الذاكرات الوطنية وذاكرة الأمة

خطورة عدم التحاضن والتوظيف السلطوي

تداعت خلال شهر مارس الجاري (2019) احتفالات بذاكرات “وطنية” طرحت بقوة سؤالاً عن غائب–حاضر هو: أين ذاكرة الأمة من مثل هذه الوقائع الكبرى؛ من: مئوية ثورة 1919 (مصر 9 مارس)، وخمسين عامًا عام على معركة الكرامة (الأردن-فلسطين 21/3/1968)، و(43) عاما على يوم الأرض (فلسطين المحتلة/عرب48 (30/3/1976)، وأربعينية معاهدة السلام المصرية-الإسرائيلية (26 مارس 1979)، وغيرها…؟
إنها احتفالات بأحداث متقابلة؛ بعضها يجسد معاني (الثورة ضد الاحتلال البريطاني، المقاومة العسكرية ضد المحتل الصهيوني ومقاومة الاستيطان الصهيوني)، في مقابل تجسيد بعضها الآخر معنى (“عقد السلام” بعد انتصار عسكري مجيد في أكتوبر 73).
ومن ثم يلاحظ على هذه الذاكرات عدة ملاحظات:
فأولها أنه يشوب الاحتفال –على مستوى الوطن الواحد- تنازع الاتجاهات حول طبيعة الحدث والأهم حول مآله حتى الآن.
والأكثر خطورة –ثانيا- أن كل احتفال يظل حبيس حدوده القطرية، كما لو أنه لا يرتبط بنظائره عبر الحدود ولا يحمل معنى للأمة بأسرها.
ويزداد الأمر خطورة –ثالثا- بالنسبة لماهية الذاكرة الجماعية للأمة، ناهيك عن الذاكرة الوطنية لكل دولة؛ أن جميع الاحتفالات بهذه الأحداث تتم الآن تحت قصف من ممارسات قوى خارجية غاشمة، واستبداد داخلي مستحكم، وشعوب مستباحة وعدو صهيوني “يعلو في الأرض”، وعداء متصاعد ضد الإسلام والمسلمين، حتى لقد صدق فينا حديث رسول الله (صلى الله عليه وسلم): “تتداعى عليكم الأمم كما تداعى الأكلة إلى قصعتها…”-الحديث.
بعبارة أخرى: إن الاحتفال بذكرى الثورة والمقاومة والكرامة والاستقلال والحرية والسلم المحمي بالقوة العسكرية … وغيرها من معاني الوطنية الرشيدة والوحدة الفاعلة، يتم جميعها في سياقات محملة بكل المعاني المضادة والمناقضة.
إن الاجتزاء والفرقة والتباعد في الاحتفالات بالذاكرات الوطنية من ناحية، والتناقض بين معاني هذه الأحداث وبين الحال الراهن، إنما يجسد واقع حال الانقسام والتجزئة بين أوطان الأمة بل داخل الوطن الواحد. إن الانتكاس في الذاكرات الوطنية الذي يحدثه الاستبداد المستحكم والتلبيس على الناس عمن هو العدو ومن هو الصديق، إنما يتم في ظل استتباع هائل للخارج وتداعٍ أكثر هولاً لإرادات النظم الداخلية وقدرات الشعوب، حتى وصلنا إلى حالة خائبة من “التحالف الاستراتيجي مع العدو الاستراتيجي”.
فلقد أضحت قوى الاحتلال الخارجي هي مصدر الدعم والمساندة والموالاة الذي تستند إليه النظم ضد شعوبها، وأضحى العدو الصهيوني هو الحليف الاستراتيجي لهذه النظم وضد شعوبها أيضًا… ولم يبقَ إلا عقل وقلب هذه الشعوب ليُستكمل استلابها بعد استباحة الأرض والثروة.
اليوم: يتباهى ترامب بالقضاء على آخر معاقل داعش في الباغوز بعد المحرقة التي تمت ضد أهلها من المدنيين وتزامنًا مع اعترافه –بعنجهية- بالجولان أرضا إسرائيلية، وفي الوقت نفسه يتباهى نتنياهو في واشنطن، بمناسبة انعقاد المؤتمر السنوي للإيباك، بدعم ترامب في نفس الوقت الذي يقصف فيه جيش الاحتلال غزة؛ ردًا على هجمات المقاومة الصاروخية على شرق تل أبيب، وذلك كله بعد أن أعلن ماكرون في نهاية فبراير أن معاداة إسرائيل هي معاداة للسامية، وفي الشهر ذاته وبين ذاكراته المختلفة يحصد إرهابي أبيض في نيوزيلندا، وبدم بارد، أرواح (50) مصليًا في مسجدين بنيوزلندا.
وفي حين تحمل ذكرى “معركة الكرامة” و”يوم الأرض” معاني المقاومة العسكرية والمدنية، تستعد نظم عربية للتطبيع “الشعبي والتجاري والثقافي” مع العدو الصهيوني، في حين أن هذا العدو لا يتردد لحظة في استكمال مخططه لتهويد القدس والأقصى على كافة المستويات (وآخرها أحداث مصلى باب الرحمة).
وفي حين كان الاحتفال بذكرى ثورة 1919 يستحضر صورة زعماء الوفد يحملون مطلب الاستقلال إلى المندوب السامي ثم إلى مؤتمر الصلح… إلخ من مظاهر الجهاد الوطني، فإن القاهرة تستقبل –بين أمور أخرى وعلى سبيل المثال- وزير الخارجية الأمريكي ليتحدث عن “حلف ناتو عربي إسرائيلي”؛ وهو الأمر الذي دشنه دوليًا -وبصراحة وعلانية- مؤتمر وارسو عن السلام والحرية في الشرق الأوسط.
وفي حين كان انعقاد معاهدة “سلام مصرية-إسرائيلية” يحمل ويستحضر كل معاني العلاقة بين الانتصار العسكري وبين التفاوض الدبلوماسي مع العدو، فإن مآلات هذه المعاهدة –وطنيًّا وإقليميًّا- لم تقُد إلى “سلام” تحميه القوة والردع عسكريًّا وحضاريًّا بالمعنى الشامل. فالأوطان العربية في فرقة واقتتال وتدنٍّ حضاري، فبقدر ما كان مضمون المعاهدة لا يعكس توازنًا في القوى المصرية-الإسرائيلية بقدر ما أن مآلها الآن يشهد خللاً كبيرًا في هذا التوازن، لا يعترف به القادة المصريون والعرب صراحة ولكن يدفنون الرؤوس في الرمال وهم يهرولون للتعاون مع إسرائيل في كافة المجالات تحت ذريعة محاربة الإرهاب “الإسلامي”!! وإيران؛ حيث إن المصالح الآنية الضيقة للنظم اكتسحت كل اعتبارات الدفاع عن “الأوطان والشعوب” ضد الأطماع الخارجية والمشاريع الاستعمارية.
خلاصة القول: إن الاحتفالات بذاكرات وطنية يتم على نحو سطحي هزلي، متناقض مع الأحوال الراهنة، وهو الأمر الذي يسهم في استكمال تشويه ما تبقى من ذاكرات الشعوب وخاصة الأجيال الشابة.
ولكن ربما ينبلج من المحن منحٌ ويقود هذا الاضطراب الذي تخلقه النظم في الذاكرات الوطنية إلى التدبر في “حقيقة الذاكرة” لتفعيلها من جديد؛ خدمةً لحرية وكرامة ورفاهة الشعوب واستقلالها وتخلصها من الاستبداد والفساد والظلم.
والأطر الوطنية الضيقة لا تكفي بمفردها للوصول إلى أفق العدالة والحرية؛ فلا بد أن تتحاضن الشعوب وتتكاتف عبر فضاءات الأمة … فهل سيحمل حراك شعب الجزائر الراهن جديدًا؟
والحمد لله
30 مارس 2019

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى