المؤتمر الدولي ”مستقبل الإصلاح في العالم الإسلامي.. خبرات مقارنة مع حركة فتح الله كولن التركية“

إعداد:

سمية عبد المحسن – ماجدة إبراهيم – محمد كمال*

29شوال – 2 ذو القعدة 1430 هجريًا ، 19-21 أكتوبر 2009م

بين أروقة مقر الجامعة العربية بالقاهرة عُقدت فعاليات المؤتمر الدولي: “مستقبل الإصلاح في العالم الإسلامي: خبرات مقارنة مع حركة فتح الله كولن التركية” على مدار ثلاثة أيام فى الفترة من29 شوال إلى 2 ذو القعدة 1430 هـ الموافق التاسع عشر إلى الحادي والعشرين من أكتوبر 2009م. عُقد المؤتمر بالتعاون بين ثلاث مؤسسات علمية في مصر وتركيا؛ من مصر: مركز الدراسات الحضارية وحوار الثقافات الذي تحتضنه كلية الاقتصاد والعلوم السياسية جامعة القاهرة، أما الطرف الثاني المشارك في تنظيم وعقد المؤتمر وهو الطرف التركي، فتمثله كل من: مجلة حراء التى تصدر بالعربية، ووقفية أكاديمية البحوث والإنترنت.

تتضمنت أهداف المؤتمر الدراسة المتكاملة والمقارنة لأبعاد خبرة حركة الشيخ التركي فتح الله كولن على ضوء بيان جهود وثمرات تجارب الإصلاح والتجديد في العالم الإسلامي خلال النصف قرن الأخير خروجًا بدروس مستفادة لتخطيط مستقبل الإصلاح في العالم الإسلامي.

ضم المؤتمر خمسة عشر بحثًا وثمانية وثلاثون مشاركًا قدموا من عشر دول، بينما فاق عدد الحضور على الخمسمائة شخص يوميًا بمعدل زاد عن 1500 شخص عبر الأيام الثلاثة للمؤتمر، قدم مجمل جمهور الحاضرين مداخلات وأسئلة لإدارة جلسات المؤتمر نحو خمسمائة مداخلة وسؤال، فضلاً عن تغطية إعلامية كثيفة نسبيًا.

ولم يكن تركيز فعاليات المؤتمر على التجربة التركية في الإصلاح من منطلق إسلامي تمثله حركة الشيخ فتح الله كولن من فراغ؛ فقد صار الشيخ بحركته نموذجًا واقعيًّا للإصلاح الناجح في دولة ركن من أهم أركان العالم الإسلامي (تركيا) قد عصفت رياح العلمانية المفرطة بها لعقود حتى ظن ظانٌ أنها قد نزعت عنها رداءها الإسلامي فإذا بها تعيد إحياء هويتها الإسلامية في تجربة لما تزل محط انبهار وإعجاب ورصد ودراسة العالم أجمع غربه قبل شرقه، وغير الإسلامي منه قبل الإسلامي.

بل إن حركة كولن التي أرست قواعدها التأسيسية في المجتمع التركي منطلقة للعالم بدأت مراحل إصلاحها من جذور المجتمع التركي (الجانب التربوي والمجتمعي) وصولاً لقمته (سدة الحكم السياسي).

جاءت الكلمة الافتتاحية للدكتورة نادية مصطفى–مدير مركز الدراسات الحضارية وحوار الثقافات- واصلة وناظمة بين سياقات ودلالات الأبعاد والعناصر المتضمنة والمحيطة بالحدث من حيث الواقع الفعلي (زمانًا ومكانًا) والواقع الفكري والأكاديمي والحضاري. فكانت إشاراتها اللطيفة لدلالات الآيات القرآنية على جدران القاعة المنعقدة فيها جلسات المؤتمر في مقر جامعة الدول العربية، وكيف تحمل الآيات معاني وشروط الخيرية للأمة والتغيير الإيجابي، والاعتصام بحبل الله…

ثم ربطت د.نادية مصطفى المؤتمر بسياقه الفكري ومحورية عملية وقضية الإصلاح في الفكر الإسلامي المعاصر، ثم في إطار الحوارات الإسلامية البينية، وفي الإطار الحضاري الإسلامي الحاضن ومحورية موضع مصر وتركيا كركنين حضاريين فيه، وارتباط ذلك بالوضع العالمي وطبيعة القوى الحضارية القائمة على الساحة العالمية الراهنة.

وركزت كلمة د.مصطفى أوزجان (مستشار وقف البحوث الأكاديمية والإنترنت) على محورية التعليم والبعد التربوي في عملية الإصلاح من منظور إسلامي وخلال تجربة الإصلاح في تركيا على يد حركة الشيخ فتح الله كولن،وأهمية “إنتاج الإنسان” كخطوة أولى في المشروع الإصلاحي.

في المحاضرة الافتتاحية للمؤتمر، أشار د.أحمد الطيب رئيس جامعة الأزهر إلى أن علة العلل في تجارب الإصلاح في عالمنا العربي والإسلامي في العصر الحديث والمعاصر هي فقدان المرجعية العليا مقابل استيراد مرجعيات غير إسلامية من وحي فلسفات وعقائد تغريبية.كما أكد على ضرورة عدم الخلط بين القضايا الكبرى في إصلاح واقعنا وبين الجزئيات وأهمية الدراسة المقارنة لتجارب الإصلاح عبر العالم أجمع وعبر عالمنا الإسلامي

تناولت الجلسة الأولى موضوع “الإصلاح والتجديد في النصف الثاني من القرن العشرين: نماذج ورؤى مقارنة”. حيث استهدفت ورقة د.أبو يعرب المرزوقي “الإصلاح: العلاج العقلي وصراع الوثنيات أو في عواقب الفوضى الروحية والعقلية” طرح رؤية عن الإصلاح غير منفكة عن الإصلاح العملي، وأوضح أن هذا الإصلاح لابد له من شروط ومقومات حتى يتوافر له عوامل النجاح لعل أهمها: إعمال السنن والنظريات المعرفية الخاصة بالإصلاح، وتحويل واقع الفوضى العربي إلى فوضى خلاّقة حقيقية، والحد من الخلط القائم بين الغيب (بمعنى التصورات الكلية عن الله والإنسان والوجود) والشهادة، بالإضافة إلى أهمية الأخذ بخلاصات النماذج التاريخية للإصلاح وأهمها عند المرزوقي -وفق تصنيفه- النموذج الثيوقراطي الغربي، والنموذج الإبراهيمي، والجامع بين فضائلها هو النموذج المحمدي. وتناول الإصلاح بين الموجود والمنشود، وواقع الإصلاح في عالمنا العربي والإسلامي وانفصال نظريات الإصلاح وحركاته التطبيقية.

ويستخلص د.المرزوقي منهجية للإصلاح يتم اتباعها في واقعنا المعاصر تقوم على: الإصلاح الصناعي (دور المؤسسات والأجهزة المجتمعية التي يصنعها الناس) والإصلاح العضوي (وهو التعامل مع المجتمعات باعتبارها كائنًا حيًّا وليس آلة)؛ حيث يرى أن المنهج الواجب والأوفق للإصلاح كما يرى د.المرزوقي هو الجمع بين المنهجين.

وركز د.أبو يعرب مرزوقي في ورقته على آفة “توثين المؤسسات” أو بعض القيم أو الحركات والبعد عن “النموذج المحمدي” الذي استوعب النماذج الثيوقراطية وتجاوزها وجعل العرب يقودون إصلاحًا ورسالة عالمية.

ثم قدم د.سيف الدين عبد الفتاحورقة بعنوان “الإصلاح والسياسة: نماذج مقارنة”، وانقسمت بين عالمي: المفاهيم والنماذج الفكرية. فبدأ بالمفاهيم الثلاثة المتضمنة في عنوان الورقة: السياسة، الإصلاح والفكر في بناء جامع يعيد الاعتبار للتصورات والفهم الصحيح عنها ولها بما يحقق آصرة التواصل بين الثلاثة مفاهيم أو الثلاثة عمليات في مثلث متساوي الأضلاع رأسه السياسة وشِقيه عمليتا الصلاح والفكر.

كما قدم لنا استنباطًا للنموذج الإصلاحي من دعوة النبي شعيب (عليه السلام) في مقولته الواردة في سورة هود الآية “88” في قوله تعالى: ﴿إِنْ أُرِيدُ إِلاَّ الإِصْلاَحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلاَّ بِاللّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ﴾، وذلك في منظومة خماسية للإصلاح وشروطه العملية: الإرادة، الوسائل والأدوات، الاستطاعة والإمكانية، الإيمان والتوكل الحق، والمراجعة والإنابة.

ثم طرح د.سيف دراسة لثلاثة نماذج للحاكم (السياسي) المفكر المصلح في التجربة المعاصرة في العالم الإسلامي، وهم: محمد خاتمي (إيران)، محاضير محمد (ماليزيا)، وعلي عزت بيوجوفيتش (البوسنة). وقد كان معيار اختياره لهذه العينة من نحو سبعة نواظم جمع بينهم: الناظم الإنساني، والناظم التربوي، والبعد الإيماني لا سيما في علاقة المجتمع بالدولة، واعتبار الواقع، واختفاء كل منهم عن المسرح السياسي في لحظة معينة طواعيةً، واهتمام كل منهم بالهوية والحفاظ عليها، والحفاظ على علاقة متوازنة بين الإسلام والغرب (فخاتمي قدم نموذج الهوية الدينية غير المانعة، ومحاضير قدم النموذج التنموي الإسلامي، وبيجوفيتش كافح للاحتفاظ بالهوية الإسلامية للمسلمين في أوروبا)، هكذا لكل منهم سياقه الذاتي والخاص واستجابته لاحتياجات واقعه ومتطلبات إصلاحه. مما يعني أن النواظم لا تلغي المفارقات التي ترسم سمات خصوصية كل نموذج.

وكان عنوان الجلسة الثانية “الإصلاح والتجديد في العالم الإسلامي: المفاهيم والتجارب”، وضمت دراستان: الأولى للدكتور رضوان السيد بعنوان “الإصلاح الإسلامي: المسار والسيرورة”؛ حيث عرض سيرورة الإصلاح في عالمنا الإسلامي المعاصر منذ فجر القرن التاسع عشر إلى ما انتهى إليه واقعه على صعيدي الحركات والتنظيمات من جهة، ورصد أنماط علاقة الحركتين وبعض المفكرين الإصلاحيين بالنظم الحاكمة وصنفها إلى: نمط الانفراد بالسلطة كالنموذج الإيراني الراهن، ونمط المشاركة في السلطة، ونمط القطيعة والصدام مع النظم الحاكمة (وهو النمط الغالب) مقومًا جميع الأنماط بشكلٍ عام بالسلبية وعدم التمييز لحدٍ كبير.

كما رصد د.رضوان السيد تيارات الإصلاح الإسلامي (تقليدي ومعتدل متنور ومتطرف، بحسب تصنيفه) على صعيد السياق الداخلي الإسلامي مما أنتج ما أسماه: “فكر المطالبات” من قِبَل كل تيار منها (تحرير المرأة وإلغاء مفهوم الذمة من متطلبات التيار المتنور الليبرالي إن جاز الوصف مقابل مطالبات التيار الثوري المتطرف…). أما على الصعيد الخارجي (العالمي) فيتحدث د.رضوان السيد عمّا أسماه بظاهرة: “الصراع على الإسلام” وكيف أضحى الإسلام موضوعًا وإشكالية عالمية في سياق بروز الأصوليات في العالم الراهن.

وعلى صعيد النماذج الفكرية الإصلاحية في العصر الحديث، رصد د.رضوان السيد في دراسته نماذج لمجموعة مفكرين صنفهم مرحليًّا إلى مفكري مرحلة القرن الـ 18 (الطهطاوي، التونسي، مفكري الهند)، ومرحلة القرن الـ 19، والـ20 حتى عقد الثلاثينيات –الذي رآه منقطع تدفق تيار فكر مدرسة محمد عبده (وهو ما انتقده فيه بعض الحضور من المفكرين كـ د.محمد عمارة)- (فتناول د.رضوان في هذه المرحلة –وفق تصنيفه- كلاً من: الأفغاني، ومحمد عبده، ورشيد رضا)، أما المرحلة الثالثة والأخيرة في تصنيفه فهي مع صعود الإحيائية الجديدة على يد سيد قطب وحتى الآن.

وبعد شرحه وتقويمه اتجاهات الرأي حول هذه النماذج، يعود د.رضوان السيد إلى التأكيد على أهمية ومحورية عامل السياقات الخاصة بكل نموذج وأثرها على اختيارات ومفاضلات كل نموذج في تبني أولوية محددة من ركائز أو مجالات الإصلاح.

وفى الدراسة الثانية: “الإصلاح والتجديد: الأصول والفروع” استعرض د. محمد سليم العوا المفاهيم الواردة فى عنوان الورقة. وكان سؤاله الرئيس: هل يجوز الإصلاح والتجديد في الفروع والأصول على السواء أم هو مقتصر على الفروع دون الأصول؟ وأكد د.العوا على أن الإصلاح والتجديد قائم ووارد في جانب الاجتهاد في الأصول بضوابط معتبرة كما هو مطلق في الفروع. فلا يمتنع في كل الأصول كل تجديد وإصلاح (فقد اجتهد العلماء في العقائد، واجتهدوا في الذات والصفات…) بينما لا يجوز في كل الفروع كل تجديد وإصلاح؛ بحسب أن بعض الفروع لا تحتمل هذا، وبعض الأصول تحتمله أو يجب علينا أن نقوم به في شأنها.

فالعقول الكبيرة التي نهضت بالأمة وأحيت الهمة من علمائها قد أعملت العقل في النقل حتى توصلت بالإسلام إلى ما لاقيناه وورثناه منها، حيث لم تخف من الاجتهاد في الأصول كما تجتهد في الفروع. اجتهدت في الأصول في فهمها وفى مدى تطبيقها وكيفية إعمالها وما الذي تغطيه هذه الأصول وما الذي لا تغطيه.

لكن المجال الأرحب لهذا الاجتهاد الذي لا ضيق فيه هو المجال الذي نسميه مجال المعاملات ويدخل فيه جميع ما تعرفه البشرية من نظم للحكم وللقضاء والاجتماع والسياسة والإدارة والتجمع الأممي، ومن ملاءمة ذلك لظروف العصر أو عدم ملاءمته لظروف العصر.

فللأمة ثوابت ثقافية تقوم عليها هويتها ويستمر بها وجودها، وفي الثقافة فروع تختلف فيها الأنظار وتتباين الآراء. وكذلك فإن بعض الأحكام المتعلقة بالحياة ثوابت لا تحتمل التبديل، هذه الأحكام التي لا تحتمل تغييرًا ولا تبديلاً لأنها يترتب عليها مصالح الناس الدائمة هي الأصول التي لا يجوز أن يمسها الإصلاح، لكن يجوز أن يمسها التجديد؛ كلما درست نجددها، كلما نُسيت نذكر الناس بها، وكلما تركها الناس نحييها في أنفسنا حتى يرى الناس قدوة ومثالاً لإحيائها، وهي مع ذلك -مع ثباتها وعدم قابليتها للتغيير- تحتمل التأويل والاختلاف وتغير الحكم المترتب عليها بتغير الأحوال والظروف والأعراف والزمن. وبالتالي لا يجوز لأحد أن يقول مثلاً سألغي مؤسسة الزواج.

وثمة قيم تحتاج دومًا للتجديد وربما لإصلاح: حيث أكد د.العوا على أن الإصلاح عملية قوامها منظومة من القيم الواجب اعتبارها كما من الواجب تجديدها وإحيائها وربما إصلاحها (بدون تبديد أو تبديل). وكذلك الأمر في إصلاح وتجديد قيم كالعدالة والشورى.

وركزت الجلسة الثالثة على التعريف بـ”من هو فتح الله كولن: الشيخ والحركي”، وذلك في ورقتين. تناول د.أرجون جابان في الأولى “خطاب الشيخ فتح الله كولن وفلسفة الخدمة”، مركزًا على رؤية الشيخ فتح الله كولن للإسلام، ومؤكدًا أن الهدف الرئيسي لـ”كولن” هو تحقيق مرضاة الله وتطبيق تعاليم الشريعة الإسلامية. فمرضاة الله يجب أن تكون هدف كل عمل في بدايته ونهايته.

وأكد د.جابان على تركيز كولن على تفعيل رؤيته تلك للإسلام في مجال التربية والتعليم، مؤكدًا على أهمية مأسسة تلك العملية، حيث تمثل المؤسسية مجال تحويل الفكرة إلى نموذج. عملاً في ذلك على المزاوجة والدمج بين بعض الثنائيات، من أهمها المزاوجة بين العلوم الكونية والعلوم المادية، والتكامل بين الفكر والحركة.

ثم عرض د.إبراهيم البيومي غانم في ورقته “معالم في سيرة الشيخ فتح الله كولن” لحياة الشيخ فتح الله كولن، وانتماءاته الاجتماعية، وبيئته وأثر ذلك كله في توجهاته. بادءًا كلمته بتساءل مهم: لماذا تأخرنا في معرفة شخصية كولن وحركته؟ مشيرًا إلى أن السبب الأساسي في ذلك هو سبب سياسي تاريخي، مرجعه تكوّن خلفية سلبية متبادلة بين العرب والأتراك، أو ما أسماه “تركوفوبيا”، والتي يرجع أصلها إلى تكوّن تلك الصورة السلبية لدى الغرب عن الأتراك في عهد الدولة العثمانية.

ثم اقترب د.إبراهيم بعد ذلك من شخصية الشيخ، مبينًا أنه ذو ثقافتين؛ إحداهما تقوم على الأصول الإسلامية (القرآن والسنَّة) والتراث الإسلامي، أما ثانيتهما فقد تكونت عبر الاطلاع الواسع على الفلسفات والعلوم المعاصرة.

وعن موقعه في مجتمع العلم والإصلاح المعاصر، يصف د.إبراهيم الشيخ فتح الله كولن بأنه “مجدد للخطاب الإسلامي المعاصر” دون ذكر لهذا الشعار في كتاباته. ولعل أبرز مثال على ذلك –كما يذكر د.إبراهيم- هو جهده في مجال تجديد حيوية خطبة الجمعة وإعادة الروح والفاعلية إليها، باعتبارها أداة للتغيير الاجتماعي، مؤكدًا على أنّا “علينا أن نجدد الاستماع إلى روح الإسلام”.

اقتربت الجلسة الرابعة من حركة فتح الله كولن، وسعت إلى تسكين الحركة في خريطة التغيرات الاجتماعية على الساحة التركية في النصف الثاني من القرن العشرين من ناحية، وفي خريطة الحركات التركية للتغيير من ناحية أخرى.

حيث تناول أ.علي بولاج “الدين في تركيا والتغير الاجتماعي وحركة فتح الله كولن”، وفيها تم التركيز على عمل كولن وحركته على تجاوز الاختلافات البينية والمذهبية سواء داخل أو خارج تركيا لتحقيق التكامل والحوار المتبادل. وهو الأمر الذي سعى كولن عبر حركته إلى تحقيقه على أرض الواقع بتحقيق التكامل بين شرق تركيا وغربها، وأيضًا سعيه لتقديم الخدمات المختلفة للمسلمين في العالم بأسره، شرقه وغربه.

أما أ.أنس أركنه فتناول موقع “حركة فتح الله كولن بين الحركات التركية للتغيير”، فبدأ بالحديث عن طبيعة التحولات الاجتماعية التي لحقت بالمجتمع التركي في النصف الثاني من القرن العشرين مبتعدة به عن العلمانية التي أسسها أتاتورك؛ حيث لعبت الحركات الاجتماعية دورًا أكبر في التأثير في المجتمع التركي ونشر الوعي داخله مقارنة بالحركات والأحزاب السياسية.

ثم صنف أركنه الحركات الإسلامية في تركيا إلى فئات ثلاث؛ أولها حركات “الإسلام السياسي” التي تتبنى أولوية التغيير السياسي داخل النظام. أما الفئة الثانية تمثل ما أسماه “الإسلام الاجتماعي”، وتمثلها الحركات الاجتماعية والصوفية. وتأتي الفئة الثالثة لتعبر عن “الإسلام الثقافي” القائم على العودة إلى الخبرة الإسلامية من خلال إحياء الحركة الثقافية داخل المجتمع. ووصف أركنه حركة كولن باعتبارها حركة اجتماعية، دينية، دولية، تتميز عن غيرها من الحركات التركية بعدة سمات؛ منها تأكيد كولن على معاني “الغيرية” وإنكار الذات والتفاني، إعادة تأويل معاني الزكاة والإنفاق وتوسيعها وإعادة تفعليها في الواقع، الفهم الجديد لعملية التربية والتعليم، وأيضًا لفكرة التسامح … وغيرها.

وركزت الجلسة الخامسة على تفعيل فكر كولن ورؤيته الإصلاحية في مجال التعليم. فأكدت ورقة “فلسفة التعليم: السباحة في المجال الحيويّ” للدكتور سمير بودينار على أن التعليم مثَّل المجال الأساسي الذي بدأت منه حركة كولن مسيرتها الإصلاحية. ذلك أن التعليم يمكن الحركة من بناء ما يسمى “النموذج الذاتي”، أي بناء الإنسان وتربيته على القيم التي تقوم عليها الحركة… كما يمكن الحركة من تحقيق “مهمة التبليغ”، التي يعتبرها كولن المهمة الأساسية لكل مسلم في الحياة.

ويحقق التعليم بناء ذلك النموذج الذاتي استنادًا إلى عناصر ثلاثة؛ أولها الإنسان الجديد، الذي يتسم بحرية التفكير والإرادة، الجمع بين الإيمان والعلم، استخدام وسائل الاتصالات الحديثة للوصول إلى عقول وقلوب الناس، عمق الجذور الروحية، حراسة القيم الإنسانية، الأصالة مع البعد عن التقليدية… أما العنصر الثاني الداعم لبناء النموذج الذاتي فيتمثل في قوة الإسلام ذاته، المستمدة من خصوصية رسالته، وتجاوزها لقوانين الزمان والمكان، والتكامل بين عناصره مع فعاليته لتحقيق مقاصده.

وثالث تلك العناصر هو المرحلة الراهنة أو العصر، الذي أحسنت الحركة استغلاله والاستفادة من معطياته المتمثلة في العولمة والمناداة بحقوق الإنسان والحريات وغير ذلك.

وإذا كان د.بودينار ركز في كلمته على أهمية مجال التعليم في حركة فتح الله كولن، فقد جاءت دراسة د.رجب قيماقجان “التعليم ومنظوماته المؤسسية: من المحلية إلى العالمية” لتركز بشكل أكبر على رؤية كولن حول التربية والتعليم، وأساسها رفض الرؤية الحداثية للتعليم، التي تركز على الجوانب المادية والعقلية في العملية التعليمية فحسب منكرة الجوانب الروحية. وفي المقابل يطرح كولن رؤية تعليمية بديلة تقوم على التزاوج والجمع بين الروح والمادة.

وعن كيفية تطبيق تلك الرؤية التربوية لفتح الله كولن في المدارس على أرض الواقع، أكد د.قيماقجان أن ذلك لم يكن بصياغة مناهج مخصصة أو إضافة مناهج دينية إضافية. بل باتباع نفس المناهج المحلية في كل بلد، والتركيز بدرجة أكبر على تقديم رؤية قيمية من خلال تلك المناهج، تقديم برامج تربوية موازية للمناهج الدراسية عن طريق المعلمين، والأنشطة المدرسية المختلفة.

ضمت الجلسة السادسة، التي تناولت “مجالات العمل وخبرات الممارسة من المحلية إلى العالمية: مكافحة الفرقة”، ورقتين: ركزت الأولى على حوار الداخل والمواطنة التركية وعقدت الورقة الثانية مقارنة بين فتح الله كولن وسيد قطب.

فتناول د.ياسين أقطاي تجربة وقف جمعية اتحاد الكتاب والصحفيين في الحوار داخل تركيا وخارجها، وهي الجمعية التي يرأسها شرفيًا الأستاذ فتح الله كولن الذي شجع على إنشاء الجمعية في بداية التسعينيات بعد قراءته لمجمل التغيرات العالمية والداخلية في تلك الفترة.

وبيَّن أن للشيخ فتح كولن دور في تدشين الحوار مع الأقليات داخل تركيا ومثل منتدى “أبانت” ملتقى يجمع أطيافًا فكرية مختلفة تناقش قضايا تركيا والعالم والإنسانية، وهو أحد مبادرات جمعية اتحاد الكتاب والصحفيين الأتراك، وقد تبادل رئاسة منتدى أبانت عبر عشر سنوات مفكر إسلامي وآخر يساري، وهو ما يشير إلى قدرة فتح كولن في الجمع بين هذه الأطراف لتجلس معًا وتتعارف وتتناقش.

ثم عقد د. محمد صفار مقارنة بين سيد قطب وفتح الله كولن وأشار إلى أن هناك عوامل بنيوية مشتركة بينهما، ولكن هناك أيضًا جوانب للاختلاف فيما بينهما. فقد اشتركا في تشخيص الأزمة التي يمر بها الإنسان؛ فأرجعها سيد قطب إلى الانفصال النكِد بين العلم والدين، وهو نفس ما يشير إليه كولن حين يتحدث عن الانفصال المزدوج. ويجمع بينهما أيضًا فكرة معايشة الوحي عبر تجاوز زمني لاستعادة عصر التنزيل في عصر التأويل، وهو ما يتمثل في فكرة الشجرة والظل عند قطب والرسول الشجرة عند كولن.

وتناولت الورقة جوانب الاختلاف بين المفكريْن، فأشارت إلى أن قطب رأى حتمية الصراع بين المجتمع المسلم والمجتمع الجاهلي، بينما يؤمن كولن بالحوار وقبول الآخر وقبول الاختلاف مع الحفاظ على الذات. كما أن لكل منهما تصور مختلف لشكل الزمان.

وجاءت الجلسة السابعة بعنوان “مكافحة الفقر والإغاثة الإنسانية” متضمنة دراستين: الأولى قدمها د.عمار جيدل وعنوانها “محاربة الفقر: المنطلقات والغايات- حركة فتح الله كولن أنموذجا”، وناقشت الخلفية الفكرية والتربوية لمحاربة الفقر كما وضعها الأستاذ فتح الله كولن، والجوانب التطبيقية من فكرة محاربة الفقر كما جسّدها الذين امتلأت قلوبهم بفكرة “الخدمة الإيمانية”.

وأشارت الدراسة إلى أن الشيخ فتح الله كولن يرى أن الفقر الأخطر يكمن في عدم امتلاك العلم والفكر أو المهارة؛ لذا فالأغنياء الذين لا يملكون لا علمًا ولا فكرًا ولا مهارة هم فقراء في الحقيقة، وبيّن في هذا السياق أنّه يعرض نمطين من الفقر: أولهما معنوي، والآخر مادي. من هنا اتخذت محاربة الفقر عند الأستاذ مسلكين أساسين: المسلك الأول- محاربة الفقر المعنوي، والمسلك الثاني- محاربة الفقر المادي. وهما يشتركان في اعتمادهما الكلي على أساس واحد، فلا يشيعان (الفقر المعنوي الفقر المادي) أو يعيشان إلا حيث يستقر الجهل وتغيب الخدمة الإيمانية. لهذا كان من أولويات الخدمة الإيمانية محاربة الفقر الأول الذي يعد أساس محاربة الفقر الثاني. وتناولت الدراسة جهود مؤسسات الخدمة فى مجالات التعليم والإعلام والصحة والإغاثة والصناعة والتجارة داخل تركيا وخارجها.

وتناولت دراسة “برامج ومشروعات مكافحة الفقر في الداخل والخارج: نماذج مختارة”، التى اشترك فى إعدادها الباحثان أيمن شحاته وعبدالله عرفان، برامج ومهامّ مكافحة الفقر في مصر وتركيا، مع مراعاة سياق كل تجربة من جهة البيئة الثقافية والاقتصادية والسياسية والمؤسسية المحيطة بهذه المشروعات والبرامج. حيث عرضت الدراسة أبعاد الرؤية التنموية لدى الشيخ محمد فتح الله كولن، والتي تظهر في أفكاره ونمط حركته والمشروعات المتنوعة التي تنبثق عنها. ثم عرضت الدراسة بعض برامج ومشروعات مكافحة الفقر في تركيا ومصر، وركزت على جهود حركة فتح كولن فى تركيا والجمعية الشرعية في مصر.

وفى الجلسة الختامية للمؤتمر أشارت د.نادية مصطفى إلى أن التركيز عبر مؤتمر دولي كامل على تجربة حركة إصلاحية محددة يعني ويعكس ما لهذه الحركة من أهمية جعلتها محط أنظار كثير من الدراسات والفعاليات حول العالم وكان يجدر بنا أن نقوم بذلك على مستوى الحوار البيني الإسلامي – الإسلامي والحوار العربي-التركي، وأخذ العبرة من هذه التجربة في السياق الراهن للأمة وما تحتاجه من حلول إبداعية كانت حركة “كولن” نموذجًا مميزًا لهذه الحلول غير التقليدية.

وقدم المنسقان التنفيذيان للمؤتمر: د.إبراهيم البيومي غانم ود.باكينام الشرقاوي عرضًا لمسيرة المؤتمر واستعرضا الإطار العام والمقارن لجلسات المؤتمر، الحركة ذاتها ومؤسسها (الشيخ فتح الله كولن)، مجالات فعل هذه الحركة: التعليم، محاربة الفقر، الحوار، وغيرها من قضايا الأمة الإسلامية.

ثم تلا ذلك مجموعة من الشهادات الحية من زيارات قام بها أكاديميون مصريون وعرب وأجانب لتركيا وتعرفوا على مؤسسات حركة فتح الله كولن والتقوا مع بعض المنتمين إليها. حيث ركز د.حسن أبو طالب على اهتمام الحركة بتقوية الروح والنفس، مع اهتمامها بالتنظيم وإقامة المؤسسات والابتعاد عن الشخصنة. أما الأستاذ عصام سلطان، فأشار إلى إيمان الحركة بشمولية الإسلام والتخصص فى العمل. وأشارت د.ناهد عز الدين إلى اهتمام الحركة بالشباب وتناولت مفاهيم أساسية في الحركة وهي: الخدمة، والهمة، ومفهوم “المتولى” الذي يقتدي به الطلاب. وأشارت د.هبة رءوف إلى أن هناك “روحًا تسري” في الحركة تفسر ما يقوله البعض عن الحركة بأنها تنظيم ولا تنظيم. وركزت على “الأدب” الذي تتسم به الحركة وأعضائها؛ حيث الحرص على استعادة البعد الأخلاقي في بناء الإنسان.كما استعرضت د.هدى درويش بعض المبادرات والأنشطة التي قامت بها الحركة. أما د.يوهان (أكاديمي ألماني)، فركز على كيفية تعامل الحركة مع أسئلة: لماذا نصلح، وما الذي نصلحه، وكيف نصلحه؟

وفي المحاضرة الختامية قدم المستشار طارق البشري -المؤرخ والمفكر الإسلامي، ونائب رئيس مجلس الدولة المصري الأسبق- رؤية مستقبلية للإصلاح في العالم الإسلامي تنطلق من الحاضر التاريخي والواقعي للأمة، مؤكدًا أن الواقع هو مفتاح فهم المستقبل، وأن أسئلة الحاضر الممتد هي التي تصوغ رؤيتنا المستقبلية في الفكر والحركة. وأننا حين ندرس خبرات الإصلاح لا ندرسها لننسخها في بلادنا دون مراعاة لاختلاف السياقات الزمنية والمكانية والاجتماعية والثقافية، وإنما ندرسها للاستفادة منها مع مراعاة هذه الفروق الدقيقة. وأن مشكلة الأمة تتمثل في أن “أذرعنا لا تعملجيدًا، وأرجلنا لا تسير جيدًا، وهي مشكلة حركية تتعلق بالقدرة على جعل أهدافناتتوافق مع مصالحنا ماديًا ومعنويًا”.

وفي معرض تناوله العلاقات العربية التركية، شدد البشري على أهمية التجربة العثمانية، ولفت الانتباه إلى أن فترة الحكم العثماني للدول العربية كانت المعوق الرئيسي لتجدد الحركة الصليبية في منطقتنا لأنه على مدى التاريخ كان خطالدفاع الرئيسي لهذه المنطقة يتكون من نقاط ثلاث: دمشق، القاهرة، الحجاز، وما من دولة رمت إلى الوحدة والنهوض إلا وسعت إلى التكامل مع هذه النقاط التي تحولت إلى “سور الإسلام العظيم” بانضمام اسطنبول والأناضول فأصبح هذا السور خطًا رادعًا لأيةأطماع خارجية.

وفيما يخص مستقبل العلاقات العربية-التركية، أكد المستشار البشري على ضرورة دراسة الأوضاع الأمنية العامة والمشتركة للخروج باستراتيجية واحدة جامعة.

كما أشار البشري إلى الازدواجية الفكرية والمؤسسية التي عانينا منها عبر القرن العشرين: ففي القضاء هناك قضاء شرعي وآخر أهلي، وفي القيم ازدواج بين قيم إسلامية وأخرى غربية… هذا الازدواج هو الفرقة التي كان يقصدها فتح الله كولن في قوله: “إن الناس تعاني من الفقر والجهل والفرقة”.

وخلص المستشار البشري إلى أن مشكلتنا الحقيقية التي يعاني منها واقعنا الآن لا تكمن أبدًا في ضعف الأفكار، وإنما تكمن في ضعف التنظيم، وعلينا أن نواجهها بما يملك أصحاب القدرة على الحركة والتحريك من إمكانيات القيام بها.

* باحثون في العلوم السياسية بمركز الحضارة للدراسات السياسية بالقاهرة.

للحصول علي الملف بصيغة pdf

اضغط هنا

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى