إجهاض الهيمنة؟

يسعى هذا الجزء الثالث إلى البناء على الجزأين السابقين، من خلال تقديم حالة دراسية للنجاح في مكافحة الهيمنة، وكذلك لأثر التدعيم المتبادل بين التشابك والتشبيك. وتتناول هذه الحالة الدراسية ظاهرة مركزية في العلاقات الدولية، بوصفها حقلًا أكاديميًّا وممارسة عملية على حدٍّ سواء، إنها مسألة الأمن (Buzan &Hansen 2009; Hough 2008 ; Williams 2013). ويظهر تحليل الحالة بأسفل التي تتصل بدراسات الأمن النقدية (Krausse &Williams 1997 ; Peoples and Vaughan Willams 2015) كيف نجح اقتراب نقديٌّ آخر في العلاقات الدولية، ذو أساس مجتمعي كالمنظور الحضاري، في تقليص هيمنة المسلَّمات المسيطرة في الحقل؛ وهو ما يمكن أن يشير إلى بعض سُبل النجاح المتَّبعة. ومن المأمول فيه أن يشجِّع تحليلُ هذه الحالة المنظور الحضاريَّ على استكشاف الصلة بين الحضارة/ الدين والأمن، ويقيم جسرًا إضافيًّا مع هذا المثال الجديد لاقتراب نقدي للعلاقات الدولية.

ظهر التشابك النقدي مع المفهوم الضيق والسائد للأمن في ثمانينيات القرن العشرين لدى بعض المتخصصين في العلاقات الدولية في دول الجنوب، وانضم إليهم أعضاء في مجالات تخصصية أخرى -وهذه حالة للتشبيك أيضًا- من أجل تطوير مفهوم الأمن الإنساني، بديلًا للتصور السائد “للأمن القومي”، الذي تمَّت عسكرته. وفي زمن قصير نسبيًّا، صار المفهوم البديل منتشرًا على نطاق واسع، مثلما يتَّضح من عدد الاقتباسات التي تظهرها جوجل، من 6320 اقتباسًا في 2005-2006 إلى 9170 اقتباسًا في 2011-2012 (Krause 2013: 90). وليست كافة تلك الاقتباسات مؤيدة للمفهوم بطبيعة الحال، كما أن منهاجية جوجل في الاقتباسات ليست دقيقة بصورة كاملة، لكن ازدياد انتشار المفهوم ومركزيته قد غَدَت واضحة. وفي الواقع، أصبح مفهوم الأمن الإنساني أساسًا لحقل فرعي مميز في مجال العلاقات الدولية، ألا وهو دراسات الأمن النقدية، التي صار لديها دليلها الخاص (Martin and Owen 2013).

إنَّ السبب الرئيسي وراء ذيوع هذا الاقتراب النقدي -كما ذُكر سلفًا- هو تركيزه الواضح على بُعد رئيسي في العلاقات الدولية؛ ألا وهو الأمن (Hazbun 2017). ويعني الأمنُ -باختصار- القدرةَ على التعامل مع التهديدات. لكنَّ الاقترابات السائدة في الدراسات الاستراتيجية، وهي حقل فرعي في العلاقات الدولية (Aron 1962 &1967; Epp & Haglund 1989 ; Freedman 2013; Garnet 1987; Kemp & Harkavy 1997; Paret 1986) عَرَّفَت وتصوَّرت تلك التهديدات على نحو اختزالي ضيِّق، باعتبارها: التهديد العسكري والخارجي للقوات والدبابات (ويعتمد هذا الجزء على Korany 1998 ; Korany , Noble & Brynen 1993). وبحسب ما ذكره والتر ليبمان في عام 1943:

توصف أمة ما بأنها آمنة بالدرجة التي لا تتعرض فيها لخطر التضحية بقيمها المركزية، إذا ما أرادت تجنُّب الحرب، وأن تكون قادرة حال تعرضها للتحدي على الحفاظ عليها [أي تلك القيم] بالنصر في مثل هذه الحرب (Lippman, 1943; Ayoob in Korany et al., 1993).

ويرى أرنولد ولفرز أنَّ تعريف ليبمان السابق هو انعكاس لما في الدراسات السائدة؛ نظرًا لأنه يشترط “أن الأمن يزيد وينقص مع قدرة الأمة على ردع أي هجوم أو هزيمته. ويتَّفق ذلك مع الاستخدام الشائع للاصطلاح” (Wolfers 1962: 150).

ويرتدي هذا القميصَ العسكريَّ الضيِّق بعضُ محلِّلي الشرق الأوسط أيضًا. ففي استعراض بي إدوارد هيلي لـ “الدراسات الاستراتيجية والشرق الأوسط” يتَّضح وجود وعي ببعض أوجه النقد المعروف للتعريف ذي النزعة العسكرية لدراسات الاستراتيجية والأمن القومي:

لقد صار من الرائج منذ أمد بعيد في البلدان النامية إدانة الدراسات الاستراتيجية. ويتحدَّث الدارسون والمحلِّلون العرب ويكتبون عن الدراسات الاستراتيجية باعتبارها ذات طبيعة متلاعبة ومتحيزة للغرب وقاصرة فكريًّا. غير أنَّ التغيرات الأخيرة الجسيمة في وسط أوروبا والاتحاد السوفيتي تضع أيضًا تحديًا أمام الدراسات الاستراتيجية، وإن كان ذلك لأسباب مختلفة. ففي زمن البيريسترويكا والانتخابات الحرة في تشيكوسلوفاكيا والمجر، ينظر الكثيرون بدرجة متزايدة في أوروبا والولايات المتحدة وآسيا إلى استخدام القوة العسكرية باعتباره خارجًا عن الموضوع… (208).

لكن هيلي اختار أن يطرح هذا النقد جانبًا، وأقام عرضه للأدبيات على التعريف السائد في دراسات الاستراتيجية و”الأمن القومي”، بعد أن قدَّم لتحليله باقتباس مطوَّل عن كلاوسفيتس. ومن المهم إيراد كلماته مرة أخرى لأنه يؤسِّس بوضوح لعقد الصِّلة بين الاستراتيجية والأمن والحرب:

صدرت التعليمات لأولئك المساعدين البحثيين الذين يعاونونني في إعداد هذه الورقة (العرض) أن يتبعوا تعريف بازيل ليدل هارت للاستراتيجية، لتحديد أي مقال سيدرج في القوائم. ولقد عرف ليدل هارت الاستراتيجية باعتبارها “فن توزيع واستخدام الأدوات العسكرية من أجل تحقيق أهداف السياسة المرسومة”. كما طُلب من الباحثين أيضًا إحصاء تلك الدراسات عن الاستراتيجية الكبرى أو تنسيق وتوجيه “كافة موارد الأمة أو رابطة الأمم نحو تحقيق الهدف السياسي للحرب -ذلك الهدف الذي تحدده السياسة الرئيسية” (أضيف التوكيد للاقتباس، Haley 1993: 211).

وتُظهر تلك العيِّنة المحدودة للدراسات التي اختيرت إجماعًا مثيرًا للدهشة؛ حيث اعتبر الأقدمون والمعاصرون، العالميون والإقليميون، أنَّ الأمن القومي هو الدفاع في مواجهة التهديدات العسكرية أو الخارجية، الواقعية أو المتصورة، الآنية أو المحتملة. ولو كانت هناك نظرية “للأمن القومي”، فهي ذات توجه جيو-سياسي، كما أن افتراضاتها الفلسفية الرئيسية تعود للمدارسمهيمنة في العلاقات الدولية، وبشكل أساسي المدرسة الواقعية وتصورها عن سياسة القوة. ووَفق هذه الرؤية، لا تؤخذ في الاعتبار تلك التهديدات المهمة، مثل الديون التعجيزية أو الغزو الثقافي.

وكانت المدرسة الليبرالية (Koehane &Nye 1977 &1996) قد حاولت بالفعل تخفيف تلك الاختزالية الجيوسياسية ذات النزعة العسكرية، الآتية من المدرسة الواقعية. لكنها أحجمت عن التركيز على ذلك المفهوم المركزي المتعلِّق بالأمن، ولم تطرح مسألة التخلُّص من ذلك الطابع العسكري له. وبحلول الثمانينيات من القرن العشرين، أثناء أحد اجتماعات هيئة اليونسكو مثلًا، طُرحت مسألة توسيع وتعميق مفهوم الأمن بصورة أكثر صراحةً، فضلًا عن لفت الانتباه للتهديدات غير العسكرية (Korany 1986). وكان على الصياغة المفاهيمية المفصَّلة للمسألة أن تنتظر حتى حلول منتصف التسعينيات وصدور تقرير التنمية البشرية السنوي لعام 1994 (UNDP, 1995). وقد غضَّ محررا التقرير؛ وهما محبوب الحق (وزير مالية باكستان الأسبق) وأمارتيا سن (أول فائز بجائزة نوبل من آسيا في الاقتصاد)، الطرفَ عن ذلك الولع بالسلاح، وركَّزا بدلًا من ذلك على مفهوم الأمن الإنساني، الذي له بُعدان رئيسيان:

“… أولًا، الأمان من تلك التهديدات المزمنة كالجوع والمرض والقمع. وثانيًا، يعني الحماية من الانقطاعات المفاجئة والضارة لأنماط الحياة اليومية -سواء في السكن أو في العمل أو في المجتمع. ويمكن لتلك التهديدات أن توجد في كافة مستويات الدخل القومي والتنمية”.

ويُظهر تحليل النصوص المختلفة أن ذروة سنام الأمن الإنساني هو تفنيد التصور العسكري الأحادي البُعد “للأمن القومي”. والأمن الإنساني مركَّب من سبعة أبعاد تتَّصل بالأمن، وهي:

  1. الأمن الاقتصادي الذي يهدده الفقر.
  2. الأمن الغذائي الذي يهدده الجوع والمجاعات.
  3. الأمن الصحي الذي تهدده الإصابات والأمراض.
  4. الأمن البيئي الذي يهدده التلوث والتدهور البيئي ونضوب الموارد.
  5. الأمن الشخصي الذي تهدده أشكال العنف المختلفة.
  6. الأمن السياسي الذي يهدده القمع السياسي.
  7. الأمن المجتمعي الذي يهدده الاضطراب وعدم الاستقرار الاجتماعي.

ولقد كان هذا المفهوم الموسَّع والمعمَّق للأمن بمنزلة مشكلة؛ لأنه يتداخل مع مفهوم أساسي آخر؛ وهو التنمية البشرية (Martin & Owen 2013; Beswick & Jackson 2015)، ومن هنا يخاطر المفهوم بفقدان تحديده ومبرر وجوده؛ إذ لو أنَّ المفهوم يغطِّي أرضية مألوفة وموجودة بالفعل، فما الحاجة إليه؟ لا بد -إذن- من توضيح العلاقة بين هذين المفهومين.

ولما كانت لجنة الأمم المتحدة للأمن على دراية بهذا التداخل، فقد أكَّدت أنَّ الأمن الإنساني يتعلَّق “بالبُعد الخطير والواسع الانتشار من التهديدات التي يتعرض لها اللبُّ الحيوي للفرد” (Commission on Human Security: 6). والتهديدات الخطيرة هي تهديدات عميقة وواسعة الانتشار، وهو ما يعني أنها تحدث على نطاق واسع وتتكرَّر عبر الزمن.

“وفي هذه الحالة، حاول التعريف المقبول للأمن الإنساني أن يحصل على أفضل ما في الاتجاهين الواسع والضيق [في تعريف الأمن]، بحيث صار يُفهَم على أنه “حماية اللب الحيوي لكل حياة إنسانية من التهديدات الخطيرة والواسعة الانتشار، البيئية والاقتصادية والغذائية والصحية والشخصية والسياسية” (تمَّت إضافة التأكيد هنا، UNDP, Note of Regional Bureau: p. 5).

وبهذا المعنى، يعدُّ الأمن الإنساني هو “الحرس الخلفي” أو البنية التحتية أو أرضية الانطلاق للتنمية البشرية؛ إنه ببساطة متطلَّب لها. ومن خلال النجاح في التعامل مع التهديدات المتعددة، يقدِّم الأمن الإنساني متطلًبا هامًّا لتشجيع التنمية البشرية.

وتعدُّ حالة الأمية نموذجًا لتلك العلاقة الجدلية بين الأمن الإنساني والتنمية البشرية:

“إننا معتادون على التعامل مع الأمية  بوصفها مرضًا يتعلَّق بالتنمية، وتعدُّ مكافحة تلك الآفة حجر الزاوية للتنمية البشرية. غير أن الأمية أيضًا تمثل مصدرًا خطيرًا لعدم الأمن، مثلما ذهب أمارتيا سن وآخرون غيره. فيواجه من لا يمكنهم القراءة ولا الكتابة من البشر الحقيقة المؤكدة للحرمان. الحقيقة المؤكدة لا المخاطرة؛ إذ تغلق في وجوههم عوالم بأكملها كانت ستمكنهم من إخراج أنفسهم من الفقر، ولذلك فإنهم لا يمكنهم تأمين حياتهم من الناحية الاقتصادية. إن الشخص الأمِّي هو مَن لا يستطيع أن يفهم بسهولة حقوقه أو حقوقها القانونية، أو أن يحتجَّ بها، مما يترك مثل هذا الشخص دون حماية قانونية. أما المرأة الأمِّيَّة فهي مضارَّة بشكل مزدوج؛ لأنَّ الرجال الأمِّيين ليسوا مهتمين حتى بمساعدتها في ممارسة حقوقها. ولا يستطيع الأمِّيون المشاركة في المجال السياسي أو أن يكون لهم صوت مؤثر بالنسبة للشكايات المشروعة، ومن ثم يُستبعدون عادة من القرارات التي تتعلَّق بهم بشكل وثيق. إنهم لا يمكنهم استقبال رسائل التوعية الصحية أو حتى الانتفاع المباشر من التعليم الصحي أو إدراك أهمية إجراءات مثل التحكم في المواليد. ولما كان هؤلاء محرومين من حقوقهم وغير محصَّنين، فإنهم يُطيلون أمدَ حياتهم المتداعية، التي تجاور دائمًا الانهيار الكامل، وعدم الاستقرار المرتبط بها. وفي حين أنَّ مثل هؤلاء المحرومين يمكن الوصول إليهم عن طريق التدخلات التنموية المعتادة، لكن شدة قسوة حالتهم تعدّ شكل مبرر تهديدًا للأمن الإنساني، تحت حكم الأنظمة السياسية القمعية التي تستغلُّ وتُطيل أمدَ استبعادهم” (ibid: p. 6).

الأمن الإنساني من النظرية إلى تطبيق السياسات: القياس والمقياس

ليس هناك من مفهوم، مهما كان مهمًّا أو مطلوبًا، يمكن تبنِّيه بشكل جِدي، ما لم يكن من الممكن تعريفه إجرائيًّا أو تطبيقه، وليس الأمن الإنساني استثناءً من ذلك. ولهذا السبب أدَّت محاولة قياس المفهوم أو إيجاد مجموعة من المؤشرات تناسبه إلى نشوء صناعة إحصائية ضخمة، وشجَّعت في بعض الأحيان على ذلك تلك الاحتياجات المالية لبعض المراكز البحثية. ولقد أحصيتُ ما لا يقل عن 156 مؤشرًا في تلك الدراسات الثرية (Korany 2007). وسيبدو أن استخدام هذا العدد الهائل من المؤشرات مربك، بل سيصبح في نهاية الأمر هازمًا لذاته. ونتيجة لذلك، فإنَّ أكثر حل وسط عملي هو التشديد على جوهر الأمن الإنساني، من خلال تسليط الضوء على فئتين، هما: التحرُّر من الخوف والتحرر من العوَز. ويمكن أن ينقسم التحرر من الخوف إلى ثلاث فئات فرعية: الأمن الشخصي، والأمن المجتمعي، والأمن السياسي. أما التحرر من العوَز، الذي يقترب من مفهوم التنمية البشرية، فيمكن تقسيمه إلى أربع فئات فرعية: الأمن الاقتصادي والأمن الغذائي والأمن البيئي والأمن الصحي. ولكلِّ فئة من هذه الفئات الفرعية مؤشرات خاصة بها. فعلى سبيل المثال، لمفهوم الأمن الغذائي أربعة مؤشرات، وهي: التوافر ومقدار العرض من الغذاء، ونسبة إنتاج الغذاء لكل فرد، وكمية السعرات الحرارية اليومية كنسبة من الاحتياجات الإنسانية الأساسية، ونصيب الغذاء من ميزانية الأسرة. أمَّا الأمن المجتمعي، فله ثلاثة مؤشرات، وهي: الصراعات الدولية/ الإقليمية، والصراعات الإثنية أو المذهبية، والتمييز ضد الأقليات أو المجموعات الإثنية أو المذاهب الدينية. وفي كل الأحوال، تقدِّم لنا هاتان الفئتان الرئيسيتان، بفئاتهما الفرعية السبعة، 38 مؤشرًا في الإجمال. وهكذا صار لدينا الشرط المطلوب للوصول إلى باراديم إجرائي؛ أي أجندة بحثية واضحة كي يلتف حولها الباحثون مرة أخرى. ولهذه الأجندة البحثية عدد من المؤشرات، أيسر في التعامل معها بكثير من المؤشرات الـ156 السابقة، فهي مركبة من فئتين رئيسيتين: التحرر من العوَز، والتحرر من الخوف. ولعله من المثير للاهتمام أن هاتين الفئتين تناظران التعريف القرآنيَّ للأمن الوارد في سورة الفيل: {لِإِيلَافِ قُرَيْشٍ * إِيلَافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ * فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ * الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ} [قريش: 1 – 4]؛ وكذلك في سورة النحل: {وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ} [النحل: 112].

وبفضل هذه الأجندية البحثية الإجرائية، أصبح باراديم الأمن الإنساني الآن يشكِّل جزءًا مهمًّا من تحليل الأمن، وتمكَّن من إبراز ضِيق أفق الاقتراب السائد للأمن. ويشكِّل من ثَمَّ قصة نجاح، يمكنها أن تُلْهِمَ الاقترابات النقدية الأخرى، مثل المنظور الحضاري.

وعلى مستوى المسائل الدقيقة ذات الصلة بالمقدمات المعرفية والمفاهيمية للمنظور الحضاري، يوجد هناك تقارب مع باراديم الأمن الإنساني. فعلى نقيض اقتراب “الأمن القومي” السائد، لا يختزل مركب الأمن الإنساني موضوع الأمن في الدولة، بل إنه اقتراب يتأسس على المجتمع ويركز للغاية على الجماعة؛ ومن هنا فهو ذو صلة بتلك النقاشات المتعلقة بالأمة وخطورة الغزو الثقافي. وعلاوة على ذلك، فإن الجهود المبذولة من الناحية المنهاجية لتعريف الأمن الإنساني إجرائيًّا تؤكِّد الهدف الحاليَّ للمنظور الحضاري؛ ألا وهو التفعيل، ويمكنها أن ترشده.

النتائج   

كنتُ في بداية الأمر أشاركُ في إدارة الجلسة الختامية للمؤتمر، ثم دُعيت لكتابة ملاحظاتي بحيث يمكن تضمينها في أحد فصول هذا الإصدار الحالي. وعندما وسَّعتُ عرضي الشفوي وحوَّلته إلى فصل مكتوب، فقد جعلته يركز على نفس البعدين الرئيسيين: إنجازات هذا المؤتمر مع وضعها في سياق تطور المنظور الحضاري في العلاقات الدولية؛ وأيضًا التحديات المستقبلية وكيفية مواجهتها بغرض تحقيق الظهور العالمي. وسوف أكرِّر القول هنا: إن المنظور الحضاري يتأسَّس على توضيح سياسي-اجتماعي هام؛ ألا وهو منازعة الافتراض الشائع من أنَّ العلمنة هي النتيجة الضرورية للتحديث؛ ومن هنا فإن عالمنا اليوم هو عالم تنحط فيه مكانة الحضارة القائمة على الدين. وكما رأينا آنفًا، لا تؤيد البيانات مثل هذا الزعم، بل العكس تمامًا هو الصحيح. ويمكن ملاحظة تلك المراجعة لدَور الدين في الكلمات التالية لمراقب أمريكي:

“حتى قبيل أحداث الحادي عشر من سبتمبر (2001)، كنت أَقبل ذلك التصور المتعلق بأن العالم صار أكثر ثراءً وأرقى تعليمًا، لكنه صار أقل تدينًا… ولقد صار من الواضح الآن أن نظرية العلمنة خاطئة… ليست العلمانية هي المستقبل، إنها رؤية الأمس الخاطئة للمستقبل”(Seiple et al. 2013 :1 ).

ولهذا السبب استهدفتِ الأجزاءُ الثلاثة في هذه الورقة إظهارَ أن المنظور الحضاري برؤيته الصلبة والمشتركة مع العلاقات الدولية لا تتعرض للخطر بتعاونها مع الاقترابات النقدية (العلمانية) الأخرى. وفي الواقع، تصرُّ هذه الورقة أن هذا هو السبيل لمنازعة الرؤية السائدة والمهيمنة في العلاقات الدولية بشكل فعال، والظفر بالظهور العالمي الذي طال انتظاره. وحللت الورقة أهمية استراتيجيتين: أ) التشابك مع الرؤية السائدة في العلاقات الدولية على أرضيتها، من أجل بيان أوجه قصورها، وحتى تحيُّزها. ومن خلال ذلك، يستجيب المنظور الحضاري لاحتياج عام في حقل العلاقات الدولية؛ ألا وهو أن يعكس التنوع العالميَّ، مثلما تؤكد ذلك المدارس والمنظورات النقدية الأخرى. ب) التشبيك وبناء التحالفات مع الاقترابات ذات التوجهات الفكرية المماثلة، كاقتراب روبرت كوكس. وتناول الجزء الأخير من هذه الورقة بالتفصيل كيف نجحت بعض الاقترابات النقدية الرئيسية للعلاقات الدولية، وكيف يمكن لهذا النجاح أن يكون ملهمًا ويقدِّم خطوطًا إرشادية محددة للاستراتيجية المستقبلية للمنظور الحضاري. والنموذج الذي تم تحليله هو الدراسات الأمنية النقدية والثبات المتزايد لمفهوم الأمن الإنساني؛ نظرًا لمركزية هذا القطاع في علم العلاقات الدولية، وهو يماثل المنظور الحضاري في التأسُّس على المجتمع وليس التمركز حول الدولة. كما أنه يقع في قلب اهتمامات دول الجنوب، وذلك اهتمام مشترك مع المنظور الحضاري.

____________________

ترجمة د. محمد صفار

*كلمة في حلقة نقاشية في المؤتمر العلمي الأول (نحو مدرسة حضارية في حقل العلاقات الدولية) ( 6 مارس) 2021

REFERENCES CITED :

1-Abu el-Fadl , Mona (1992) . When East Meets West . Virginia , The International Institute of Islamic Thought . 1992

2-Acharya, Amitav (2014) : Rethinking Power,Institutions and Ideas in World Politics . New York : Routledge , 2014

3-Acharya, Amitav (2014), “Global International Relational Relations (IR) and Regional Worlds”. International Studies Quarterly . 58/4 :pp647-59 (ISA Presidential Address)

4-Acharya ,Amitav & Buzan , Barry (2019) . The Making of Global International Relations . Cambridge : Cambridge U.P.2019

5-Alden , Chris; Morphet , Sally & Vieira , Marco (2010) : The South in World Politics. Houndsmills(U.K) , Palgrave Macmillan .

6-Aron, Raymond (1967): “Qu’est-ce qu’ une Theorie de Relations Internationales,” Revue Francaise de Sciences Politiques, vol. 17; pp. 309-318.

7-Aron, Raymond (1962 & 1984) Paix et Guerre entre les Nations. Paris: Calmann-Lévy, 2nd edition.

8-Ayoub , Mohamed (1993) “Unravelling the Concept : ‘National Security’ in the Third World “, in Korany , Brynen and Noble The Many Faces……

9–Beswick , Danielle & Jackson , Paul ( 2015) . Conflict , Security And Development . New York : Routledge .

10-.Boniface , Pascal & Vedrine , Hubert (2015) : Atlas du Monde Global. Paris : Armand Colin

11- Brummer, Klaus & Hudson, Valerie (eds.) (2015): Foreign Policy Analysis Beyond North America . Boulder (col): L. Rienner.

12-Buzan ,Barry & Hansen , Lene (2009) : The Evolution of Security Studies . Cambridge and New York . Cambridge U.P.

13- Carlsneas , Walter & Th. Risse & B.Simmons (eds.)(2013) :Handbook of International Relations , Beverly Hills , Sage ,2013, ( 2nd edition).

14 -Center for Arab Unity Studies (2001): Toward Arab Renaissance. Beirut: CAUS (in Arabic).

15-Cox , Robert (1981).”Social Forces, States and World Orders”.Millenium, Vol.10/2: pp126-55

16-Cox , Robert (1987).Production ,Power And World Order :Social Forces in the Making of History. New York : Columbia U.P.

17-Cox , Robert & Timothy Sinclair ( 1996) . Approaches to World Order . Cambridge . Cambridge U.P.

18- Cox , Robert (2013) . Universal Foreigner: The Individual and the World. Hackensack,NJ : World Scientific

19-Crawford ,Robert & Jarvis , Darryl (eds) ( 2001) : International Relations –Still an American Social Science ? . Albany : SUNY Press

20-Epp, Roger & Haglund, David, (1989): “La Geopolitique et le Realisme,” in Charles David (ed.), Les Etudes Strategiques. Paris & Quebec: Centre Quebecois de Relations Internationales: pp. 105-130.

21-Fanon , Franz (1963) . The Wretched of the Earth. New York : Grove Press.

22-Fox , Jonathan & Sh.Sandler (2004) . Bringing Religion Into International Relations .New York : Palgrave-Macmillan

23- Freedman , Lawrence (2013) :Strategy . Oxford & New York : Oxford U.P.

24-Garnet, John (1987). “Strategic Studies and its Assumptions” in J. Baylis et al. Contemporary Strategy. New York & London: Holmes & Meier (2nd edition).

25-Haley, P. Edward (1991). “Strategic Studies and the Middle East,” in Earl L. Sullivan & Jacqueline Ismael (eds.): The Contemporary Study of the Arab World. Edmonton: University of Alberta Press.

26-Hazbun , Waleed (2017) “The Politics of Insecurity : A view from Beirut” Pol.Science , July : 656-59

27-Hofmann , Stanley (1977) : “An American Social Science :International Relations “ . Daedalus ,106/3 : 41-60

28-Hough, Peter (2004 & 2008): Understanding Global Security. London: Routledge.

29-Human Security Report 2005. Victoria: University of British Columbia.

30-Huntington , Samuel(1996). The Clash of Civilizations and the Remaking of World Order. New York ,Simon and Schuster.

31-Ibn Khaldun, Abdel-Rahman. Al-Muqaddimah: An Introduction to History (1967). Translated by F. Rosenthal. Princeton: Princeton University Press.

32-Johnston, Douglas &Cynthia Sampson (1994) . Religion,The Missing Dimension of Statecraft. Oxford : Oxford U.P.

33- A. Kemp, Geoffrey & Harkavy, Robert (1997). Strategic Geography and the Changing Middle East. Washington: Carnegie Endowment for International Peace and Brookings Institution Press.

34-Koehane, Robert & Nye, Joseph (1977&1996). Power and Interdependence: World Politics in Transition. Boston, Mass. Little, Brown.

35-Korany ,Bahgat (2019) : “ The Middle East Since the Cold War : Movement without Progress?” , in L. Fawcett (ed.) : International Relations of the ME. Oxford : Oxford U.P (5th edition)

36-Korany, Bahgat (ed.)(2015) Arab Human Development in the 21st Century . Cairo and New York :American University in Cairo Press.

37-Korany, Bahgat (2007): “Measuring Human Security,” a paper submitted to the joint conference U.N.-AUC Forum on “Human Security in the World.” Cairo, Egypt.

38-Korany, Bahgat (2005). “Globalization and (In)Security in the Arab Middle East,” in E. Aydinli & J. Rosenau (eds): Globalization, Security and the Nation-State. New York, State University of New York Press: 135-150.

39-Korany, Bahgat (2005). “Human Security: from a Respectable Slogan to a Paradigm.” Paper submitted to the joint U.N.-Witts University Conference, Johannesburg.

40-Korany, Bahgat , Brynen Rex & Noble , Paul (eds.). (1993). The Many Faces of National Security in the Arab World. New York & London: Macmillan.

41-Korany, Bahgat (1987) “Alien and Besieged Yet here to Stay: The Contradictions of the Arab Territorial State.” In G. Salame & G. Luciani (eds.): The Foundations of the Arab State. Groom Helm.

42- Korany, Bahgat (1986). “Strategic Studies and the Third World: A Critical Evaluation and a Quest for Alternative.” International Social Science Journal , vol. XXXVIII/4 (Dec.).

43-Korany , Bahgat ( 1983 ) . “ The Take-Off of Third World Studies ?”. World Politics ,vol.XXXV (April): 465-487

44-Korany , Bahgat (1974) .”Foreign Policy Models and Their Empirical Applicability to Third World Countries : A Critique and an Alternative “. International Social Science Journal, vol.XXVI /1(March):70-94

45-Korany ,Bahgat (2015) “Acceptance Speech : Distinguished Global South Scholar Award” . International Studies Association (75th Annual Convention , New Orleans)

46-Krausse , Keith & Williams , Michael (eds.) (1997) : Critical Security Studies . Minnesotta , U.of Minnesotta P. ,

47-Krausse, Keith (2013).” Critical Perspectives on Human Security” in Mary Martin &Taylor Owen(eds.) Routledge Handbook of Human Security .London and New York : Routledge.pp:76-93

48-Lippman, Walter (1943).US Foreign Policy: Shield of the Republic. Boston: Little, Brown.

49-Mandaville , Peter(2001) . Transnational Muslim Politcs: Reimagining the Umma. London and New York : Routledge.

50-Mandaville , Peter(2007) . Global Political Islam . London & New York , Routledge.

51-Mandaville , Peter(2014) .Islam and Politics . London and New York : Routledge.

52-Martin , Mary & Owen , Taylor (eds.) (2013) : Routledge Handbook of Human Security . New York : Routledge

53–Morgenthau, Hans (1948). Politics Among Nations: The Struggle for Power and Peace. New York: Kopf.

54-Mostafa ,Nadia (2013). International Relations in Islamic Political Thought. Cairo : Dar el-Salam .

55- Nossal, Kim R. “Tales that textbooks tell: Ethnocentricity and Diversity in American Introductions to International Relations” in Crawford, R. M. A., & Jarvis, D. S. L. (2001). International relations–Still An American Social Science?: Toward Diversity In International Thought. Albany, NY: State University of New York Press)-

56-Paret, Peter (ed.) (1986). Makers of Modern Strategy. Princeton, N.J: Princeton University Press.

57-Peoples , Colomba & Vaughan-Williams , Nick ( 2010) : Critical Security Studies. New York : Routledge .

58- Petito,Fabio &Hatzopoulos , Pavlos(eds) (2013). Religion in International Relatios : The Return From Exile.New Yprk : Palgrave-Macmillan

59-Reus-Smit & D.Snidel (eds.)(200) . Oxford Handbook of International relations . Oxford and New York .Oxford U.P..

60-Said , Edward (1978) .Orientalism. New York : Random House.

61-Seiple , Chris; Denis Hoover & Paulette Otis (eds)(2013). The Routledge Handbook of Religion and Security . London and New York . Routledge.

62-Selim , Mohamed (1991) . Relations Among Islamic States . Riyadh: King Saud University Press (in Arabic)

63-Shami, Seteney & Miller-Idriss, Cynthia (eds.)(2016): Middle East Studies for the New Millennium. New York: NYU Press & the Social Science Council.

64 –Snyder,Jack (ed.)(2011).Religion and International Relations Theory.New York :Columbia U.P.

65-The Trust Fund for Human Security (2007). For the Human-Centered 21st Century. Tokyo and New York.

66-U.N. Commission on Human Security (2003). Human Security Now. (Under the leadership of Sadako Ogata & Amartya Sen). New York.

67-UNDP (1995) . United Nations Human Development Report . Oxford : Oxford U.P.

68-UNDP (2006). The Human Security Framework and National Human Development. Reports by R. Jolly & D. Ray. New York.

69-UNDP (2007). Understanding the Concept of Human Security in the Arab World. A Note from the Regional Bureau. New York.

70-Valbjorn , Morten (2015) “Reflections on Self-Reflections” in R.Hinnebusch(ed.) From Arab Spring to Arab Winter. A special issue of Democratization 22/2 :218-238 London( Routledge ) :

71-Williams ,Paul ( 2013 ) : Security Studies . New York : Routledge

72-Wolfers, Arnold (1962). Discord and Collaboration. Baltimore: Johns Hopkins University Press.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى