قضية القدس في ديزني لاند !!

رؤية حول مدلولات العلاقة بين الثقافي والسياسي

تتحرك من جديد عملية التسوية السياسية بين العرب وإسرائيل، ويظل وضع القدس حاضراً في قلبها ومتحدياً لشكلها النهائي، وتستمر إجراءات تهويد القدس جلية واضحة، وتتراكم المواقف العربية والإسلامية المناهضة لهذا التهويد.
وحيث إن قضية القدس ليست شأناً عربيا فقط ولكن إسلامياً أيضاً لذا تتعدد الساحات السياسية والدبلوماسية والقانونية والفكرية التي يخوض المتخصصون على رحاها معاركهم من أجل القدس.
ولا يعدم “المسلم العادي” بدوره الساحات المناسبة للمشاركة. ولقد تركزت الأضواء خلال شهري سبتمبر وأكتوبر 1999 على إحدى هذه الساحات ذات الطابع الخاص. وأعني بذلك ساحة المواجهة بين شركة والت ديزني وإسرائيل من ناحية وبين الجامعة العربية ومنظمات العرب والمسلمين في الولايات المتحدة الأمريكية من ناحية أخرى. ولقد تفجرت هذه المواجهة بمناسبة إعداد الشركة لما يسمى “قرية الألفية” وذلك في إحدى حدائق مدينة والت ديزني الشهيرة في فلوريدا وتشارك في هذه القرية 24 دولة من بينها إسرائيل ومصر والسعودية، وذلك بأجنحة ذات طابع ثقافي. وحيث إن شعار المعرض – كما أعلنت الشركة – هو التنوع الثقافي ، عالم بلا حدود . ولقد تم افتتاح القرية بأجنحتها في 1/10/1999 وتقرر أن تستمر لمدة 15 شهرًا أي حتى نهاية العام الأول من الألفية الجديدة .
ولقد بدأت المواجهة عقب ما تردد أن إسرائيل يمكن أن تنظم جناحها تحت شعار القدس عاصمة إسرائيل” من ناحية ، ومع التساؤل من ناحية أخرى حول مضمون المواد الإعلامية الإسرائيلية التي سيتم عرضها في الجناح .
وبدأت الجامعة العربية حركتها في وقت تبلورت فيه أيضاً أنشطة تنظيمات عرب ومسلمي الولايات المتحدة مثل “مسلمو أمريكا من أجل القدس” ، اللجنة العربية الأمريكية ضد التمييز ، التجمع الإسلامي العالمي ، مجلس العلاقات الأمريكية الإسلامية . وكان محور الحركة التي أثارت النقاش هو : مقاطعة عربية لجميع منتجات الشركة وذلك في حالة استغلال إسرائيل سياسياً لجناحها .
ولقد تم افتتاح المعرض، ولم يتم توقيع المقاطعة ، وسرت مبررات رسمية عربية، وانهالت انتقادات عربية ومسلمة غير رسمية، وتوالت التعليقات الغربية على انتصار ديزني على الجامعة العربية وعلى استفزاز إسرائيل للعرب وللمسلمين” . وثارت تساؤلات حول مدى فعالية حركة الجامعة ومدى رشادة تخطيطها بل ومدى رشادة تصديها لقضية القدس على مثل هذه الساحة الترفيهية وهل تستحق هذه الساحة الترفيهية خوض معارك حول قضايا هامة مثل قضية القدس .
ومن خلال متابعة التصريحات والتحليلات ، التي أوردتها وكالات الأنباء الغربية وبعض الصحف الأمريكية (على مواقع الانترنت) تكونت رؤية يمكن تلخيصها في بعض الملاحظات. ولقد تشكلت خلفية هذه الرؤية من التشابك والتفاعل بين الأبعاد التالية : العلاقة بين الثقافي والسياسي في عالم اليوم ، العلاقة بين اللوبي العربي والمسلم في الولايات المتحدة وبين مؤسسات ومنظمات أوطانهم ، العلاقة بين المبادئ والمصالح ، العلاقة بين إسرائيل وبين مراكز عالمية متنوعة وليس السياسية أو الاقتصادية فقط، آليات الحركة العربية الفاعلة : هل مازالت المقاطعة العربية ممكنة أو فاعلة ؟
وتتلخص أبعاد الرؤية حول هذه المواجهة في الملاحظات التالية :
أولاً : إن قضية القدس تستوجب المعارك على كل الساحات وفي كل مكان وفي كل زمان . ومعرض والت ديزني ليس استثناء على هذا الواجب ، بل إن طبيعته الخاصة – من حيث الأطراف التي اهتمت بالمواجهة حوله، ومن حيث موضوعه ومن حيث جمهوره – لا تقلل من حيوية هذا الواجب .
*فعدا الأطراف العربية والإسرائيلية الرسمية هناك شركة عالمية بكل ثقلها في عالم العولمة. وهناك عرب ومسلمو الولايات المتحدة الذين لم ينقطع اهتمامهم بقضايا أمتهم الحيوية وذلك في وقت تثور فيه كل إشكاليات اندماجهم في أوطانهم الجديدة بعد الهجرة.
*ومن ناحية أخرى : هناك نشاط ثقافي ذو طابع عالمي يتم تحت شعارات هامة عالم بلا حدود ، التنوع الثقافي ” . وبذا فهو يحمل معه وحوله إمكانيات الحوار أو الصراع الثقافي اللذان لا يقلان عن نظائرهما السياسية والاقتصادية بل قد يفوقهما في بعض الأحيان ، وذلك في وقت تتنامى فيه تداعيات الأبعاد الثقافية للعولمة وتأثيراتها المتبادلة مع الأبعاد السياسية والاقتصادية . وتتعدد قنوات هذه التداعيات والتأثيرات . وأكثرها خطورة تلك التي تتغلغل بهدوء وانتظام عبر قنوات قد لا تلبس الرداء السياسي – مثل معرض ديزني – محدثة تأثيرها على وعي وذاكرة الجمهور – وخاصة العادي منه وغير العربي وغير المسلم – الذي قد لا يحمل أصلاً ذاكرة عن قضية القدس ذات الأبعاد الدينية والتاريخية الهامة. فإن شركة ديزني العالمية تحوز منتجاتها المختلفة رواجاً بين مختلف الفئات العمرية والاجتماعية من مختلف أنحاء العالم. ولا يخف – على البعض بالطبع – كيف تحمل هذه المنتجات تحيزات قيمية ومضامين سياسية. فما بالك بما يمكن أن يتضمنه جناح إسرائيلي عن القدس؟
ومن هنا كان لابد من اليقظة تجاه الجناح الإسرائيلي حول القدس في قلب ديزني لاند، ولكن كيف ؟ ولماذا ؟ هل بالدعوة إلى مقاطعة شركة ديزني كنوع من الضغط لمنع التوظيف السياسي لهذا الجناح ؟ وهل يكفي هذا ؟ وهل تحقق؟
ثانيا : اتسمت حركة الجامعة العربية بعدم وضوح الأهداف الأساسية منذ البداية وعدم التخطيط المحكم لتصعيد الحركة تدريجيا:
*فخلال الاجتماع الوزاري السنوي للجامعة العربية – والذي رأسته العراق لأول مرة منذ 1990 – وكما جاء في تصريح “لمسئول عربي” تناقلته وكالات الأنباء ، تم طرح موضوع التهديد بمقاطعة منتجات ديزني في العالم العربي بسبب الفيلم الذي تعده عن القدس والذي سيعرض في الجناح الإسرائيلي .
*ثم قرر الاجتماع الوزاري في نهاية أعماله في 12 سبتمبر 1999 تشكيل لجنة لزيارة المعرض قبل افتتاحه وإجراء اتصالات مع الشركة لضمان عدم استغلال إسرائيل المعرض في إقامة جناحها تحت عنوان “القدس عاصمة إسرائيل ” والتأكد من أن الفيلم الإسرائيلي حول القدس لا يمس الحقوق القانونية والتاريخية للمدينة . وفي حالة عدم التزام الشركة بالتوصيات فإن هذا الأمر سيدفع الدول العربية لاتخاذ الإجراءات المناسبة لمواجهة الموقف.
*ثم وبعد التهديد العلني بالمقاطعة – والذي أبرزته وسائل الإعلام الغربية وليس العربية – تراجعت الجامعة العربية عن العقوبات وذلك تحت مجموعة من المبررات التي لا تصمد أمام مجموعة مضادة من الانتقادات . ولقد أعلن د.عصمت عبد المجيد هذه المبررات لصحفيين بعد اجتماع للوزراء العرب على هامش اجتماعات الجمعية العامة في نيويورك في 22/9/1999 .
ولقد اقترن التراجع عن المقاطعة بطرح بديل وهو إشراك الفلسطينيين في المعرض ولكن مع الاعتراف في نفس الوقت بصعوبة تحقيق ذلك نظراً لاقتراب ميعاد افتتاح المعرض. ولقد أكد مسئولو الشركة هذه الصعوبة.
*وخلال الاتصالات العربية بالشركة ،ومع تصاعد حملة مسلمي الولايات المتحدة ، كانت أصوات عربية – من أوساط رجال المال والأعمال – (بليونير سعودي يشارك في ديزني لاند الأوربية) تعلن رفض المقاطعة وتحذر من أنها ستضر بالمصالح العربية وليس بمصالح شركة ديزني . ولقد شكر د. عصمت عبد المجيد في بيانه السابق الإشارة إليه – البليونير السعودي للجهود التي بذلها للوساطة بين الأطراف المعنية .
*وفي نفس الوقت الذي يستمر فيه البحث عن سبل تفعيل اللوبي العربي واللوبي المسلم في الولايات المتحدة لدعم قضايا الأمة ، جاء موقف الجامعة العربية محبطاً للتنظيمات الأمريكية العربية والمسلمة. فلقد أعرب قادتها عن مفاجئتهم بقرار وزراء الخارجية العرب، وأن هذا القرار لن يؤثر على مواقفهم المبدئية . ولذا لم يكف نشاطها للتعريف بحقيقة محتوى الجناح الإسرائيلي وأهدافه والدعوة إلى مقاطعته .

ثالثا: مجموعة المبررات الرسمية العربية للتراجع عن المقاطعة لا تصمد أمام مجموعة الانتقادات المضادة لهذا التراجع والتي قدمها قادة تنظيمات عربية ومسلمة أمريكية .
*ويتلخص ما أعلنه د. عبد المجيد كالآتي : الجناح الإسرائيلي لن يذكر القدس كعاصمة لإسرائيل، تأكيد رئيس الشركة على أن أية رسالة سياسية قد يعكسها الجناح الإسرائيلي لا تعكس رؤية الشركة. ولقد وصف د. عبد المجيد هذا التأكيد بأنه موقف إيجابي وهو كاف لتبرير التغير في موقف الجامعة . ولقد قرأ د. عبد المجيد على الصحفيين فقرة من نص الرسالة التي أرسلها رئيس الشركة والتي تقول “لم يكن في نيتنا أبداً أن نقدم وجهة نظر سياسية لأننا شركة للترفية ”
أما الانتقادات المضادة فلقد انبنت على تحليل مباشر لمحتوى مادة الأفلام التي يعرضها الجناح الإسرائيلي . وهي المادة التي لا تقل خطورة عن اتخاذ الجناح الإسرائيلي عنوان ” القدس عاصمة إسرائيل ” نظراً لما توحي به هذه المادة صراحة وضمنا .
وتتلخص هذه الانتقادات كالآتي :
من ناحية لا تشير المادة الفيلمية أو غيرها إلى الاحتلال الإسرائيلي ونم ثم تبين القدس كمدينة موحدة وجزء مندمج في إسرائيل ومفتوحة أمام الأديان الثلاثة ، في حين لا تظهر الصورة الأخرى المترتبة على الاحتلال مثل تهويد القدس وتعرضها لتطهير عرقي وديني من سكانها الفلسطينيين .
ومن ناحية أخرى : البرنامج الفيلمي المعروض تحت عنوان “رحلة إلى القدس” يتضمن زيارة للمواقع السياحية الأساسية في القدس ، وهو وإن كان يعترف بوجود اليهود والمسيحيين والمسلمين إلا أن الشخصية التي تقود الجولة في الفيلم هي شخصية الملك داوود والذي يصف الحائط الغربي ( وهو أكثر الأماكن اليهودية قداسة) ” بأنه قلب وروح القدس” . وفي فيلم آخر عن تاريخ المدينة منذ 3000عام تأتي إشارة واحدة صريحة عن القدس كعاصمة حين يقول الراوي أن الملك داوود جعل القدس أول عاصمة لأمة اليهود.
ومن ناحية ثالثة : حرصت إسرائيل – التي تشارك بنحو ربع تكاليف الجناح على أن تبين أن الجناح يعكس رؤيتها. ولذا فهناك علامات إرشادية ترحب بالزوار على مدخل الجناح وأمام البرنامج المطبوع وفي بداية فيلم الافتتاح و تنص جميعها على” هذه هي قصة إيمان وأمل وسلام برعاية وزارة الخارجية في إسرائيل ، وهي (أي القصة) تقوم على رؤيتها ” . ولقد صرح المتحدث باسم ديزني لاند بيل وارنر بأنه لا توجد عبارات مناظرة في أي جناح آخر من المعرض . كما جاء في تصريح لمسئول إسرائيلي لوكالة الأنباء الفرنسية ، أن عبارة واحدة فقط هي التي تم حذفها من الفيلم.
وبناء على هذه الانتقادات فإن هذا المحتوى يقدم رؤية مشوهة للتاريخ لأن إسرائيل التي تحتل الأرض هي التي تعرض تاريخ وثقافة الشعب الذي تحتل أرضه وتطرده منها. ومن ثم فإن هدف حماية الحقوق التاريخية والدينية لمدينة القدس والذي نص عليه قرار مجلس وزراء الخارجية العرب ف 12/9/1999 لم يتحقق.

رابعاً : إن التعرف على موقف شركة ديزني والموقف الإسرائيلي يساعد على اكتمال الصورة التي أفرزت نتائج الاتصالات بين الأطراف المعنية والتي أسماها البعض “تلطفاً ” حلاً وسطاً توفيقياً.
ويتمحور موقف الشركة حول بعدين أساسيان : من ناحية : الحرص على تأكيد انفصام العلاقة بين الثقافي والسياسي . ففي خطاب رئيس الشركة لأمين عام الجامعة العربية أكد الحرص على عدم السعي لعرض أية وجهة نظر سياسية كما صرح أحد مسئولي الشركة “نحن نهتم بالثقافية وبعيدين عن السياسة”. ودفاعاً أيضاً عن تغلب الطابع الثقافي على السياسي يقول مسئول آخر “لا أستطيع أن أفكر في هدية يمكن أن نتركها لأولادنا أهم من “عالم بلا حدود”.
ومن ناحية أخرى : لم تعلن الشركة ما إذا كان الضغط العربي هو الذي أثمر عدم ذكر القدس عاصمة لإسرائيل ، بل صرح رئيس الشركة أنها لن تستجيب علنا لمطالب تتصل بتغيرات في المعرض . وفي المقابل أعلن عن ترحيبه بالقرار العربي الذي تراجع عن الدعوة للمقاطعة مبينا أن في هذا التراجع تأكيد على أن هدف الشركة هو ان يظل المعرض ملتقى يحتفل فيه الزوار بالتنوع في العالم..
أما إسرائيل : ففي خطاب شديد اللهجة أعده السفير الإسرائيلي في الولايات المتحدة ووزعته السفارة الإسرائيلية في واشنطن يوم الأربعاء 29/9، وصف المعارضة العربية بأنها “ابتزاز سياسي ومرادف آخر للإرهاب” . كما اعتبرها رفضاً عربيا لاحترام الإرث اليهودي في المدينة المقدسة . هذا ولقد صرح وزير الخارجية الإسرائيلي في نيويورك أثناء حضوره اجتماعات الجمعية العامة أن التهديدات بمقاطعة عربية ليس لها مكان هنا أو في أي مكان في العالم .
خلاصة القول: إن الدفاع عن الميراث التاريخي والديني والقانوني الصحيح للقدس يتطلب مننا – وخاصة في مواجهة الجمهور العادي غير العربي وغير المسلم والذي يصله بسهوله وانتظام الخطاب الإسرائيلي حول القدس- يتطلب مننا أكثر من مجرد المصادرة على عنوان “القدس عاصمة لإسرائيل” ، كما يتطلب مننا أن نختار الوسائل الأكثر فعالية – بالنظر إلى قدراتنا وإلى واقعنا – فهل كان التهديد بالمقاطعة خياراً صائباً في زمن تخلينا فيه عن المقاطعة لإسرائيل ذاتها، وفي زمن تعلو فيه لغة حماية مصالحنا من الضغوط على لغة الدفاع عن المبادئ والمواقف الأساسية؟

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى