الأزمة اليمنية: بين الاهتمام الأمريكي والمبادرات وتطور المواقف على الأرض

مقدمة:

 

يحاول هذا التقرير تتبع وعرض الجديد في الأزمة اليمنية خلال النصف الأول من العام الحالي 2021، والتقرير حين يذكر الأزمة يعني الحرب الدائرة منذ سيطرة جماعة أنصار الله الحوثي على العاصمة اليمنية صنعاء في سبتمبر 2014م والتي أعقبها تدخل سعودي لإجبارها على التراجع، وهو ما أدى لتفاقم الوضع ليصبح اليمن موضع حرب بين دول وجيوش وميليشات وجماعات وأحزاب؛ كلٌ يحاول أن ينفذ رؤيته ويحمي مصلحته، ولذلك فالتقرير حين يذكر الأزمة يعني هذه الحرب.

التطور الأهم خلال النصف الأول من هذا العام يتمثل في وجود إدارة جديدة في الولايات المتحدة الأمريكية لديها رؤية جديدة للأزمة اليمنية تتمثل في محاولة تسويتها بالأساس، ولذلك يمثل الاهتمام الأمريكي محور الدراسة الأول والأساس، ويتناول المحور الثاني المبادرات المطروحة خلال هذه الفترة والتي يبدو أنها تتناغم بشكل كبير مع المساعي الأمريكية لتسوية الأزمة، وبين هذه وتلك يتناول المحور الثالث تطور المواقف على الأرض خلال هذه الفترة ومدى تأثيرها وتأثرها بالتغير في الموقف الأمريكي والمبادرات المطروحة.

 

 

أولًا- الاهتمام الأمريكي: الطبيعة والأثر

  • دواعي وتطور الاهتمام الأمريكي باليمن

“لماذا تهتم أمريكا باليمن؟”، سؤال يمكن الإجابة عنه بالإشارة إلى أن اليمن من الناحية الجغرافية؛ يشرف على مضيق باب المندب ذي الأهمية الاستراتيجة الاقتصادية والأمنية، ويقع على الحدود الجنوبية بالنسبة للمملكة العربية السعودية التي تمثل أحد أهم -إن لم يكن أهم- حلفاء الولايات المتحدة في الإقليم. ورغم الانفصال الجغرافي، فإنه قريب ومتصل عبر البحر بواحد من أهم -إن لم يكن أهم- الأعداء في الإقليم وهو الجمهورية الإسلامية الإيرانية، ويمثل مساحة مهمة لتوسيع نفوذها الذي تسعى الولايات المتحدة وصديقتها السعودية لتحجيمه.

ومن الناحية الأمنية يمثل اليمن مقرًا لتنظيم القاعدة صاحب عملية استهداف المدمرة الأمريكية يو إس إس كول في 12 أكتوبر 2000 بينما كانت ترسو على ميناء عدن اليمني ونتج عنها مقتل 17 بحارًا أمريكيا، وصاحب هجمات 11سبتمبر 2001 على برجيْ التجارة في الولايات المتحدة الأمريكية، وهو الحدث الذي مثَّل البداية لمساعٍ كبيرة من جانب الولايات المتحدة الأمريكية لما أسمته “الحرب على الإرهاب” والذي ما يزال ساريًا لم يتبدل بغيره من التحديات حتى الآن، وبعد 2009 تزايد القلق الأمريكي من اليمن مع اتحاد تنظيم القاعدة في اليمن والسعودية تحت مسمى “تنظيم القاعدة في شبه الجزيرة العربية”. واليوم تمثل اليمن خطورة أمنية جديدة تتمثل في كونها منصة لإطلاق الصواريخ تجاه المملكة العربية السعودية.

بدأت الأزمة موضع الدراسة في أواخر عام 2014 خلال إداراة الرئيس باراك أوباما، ومع التدخل السعودي في مارس 2015 كان موقف إدارة أوباما تجاهها واضحًا فجاء في بيان المتحدث باسم مجلس الأمن القومي برناديت ميهان حول الوضع في اليمن: “تنسق الولايات المتحدة بشكل وثيق مع المملكة العربية السعودية وشركائنا في مجلس التعاون الخليجي بشأن القضايا المتعلقة بأمنهم ومصالحنا المشتركة. دعمًا لتحركات دول مجلس التعاون الخليجي للدفاع ضد عنف الحوثيين، أذن الرئيس أوباما بتوفير الدعم اللوجستي والاستخباراتي للعمليات العسكرية التي يقودها مجلس التعاون الخليجي. بينما لا تقوم القوات الأمريكية بعمل عسكري مباشر في اليمن لدعم هذا الجهد، فإننا نقوم بإنشاء خلية تخطيط مشتركة مع المملكة العربية السعودية لتنسيق الدعم العسكري والاستخباراتي الأمريكي، وستواصل الولايات المتحدة مراقبة التهديدات الإرهابية التي تشكلها القاعدة في شبه الجزيرة العربية عن كثب، وستواصل اتخاذ الإجراءات اللازمة لعرقلة التهديدات المستمرة والوشيكة للولايات المتحدة ومواطنيها. نحث الحوثيين بشدة على الوقف الفوري لأعمالهم العسكرية المزعزعة للاستقرار والعودة إلى المفاوضات كجزء من الحوار السياسي”[1].

ورغم أن إدارة أوباما كانت ترى ضرورة أن تركز السعودية جهودها على الحرب ضد تنظيم “داعش” في العراق وسورية، فضلا عن تنظيم القاعدة في الجزيرة العربية، والذي يتخذ من اليمن مقرًا له، وضرورة إيجاد “حل سياسي” في اليمن “يسمح بإعادة السلام”. إلا أنها اضطرت إلى مسايرة السعودية في اليمن لتخفيف مخاوفها من الاتفاق النووي مع إيران صيف 2015، وتوظيف الحزب الجمهوري في الكونغرس ذلك ضد الإدارة[2]. وبحلول عام 2016، تراجعت إدارة أوباما عن تقديم بعض الدعم الأمريكي للتالحف وأوقفت صفقة بيع أسلحة أعد لها من قبل.

جاء دونالد ترامب فأنفذ صفقة بيع الأسلحة، وقدم للرياض كل المساعدات الاستخباراتية والمادية التي طلبتها متجاهلا الانتقادات الدولية والحقوقية للأوضاع الإنسانية المترتبة على الحرب هناك، وكان دونالد ترامب قد استخدم حق النقض “الفيتو” ضد قرار من الكونغرس بتوافق أغلبية من الحزبين الجمهوري والديمقراطي عام 2019، ينص على إنهاء الدعم الأميركي العسكري للسعودية والإمارات في حرب اليمن، وتذرَّع ترامب حينها بأن ذلك القرار يتعدى على سلطاته الدستورية ويُعرِّض الأمن القومي الأمريكي للخطر. كما استخدم وزير خارجيته مايك بومبيو “سلطة الطوارئ” في العام نفسه لتجاوز اعتراضات الكونغرس على صفقة أسلحة للسعودية بقيمة ثمانية مليارات دولار احتجاجًا على الانتهاكات في اليمن، وقتل المعارض السعودي الصحفي جمال خاشقجي في قنصلية بلاده في إسطنبول عام 2018، لكن بومبيو اعتبر أن الصفقة مهمة للتصدي للتهديدات الإيرانية[3].

وعلى جانب آخر توسعت الولايات المتحدة تحت رئاسة ترامب في حربها على القاعدة وداعش في اليمن، فقد وافق الرئيس ترامب على غارة للقوات البحرية في اليوم الخامس له بالبيت الأبيض، معلنًا أنّ أجزاء من اليمن تمثل “مناطق أعمال عدائية نشطة”، مما جعلها بحكم الواقع مناطق حرب. وتوسَّع في عدد العمليات الجوية وعمليات الطائرات من دون طيار، مما ضاعف عدد الهجمات الأمريكية في اليمن لأكثر من أربعة أضعاف، فارتفعت من 32 غارة في السنة الأخيرة من إدارة أوباما إلى 131 غارة خلال السنة الأولى لإدارة ترامب. وبحلول منتصف عام 2018 عادت إدارة ترامب إلى معدل الأرقام التي رافقت عهد أوباما، حيث نفذت 36 غارة معترفًا بها خلال العام نفسه، ولم تحدث أيّة غارة خلال الأشهر الثلاثة الأخيرة من العام، ومن غير الواضح إذا ما كان ذلك تحولا في السياسة الرئاسية (على غرار خفض عدد الجنود في أفغانستان وإعلان الانسحاب من سوريا) أم أنّ الولايات المتحدة ببساطة افتقرت عام 2018 إلى خارطة الأهداف التي كانت تمتلكها عام 2017.

ورغم ذلك الدعم الذي قدمته إداراة ترامب للسعودية والتحالف وذلك التوسع الكبير في الحرب على القاعدة وداعش في اليمن فإن الولايات المتحدة آنذاك تؤكد –ولو من منطق الدبلوماسية- أنه حينما يتعلق الأمر بحرب التحالف العربي بقيادة السعودية ضد الحوثيين في اليمن فإن الولايات المتحدة ليست “طرفًا في النزاع” بل هي تساعد فقط حليفين رئيسيين لها[4].

  • إدارة بايدن وأزمة اليمن:

كان آخر قرارات إدارة ترامب فيما يخص حرب اليمن هو تصنيف الحوثيين كجماعة إرهابية، ثم جاءت إدارة الرئيس بايدن لتعلن القطيعة مع إداراة ترامب وتعيد السياسة في اليمن لوضع يعتمد بشكل أكبر على دبلوماسية الولايات المتحدة وقوتها الناعمة ويعيد لها مكانتها كفاعل متعالٍ يفرض السلام ويحفظ في الوقت نفسه أمن شركائه؛ فأعلن جو بايدن قرارًا يقضي بـ “إنهاء كل الدعم الأميركي للعمليات الهجومية للحرب في اليمن، بما في ذلك مبيعات الأسلحة ذات الصلة” لكل من المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة. وتسعى إدارة بايدن إلى إيجاد حل دبلوماسي للصراع، وذلك التزامًا بتعهده خلال حملته الانتخابية بوقف الدعم الأميركي للحرب، التي قال إنها “خلقت كارثة إنسانية واستراتيجية”. وإثر قرار بايدن، أعلن المتحدث باسم وزارة الدفاع الأميركية “جون كيربي” أن الوزارة أنهت كل “الدعم المحدود وغير القتالي” الذي كانت تقدمه الولايات المتحدة الأميركية “لعمليات التحالف (في اليمن)، والتي تشمل معلومات استخبارية وبعض الاستشارات”، والتي تتعلق غالبًا بتحديد الأهداف وتقديم دعم لوجستي[5].

ولكن هذا القرار تضمّن استثناءين: يتعلق أولهما بحماية أمن السعودية من “الهجمات الصاروخية، وضربات الطائرات من دون طيار، وتهديدات أخرى من القوى التي تسلحها إيران في عدة دول”. ولذلك شدّد بايدن على أن إدارته ستواصل “دعم المملكة العربية السعودية ومساعدتها في الدفاع عن سيادتها وسلامة أراضيها وشعبها”. أما الاستثناء الثاني فيؤكد أن القرار في اليمن لا يشمل “الجماعات الإرهابية”، كتنظيمي القاعدة والدولة الإسلامية في العراق والشام “داعش”، والتي ستستمر الولايات المتحدة في استهدافها.

ومن أجل تسهيل السلام أعلنت وزارة الخارجية الأميركية أنها ستلغي تصنيف الحوثيين “منظمةً إرهابية”؛ وهو القرار الذي اتخذته إدارة ترامب في يناير 2021، وأثار حينها اعتراض الأمم المتحدة ومنظمات الإغاثة؛ لأنه يُعقّد جهود تقديم المعونات لبلد يعاني أسوأ كارثة إنسانية في العالم، وفقًا للأمم المتحدة. ولتأكيد الدفع نحو السلام قال بايدن: “طلبت من فريقي المشرف على ملف الشرق الأوسط دعم مبادرة الأمم المتحدة لفرض وقف لإطلاق النار وفتح القنوات الإنسانية واستئناف محادثات السلام المتوقفة منذ فترة طويلة” و”سيتم تعزيز الدبلوماسية من خلال عمل الوكالة الأميركية للتنمية الدولية USAID لضمان وصول المساعدات الإنسانية إلى الشعب اليمني”. ومن أجل تنسيق الجهود والأهداف الدبلوماسية الأميركية الجديدة، أعلن بايدن تعيين الدبلوماسي، تيموثي ليندركينغ، مبعوثًا أمريكيًا خاصًا إلى اليمن.

إجمالا تقوم مقاربة بايدن على أربعة عناصر أساسية: أولا؛ إنهاء الدعم الأمريكي للعمليات الهجومية في اليمن، بما في ذلك مبيعات الأسلحة التي تستخدمها السعودية والإمارات في الحرب. ثانيًا؛ الاستمرار في دعم السعودية والدفاع عنها أمام التهديدات الإقليمية، خصوصًا تلك التي يكون مصدرها إيران ووكلائها في المنطقة. ثالثًا؛ الدفع في اتجاه حل دبلوماسي للصراع باعتبار أنه “لا يوجد حل عسكري للحرب في اليمن”. رابعًا، إلغاء تصنيف الحوثيين “منظمة إرهابية”، لإفساح المجال أمام الجهود الدبلوماسية لحل الأزمة[6].

باستثناء تعليق صفقات الأسلحة ووقف الدعم الاستخباري في اليمن، فإن قرار بايدن يبدو أنه لا يحمل تغييرًا عسكريًا كبيرًا؛ فالولايات المتحدة كانت توقفت منذ عام 2018، أي خلال رئاسة ترامب، عن تزويد الطائرات الحربية للتحالف بالوقود في الجو، بسبب ضغوط الكونغرس. كما لا يعني القرار أن الولايات المتحدة باتت خارج الصراع كليًا؛ إذ ستستمر من جهة في استهداف تنظيمي القاعدة وداعش في اليمن، ومن جهة أخرى -وهذا الأهم- ستُبقي على دعمها للسعودية في التصدي للهجمات الصاروخية والهجمات بطائرات من دون طيار التي تشنها جهات تدعمها إيران، وهذا ما يقوم به الحوثيون منذ سنوات[7].

وعند النظر في هذه الاستراتيجية ذات الأركان الأربعة يتضح أنها تحقق للولايات المتحدة الأمريكية مكانتها وقيادتها للعالم؛ فهي ترعى السلام مع الجميع (العدو والصديق) وتحمي شركاءها وتحافظ على مصالحها (المملكلة العربية السعودية وأمن الخليج) وتسوي الملفات العالقة (جماعة الحوثي والملف النووي الإيراني) بالشكل الأسهل والأقرب إلى فكر القيادة الجديدة (الدبلوماسية). لكن يبقى التساؤل حول قدرة هذه الاستراتيجية على تحقيق أي نتائج على الأرض، خصوصًا أن جماعة الحوثي ردت على رفعها من قائمة الإرهاب الأمريكية بتصعيد كبير في اتجاهين:

الأول: الهجمات على السعودية؛ فمنذ إعلان الخارجية الأمريكية نيتها إلغاء تصنيف الحوثيين كجماعة إرهابية، شنوا (19) هجومًا في أسبوعين على السعودية، بعض هذه الهجمات كانت في ظل تواجد “ليندركينج” في السعودية بما في ذلك الهجوم على مطار أبها في 10 فبراير 2021، ولذلك أصبح مُحرجًا للولايات المتحدة أن “تعلن شطب منظمة من قائمة الإرهاب وتستدير بسرعة وتدين الأنشطة الإرهابية التي تقوم بها تلك المنظمة”.

الثاني: الهجوم في محافظة مأرب؛ في اليوم التالي لإعلان “إدارة بايدن” إلغاء تصنيفهم كمنظمة إرهابية بدأ الحوثيون هجومًا في محافظة مأرب شرقي اليمن، وهو هجوم كانت قد فشلت في إنجاز أي تقدم فيه العام الماضي رغم استمراره لعدة أشهر[8].

ولذلك يمكن القول إن النتائج المبدئية لاستراتيجية بايدن حتى وإن كانت تضع الولايات المتحدة الأمريكية في ثوب قائد العالم والراعي الأكبر للسلام والدافع نحوه، فإنها –في ظل هجمات الحوثي بعد حذفه من قائمة الإرهاب- لا تزال قاصرة عن حماية أمن الأصدقاء والشركاء في الخليج، كما أنها لم تحقق أي نتائج في اتجاه السلام حتى كتابة هذا التقرير. وعليه فإن فاعلية هذه الاستراتيجية علي الأرض لا تزال قيد المأمول، وأي تحسن حقيقي في مسار السلام وإنهاء الحرب يتطلب قوة قاهرة ترغم الحوثي ومن معه ومن خلفه على التراجع وهذا فشل في فعله التحالف العربي بقيادة السعودية ومن خلفه الدعم الأمريكي على مدار  ست سنوات مضت من الحرب، أو أنه (تحقيق السلام) سيجعل الولايات المتحدة والسعودية وحلفاءهم يخضعون لمطالب الحوثي وإيران خاصة في ظل مساعي الولايات المتحدة لتسوية الأزمة ورغبة السعودية والإمارات في إنهاء الحرب، وتوسع جماعة الحوثي على الأرض بالشكل الذي يجعلها أكثر المستفيدين في حال استمرار/توقف الحرب. أو بقولٍ آخر: إما قوة تجبر الحوثي وإيران على التفاوض الجاد من واقع كسب مطلب وترك آخر، أو قدرة على التنازل ومهارة فائقة على التفاوض من جانب السعودية والحكومة الشرعية والولايات المتحدة الأمريكية.

ثانيا- المبادرة السعودية (فرص النجاح وأسباب الفشل)

تمثل المبادرة السعودية أهم ما طرح من مبادرات خلال النصف الأول من هذا العام 2021،  وأبرز التحولات التي أعقبت تغير القيادة الأمريكية وتبدل رؤيتها تجاه إدارة الصراع في اليمن، ولذلك فإن تركيز التقرير يقع بالأساس عليها، ومن خلالها يتعرض لأسباب فشل المبادرات السابقة والشروط اللازمة لنجاح المطروح وما قد يُطرح من مبادرات في المستقبل.

  • دوافع ومضمون المبادرة السعودية:

تتلاقى رغبة إدارة بايدن الذي وجَّه بفرض هدنة في اليمن، ورغبة السعودية في إنهاء الحرب التي دخلت عامها السابع دون أن تحقق أهدافها التي وضعتها المملكة وحلفاؤها وأيدتها ودعمتها فيها الولايات المتحدة الأمريكية بقيادة أوباما وقتها، تتلاقى هذه الرغبات جميعًا حول وقف الحرب. ولذلك تأتي المساعي الأمريكية للسلام المتمثلة في التوقف عن دعم العمليات الهجومية للتحالف العربي على اليمن والالتزام فقط بالدفاع عن أمن السعودية والشركاء في الخليج العربي، وكذلك عملية إزالة جماعة الحوثي من قائمة الإرهاب كبادرة حسن نية من جانب الولايات المتحدة للدفع نحو التفاوض، والخطوة الثالثة تأتي من جانب المملكة العربية السعودية التي أطلقت مبادرتها لوقف إطلاق النار لتمثل تطورًا جديدًا في جانب المبادرات المطروحة منذ بداية الأزمة وحتى اليوم.

وبناء على هذه الرغبات جاءت المبادرة السعودية التي تنص على أنه: “استمرارًا لحرص المملكة العربية السعودية على أمن واستقرار اليمن والمنطقة والدعم الجاد والعملي للسلام وإنهاء الأزمة اليمنية، ورفع المعاناة الإنسانية للشعب اليمني الشقيق، وتأكيدًا لدعمها للجهود السياسية للتوصل إلى حل سياسي شامل بين الأطراف اليمنية في مشاورات بييل وجنيف والكويت وستكهولم، فإنها تعلن عن “مبادرة المملكة لإنهاء الأزمة اليمنية والتوصل لحل سياسي شامل”، والتي تتضمن وقف إطلاق نار شامل تحت مراقبة الأمم المتحدة، وإيداع الضرائب والإيرادات الجمركية لسفن المشتقات النفطية من ميناء الحديدة في الحساب المشترك بالبنك المركزي اليمني بالحديدة، وفق اتفاق ستوكهولم بشأن الحديدة، وفتح مطار صنعاء الدولي لعدد من الرحلات المباشرة الإقليمية والدولية، وبدء المشاورات بين الأطراف اليمنية للتوصل إلى حل سياسي للأزمة اليمنية برعاية الأمم المتحدة بناء على مرجعيات قرار مجلس الأمن الدولي 2216، والمبادرة الخليجية وآليتها التنفيذية، ومخرجات الحوار الوطني اليمني الشامل”[9].

  • موقف الحوثيين من المبادرة:

ورغم أن المبادرة تتضمن عدة إغراءات للحوثيين أو تقدم لهم بعض التنازلات مثل فتح مطار صنعاء لبعض الوجهات الدولية والإقليمية، وإيداع الضرائب والإيرادات الجمركية لسفن المشتقات النفطية من ميناء الحديدة في الحساب المشترك بالبنك المركزي اليمني بالحديدة، إلا أن رد جماعة الحوثي كان الرفض سياسيًا والتصعيد عمليًا.

فسياسيًا؛ عقّب محمد عبدالسلام، رئيس الوفد المفاوض لدى الحوثيين في مقابلة أجراها على قناة المسيرة التابعة للحوثي قائلا: “نحن نعتقد أن مثل هذا هو محاولة لإيجاد أن السعودية تريد السلام، وهو المحاولة للتفلت من الضغوط الإنسانية الكبيرة التي تتلقاها نتيجة ما يتعرض له الشعب اليمني من حصار إجرامي وكبير، وكذلك في محاولة للهروب إلى الأمام إذا ما صحت العبارة من الاستحقاق الحقيقي نتيجة لهذا العدوان، ولهذا نحن نعتقد أن مثل هذا هو لا يمكن أن يؤدي إلى حل ولا إلى تفسير حقيقي للأزمة ولا إلى أفكار حقيقية متقدمة، ما الجديد في الأمر؟ أن يقدم مقترح طرف هو رئيسي في العدوان عليك، ثم يقول طرحناها للحل، نحن لا يحتاج منا إذنا أن يرفع الحصار وأن يوقف العدوان، لأن موقفنا دفاعي وسيستمر دفاعيا، فارفعوا الحصار”[10].

والتصعيد العملي؛ تمثل في عملية عسكرية أطلقتها القوات التابعة لحركة أنصار الله الحوثية بعنوان “عملية يوم الصمود الوطني” استهدفت فيها بالطائرات المسيّرة والصواريخ الباليستية مناطق في العمق السعودي. ومن أبرز ما استهدفته الهجمات محطة لتوزيع منتجات البترول في مدينة جازان جنوب السعودية أدى إلى نشوب حريق في أحد خزانات المحطة من دون أن يؤدي إلى إصابات في الأرواح[11]. وإلى جانب العمق السعودي طورت جماعة الحوثي هجماتها في الداخل اليمني في مدينة مأرب التي تمثل هدفًا كبيرًا بالنسبة للحوثي ومكسبًا كبيرًا بالنسبة لأي طرف قد يستحوذ عليها على الأرض وسيتناول التقرير دراستها بالتفصيل في الجزء الثالث الخاص بالمواقف على الأرض[12].

وبعيدًا عن قضية القبول والرفض فإن المبادرة تأتي كإطار تكتيكي مفهوم كاستحقاق مرحلي، فوقف الحرب نهائيًا يتطلب استحقاقات أوسع فى حال القبول بالمبادرة وإطلاق مسار جديد للتسوية. فتخفيف القيود على ميناء الحديدة ومطار صنعاء يتعاطى مع العناوين التي سبق وطالبت بها جماعة الحوثي لكن وفق ضوابط، ففتح مطار صنعاء لا يعني العودة إلى استئناف الرحلات إلى إيران أو لبنان حتى لا يعاد فتح الأجواء أمام الأولى ووكلائها الإقليميين لتوفير مزيد من الدعم العسكرى الإيراني أو عبر حزب الله للحوثي. كما أن عملية تقاسم العوائد الجمركية فى ميناء الحديدة مؤشر على التخلي عن سياسة الفصل الاقتصادي بعد نقل البنك المركزي التابع للشرعية إلى عدن. أما وقف الحرب بشكل نهائي فسيكون فى إطار اتفاقية تأتي بعد هذه الهدنة التى يفترض أن تنتج شكلا جديدًا للسلطة على الأرجح أقرب إلى اتفاق السلم والشراكة الذي سبق عرضه بالتزامن مع استيلاء جماعة الحوثي على صنعاء وتم تضمينه فى اتفاق المبادرة الخليجية.

المبادرة بهذا الشكل لا تحقق المصالح الإيرانية- الحوثية، فعلى سبيل المثال؛ فتح الأجواء أمام إيران ولبنان هو أولوية لدى هذا الفريق، وهو سياق واضح فى الدعاية الحوثية المضادة للاتفاق والتى تُصر على أن لا يكون فتح الأجواء مشروطًا إلى أي جهة، وأن المبادرة لم تتضمن شيئًا جديدًا، وبالمثل لم تحقق المصالح السعودية بل يمكن القول أنها جعلت الحوثيين كما لو كانوا دولة في مواجهة السعودية وأعطت لهم مكاسب كبيرة، لم تكن السعودية ترغب في التنازل لهم عنها سوى أملا في إنهاء الحرب وسعيًا لتبرئة الذمة أمام الرأي العام الغربي الذي تسعى السعودية لكسبه في صفها في مواجهة إيران والحوثي.

من أجل هذه الأهداف طرحت السعودية هذه المبادرة التي يُرجَّح أنها طُرِحت بالتنسيق مع الرباعي الدولي (الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا وألمانيا) ولذلك أصدرت تلك الدول بيانات تحذيرية وفورية لإيران والحوثيين بمجرد إطلاق هجمات على السعودية كرد على المبادرة؛ حيث اعتبرت تلك المجموعة أنها تُقوِّض جهود عملية السلام فى اليمن، كما أن هذه الأطراف -باستثناء ألمانيا- شاركت فى مناورات مشتركة فى مسارح مختلفة فى الشرق الأوسط خلال الأسبوع الماضي بالمشاركة مع السعودية، وبالتالى يمكن القول إن المبادرة السعودية هى مبادرة دولية قدمتها الرياض كاستجابة للقوى الدولية الداعية لوقف الحرب، وهو ما أكدته تلك الدول فى بيانات تأييدها للمبادرة بقولها أن السعودية أكدت على رغبتها الحقيقية فى إنهاء الحرب فى اليمن[13].

المبادرة لم تحقق الرغبة السعودية ولا المطالب الحوثية ولا المساعي الأمريكية، والرد عليها جاء بالمزيد من الضربات في العمق السعودي وتطوير الهجوم في الداخل اليمني على مدينة مأرب، ولذلك فإن المبادرة –ومن قبلها استراتيجية بايدن للسلام- لم تحقق المرجو منها وإنما أتت بنتائج عكسية حتى وقت كتابة هذا التقرير، لكن ما يزال الوقت مبكرًا للحكم على قدرة بايدن واستراتيجيته على تسوية الأزمة اليمنية، كما أن المبادرة السعودية لم تنتهِ بعد حتى وإن كان الرد الحوثي هو الرفض العنيف.

فحراك التفاوض الدولى من جانب المبعوثيْن الأمريكي والأممي عبر الوسيط العماني مع الحوثيين وإيران ما يزال مستمرًا فى دلالة على أن القوى الدولية لم تفقد الأمل بعد، وهو ما يوفر بيئة قد تنتج تسوية وتحافظ عليها في ظل تلاقي هذه الرغبات وتلك المساعي حولها، وغياب تلك البيئة الداعمة للسلام في السنوات السابقة كان السبب الأهم -حسب تقدير الباحث- في عدم التوصل إلى تسوية للأزمة أو حل للنزاع، ولذلك فإن توفر تلك البيئة في ظل وجود الإدارة الأمريكية الجديدة في هذه الظروف المواتية يجعل التسوية ممكنة بل وقريبة ولكنها مرهونة بمرونة القيادة السعودية والإدارة الأمريكية وقدرتهما على إدارة الموقف بالشكل الذي يجعل الحوثي يفضل التسوية على الحرب. يبقى فقط تأكيد أن ما قد يحدث سيكون مجرد تسوية للأزمة وليس حلا كاملا للنزاع.

ثالثا- تطور المواقف على الأرض

في هذا الجزء يستعرض التقرير مناطق نفوذ وسيطرة كل طرف من أطراف الصراع والجديد فيها خلال النصف الأول من هذا العام، فاليمن أصبح مُقسّمًا بين الحكومة المعترف بها دوليا (حكومة الرئيس هادي)، وجماعة الحوثيين، والمجلس الانتقالي الجنوبي والقوات المشتركة، بالإضافة إلى وجود لتنظيميْ الدولة الإسلامية والقاعدة، وهذا استعراض لمناطق سيطرة وتواجد كل طرف من أطراف النزاع.

خريطة تقاسم مناطق سيطرة القوى المتحاربة في اليمن

(المصدر: الجزيرة)[14]

  • تطور نفوذ أطراف الصراع:
  • الحكومة المعترَف بها دوليًا:

بعد عشرة أعوام من الثورة اليمنية، تسيطر حكومة الرئيس عبد ربه منصور هادي المعترف بها دوليّا على الجزء الأكبر من مساحة البلاد الجغرافية، لكن معظمها أراضي صحراوية، وحاضرة في المحافظات النفطية مأرب وشبوة وحضرموت، إضافة لمحافظة المهرة.

كما تسيطر الحكومة على أجزاء من محافظات أبين والجوف، وتحضر صوريّا في عدن العاصمة المؤقتة منذ وصولها إلى المدينة أواخر يناير 2020 قادمة من الرياض.

ويقيم الرئيس هادي في العاصمة السعودية منذ وصوله إليها فارًا من مدينة عدن نهاية مارس/آذار 2015، بعد أن مر بسلطنة عُمان لينجوا بنفسه من القصف الجوي الذي شنه الحوثيون وقوات صالح على قصر معاشيق.

  • جماعة الحوثيين:

يُنظر لجماعة الحوثيين على أنها سبب ما آل إليه اليمن، فبعد تحالفها مع صالح الذي عاد للانتقام من ثورة فبراير، شنت حربا على قوات الجيش في محافظة عمران، واقتحمت صنعاء يوم 21 سبتمبر 2014 لتهوي بالبلاد إلى جحيم الحرب. انقلب الحوثيون على الاتفاقات مع الحكومة وسيطروا على معظم المحافظات في مارس 2015، قبل أن تقف أمامهم المقاومة الشعبية التي تشكلت من شباب ثورة فبراير وعسكريين، ليتدخل التحالف بقيادة السعودية يوم 26 من الشهر ذاته.

وبعد تمددهم خارج معقلهم في محافظة صعدة شمالي اليمن، يسيطر الحوثيون على معظم محافظات  شمال البلاد المكتظة بالسكان بما فيها العاصمة صنعاء ومدينة الحُديدة التي تحوي ميناءً استراتيجيّا. ورغم كون الشمال لا يتعدى نسبة الثلث من مساحة الأرض إلا أنه الأهم من الناحية الاقتصادية والسياسية والاستراتيجية أيضًا، كما أن القيادة السياسية تنحدر منه منذ عقود، لذلك فإننا لا نتعامل مع خرائط صماء أو عملية حسابية مجردة تقيس الأرض أو مناطق السيطرة بالكيلومتر، وسيتضح ذلك أكثر حينما يتعرض التقرير للحرب في مأرب وأهمية المدينة لكل طرف من أطراف النزاع وما قد يمثله سقوطها في يد الحوثي أو بقائها في يد القوات الحكومية. وبالمقارنة بين وضع جماعة الحوثي التي كانت قبل بداية الحرب تتمركز في محافظة صعدة في الشمال فأصبحت اليوم وبعد ست سنوات من الحرب تسيطر على معظم المحافظات الشمالية ومرشحة للسيطرة على مساحات كبيرة أخرى في حال سقوط مأرب في قبضتها، يتضح حجم نفوذ الحوثي وخطورة توسعاته المستمرة منذ بداية المعركة.

  • المجلس الانتقالي الجنوبي:

أُعلن تشكيل المجلس الانتقالي الجنوبي المطالِب بانفصال جنوب اليمن عن شماله منتصف 2017 بدعم من الإمارات، وضم تحت لوائه قوات الحزام الأمني المنتشرة في محافظات عدن ولحج وأبين وجزء من محافظة الضالع، وقوات النخبة الشبوانية المنتشرة في أجزاء من محافظة شبوة، وقوات النخبة الحضرمية المنتشرة في مدن ساحل حضرموت. وفي أغسطس/آب 2019 اندلع قتال بين قوات المجلس والقوات الموالية للحكومة، وانتهى بسيطرة الانتقالي على مدينة عدن ومعظم محافظات الجنوب.

يعترف المجلس الانتقالي بالحكومة اليمنية، غير أنه لا يسمح لها بنشر قواتها، وبعد معارك بين الطرفين خلال 2020، تنحصر سيطرته على مدينة عدن ومحافظة لحج وأجزاء من محافظتي الضالع وأبين بالإضافة إلى جزيرة سقطرى بعد أن فقد محافظة شبوة. ورغم عودة الحكومة إلى عدن وفق اتفاق الرياض الموقَّع بينها وبين الانتقالي أواخر 2019، فإنها تبقى مجردة من قواتها التي يرفض الانتقالي عودتها إلى معسكراتها.

والمجلس بمناطق سيطرته وسياسة عمله يُمثل المُعادِل الموضوعي للتنازع والتضارب السعودي الإمارتي في اليمن، إذ رغم أن الدولتين تنخرطان في التحالف العربي وتتفقان على مواجهة الحوثي إلا أن كلا منهما لها مشروع مختلف عن الأخرى وبالتالي أهداف مختلفة ورؤية مستقلة لإدارة الملف، وهو ما  قد يصل بهما للاقتتال كما حدث في 2019.

  • القوات المشتركة:

في نهاية عام 2017، أعلن الرئيس اليمني السابق علي عبدالله صالح فك عرى التحالف مع الحوثيين لتندلع المواجهات بين قوات الطرفين في العاصمة صنعاء التي انتهت بمقتل صالح وفرار ابن شقيقه طارق الذي قاد المعارك ضد الحوثيين. ورغم التقارير التي أكدت مقتله، فإن طارق صالح ظهر فجأة في شبوة، وبدعم إماراتي شكّل قوات ضخمة سرعان ما فرضت سيطرتها على حساب قوات العمالقة السلفية في الساحل الغربي، حيث تقدمت الأخيرة نهاية 2018 نحو مدينة الحديدة الاستراتيجية غربي البلاد.

وتمثّل قوات المقاومة الوطنية التي يقودها طارق صالح أبرز الفصائل العسكرية المنضوية في القوات المشتركة التي تسيطر على الشريط الساحلي الممتد من مضيق باب المندب الاستراتيجي حتى مدينة الحديدة، لكن قوات طارق لا تعترف بشرعية الرئيس هادي. وكان طارق صالح واحدا من أبرز القادة العسكريين الذين قاتلوا إلى جانب الحوثيين ضد القوات الحكومية والمقاومة الشعبية.

  • تنظيما القاعدة والدولة:

سيطر تنظيم القاعدة على محافظة أبين جنوبي اليمن في 2012 مستغلا ثورة فبراير قبل أن يخسر وجوده على وقع هجوم قوات الجيش، وما لبث أن عاد للسيطرة على مدينة المكلا في أبريل/نيسان 2015 مستغلا هذه المرة انقلاب الحوثيين. وبعد عام واحد انسحب التنظيم من المكلا بعد تفاهمات أُجريت بين التنظيم وقيادات محلية سمحت بتقدم حملة عسكرية يقودها التحالف السعودي نحو المدينة. واختفت عناصر تنظيم القاعدة، لكن بين حين وآخر يعلن عن نفسه في محافظتي البيضاء وشبوة.

وبعد ظهور لافت قبل 5 أعوام، تلاشى وجود تنظيم داعش الذي كان حاضرا في معسكرات محدودة بمحافظة البيضاء، وتراجع أمام الرفض الذي قوبل به من السكان المحليين على عكس تنظيم القاعدة[15].

  • الجديد خلال النصف الأول من 2021:

إذا كانت هذه هي خريطة النفوذ على الأرض فما الجديد خلال النصف الأول من هذا العام 2021؟ والإجابة تتلخص في التصعيد/استئناف الهجوم الحوثي نحو مأرب منذ منتصف فبراير 2021، والذي كاد أن يُلحِق بالقوات الحكومية هزيمة ماحقة، لولا صمود هذه القوات ومساندة القبائل، وما تلا ذلك من تعزيزات دُفِع بها من محافظة شبوة المجاورة ومحافظات أبين وتعز والحديدة، وتحريك جبهات القتال في محافظة الجوف المجاورة لمأرب، وفي محافظتي حجة وتعز، مما أدى إلى خفض وتيرة الهجوم وتراجع التهديد مع حلول منتصف مارس/آذار 2021. ليعود الهجوم فيشتد من جديد في بداية يونيو نحو مأرب ونحو العمق السعودي أيضًا.

ورغم كونها مدينة واحدة والحوثيون يسيطرون على عدة مدن في الشمال كما توضح الخريطة السابقة، إلا أنها تمثل واحدة من أهم مراحل ومفاصل هذا النزاع فالمدينة تحولت إلى حاضنة عسكرية واقتصادية وسياسية للحكومة المعترف بها دوليًّا، عوضًا عن العاصمة صنعاء التي يسيطر عليها الحوثيون أنفسهم، وعن مدينة (ميناء) عدن، التي تخضع للمجلس الانتقالي الجنوبي (انفصالي)، على الرغم من تمركز الحكومة فيها امتثالا لاتفاق الرياض عام 2019، ومن الناحية العسكرية؛ تتمركز في مأرب القيادة العليا (الفعلية) للقوات المسلحة ممثلة بوزارة الدفاع ورئاسة هيئة الأركان العامة وهيئات ودوائر الإدارة والتنظيم والمالية والسيطرة والدعم اللوجستي للقوات، علاوة على ما يمثله جوار مأرب الجغرافي لمحافظة صنعاء من تهديد للمعقل السياسي للحوثيين (العاصمة صنعاء)، وكل ذلك يستدعي القضاء عليه، مع ما يترتب على نتائجه من كسر لنسق الدفاع الأول عن محافظتي شبوة وحضرموت اللتين تُشاطئان المحيط الهندي وتتمركز فيهما حقول وموانئ تصدير النفط والغاز.

فلم يتبقَ للحكومة المعترف بها دوليًّا، من سيطرة فعلية في المحافظات الشمالية سوى مأرب وتعز، غير أن مأرب تبرز فيها ملامح الدولة، في تماسك سياسي وعسكري قلَّ نظيره في المناطق المحررة، أما مناطق سيطرتها في الجوف والحُديدة وحَجة وصعدة فمحدودة، وتحيط بها ظروف سياسية وعسكرية معقدة.

وبالإضافة إلى ذلك تتحكم مأرب في شبكة الطرق الرابطة بين شبوة وحضرموت والمهرة، والمؤدية إلى عُمان والسعودية، كل ذلك ظل دافعًا ثابتًا ومؤجلا للحوثيين للسيطرة على مأرب، منذ سيطرتهم على صنعاء عام 2014، ولما تمثله كذلك من مصادر مالية غزيرة، بجانب عوائد النشاط التجاري الناتج عن الكثافة السكانية (نحو مليون نسمة)، وما يمكن أن ينجم عن جذب رؤوس الأموال إليها[16].

رغم أن القوات الحكومية حققت نطاقات أوسع في جبهات القتال في تعز وحجه وقوات الحوثي حققت تقدمًا طفيفًا في مأرب إلا أنها لم تنجح بعد في السيطرة عليها ولا تزال مأرب جبهة القتال الأشد عنفًا والأعلى قيمة لطرفي النزاع، ففي حال تمكنت قوات الحوثي من السيطرة عليها فإنها بذلك تكون اقتلعت أهم معاقل الحكومة الشرعية في الشمال وكسرت أقوى خطوط دفاعها، ووسعت من ناحية ثانية من دوائر الاشتباك مع السعودية في حال سيطرت بعدها على مدينة الجوف وهي أقل أهمية من مأرب غير أنها تمس الحدود السعودية مباشرة، وعندها سيكون من الأفضل للسعودية أن تعترف -استجابة لإكراهات الواقع- بالسلطة الحوثية على اليمن أو على الأقل في نصفه الشمالي وستقبل حينها بأي اتفاق من شأنه أن يضمن أمن حدودها ويخلصها من ويلات الحرب. أي أنه إذا سيطر الحوثي على مأرب يكون قد فاز بالحرب كليًا لأنه لا توجد جبهة أخرى قوية يمكنها الوقوف أمام توسعاته وسيتفرغ بعدها للمجلس الانتقالي في عدن وقوات طارق صالح (القوات المشتركة) في الشريط الساحلي.

وفي حال استطاعت القوات الحكومية ومن خلفها التحالف الحفاظ على المدينة فإنها تستنزف قوات الحوثي بشكل كبير، وتبقي على تهديد دائم لعاصمتهم صنعاء، وتحافظ على وجود تمركزات من عدة اتجاهات ربما تحاصر وجود الحوثي في حال تم التنسيق بينها من خلال مناطق سيطرة المجلس الانتقالي الجنوبي، والقوات الحكومية في تعز من ناحية الجنوب والسعودية وحدودها مع اليمن من أقصى الشمال، ومن الشرق مأرب وأبين وشبوه وغيرها من المحافظات التي تقع على الناحية الشرقية من مناطق سيطرة الحوثي، ولذلك فإن بقاء مأرب يمثل فرصة لاستعادة السيطرة على الأرض المفقودة، ولأنه لا توجد جبهة أخرى قوية يمكنها الوقوف أمام توسعات الحوثي فإن معركة مأرب تصبح معركة حسم تتجاوز المناورات التفاوضية لتصبح مصيرية؛ من يفوز بها قد يفوز بالحرب ومن يخسرها يخسر الحرب[17].

يرى الباحث أن مسألة الهجوم أو تصعيد الهجوم على مأرب يمثل تطورًا طبيعيًا لتحركات وتوسعات الحوثي على الأرض ولا يرتبط بشكل مباشر بالمبادرة السعودية ولا بالمساعي الأمريكية، لأن الهجوم على مأرب تم استئنافه ولم يبدأ بعد هذه الأحداث، فالحوثي لا يثق في المساعي الأمريكية ولا في المبادرة السعودية ويطور موقفه على الأرض بالشكل الذي يحسِّن أوضاعه، فإن تم الاتفاق على هدنة مؤقته أعاد التقاط أنفاسه وتنظيم صفوفه بما يمكنه من تطوير الهجوم بعدها، وإن تمت تسوية للقضية أجبر خصومه على الاستجابة لشروطه.

فالمبادرة السعودية والاستراتيجية الأمريكية لتسوية الأزمة تمثلان عاملا مساعدًا في هذا التصعيد يدفع نحو توسيع رقعة الأرض بالشكل الذي يجعل التفاوض من منطق قوة سواء بالنسبة لجماعة الحوثي التي تريد أن تكسر القوات الحكومية سواء حدثت تسوية أم لا، أو بالنسبة للقوات الحكومية وقوات التحالف التي لا تريد للحوثي أن يسيطر على أهم معاقلها في الشمال حتى لا تدخل المفاوضات وهي لا تملك مناطق نفوذ مؤثرة في الجزء الأهم من البلاد، غير أن الزعم بأن تطوير الهجوم الحوثي نحو مأرب يأتي استجابة أو رد فعل فقط لمبادرات السلام من أجل تعظيم المكاسب، لا يأخذ مجمل الصورة بعين الاعتبار كما أنه يتجاهل التطور الطبيعي للظاهرة قبل ذلك لحساب معالجات سريعة لا تمس جوهرها، وعليه فإن التصعيد الحوثي نحو مأرب لا يرتبط ارتباطًا عضويًا بالمبادرة السعودية وإنما هو مجرد تطور طبيعي للتوسع الحوثي المستمر ساعد في اشتعاله بشدة وجود المبادرة السعودية والمساعي الأمريكية للسلام.

خاتمة:

تناول التقرير في المحور الأول الموقف الأمريكي من الأزمة اليمنية منذ بدايتها في 2014 وتعرض بشيء من التفصيل للجديد في ذلك الموقف خلال الأشهر الستة الأولى من العام الحالي 2021 تحت إدارة بايدن، وانتهى إلى أن النتائج المبدئية للاستراتيجية الأمريكية لتسوية الأزمة في اليمن تُظهِر الولايات المتحدة الأمريكية بمظهر قائد العالم والدافع نحو السلام إلا أنها ما تزال حتى الآن قاصرة عن حماية أمن الأصدقاء والشركاء في الخليج، وفاعليتها على الأرض وفي الدفع نحو السلام قيد المأمول.

وفي المحور الثاني تناول التقرير الجديد في المبادرات (المبادرة السعودية تحديدًا) وانتهى إلى أنه طبقًا لرد الحوثي المتمثل في الرفض سياسيًا والتصعيد العنيف عمليًا، فإن المبادرة لم تحقق المطالب السعودية ولا المصالح الحوثية الإيرانية ولا المساعي الأمريكية، ولكنها تأتي كإطار تكتيكي مفهوم كاستحقاق مرحلي، غير أن الوقت ما يزال مبكرًا للحكم عليها خاصة في ظل تأكيد الأطراف المختلفة على استمرار التفاوض.

وفي المحور الثالث الخاص بتطور المواقف على الأرض انتهى التقرير إلى أن الهجوم الحوثي على مأرب يأتي كتطور طبيعي للتوسع الحوثي ولا يرتبط ارتباطًا عضويًا بالمبادرة السعودية ولا بالاستراتجية الأمريكية، ولكن وجودهما كان عاملا مساعدًا في اشتعال القتال في هذه الجبهة شديدة الأهمية.

ولأنه لا توجد جبهة أخرى يمكنها الوقوف أمام توسعات الحوثي في حال استطاع أن يسيطر على مأرب فإن معركة مأرب تتجاوز كونها ورقة تفاوضية لتمثل معركة مصير؛ من يفوز بها يحسم الحرب ومن يخسرها يخسر الحرب.

يبقى تأكيد أن كل تلك المساعي والمبادرات تأتي فقط على سبيل تسوية الأزمة، أي إيقاف/تجميد الحرب، وليس حل أسباب النزاع وخلق بيئة داعمة للتعايش والاستقرار، لأن خلق هذه البيئة يتطلب صيغة مناسبة في توزيع الثروة وإدارة السلطة، وهذا لا يتم تحقيقه من خلال مبادرة وإنما يحتاج عملية متكاملة وجهود متواصلة لسنوات تتجذر فيها الثقة بين مختلف الأطراف داخل اليمن ويأمن فيها كل طرف على وجوده وعلى حقوقه ويسعى للحفاظ على ذلك خوفًا من ضياع مكاسبه.

___________________

الهوامش

[1] انظر الآتي:

– Statement by NSC Spokesperson Bernadette Meehan on the Situation in Yemen, The White House Office of the Press Secretary For Immediate Release,  March  25/2015, Accessed: 25 May 2021 https://bit.ly/3cRnHXw

– أوباما أجاز الدعم لعملية “عاصفة الحزم” بقيادة السعودية في اليمن، موقع بي بي سي العربي، بتاريخ 26 مارس 2015، متاح عبر الرابط التالي: https://bbc.in/3cUbOjI

[2] قرار بايدن وقف الدعم الأميركي “للعمليات الهجومية” السعودية في اليمن: الحيثيات والدوافع، المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، 11فبراير 2021، تم الاطلاع في 28مايو 2021، متاح عبر الرابط التالي: https://bit.ly/3qhgp4T

[3] المرجع السابق.

[4] غريغوري جونسن، ترامب ومكافحة الإرهاب في اليمن العامان الأولان، مركز صنعاء للدراسات الاستراتيجية، 21مارس 2019، تم الاطلاع في 1يونيو 2021، متاح عبر الرابط التالي:  https://cutt.us/jRpZp

[5] قرار بايدن وقف الدعم الأميركي “للعمليات الهجومية” السعودية في اليمن: الحيثيات والدوافع، مرجع سبق ذكره.

[6] المرجع السابق.

[7] المرجع السابق.

[8] The Impact of Biden’s Policy on Yemen War, Abaad Studies & Research Center, 10 March 2021, Accessed: 30 may 2021, available at:  https://cutt.us/TSWqI

[9] نشرته قناة العربية ويمكن الاطلاع عليه عبر الرابط التالي: https://bit.ly/2ScPue3

[10] الحوثي يعلق على توقيت المبادرة السعودية و”رمي الكرة في ملعبهم”، CNN بالعربي (الشرق الأوسط)، 23مارس 2021، تم الاطلاع في 25مايو 2021،  متاح عبر الرابط التالي: https://cnn.it/2Sh89p6

[11] نسرين حاطوم، حرب اليمن: هل تنتهي المبادرة السعودية بعد التصعيد الحوثي الأخير؟، بي بي سي – بيروت، 26 مارس 2021، تم الاطلاع في 25مايو 2021، متاح عبرالرابط التالي: https://cutt.us/pyKiP

[12] للمزيد حول أسباب رفض الحوثي للمبادرة انظر: عبد الباري عطوان، عشرة أسباب تَقِف وراء رفض “أنصار الله” وحُلفائهم للمُبادرة السعوديّة المُفاجئة لوقف إطلاق النّار رُغم ما تتضمّنه من تنازلات.. ما هي؟ وهذه هي قراءتنا لتطوّرات الأيّام والأسابيع المُقبلة عسكريًّا وسياسيًّا، رأي اليوم، 23مارس 2021، تم الاطلاع في 25مايو 2021، متاح عبر الرابط التالي: https://bit.ly/2TNySd0

[13] أحمد عليبة، المبادرة السعودية للتسوية والاستراتيجية الإيرانية للحرب في اليمن، مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتجية، 28 مارس 2021،  تم الاطلاع في 25مايو 2021، متاح عبر الرابط التالي:  https://cutt.us/3Q4HW

[14] مراد العريفي، بعد 10 أعوام على ثورته.. خريطة النفوذ والسيطرة في اليمن، الجزيرة نت، 11فبراير 2021، تم الاطلاع في 28مايو 2021، متاح عبر الرابط التالي: https://bit.ly/3vPyBE5

[15] للمزيد حول تقسيم المناطق على الأرض انظر: المرجع السابق.

[16] علي الذهب، تصعيد الحرب ومبادرات السلام في اليمن: الأبعاد والسيناريوهات، مركز الجزيرة للدراسات، 31مارس 2021، تم الاطلاع في 10يونيو 2021، متاح عبر الرابط التالي: https://cutt.us/Raswr

[17] في حال سيطر الحوثي على مأرب وما بعدها واستطاع أن يتوسع في الجنوب فإنه لن يستطيع طبقًا لمقتضيات الواقع اليمني أن يحكم كل اليمن ولذلك فإن الباحث يرى أن مأرب والسيطرة عليها وعلى ما بعدها تأتي لترسيخ سيطرة الحوثي على شمال البلاد وكسب الاعتراف الرسمي به، وترسيخ نموذج التقسيم لشمال يحكمه الحوثي باعتراف رسمي وجنوب تتقاسمه كل القوى الأخرى، وحينها سيتم التنازل عن المحافظات الجنوبية التي سيطر عليها الحوثي.

فصلية قضايا ونظرات- العدد الثاني والعشرون ـ يوليو 2021

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى