العلوم الشرعية والباحث الاجتماعي

ملتقى الحضارة السادس 

“العلوم الشرعية والباحث الاجتماعي..مفاهيم وإشكالات: (1) علوم القرآن، مصطلح الحديث”


تأتي هذه الحلقة لتمثل سلسلة جديدة من لقاءات ملتقى الحضارة حول العلاقة المتبادلة بين العلوم الشرعية والعلوم الاجتماعية؛ باعتبارها علاقة لازمة وضرورية لتفعيل علوم الشرع في الواقع المعاش، وتأصيل العلوم الاجتماعية والإنسانية استنادًا إلى الوحي المنّزل. ومحاولة للعودة إلى الأصل في العلوم والمعارف، من حيث كون العلم الديني هو كل علم ينفع الناس، ويكون لهم عونًا على إعمار هذا الكون وحسن خلافتهم فيه.

 

من هنا، تمثل هذه السلسلة من اللقاءات محاولة للاقتراب من المداخل المختلفة للعلوم الشرعية من قبل غير المتخصصين من دارسي العلوم الاجتماعية والإنسانية ويقوم عليها نخبة من متخصصي العلوم الشرعية من أعضاء الملتقى، باستعراض المفاهيم والأفكار الرئيسية لأربعة من حقول العلوم الشرعية، وهي علوم القرآن، علوم الحديث، علم الفقه، علم أصول الفقه. حيث يتعرض هذا اللقاء (الأول) من الحلقة إلى علوم القرآن وعلوم الحديث، بينما يتم تناول علوم الفقه وأصول الفقه في اللقاء المقبل إن شاء الله.

 

أولًا: علوم القرآن بين الأمس واليوم والغد:

 كان هذا هو العنوان الذي استهل به الشيخ محمد عبد السميع تعريفه لعلوم القرآن، مشيرًا إلى أن مفهوم “علوم القرآن” مفهوم مركب، يبدأ تعريفنا له أولًا بتعريف العلم؛ والعلم يعرف بأنه: “الإدراك الناجز الناتج عن دليل”.

أما القرآن، فهو كلام الله المنزل على محمد رسول الله المتحدى بأقصر سورة من سوره والموجود بين دفتي المصحف مبتدأ بسورة الفاتحة مختومًا بسورة الناس. وكأن علوم القرآن تُعنى بإدراكات القرآن المختلفة باختلاف المكان والزمان.

وعلوم القرآن واسعة المجال، فما من كتاب قامت حوله علوم –حتى اليوم- كالقرآن. فعلوم القرآن بالمعنى الأعم تشمل كل علوم الإسلام الهادفة إلى خدمة القرآن. أما بالمعنى الأخص، فإنها تشير إلى العلوم الأكثر ملابسة للقرآن وارتباطًا به، مثل المكي والمدني، الناسخ والمنسوخ،… إلخ.

وقد نشأت علوم القرآن عندما نشأت في قلوب المسلمين محبتهم للقرآن ورغبتهم في إبلاغه لمن بعدهم. فكانت نتاج معادلة تفاعلت فيها قدسية القرآن الكريم، مع انبهار المسلمين به، ورغبتهم في تبليغه، وخدمته، إضافة إلى إخلاصهم لدينهم.

علوم القرآن = القدسية + الانبهار + الرغبة في تبليغ الرسالة+ الخدمة + الإخلاص

وقد جاء كتاب الإمام الزركشي “البرهان” متضمنًا لمعظم علوم القرآن، ثم جاء من بعده كتاب السيوطي “الإتقان في علوم القرآن الكريم”، ثم توالت كتب عدة في علوم القرآن اعتمدت تصنيفات مختلفة، منها ما هو وفق مواطن النزول وأوقاته ووقائعه، أو أسباب النزول، أو الأداء (كيف أقرأه وأقرئه لغيري)، أو الألفاظ القرآنية (الغريب في القرآن، المعرَّب، المترادف،…)، الإلمام بالأحكام،…إلخ.

فبتعدد الأسباب الداعية إلى فهم القرآن تعددت العلوم الناشئة حوله؛

–       فدعا طلب تفهيم القرآن إلى نشأة علم التفسير.

–       ودعا فك التعارض المتوهم إلى نشأة علوم موهم الاختلاف، النسخ، أسباب النزول.

–       ودعا طلب البرهان على حفظ القرآن إلى جمع القرآن وتدوينه.

–       ودعا حديث نزول القرآن على سبعة أحرف إلى نزول القرآن على سبعة أحرف.

–       ودعا تعدد الأساليب البيانية والبلاغية الفائقة إلى نشأة علوم إعجاز القرآن.

–   كما نشأت علوم حول أنواع القَسَم في القرآن، سمات الجمل في القرآن، مبهمات القرآن، العام والخاص، المطلق والمقيد، المجمل، المبين…

وهناك علوم معاصرة مهمة ترتبط بالقرآن الكريم، منها:

–       علم المقاصد (الشاطبي).

–       السنن الإلهية (محمد عبده).

–       المبادئ القرآنية.

–       القيم من خلال أسماء الله الحسنى.

 

*المطلوب لتفعيل علوم القرآن والاستفادة منها:

وتفعيل علوم القرآن وما تقدمه من مناهج، والاستعانة بها في فهم واقعنا المعاصر، والاستفادة منها في العلوم الأخرى، يقتضي عدة أمور، منها:

–       إحياء تلك العلوم بلغة العصر.

–       محاورة الفكر بالفكر والعلم بالعلم.

–   التوسع والمد في علوم القرآن، فهناك العديد من العلوم التي يمكن إنشاؤها واستنباطها حول القرآن الكريم، مثل علم القواعد الكلية، الصورة الكلامية في القرآن، الوصف في القرآن، عادات القرآن، مبتكرات القرآن، علم الاستنباط القرآني، الخطاب القرآني بمعنى تتبع قضية معينة وكيفية معالجة القرآن لها.

 

ثانيًا: علوم الحديث:

ثم تحدث السيخ خالد عبد السميع عن علوم الحديث وبدأ بتعريف السنّة. وتُعرف السنُّة بأنها ما ورد عن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) من قول أو فعل أو تقرير أو صفة. فإن كان القرآن وحيًا منزلًا بلفظه، فإن السنة النبوية وحي بمعناها وتفصيل لما أجمل في القرآن.

 

* الأسئلة الكبرى في علم الحديث:

يقوم علم الحديث على مجموعة من الأسئلة المحورية التي تمثل مناهج علم الحديث وأسسه:

1)    أين السند؟

فأول ما يُسأل عنه راوي الحديث (المحدِّث) هو سند الحديث، وقيل في المأثور: الإسناد من الدين، ولولا الإسناد لقال من شاء ما شاء.

2)     كيف تحصل الثقه بالراوي؟

فلا تقبل رواية الراوي إلا إذا تحققت فيه شروط الثقة، وهي العدالة بأن يكون الراوي ذا دين وأخلاق ومروءة، والضبط بتوافر الكفاءة العلمية اللازمة لنقل ما يرويه.

3)    ما ضمان اتصال سلسلة السند؟

فلا يكفي اكتمال سند الحديث، أو أن يكون بعض رواة الحديث ثقاة، بل لابد من توافر شروط الثقه في سلسلة رواة الحديث (اتصال سند الحديث) حتى يصل السند إلى النبي (صلى الله عليه وسلم). واختلال تلك الشروط في أحد الرواة يضعف من سند الحديث.

4)    ماذا عن المقارنات والتعارض والترجيح؟

فالمحدّث قد يعقد بعض المقارنات بين الروايات المختلفة للحديث، وبين متون الباب الواحد، وحول ما يتفق من المتون أو يختلف مع القرآن،… إلى غير ذلك.

وقد ترتب على كل من تلك الأسئلة عدد من علوم الحديث؛ مثل علوم الرجال، الجرح والتعديل، …إلخ. إضافة إلى ذلك، رتبت علوم الحديث مناهج علمية سرت في العلوم الإسلامية المختلفة، كتلك المناهج المرتبطة بمسألة السند.

 

* مداخلات الحضور:

دارت مداخلات الحضور في جانب منها حول العلوم الشرعية، ومضمون ما عرضه كلا المتحدثين حول علوم القرآن وعلوم الحديث، وفي جانب آخر حول كيفية الربط بين العلوم الشرعية والعلوم اللاجتماعية.

فمن ناحية، كانت هناك بعض المداخلات والتساؤلات حول العلوم الشرعية، حيث طرحت إشكالية التعامل مع كتابات العلوم الشرعية من قبل غير المتخصصين، حيث يصعب على غير المتخصص التعامل بيسر مع كتب الأصول، كما أن شروح تلك الكتب تتسم -في الغالب- بالاختزال وعدم الوضوح، إلى درجة قد تحتاج إلى شرح كتب الشروح ذاتها.

كما أثيرت تساؤلات حول مصادر استمداد علوم القرآن، وهي متعددة ما بين علوم أصول الفقه، التفسير، وغيرها من العلوم. وموقع علوم القرآن من خريطة العلوم الشرعية، وثنائية الحفظ/ الفهم المتعلقة بالقرآن وأيهما أولى. أيضًا مسألة فهم القرآن، وضرورة التمهيد لقراءة القرآن “ما قبل القرآن”، وكيفية التعامل مع سوره وآياته وموضوعاته.

من ناحية أخرى، أبرزت المداخلات عدة مسائل مهمة حول الربط بين العلوم الشرعية والعلوم الاجتماعية، واستفادة غير المتخصصين –في العلم الشرعي- من العلوم الشرعية في تخصصاتهم المختلفة.

ومن أولى متطلبات ذلك الربط، تأتي عملية تجنيس (صناعة الاتساق) تعريفات المفاهيم المشتركة بين العلوم المختلفة، بما ييسر من عملية العطاء المتبادل بين تلك العلوم. ومدى حاجة غير المتخصص إلى التعرف على أساليب فهم النصوص الشرعية وما تقدمه العلوم الشرعية من أدوات وآليات لتحقيق ذلك، أكثر من حاجته إلى التعمق والدراسة المتخصصة للعلوم الشرعية. ومن ثم، يثور تساؤل حول اللازم، من حيث الكم والكيف، لدارسي العلوم الاجتماعية من العلوم الشرعية عمومًا، ومن علوم القرآن وعلوم الحديث على وجه الخصوص، حيث يرد هنا تأكيد على عدم وجود فواصل قاطعة بين العلوم الشرعية والعلوم الاجتماعية، فبقدر التعمق والدراسة للعلوم الشرعية، بقدر ما تكون القدرة على تأصيل العلوم الاجتماعية والإنسانية.

 

وقد أثارت العلاقة بين العلوم الشرعية والعلوم الاجتماعية مسألة في غاية الأهمية، ألا وهي مسألة استنباط المناهج من العلوم الشرعية واستخدامها في دراسة العلوم الاجتماعية والإنسانية. فالعلوم الشرعية تذخر بالعديد من المناهج والنظريات التي يمكن الاستفادة منها في مجال العلوم الاجتماعية؛ مثل نظرية الاعتماد المستمدة من علم الحديث، التي تؤصل لمفهوم الجماعة العلمية في العلوم المختلفة… وغيرها. بل، وفي المقابل، إنشاء واستنباط علوم وموضوعات جديدة حول القرآن الكريم، بما يخدم الواقع ويحقق التفاعل المتبادل بين العلوم الشرعية والعلوم الاجتماعية، مثل التفسير الموضوعي للقرآن، الاستنباط القرآني… فهذا الأمر، المتعلق باستنباط المناهج والموضوعات، يمكن أن يمثل الإفادة الأساسية على المستوى المنهجي والنظري التي يمكن أن تتحقق لدارسي ومتخصصي العلوم الاجتماعية من العلوم الشرعية المختلفة.

ومن ثم، فإن الأمر يحتاج تكاتفًا وتعاونًا بين دارسي العلوم الشرعية والاجتماعية، يهدف إلى قراءة تلك العلوم من زاوية مختلفة، بما يساعد على تفعيل النص وفهم الواقع من خلاله.

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى