أبعاد الدور السياسي لأوروبا وحدوده: إشكالية الاستمرارية والتغير

درجت تقييمات الدور الأوروبي تجاه أهم قضايا المنطقة العربية، والذائعة على الأصعدة الأكاديمية والفكرية بل والصحفية العربية (طوال ما يزيد عن العقود الثلاثة)، على الانطلاق من سؤال أساس وهو: أين دور أوروبا؟ هل تستطيع أوروبا أن تقوم بدور لدعم المصالح العربية؟ لماذا لا تتحرك أوروبا لمواجهة الانفراد الأمريكي بالحركة أو للضغط على إسرائيل؟ وبالرغم من أن مفردات هذه الأسئلة قد تنوعت من مرحلة إلى أخرى من مراحل تطور الدور الأوروبي تجاه المنطقة، استجابة لطبيعة محددات كل مرحلة والتحديات المطروحة، وبالرغم من الاعتقاد أن الإجابة عن هذه الأسئلة لابد أن تختلف من لحظة تاريخية إلى أخرى، إلا أنه قد ساد هذه التقييمات في مجملها تأكيد على عدم قدرة هذا الدور على تحقيق استقلالية، وعلى عدم فعالية في توظيف مقدراته الاقتصادية والسياسية لتطبيق المبادئ المعلنة، ومن ثم التأثير على مسار التسوية السلمية للصراع العربي/الإسرائيلي وصولاً إلى حل شامل وعادل ودائم لهذا الصراع، أو على مسار إدارة الأزمات والحروب التي اندلعت في منطقة الخليج، أو على مسار الحرب العالمية ضد “الإرهاب”، وهي الحرب التي تقودها الولايات المتحدة وتديرها على ساحات متعددة وبأدوات متنوعة وعلى رأسها القوة العسكرية (كما حدث في العدوان على كل من أفغانستان والعراق واحتلالهما)؛ وهي القوة التي تتغلف بأردية قيم الديمقراطية وحقوق الإنسان.
وبعد أن كانت هذه التقييمات العربية السائدة عن الدور الأوروبي تجاه قضايا المنطقة العربية وتفاعلاتها، تركز –منذ بداية التعاون السياسي الأوروبي 1970- على قضية الصراع العربي/الإسرائيلي، تزايدت بالتدريج أهمية قضايا أخرى؛ وعلى رأسها أمن الخليج (قضية العراق) من ناحية، ثم التحول الديمقراطي في المنطقة ومقاومة الإرهاب من ناحية أخرى وخاصة بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر. وإذا كانت الحدود قد بدت قائمة في بداية السبعينيات -وخاصة من المنظور الأمريكي أكثر منه من المنظور العربي أو المنظور الأوروبي ولو بدرجة أقل- بين الصراع العربي الإسرائيلي وبين القضايا الأخرى وخاصة أمن الخليج، فلقد سقطت هذه الحدود –منذ بداية التسعينيات، وبدا التداخل واضحًا بين أبعاد هذه القضايا وتداعياتها على صعيد المبادرات الخارجية تجاه المنطقة من قبيل “الشراكة الأوروبية المتوسطية”، “الشرق الأوسط الكبير”، ولا حقًا “المبادرة الأوروبية الاستراتيجية للشراكة مع المتوسط وشمال أفريقيا”.
ومن الأمور الجلية وبوضوح شديد أن المنطقة العربية لم تكن أبدًا في نظر أوروبا وحلفائها إلا شرقًا أوسط أو شرقًا أدنى أو جنوبًا متوسطيًا أو شمالاً أفريقيًا…
بعبارة أخرى، فإن الحديث الآن عن حدود الحركة السياسية لأوروبا في المنطقة هو حديث قديم جديد. ولا يمكن تناول الراهن منه (2000-2005)، بدون استدعاء سريع لخبرة العقود الثلاثة السابقة؛ وذلك حتى يمكننا أن نحدد ما هو الجديد وما هو القديم المستمر؛ ولذا فإن مناقشة أبعاد وحدود الدور السياسي لأوروبا في المنطقة في المرحلة الراهنة إنما ينطلق –في هذه الدراسة- من ثنائية “الاستمرارية-التغير” في هذا الدور. ومن ثم فإن استدعاء الخبرة السابقة عن الدور الأوروبي ليس غاية في حد ذاته؛ إنما بغرض تحديد مراحل تطور هذا الدور، وأهم سماته، ومحددات تشكيله في كل مرحلة، ودرجة فعاليته؛ وذلك باعتبار أن أوروبا الجماعية هي نظام إقليمي أو قوة ثانوية أساسية في توازنات القوى العالمية؛ سواء في ظل القطبية الثنائية، أو في ظل الأحادية القطبية الحالية، وكذلك باعتبار المنطقة العربية نظامًا إقليميًا مثَّل ساحة اختبار أساسية لتفاعلات النظام الدولي في مراحل تطوره المتعاقبة.
ولهذا، فإن عمق الرابطة بين أوروبا والمنطقة العربية بامتداداتها التاريخية تفرض تجاوز الرؤى الجزئية المحددة زمانًا ومكانًا، إلى الرؤى الاستراتيجية التي تضع العلاقات العربية الأوروبية في سياق تطور النظام الدولي برمته وفي سياق تطور مسار التدخلات الخارجية في المنطقة العربية وآثارها على المصالح العربية. ذلك لأن التحولات النظمية الدولية –وأوروبا جزء مشارك فيها- انعكست بصورة مؤثرة على توازنات القوى الإقليمية العربية بقدر ما انعكست بالطبع على توجه القوى الخارجية الكبرى نحو المنطقة في مراحل تطورها المتعاقبة.
ولهذا فإن هذه الدراسة لا تزمع تكرار نفس التعميمات في الإجابة عن الأسئلة المطروحة عن الدور الأوروبي، والتي تقتصر ببساطة على تكرار وتعميم ما سبق استخلاصه في مراحل سابقة، ألا وهو أن أوروبا لا تستطيع أن تقوم بدور مستقل وفاعل، وأنها عملاق اقتصادي ولكن قزم سياسي، وأنها… الخ.
ولكن تهدف الدراسة (التي تنبثق من وتنبني على نتائج خبرة بحثية ممتدة عن الدور الأوروبي تجاه المنطقة العربية)، إلى بيان حقيقة الدور الذي تقوم به أوروبا؛ لأنها تقوم –بالفعل- بدور محسوب ومخطط وذي أهداف، ينبني على رؤيةٍ عن طبيعة دور أوروبا في المنطقة وأدواته ومساراته، في ظل تأثير المحددات العربية والأوروبية والعالمية. فهي ليست بالضرورة ودائمًا تختلف جذريًا في مواقفها عن السياسة الأمريكية في المنطقة، كما أنها ليست بالضرورة ودائمًا أيضًا –وكما يرى اتجاه آخر- مجرد قوة تابعة لا تملك دورًا مستقلاً وفاعلاً.
ومن ناحية أخرى، لا يكفي في هذه الدراسة أن يصبح الحديث عن دور أوروبا مجرد تمهيد لانتقاد السياسات الأمريكية، وسبيل لتعبئة الأطراف العربية مواقفَ دوليةً موازنةً للمواقف الأمريكية؛ ومن تمَّ البحث عن بديل للخروج من المآزق المتتالية للأنظمة والحكومات العربية –وخاصة بعد الحادي عشر من سبتمبر- حيث تجمدت القدرة الذاتية على المبادرة، وتنامى تأثيرُ تدخلات القوى الكبرى في العالم وانعكاسُ خلافاتها على قضايا المنطقة، وأضحت الأخيرة ساحةَ اختبارٍ لتدخلات أطراف خارجية وصلت إلى حدَّ رسم وتنفيذ استراتيجيةٍ لإعادة تشكيل أو تفجير المنطقة تحت سمعِ وبصرِ بل واعترافِ الجميع.
ولهذا، فإن الدراسة لا تنظر لآفاق الدور الأوروبي وحدوده منفصلاً عن تأثيرات الواقع العربي ومدى قدرة أطرافه المعنيَّة على الفعل متعدد المستويات؛ والتي من بينها مستوى تعبئة المساندة من قوًى خارجية مثل الاتحاد الأوروبي.
ولهذا، فإن الدراسة تهدف إلى طرح رؤية تساعد على فهم السؤال: لماذا تتكرر بعض الثنائيات في معرض التقييمات العربية المتنوعة للدور الأوروبي من قبيل: “أوروبا لا تستطيع أن تفعل، وتقتصر على إعلان المبادئ – أوروبا لا تريد أن تفعل”، “أوروبا تكمل دور الولايات المتحدة – هناك توزيع أدوار أمريكي/أوروبي”، “أوروبا لا تريد أن تضغط للتأثير على مسار التسويات – أوروبا لا تستطيع أن تضغط”، “التوازن سمة السياسة الأوروبية – التحيز هو سمتها: سواء للعرب أو لإسرائيل”، “فرض الحلول من القوى الخارجية بما فيها أوروبا – الحلول مصدرها اتفاق الأطراف المباشرة وبرعاية الشرعية الدولية”، “قضايا المنطقة منفصلة – الارتباط وثيق بين قضايا المنطقة”.

ومن الملاحظ أن هذه الثنائيات التي تدور حول خمس نقاط أساسية هي: إرادة الفعل، الاستقلال، الفاعلية، التوازن، مصدر الحل. هي نقاط تثور مع كل تناول لموقف الاتحاد الأوروبي إزاء القضايا الرئيسية في المنطقة، وتمثل مناط الحديث عن حدود الحركة الأوروبية وقيودها. كما أن هذه النقاط أيضًا تطرح لمحددات المواقف الأوروبية وأدواتها ومبادئها على التوالي كالآتي: عملية صنع السياسة واتخاذ القرار، والاختلافات بين أعضاء الاتحاد الأوروبي وخاصة في مجال السياسة الخارجية (إرادة الفعل)، العلاقات العبر-أطلنطية (الاستقلال)، أدوات السياسة الخارجية الاقتصادية وغيرها (الفعالية)، خريطة الواقع الإقليمي العربي، ودرجة وما تفرضه كل من السياسات العربية والإسرائيلية من تحديات أو فرص على الدور الأوروبي الجماعي (التوازن ومصادر الحل).
خلاصة القول في هذا التمهيد: إن هناك حاجة لتجاوز تعميمات التقييم، وضعف الفهم لآليات عمل الاتحاد الأوروبي ومسار تطور توجهاته نحو قضايا المنطقة في ارتباطاتها معًا. ولهذا فإن إشكالية “الاستمرارية والتغير” تمثل منطلقًا مناسبًا نحو هذه الأهداف.
وتنقسم الدراسة إلى ثلاث محطات زمنية:
أولاً- البدايات: محاولة الاستقلال بدون فاعلية: مآل المبادرات الأوروبية (1970-1990).
ثانيًا- إرهاصات للفاعلية ولكن لإكمال الدور الأمريكي (1991-2000).
ثالثًا- سيناريو توزيع الأدوار في ظل اختلال التوازن وضغوط التحالف الأمريكي-الإسرائيلي (2000-2005).

أولاً- محاولات الاستقلال بدون فاعلية: مآل المبادرات الأوروبية (1970- 1990):

بالرغم من ظهور الجماعة الأوروبية على الساحة العالمية منذ 1958، إلا أن المقترب السياسي المباشر وغير المباشر للجماعة تجاه المنطقة العربية لم يأخذ في التبلور بصورة صريحة إلا بعد حرب 1967، ثم أخذ هذا المقترب في التجسد تدريجيًا في التعاون السياسي الأوروبي منذ 1970، ومع تطوره منذ ذلك الحين وحتى بداية الاتحاد الأوروبي إلى الآن[1].
ولقد تطور التوجُّه الأوروبي نحو دور أوروبا في تسوية الصراع العربي/الإسرائيلي عبر مراحل متتالية. فلقد تطور وضع أوروبا الغربية في الإطار التفاوضى لعملية التسوية: من انفراد فرنسا الديجولية بمحاولة القيام بدور القوة الثالثة مع عدم وجود دور أوروبي جماعي (خلال الستينيات)، إلى بداية المبادرة الأوروبية المستقلة بداية حذرة بقيادة فرنسا (في بداية السبعينيات) ثم إلى ظهورها وتبلورها على فترات متباعدة طوال السبعينيات (1973، 1977، 1980)، وهو التبلور الذي أظهر تصاعدًا في نغمة التأييد الأوروبي -ولكن التأييد الحذِر والغامض- للقضية الفلسطينية، وأخيرًا إلى انتهاء فكرة المبادرة الأوروبية المستقلة أو المكمِّلة للدور الأمريكي (1981-1991) وانضواء الدور الأوروبي تحت مظلة الدور الأمريكي، ومع بداية التراجع عن مواقف أوروبية سابقة خاصة تجاه منظمة التحرير الفلسطينية، ومع ظهور التأكيد على البعد الاقتصادي للدور الأوروبي في إدارة التسوية وتجاه المنطقة بصفة عامة. حيث استخدمت الجماعة الأوروبية السياسة المتوسطية للتأثير على احتمالات مسار التسوية في مرحلة حرجة أصيب خلالها بالجمود (1987-1991).
ومنذ بيان قمة بروكسل 1987 بدأت أوروبا تربط السلام والتنمية في المنطقة، فيما عرف بتمويل جهود التسوية وخاصة تقديم المساعدات للفلسطينيين في الضفة وغزة. ومنذ ذلك الوقت اتضحت درجة كبيرة من الواقعية والبراجماتية الأوروبية التي تعترف بالحاجة إلى إيجاد صيغة أخرى من المشاركة الفعلية في عملية السلام تكون أبعد أثرًا من مجرد إعلان المواقف والمبادئ؛ ولتعويض محدودية الدور الأوروبي حتى الآن. ومن ناحية أخرى، فإن أوروبا التي أرادت أن تعوّض افتقارها إلى/ وعجزها عن المبادرة المستقلة، سواء المكمِّلة و البديلة للدور الأمريكي، كانت تحاول في نفس الوقت أن توظف مكمن قوتها الحقيقية –أي قدرتها الاقتصادية- على نحو قد يخفف من عواقب عدم الوصول إلى تسوية على أمن واسقرار المنطقة، أو قد يساعد ويمهّد للوصول إلى صورة أو أخرى من هذه التسوية.
ويختلف هذا التوظيف في هذه الحالة عن توظيف القوة الاقتصادية كأداة دبلوماسية لممارسة الضغط أو لتوقيع العقاب على أحد الأطراف عن طريق “المنع”. ولقد فشلت الجماعة –أو بمعنى أصحَّ لم ترغب أوروبا الجماعية- في استخدام الأداة الاقتصادية لعقاب إسرائيل أو على الأقل للضغط عليها. ومع هذا فإن البعد الاقتصادي الجديد في التحرُّك الأوروبي لم ينجُ من التساؤلات –بل الاتهامات- حول دوافعه وأهدافه الحقيقية منذ أن بدأ الإعلان عنه وحتى دخوله مرحلة التنفيذ الفعلي، وخاصة تقديم معونة للفلسطينيين في الأراضي المحتلة وإعطاء تفضيلات تجارية لبعض منتجات الأراضي الفلسطينية المحتلة.
ومن ناحية أخرى تطورت رؤية الجماعة لأهدافها وغاياتها من وراء تحركها نحو المنطقة ومصر بصفة خاصة، فإذا كانت قد بدأت مشوار إعادة صياغة دورها السياسي في المنطقة بعد حرب سنة 1967 على نحو أبرز بصفة خاصة رغبة فرنسا في توظيف علاقاتها الجديدة بالدول العربية لدفع دورها كقوة ثالثة على الصعيد الدولي، وإذا كانت أوروبا قد بدأت توجهها الجماعي نحو المنطقة وهي ترغب في اختبار تبلور وترجمة قواها الذاتية الجديدة إلى دور سياسي عالمي نشط خلال السبعينيات، فإنها وصلت بصورة تدريجية منذ نهاية السبعينيات إلى التركيز على حماية وتدعيم ما يعرف بالاتجاهات المعتدلة العربية والفلسطينية، وذلك من أجل الوصول إلى وضع في المنطقة يخدم ويدعم المصالح الأوروبية والغربية بصفة عامة، وهذه المصالح لم تُفقد أوروبا أبدًا قوة الدفع لحمايتها حتى حين أحجمت أو لم تنجح في القيام بالدور السياسي الذي كان مطلوبًا منها من جانب العرب، فهي لم تضطر لتقديم تنازلات سياسية حول مواقفها أو الضغط على إسرائيل أو الولايات المتحدة في مقابل الحفاظ على مصالحها الاقتصادية والبترولية.
وبدون القول بتطابق المفهومين العربي والجماعي الأوروبي عن كيفية حل القضية الفلسطينية تطابقًا كاملاً، يمكن القول مع ذلك إن أوروبا مارست أدواراً متنوعة ساهمت في ظهور درجة مما يسمى “الاعتدال الفلسطيني”.

ومن ناحية ثالثة، كانت التطورات السابقة نتاج تأثير التفاعل بين محددات أوروبية وعربية وعالمية، فلقد بدأت المبادرة الأوروبية بدايتها الحذرة مع بداية التعاون السياسي الأوروبي وبداية الإنجازات الاقتصادية الجماعية، ومع اتجاه أوروبا للمطالبة بدور مستقل عن دور قائد التحالف الغربي، ومع بداية تبلور الإدارة المصرية على الصعيد العسكري (حرب الاستنزاف) ومع بداية تبلور الإرادة العربية على الصعيد الاقتصادي (مؤتمر طهران وطرابلس 1971، 1973 بشأن البترول). وتمكنت فرنسا بصفة خاصة من المناورة بين القوتين العظميين للقيام بدور الطرف الثالث في التسوية؛ نظرًا لشكل العلاقات بينهما في المنطقة في تلك الفترة والتي سمحت لفرنسا بالمناورة من خلال التشاور مع السوفييت، وبدأ هذا الدور الفرنسي في التقلص مع تزايد الاهتمام بالتشاور الثنائي المباشر.
ثم تبلورت المبادرة الأوروبية وازدادت نغمة التأييد للقضية الفلسطينية في أبعادها السياسية (1973، 1977) مع /وبعد الحظر النفطي وارتفاع سعره وعواقبه على الاقتصاد العالمي، مما أبرز تهديدًا مباشرًا لمصالح أوروبا.
وفي ظل تبلور إرادة عربية موحدة (حتى 1977 على الأقل) ساندت وأبرزت الأبعاد السياسية للقضية الفلسطينية، وفي ظل تفاقم الاختلافات الأوروبية/الأمريكية، وبالرغم من حضور المبادرة الأوروبية وعودة الدور الأوروبي للمنطقة في هذه الفترة مع اتهامه الولايات المتحدة بالسعي إلى فرض سلام أمريكي على المنطقة على حساب الدور الأوروبي، إلا أن تفاقم مشاكل العلاقات الأوروبية/الأمريكية والانفراد الأمريكي بالتسوية انعكسًا في شكل عدم فعالية الدور الأوروبي، وضاقت تدريجيًا حدود مناورة الجماعة الأوروبية -وفرنسا بصفة خاصة- في ظل طبيعة العلاقات بين القوتين العظميين في المنطقة.
ولقد تكررت المبادرة الأوروبية في يونيو 1980 (بيان البندقية) في ظل معضلة مزدوجة أثرت على مصيرها وعلى درجة فعاليتها: فمن ناحية كانت زيادة الاعتماد على النفط العربي مع ظهور تداعيات الثورة الإيرانية واندلاع الحرب العراقية/الإيرانية على المصالح الأوروبية تفرض عدم إغضاب الدول العربية النفطية، ومن ناحية أخرى كانت العواقب السلبية للسلام المصري/الإسرائيلي على العلاقات العربية/المصرية في نفس الوقت الذي كانت فيه أوروبا لا تتخلى عن مساندة حق إسرائيل في الوجود والاعتراف بها. ومن ثم فإن هذه المصادر المتضادة للسياسات الأوروبية انعكست في اتخاذها لمواقف جديدة -ولكن غير حاسمة ومختلفة- بالنسبة للسلام المصري/الإسرائيلي وبالنسبة للقضية الفلسطينية بصفة خاصة.
ثم خَبَتْ المبادرة وتجمدت وانتهت منذ بداية الثمانينات في ظل أزمة التعاون السياسي الأوروبي حول الشرق الأوسط تحت تأثير سياسة فرنسا في ظل رئاسة ميتران، الذي رفض الاعتراف بفاعلية أو أهمية الاعتماد على “سياسة أوروبية شرق أوسطية” كسبيل لتأكيد الدور العالمي لأوروبا ولحماية مصالحها في المنطقة، وتحت تأثير دور فرنسا الجديد في الاستراتيجية الأمريكية، وفي ظل أزمة السوق المشتركة بسبب تفاقم مشاكل السياسة الزراعية وتوزيع أنصبة ميزانية الجماعة على أعضائها، وفي ظل أزمة العلاقات العربية/العربية وعدم وجود موقف جماعي عربي قادر على إثبات مصداقيته وفعاليته في استخدام عناصر القوة العربية، وخاصة بعد أن فقد أهم هذه العناصر (البترول) قوته التأثيرية مع التحول الجذري في سوق البترول، وبعد أن تزايدت الانقسامات العربية مع عواقب الحرب العراقية/الإيرانية والغزو الإسرائيلي للبنان والذي تراجعت القضية الفلسطينية أمامه.
وبعد أن ظل التعاون السياسي الأوروبي خلال 1986- 1987 أسير الاختلافات حول العقوبات الاقتصادية على النظام العنصري في جنوب أفريقيا (بدرجة لا تقارن بالاختلافات التي ثارت سنة 1983 مثلاً بصدد العقوبات على إسرائيل) عادت المبادرة الأوروبية للظهور في ثوب جديد سنة 1987، فهي وإن أعلنت مساندة عقد المؤتمر الدولي إلا أنها تركزت على أبعاد اقتصادية أساسًا، وجاء ذلك في ظل بداية الخروج من الأزمة التي هددت أساس الجماعة والاستعداد لمرحلة السوق الأوروبية الواحدة سنة 1993، وفي ظل مناخ انفراج جديد للنظام الدولي. لم يكن يسهل على الجماعة أو بعض دولها منفردة في ظله القيام بدور الطرف الثالث بين العرب وإسرائيل أو بين موسكو وواشنطن على ساحة جهود التسوية، بقدر ما يسهل لها الاستجابة لتقديم مساندة اقتصادية. كذلك لم يكن على الجماعة كما حدث 1973 أو 1980، تحت ضغط الحرص على حماية إمدادات البترول- أن تتقدم للأمام بالنسبة للقضية الفلسطينية. وبالرغم من تزايد مظاهر “الاعتدال الفلسطيني”، فإن البترول العربي فَقَدَ قدرته التأثيرية السابقة، كما أن الطرف العربي والمصري لم يوظفا -بالصورة المثلى- الانتفاضة الفلسطينية الأولى وإعلان قيام الدولة الفلسطينية. فبالرغم من بداية التئام الصف العربي وتهدئة كثير من المشاكل في مؤتمرات القمة العربية في عمان، والجزائر، والرباط، إلا أن النظام العربي لم يتخلص من قيود الفترة (1977- 1987)، كما أن تفجُّر الأزمة اللبنانية بعنف في جولتها الأخيرة خلال مرحلة صعبة من تطور المواقف الفلسطينية داخل الأرض المحتلة، استنـزف جهودًا عربية ضخمة حولت الأنظار عن جوهر القضية، ناهيك عن آثار تفاقم الأزمة الاقتصادية التي كانت تعاني منها دول المنطقة وعلى رأسها مصر.
هذا، وتجدر الإشارة أخيرًا إلى أن موقف إسرائيل الرافض دائمًا لتوسيع نطاق الأطراف المشتركة في جهود التسوية كان يُعدّ من بين العوامل المهمة المفسَّرة لفشل أوروبا في دفع الجهود الدبلوماسية، فلقد هاجمت دائمًا إسرائيل المبادرات الأوروبية وقام موقفها على أساس ضرورة الحل السياسي الإقليمي؛ أي التفاوض بين الأطراف المعنية مباشرة، والتي ليس من بينها منظمة التحرير الفلسطينية. ومن ثم يمكن القول –وبالرغم من عدم التطابق بين المفهومين الأوروبي والإسرائيلي عن كيفية حل القضية الفلسطينية- إن أوروبا قد فشلت في استخدام أية صورة من صور الضغط على إسرائيل لتحريك مواقفها، بل إن المواقف الأوروبية هي التي تراجعت على نحو لم يعد يثير حفيظة إسرائيل ضد الدور الأوروبي (الفارق بين شدة رد فعل إسرائيل تجاه بيان البندقية وبين ترحيبها، ولو بتحفظ ببيان فبراير سنة 1987). ولعل الملاحظة الأخيرة تبين على ضوء طبيعة المحددات المؤثرة خلال الثمانينيات بصفة خاصة أنه طالما لا يواجه الدور الأوروبي عوامل تدفعه إلى تطوير مواقفه قُدمًا إلى الإمام في مساندة القضية الفلسطينية، فإن الخط التقليدي للسياسات الأوروبية يبرز بوضوح، ألا وهو أولوية مساندة حق بقاء ووجود وأمن إسرائيل، ولو على حساب حق الشعب الفلسطيني في تقرير مصيره.

ثانيًا- إرهاصات الفاعلية ولكن لإكمال الدور الأمريكي (1990-2000):

وبالنظر أيضًا إلى المسلك الجماعي الأوروبي والسياسات القومية الأوروبية تجاه أمن الخليج، منذ بداية الثمانينيات وخلال حربي الخليج: الأولى (الحرب العراقية/الإيرانية) والثانية (حرب احتلال الكويت وتحريرها 1990-1991)[2]، تتأكد لنا مدلولات أخرى عن حدود الدور السياسي الأوروبي الجماعي مقارنة بالدور الأمريكي. حقيقة كان من أهم سمات التوجه الأوروبي –على عكس نظيره الأمريكي- هو الربط بين أمن الخليج وبين الصراع العربي/الإسرائيلي على أساس أن تسوية الأخير وإيجاد حل عادل ودائم وشامل هي شرط مسبق وضروري للحفاظ على أمن الخليج، إلا أن أدوات السياسة الأوروبية تجاه أمن الخليج كانت أدوات مكملة لأدوات الاستراتيجية الأمريكية؛ وبذا لم تكن الاختلافات الأوروبية/الأمريكية على هذا الصعيد إلا من قبيل علاقة المنافسة المحمومة وليس علاقة الفرقاء. وهو الأمر الذي امتد أيضًا إلى إدارة تسوية الصراع العربي/الإسرائيلي التي دخلت مرحلة مهمة، في نفس الوقت الذي شهدت فيه أيضًا محددات الدور الأوروبي تطورات مهمة.
فخلال العقد الأخير من القرن العشرين وبعد انهيار الاتحاد السوفيتي، ومع دخول أوروبا مرحلة الاتحاد الأوروبي والسوق الموحَّدة، ومع تصاعد النقاشات العبر-أطلنطية عن مستقبل الناتو والوحدة الأوروبية، ومع دخول المنطقة العربية مرحلة تداعيات حرب الخليج الثانية على إعادة تشكيل المنطقة وتوازناتها وتحالفاتها الإقليمية والعالمية، وخاصة في ظل تدشين عملية التسوية الشاملة بعد مدريد، تجددت التساؤلات مرة أخرى، عن مستقبل دور أوروبا العالمي وتجاه المنطقة العربية بصفة خاصة، ولقد حملت التساؤلات هذه المرة طابعًا آخر يعكس آثار التطور في حالة المحددات الأوروبية والعالمية والعربية، على النحو التالي:
· هل جهود توسيع وتعميق الاتحاد الأوروبي ستنال من درجة توجهه الخارجي وخاصة نحو ما أسموه “جنوب وشرق المتوسط”؟
· كيف أثرت تداعيات غزو العراق للكويت وحرب تحرير الكويت على تحالفات المنطقة الإقليمية والعالمية؟
· كيف سيؤثر الانفراد الأمريكي بإدارة عملية التسوية السلمية منذ مؤتمر مدريد على أبعاد الدور الأوروبي؟ هل سيساعد في –التوصل للتسوية أم سيساعد في تنفيذها؟ أم في خلق مناخ للسلام؟
· كيف ستؤثر التوجهات العربية والإسرائيلية تجاه عملية التسوية على سمة التوازن التي حرصت أوروبا دائمًا على تأكيد التزامها بها تجاه أطراف الصراع؟
بعبارة أخرى كانت خصائص مرحلة التسعينيات بمثابة محددات لابد وأن تنعكس على تشكيل الدور الأوروبي: توجهًا وأدواتٍ، ونتائجَ.
ولقد اتسم الدور الأوروبي خلال العقد الأخير من القرن العشرين بمجموعة من السمات التي تمثل تراكمًا مع إرهاصات سابقة، بعضها يتصل بإدارة تسوية الصراع العربي/الإسرائيلي مباشرة، والأخرى تتصل باستراتيجية كلية تجاه المنطقة؛ وهي الشراكة.
فمن ناحية: انتقلت أوروبا –بعد مؤتمر مدريد الذي لم تشارك فيه إلا بصفة مراقب- إلى مجال الحركة الفعلية وليس مجرد إقرار المبادئ. وذلك بمساندة عملية السلام الجارية، وعلى نحو يبين أن نهج أوروبا هو نهج براجماتي يجتهد في توظيف مقدراته التي يتميز بها؛ سواء السياسية (وهي قبول دوره من جانب الطرف العربي) أو الاقتصادية (موارده المالية واتفاقاته التجارية)؛ وذلك من أجل خلق مناخ ملائم للتوصل إلى سلام عادل في المنطقة. وهذه المساندة كانت موازية للمفاوضات السياسية الجارية ومكملة لها. وفي النهاية لم ينجح هذا المنهج؛ نظرًا لانهيار عملية أوسلو الذي بدأ مع نتنياهو ووصل إلى ذروته مع إريل شارون فاندلعت الانتفاضة، وتبدّى للعيان عدم فعالية هذا المنهج. ولقد تمثل هذا المنهج الأوروبي في مساندة عملية السلام منذ مؤتمر مدريد ثم عملية أوسلو في الآتي:
أ) تمويل تنفيذ التسويات حيث إن المساندة الاقتصادية والمالية أضحت في قلب الاقتراب الأوروبي. فبين العامين 1993-2000 قدم الاتحاد الأوروبي ودوله الأعضاء المساعدة الفنية والمالية الأساسية للسلطة الفلسطينية ولعملية السلام برمتها. وانطلق هذا التمويل من فلسفة مؤادها أن تحسُّن الأوضاع الحياتية للفلسطينيين من شأنه إقناعهم بمساندة عملية السلام وتحييد المواقف الراديكالية المعارضة لهذه العملية، وكذلك فإن إقامة دولة فلسطينية ديمقراطية هو من صميم مصلحة إسرائيل، وأخيرًا فإن المشروعات المشتركة في المجتمع المدني الفلسطيني والإسرائيلي يمكن أن تساعد على تحقيق التصالح بين الشعبين. وعلى ضوء تحليل مسار هذه المعونات وآثارها يصل البعض[3] للقول إن هذه المساندة المالية والاقتصادية لم تحقق أهدافها تجاه السلطة الفلسطينية أو التصالح. وامتد تمويل التسوية إلى تمويل المساعدات للدول العربية المعنية للحفاظ على مساندتها لعملية السلام. وفي المقابل ترددت أوروبا في إحكام الحصار الاقتصادي على سوريا وليبيا والسودان باعتبار هذه الدول من القوى المعارضة لعملية السلام. وفي نفس الوقت لم تستخدم أوروبا أداة العقوبات الاقتصادية للضغط على إسرائيل، بل تدعمت العلاقات الاقتصادية بين الطرفين، وكانت إسرائيل أول دولة متوسطية توقع اتفاقية الشراكة مع الاتحاد الأوروبي.

ب) الأطر والجهود متعددة الأطراف لدعم المناخ اللازم للسلام:
ومن أهم الأطر والجهود الأوروبية متعددة الأطراف لدعم مناخ عملية السلام –وفقًا للرؤية الأوروبية- كان مشروع الشراكة الأوروبية المتوسطية المعروف “بعملية برشلونة” منذ 1995. وهو يعبر عن اقتراب كلي وشامل للاتحاد الأوروبي من جنوب المتوسط، وحازت هذه الشراكة اهتمامات مكثَّفة من المحللين السياسيين والاقتصاديين العرب في تلك المرحلة التي شهدت التنافس بين مشروع “الشرق أوسطية” ومشروع “المتوسطية”[4]. وبالرغم من أن البعد السياسي للشراكة يهتم بالصراعات، ومنها الصراع العربي/الإسرائيلي، إلا أن الشِّراكة لم تكن آلية دائمة لتسوية الصراع، ولم تملك أدواتها الخاصة بذلك، مثلها في ذلك مثل غيرها من المراحل السابقة لتطور “المتوسطية”[5].
ولكن مثلت الشِّراكة –من وجهة النظر الأوروبية -سبيلاً آخر من سبل دعم مناخ الثقة وتأسيس العلاقات السياسية والاقتصادية والإنسانية بل والأمنية بين الدول العربية المتوسطية وإسرائيل، وبعد أن أضحت ملتقيات الشراكة ساحة للحوار بين أطراف الصراع، إلا أن تدهور عملية التسوية وانهيارها بيّنا كيف أن تقدم البعد السياسي للشراكة إنما يرتهن بحالة التسوية، كما اتضح أن الشراكة لم تُحلْ دون تجدد الأزمات أو منع اندلاع العنف من جديد؛ لأن الثقة لم تولد وتترسخ؛ نظرًا لغياب تسوية سياسية. كذلك فإن الميثاق المتوسطي للسلام والأمن[6] لم يتم تطبيقه منذ إقراره عام 2000، ومن ثم فإن جمود عملية أوسلو ومدريد منذ وصول نتنياهو إلى السلطة في إسرائيل كان –بدوره- ذا آثارٍ سلبية على الشراكة ذاتها؛ مما أدى إلى عدم حدوث تقدم على صعيد البعد السياسي والأمني للشراكة بصفة خاصة.
وتنوعت هذه الأطر والجهود ابتداء من مساندة بناء هيكل الدولة ومؤسساتها في فلسطين؛ انتقالاً إلى المشاركة في إدارة الأزمات وإدارة الاتصالات بين أطراف الصراع. ولقد نشط هذا الدور –بقوة- حين لم تكن الإدارة الأمريكية –قبل كلينتون- تعطي اهتمامًا كافيًا بدفع عملية السلام، وهنا يبدو -مرة أخرى– أحد الأنماط المتكررة في الدور الأوروبي؛ ألا وهو التحرك لملء الفراغ؛ حفاظًا على قوة دفع عملية السلام؛ ودعمًا لمواقف القوى العربية والفلسطينية المعتدلة.
ولقد قدمت أوروبا للطرفين الإسرائيلي والفلسطيني إمكانية الحوار والاتصالات –غير الرسمية- التي تقود إلى مفاوضات رسمية؛ بحثًا عن حلول لمشاكل قائمة في تنفيذ عملية أوسلو، كما ساهمت في إدارة الأزمات المتفجرة…
وكان تعيين السفير ميجيل موراتينوس 1996 مبعوثًا خاصًا للاتحاد الأوروبي في الشرق الأوسط تجسيدًا لحرص أوروبا على ترجمة نفوذها الاقتصادي إلى تأثير سياسي دائم، وعلى وجود قناة اتصال دائمة بأطراف الصراع.
كذلك –وبالمثل- أضحى المفوَّض الأوروبي للشئون الخارجية، منذ 1999، إضافة أخرى للأدوات الدبلوماسية الأوروبية لدعم عملية السلام من خلال قنوات الدبلوماسية المتعددة الأطراف.
هذا، وكان أيضًا تعيين المبعوث الخاص بمثابة استجابة أوروبية للمخاطر التي بدأت تتهدد عملية أوسلو منذ وصول الليكود للسلطة في إسرائيل 1996. فلقد حرصت البيانات الأوروبية الجماعية على تأكيد التمسك بالاتفاقيات الموقَّعة في ظل عملية أوسلو، واحترام مرجعية مدريد التي أخذت إسرائيل توجِّه إليها معاول الهدم.
كما أصدرت اللجنة الأوروبية عام 1998 تقريرًا بعنوان “دور الاتحاد الأوروبي في عملية التسوية في الشرق الأوسط”، ألقى مسئولية جمود عملية السلام على إسرائيل، ووجَّه إليها اللوم على إغلاق أراضي السلطة الفلسطينية مما يؤدي إلى تدهور الأوضاع الاقتصادية الفلسطينية.
وإذا كان تعيين المبعوث الأوروبي الخاص وبيانات القمة الأوروبية وغيرها، يعني عودة اهتمام أوروبا بتفعيل دورها السياسي إلى جانب دورها الاقتصادي، إلا أن دور هذا المبعوث لم يحُلْ دون تنفيذ إسرائيل مخططها بقيادة اليمين منذ 1996، وبصورة تدريجية متصاعدة وصلت بعملية التسوية إلى الانهيار 2000. ولكن هذا الدور الأوروبي طوال التسعينيات كان يتدخل لإدارة الأزمات المتكررة التي كانت تفجّرها إسرائيل، فتغرق في تفاصيلها الأطراف العربية والأوروبية. وذلك وقْتَ كانت إدارة كلينتون في سنواتها الأولى، محجِمةً عن التدخل في العملية؛ مما جعل الدور الأوروبي دورًا يملأ الفراغ السياسي ويحاول تحريك الجمود ومنع التدهور.
ومن ناحية أخرى لقد اقترن قبول أوروبا القيام بهذا الدور الاقتصادي والمالي في المنطقة، ثم تحريك الدور السياسي المحدود في إدارة الأزمات، اقترن ذلك باعتراف أوروبي بانفراد الولايات المتحدة بصناعة وتوجيه عملية التسوية، بل وقناعة الدول الأوروبية الكبرى (بريطانيا، فرنسا، ألمانيا) بأهمية وحيوية الدور الأمريكي. وحين كانت بعض بيانات اللجنة الأوروبية تنتقد السياسة الأمريكية تجاه عملية التسوية، فإنها كانت تحرص من -ناحية أخرى- على تأكيد أن الدور الأوروبي لا يتحدى القيادة الأمريكية. وهكذا تأكَّد أن أوروبا فيما يقارب العقدين من الزمان على صدور “بيان البندقية” الشهير الذي أعلن عن المبادئ الأساسية للتسوية من وجهة النظر الأوروبية، قد تركت للولايات المتحدة مهمة قيادة عملية المفاوضات لتنفيذ هذه المبادئ، وهو ما لم يتحقق بالطبع. كما ضاقت الفجوة –على أرض الواقع- بين ممارسات أوروبية وأخرى أمريكية، وخاصة تجاه المقاومة الفلسطينية ومشروعيتها. فعلى سبيل المثال، لم يصدر عن الاتحاد الأوروبي أيه إدانة رسمية حازمة لإسرائيل عند ارتكابها “مجزرة قانا” بجنوب لبنان في أبريل 1996، في حين كانت تسارع بإدانة أي عمل ضد الاحتلال الإسرائيلي ويتم وصفه بالإرهاب.
كما لم تلجأ أوروبا، من أجل حماية عملية السلام والحفاظ عليها، إلى استخدام العقوبات الاقتصادية ضد إسرائيل كوسيلة من أهم وسائل الضغط التي تمتلكها أوروبا في مواجهة إسرائيل. ولذا؛ ومع تزايد معاول الهدم الإسرائيلي لعملية التسوية، ومع تصاعد العدوان الإسرائيلي على السلطة الفلسطينية والشعب الفلسطيني دون ضغوط أوروبية جادة لمنعها، لم يعد التوازن هو سمة العلاقة بين الاتحاد الأوروبي وبين أطراف الصراع.. كما لم يعد الحديث عن الدور الأوروبي كبديل أو كمستقل عن الدور الأمريكي، بل كـ”دور مكمِّل وأحيانًا تابعٍ” في نظر البعض؛ ولذا لم يكن غريبًا أن يتكرر خلال هذه المرحلة، السؤال عن أسباب عدم مساهمة أوروبا بفعالية في منع انهيار عملية التسوية: هل هي تحديات تدعيم البناء الجماعي الأوروبي وتوسيعه وتحول الاهتمام الأوروبي نحو الشرق “الأوروبي”؟ أم هو العجز العربي أمام تصاعد التشدد الإسرائيلي واستمرار الجمود الدبلوماسي والغياب الأمريكي؟ أم هي حسابات المصالح الأوروبية على ضوء مصالحها في مناطق أخرى؟ بعبارة أخرى، وبالرغم من تعدد أبعاد الحركة الأوروبية في هذه المرحلة وبالرغم من تصاعد المؤشرات عن نضوج البعد السياسي الخارجي والأمني في خبرة الاندماج الأوروبي، إلا أنه ظل نفس السؤال المتكرر قائمًا وظلت نفس الإجابات مطروحة[7].

ثالثًا- المشهد التاريخي الراهن: ما الجديد؟ توزيع الأدوار، واختلال التوازن تحت تأثير ضغوط التحالف الأمريكي/الإسرائيلي (2000-2005)

ماذا تستطيع أن تفعل أوروبا لوقف ممارسات إدارة بوش الابن؟ هل تستطيع سياسة بريطانيا وفرنسا أن تختلف عن الولايات المتحدة في العراق والحرب على الإرهاب والضغط من أجل الديمقراطية ومن أجل تسوية سلمية بين الفلسطينيين وإسرائيل؟ ما هي حدود الدور الأوروبي في عالم الأحادية القطبية؟ كيف ترى أوروبا نفسها بعد العدوان على العراق؟ وبعد الاجتياح الإسرائيلي لمدن الضفة وغزة على نحو يهدد كل القيم التي تعلن أوروبا التمسك بها؟ ألا تستطيع أوروبا منع اندلاع الحروب، مثل: حرب العراق؟ أم تقدر –فقط- على حفظ السلام الذي يضيعه غيرها بعد انتهاء الحروب؟ أم ستظل قاصرة على إدارة الأزمات المتكررة ولكن بدون حلول نهائية؟
كيف تعرف أوروبا دورها في القرن الجديد، وبعد أن وصل توسعها درجة كبيرة، وبعد أن حقق تعميقها درجة أكبر مع توقيع الدستور الأوروبي؟ هل “أوروبا القديمة” ستظل تبحث عن تعظيم استقلالها عن القيادة الأمريكية؟ أم أن “أوروبا الجديدة” تريد أن تصبح العامود الثاني لناتو أكثر قوة واتساعًا؟ بعبارة أخرى: هل أوروبا “شريك” لأمريكا أم “موازن” لها في شئون الأمن الإقليمي والعالمي؟ أم أن الشِّراكة في القيادة لا تتحقق إلا بالقدرة على “الموازنة” عند الضرورة؟
أليس في احتلال العراق وأفغانستان وانهيار عملية التسوية الإسرائيلية والفلسطينية واستمرار العدوان الإسرائيلي على الشعب الفلسطيني تهديد للمصالح الأوروبية يدفع بالاتحاد الأوروبي لأبعاد حركة جديدة تحمي هذه المصالح؟
إن خصائص المشهد الراهن: على الصعيد العالمي والأوروبي والعربي هي التي فرضت هذه الأسئلة، التي وإن بدت أنها تختلف في مفرداتها بالمقارنة ونظائرها في المرحلتين السابقتين، إلا أنها تعبر عن نفس الإشكاليات. وتوضح الإجابة عليها –كما سنرى- أقصى ما وصل إليه تآكل المصالح العربية في ظل تحالفات القوى الأوروبية/الأمريكية واستراتيجية توزيع الأدوار والمكاسب، من أجل تنفيذ أجندات الديمقراطية وحقوق الإنسان باسم “الحرب على الإرهاب”، وهي الأجندات التي اكتسبت الأولوية (بعد 2001)، وعلى نحو بدا معه أن الصراع العربي/ الإسرائيلي لم يعد الصراع الرئيسي في المنطقة التي تهدد استقرارها وأمنها.
ولهذا لم يعد الصراع العربي/الإسرائيلي بمفرده في نظر أوروبا محور تهديد الأمن الأوروبي (كما كان يتضح من رؤى أوروبية سابقة). ولذا انتقلت الاستراتيجية الأوروبية نقلة مكمِّلة لما دشنته من قبل مع “عملية برشلونة” للتعامل مع مصادر تهديدات جديدة للأمن الأوروبي؛ مما استلزم أدوات ومسارات جديدة تمثلت أساسًا في برامج دعم الديمقراطية وحوار الثقافات، وإن بدت هذه البرامج بمثابة قضايا جديدة على اهتمامات الحركة الأوروبية في المنطقة تتوازى مع الاهتمامات الدائمة والمستمرة بالصراع العربي/الإسرائيلي وأمن الخليج، إلا أن هذه القضايا الجديدة/القديمة تقاطعت على نحو واضح واستدعت بعضها البعض. ولهذا فإن إشكالية تحديد “الاستمرارية والتغير” في أبعاد الحركة الأوروبية وحدودها قد اكتسبت في هذه المرحلة أبعادًا جديدة؛ نظرًا لتشابك القضايا وتفرعها وعدم اقتصارها على قضية الصراع العربي/الإسرائيلي بصفة خاصة.
إذن ما هو نمط هذا التشابك وتفرعه؟ وكيف يمكن اختبار مسائل الاستقلال، الفاعلية، التوازن، مصادر حل الصراعات؟…
لقد اتسم الدور الأوروبي في هذه المرحلة بسمتين أساسيتين:
من ناحية أولى: لم يعد قاصرًا على إدارة العنف في الأراضي الفلسطينية ضد الشعب الفلسطيني والعودة للمفاوضات، ولكن امتد لمحاولة منع اندلاع الحرب على العراق ثم إدارة تداعيات الاحتلال الأمريكي له، مما أثار السؤال عن دلالة الارتباط بين هذين المجالين، بالنسبة لآفاق الدور الأوروبي في المنطقة، وخاصة بعد أن فشلت أوروبا، على الصعيدين، وبعد أن تأزمت ساحة أخرى مرتبطة؛ ألا وهي ساحة لبنان وقضية الانسحاب السوري منها، وأبعاد الضغط الأمريكي على سوريا، وخاصة بعد اغتيال الرئيس رفيق الحريري.
ومن ناحية أخرى: تقاطعت مع هذين الصراعين المتفجّرين في فلسطين والعراق، وامتداداتهما للبنان وسوريا الآن، وأحاطت بهم قضيةُ “الحرب على الإرهاب” وقضيةُ “التحول الديمقراطي في المنطقة”، وقضيةُ “حوار الثقافات”، ومما لا شك فيه أن هذا التطور في خريطة قضايا المنطقة إنما طرح تحديات جديدة على الدور الأوروبي تجاه عملية السلام في المنطقة، هذه التحديات التي أضحت تتضمن إلى جانب الأمن قضايا مثل: الإصلاح الاقتصادي والسياسي، وحقوق الإنسان، والحوار.
فمن ناحية: لم يعد الصراع العربي/الإسرائيلي -كما سبق القول- هو منطقة الصراع المتفجِّرة الوحيدة في المنطقة، بعد أن فتحت الولايات المتحدة، عقب الحادي عشر من سبتمبر – جبهة أفغانستان ثم جبهة العراق، كما تفجرت أيضًا جهة دارفور في السودان.
فلقد دخلت جهة الصراع العربي/الإسرائيلي مرحلة جديدة بعد انهيار عملية التسوية السلمية عقب فشل “كامب ديفيد 2″، واندلاع الانتفاضة، وتصاعد العدوان الإسرائيلي على أراضي السلطة الفلسطينية وعلى الشعب الفلسطيني بكل صور العدوان المفرِط[8].
وإذا كانت إدارة كلينتون قد نشطت في مجال التسوية السلمية، وإذا كانت الأعوام 1998- 2000 قد شهدت جهودًا مكثفة أوروبية في عملية التسوية، تعترف بأنها مكمِّلة للدور الأمريكي ولا تنافسه، وإذا كانت الولايات المتحدة قد قبِلت أن تلعب أوروبا هذا الدور المساعد والمسهِّل، إلا أن الانهيار المتصاعد للتسوية السلمية، والمتزامن مع وصول المحافظين للإدارة الأمريكية وفي إسرائيل أيضًا، قد غيَّر من الخريطة الاستراتيجية مما أثر على الدور الأوروبي. فلقد تعمدت الإدارة الأمريكية الجديدة ألا تتدخل بكثافة على غرار إدارة كلينتون، وبدت أوروبا غير قادرة على ملء هذا الفراغ السياسي الأمريكي في هذه المرحلة المتدهورة. بل إن الانتقادات الأوروبية –ولو كانت محدودة- للسياسات الإسرائيلية نشَّطت من جديد الاتهام الإسرائيلي لأوروبا بالانحياز. وعجزت الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي عن الاتفاق على فرض عقوبات على إسرائيل، في حين كان البرلمان الأوروبي قد استصدر 2002 قرارًا يدعو لمثل هذا التحرك.
بعبارة أخرى، انهارت الفرصة أمام أوروبا لخلق المناخ اللازم لعملية التسوية ودعمه، وهو الهدف الذي كرست له طاقاتها –كما سبق القول- منذ عملية أوسلو.
ولذا لم يعد أمام أوروبا إلا أن تنخرط -وبطريقة متزايدة- لمنع مزيد من التدهور والعنف، وذلك بالتدخل في إدارة الأزمات المتكررة من جراء عمليات الاجتياح والعدوان الإسرائيلي، ولكن لم تؤدِّ هذه الأنشطة إلى نتائج إيجابية جوهرية تُوقِف التدهور وتقرِّر وقفًا دائمًا للنار وعودةً للمفاوضات.
ولهذا عادت أوروبا من جديد، في بيانات القمم الأوروبية المتتالية منذ 2002، للتأكيد على المبادئ اللازمة للوصول إلى حل نهائي. ولكن ظلت هذه المواقف المعلنة غير مصحوبة بإجراءات مادية ملموسة، وخاصة تجاه قضايا محورية مثل بناء مستوطنات إسرائيلية جديدة، أو إجراءات ضمِّ القدس وتهويدها. بل لقد أعطت أوروبا هذه المستوطنات تفضيلات تجارية لتصدير منتجاتها لأوروبا، ناهيك عن عدم الاقتراب من أي ضغط مباشر على إسرائيل؛ سواء بالأداة الاقتصادية أو مبيعات السلاح. وفي المقابل ظلت أوروبا تعمل على توفير قنوات الاتصال والحوار –غير الرسمية والسرية- بين الفلسطينيين والإسرائيليين حول موضوعات مختلفة، مثل: التغلب على صعوبات التنمية الاقتصادية للأراضي الفلسطينية، أو بين مجموعات فلسطينية وأوروبية لإقناعهم بالتخلي عن الهجمات ضد المدنيين الإسرائيليين (العمليات الاستشهادية).
بعبارة أخرى، لم تكتفِ أوروبا بإدنة ما يسمى “العنف” في تصريحاتها، أو بإقناع عرفات بالتخلي عمَّا يسمى “الإرهاب”، ولكن حاولت أن تُحدِث تغييرًا في ذهنية واستراتيجية الفلسطينيين. ومع ذلك ظلت إسرائيل تنظر بعين الشك إلى الدور الأوروبي، بل ولم تعطِه أيَّ اعتبار، كما حدث حين تم قصف مقر الرئيس عرفات في رام الله، في نفس الوقت الذي كان يجتمع فيه مع المبعوث الخاص للاتحاد الأوروبي.
ومن أبرز الجهود الدبلوماسية متعددة الأطراف التي شاركت فيها أوروبا ما يسمى “خارطة الطريق” بمراحلها الثلاث، والتي تم إقرارها بواسطة اللجنة الرباعية في أكتوبر 2002، متضمنةً مبدأ إقامة الدولة الفلسطينية 2005، ولقد اعتبر إقرار هذه الخارطة في حينه نجاحًا –ولو جزئيًا- للدبلوماسية الأوروبية.
وبالرغم من حرص الاتحاد الأوروبي على إيجاد مقتربٍ مشترك مع الولايات المتحدة –رغمًا عن نقاط الاختلاف الأخرى بينهما- إلا أن خارطة الطريق لم يتم تطبيقها إلا فيما يتصل بالالتزامات الفلسطينية أساسًا، وتم تجاوزها وعرقلة تنفيذها من جانب إسرائيل والولايات المتحدة؛ نظرًا لتصاعد السياسات العدوانية الإسرائيلية ومساندة الولايات المتحدة لهذا المسلك الإسرائيلي الذي يتحدى التزامات خارطة الطريق، ومن ثم يعد تخليًا من جانب واحد عن هذه الخارطة، ولم تستطيع أوروبا أن توقف هذا التدهور أو أن تفرق بين مواقفها وبين هذا المسلك المتحيز الأمريكي، أو أن تمارس ضغطها على إسرائيل.
ولذا لم يعد بمقدور أوروبا أن تدعي استمرار الحفاظ على التوازن في العلاقات مع كل من الفلسطينيين والإسرائيليين في وقت لا تجد أمامها إلا التعاون مع الولايات المتحدة؛ وذلك في نفس الوقت الذي ترسي فيه إسرائيل على أرض الواقع نظام أبارتهيد جديدًا بحُجة مكافحة ما تسميه “الإرهاب” الفلسطيني، نحو تدعيم الهدف الحقيقي ألا وهو منع قيام دولة فلسطين، بل وتصفية هذه القضية من خلال تصفية قوى المقاومة وحصار الشعب الفلسطيني وتدمير البنية التحتية المادية والبشرية للسلطة الفلسطينية وللمقاومة الفلسطينية. ولهذا تصاعدت في هذه المرحلة الاتهامات العربية والفلسطينية للجانب الأوروبي بالتخلي عن الحركة وترك الساحة السياسية والدبلوماسية أمام التحالف الإسرائيلي/الأمريكي، بل والتعاون مع الولايات المتحدة مخافة أن يؤدي الصدام معها إلى مزيد من القيود على الدور الأوروبي؛ وخاصة أن الأطراف الإقليمية ذاتها كانت أكثر تطلعًا إلى الضمانات الأمريكية. ولذا ركزت الجهود الأوروبية على دعم المجتمع المدني الفلسطيني.
وذلك في وقت تنامت فيه أيضًا حركات التضامن الشعبي والمدني الأوروبية مع الشعب الفلسطيني، وهي الحركات التي ركزت على الأبعاد الإنسانية الحقوقية في القضية أكثر من تركيزها على أبعادها السياسية؛ وخاصة حق تقرير المصير وإقامة دولة مستقلة[9]. وفي المقابل –وكما سبق القول مرارًا- بالرغم من إدانتها للهجوم العسكري الإسرائيلي ضد الفلسطينيين لم تُقدِم أوروبا على استخدام ورقة الضغط الاقتصادي على إسرائيل. ويرى البعض أن الحفاظ على المصالح الأوروبية مع إسرائيل هو الدافعَ لعدم توقيع العقوبات، حيث إن مصالح الشركات المتعددة أضحت تتفوق على مبادئ حماية حقوق الإنسان وحق تقرير المصير للفلسطينيين، وخاصة وأنه لا تثور أية تهديدات للمصالح الاقتصادية الأوروبية على الجانب العربي. وهكذا بدا واضحًا أن أوروبا –الرسمية- ليست راغبة في دعم ومساندة المبادئ التي قام عليها الاتحاد الأوروبي وفي قلبها الحرية والديمقراطية وحماية حقوق الإنسان.
خلاصة القول: يتضح من هذه المرحلة كيف أن توزيع الأدوار -وليس تكامل الأدوار بين أوروبا والولايات المتحدة- من ناحية، واختلال التوازن في العلاقات بين أوروبا وكلًّ من الفلسطينيين وإسرائيل من ناحية أخرى، قد أضحيا من أهم سمات الدور الأوروبي، ومن أهم القيود على فعاليته في نفس الوقت.
ولقد أكدت أحداث العدوان على العراق واحتلاله، ثم إدارة هذا الاحتلال وحتى الانتخابات التشريعية الأخيرة في يناير2005، هاتين السمتين؛ حيث إن المواقف الأوروبية لم تمنع اندلاع الحرب، وإن كانت قد حالت –في البداية- دون إعطاء شرعية دولية للحركة الأمريكية المنفردة، ثم عادت أوروبا للتعهد بالمساعدة في إعمار العراق كما ساندت العملية السياسية العراقية تحت الاحتلال الأمريكي[10]، مما دفع إلى القول بأن أوروبا يجب ألا تقتصر على تمويل الإدارة العسكرية للعراق التي تقودها الولايات المتحدة، ويجب أن تتعدى المساعدة الإنسانية، ولكن يجب أن تقوم بدور في إعادة البناء السياسي والاقتصادي والاجتماعي؛ وهو الأمر الذي لن يتحقق إلا من خلال مفاوضات صعبة مع الولايات المتحدة والمعارضة العراقية.
وها هي الآن أوروبا –وبقيادة فرنسية وبتحالف مع الولايات المتحدة الأمريكية- تلعب دورًا تدخليًا خطيرًا في السياسة اللبنانية، وفي الضغط على سوريا؛ ومن خلالها الضغط على حزب الله، الذي سبق ووضعه الاتحاد الأوروبي في قائمة القوى الإرهابية.
وهذا السيناريو الذي تجري أحداثه بتسارع منذ اغتيال رئيس الوزراء الأسبق الحريري، وكان قد سبقت إرهاصاته الأولى في التبلور خلال المرحلة التي شهدت مسألة التجديد للرئيس اللبناني إميل لحود من خلال تعديل الدستور، كما شهدت تجدد قضية مطالبة المعارضة اللبنانية بإتمام الانسحاب السوري من لبنان، فإن هذا السيناريو الجاري الآن يمثل المرحلة الرابعة من مراحل التدخل الأمريكي -ومعه حلفاؤه- في المنطقة بعد مرحلة الحرب على أفغانستان، واحتلال العراق، والاجتياح العسكري الإسرائيلي لأراضي السلطة الفلسطينية وتدمير عملية التسوية السلمية.
ولذا لم تنعدم الأصوات المركزة -مؤخرًا- على كيفية تدعيم التعاون الأطلنطي في صورة شراكة أوروبية/أمريكية يدعوها البعض “شراكة في القيادة”، ويدعوها البعض الآخر “شراكة في توزيع الأدوار”، تنبني على تحديد الأولويات والآليات[11]؛ وعلى رأسها فيما يتصل بالشرق الأوسط القضية الفلسطينية، الإرهاب، البرنامج النووي الإيراني. ولقد رأت هذه الآراء أن التعاون بين أوروبا والولايات المتحدة هو السبيل لقيام أوروبا بدور أساسٍ في تحديث الشرق الأوسط وفي حماية مصالحها الاستراتيجية، وأن فرص هذا التعاون تتنامى في مرحلة ما بعد الحرب على العراق. ومما لا شك فيه أن لقاءات القمة الأوروبية/الأمريكية خلال أول زيارة لأوروبا، قام بها الرئيس الأمريكي في فبراير 2005 بعد إعادة انتخابه قد أفصحت -بدرجة كبيرة- عن اتجاه العلاقات الأوروبية/الأمريكية نحو مرحلة تشهد مزيدًا من التنسيق وتوزيع الأدوار أو الشراكة. وهو الأمر الذي يفرض على الدول العربية، فرادي أو مجتمعة، البحث عن استراتيجية جديدة لتعبئة قوى المساندة الخارجية –وعلى رأسها أوروبا- ليس لتحقيق المصالح العربية، ولكن دعم الجهد العربي المبذول من أجل هذا التحقيق. فإن المساندة الخارجية، وإن كانت ضرورة في إدارة صراعات القوى الصغرى، إلا أنها لن تكون بديلاً عن القدرة والمبادرة الذاتية. فهل انعدمت العربية منها، بحيث نسلم بتوزيع الأدوار الأوروبي/الأمريكي لإعادة تشكيل المنطقة على هذا النحو الجاري؟ ومن أكثر الأدلة وضوحًا على شرعية هذا السؤال ما يجري الآن منذ انتقال السلطة الفلسطينية عقب وفاة الرئيس عرفات، ومنذ ما يقال عن عودة المفاوضات مما يبشر في نظر البعض بتسوية قريبة، كل هذا دفع بعض الدول العربية إلى الإسراع في تحسين العلاقات مع إسرائيل، وفي وقت لم تسفر فيه بعد هذه المفاوضات عن تحقيق المطالب الأساسية للانتفاضة، وكل هذا أيضًا لم يكن إلا نتاج حسابات فلسطينية جديدة في ظل استمرار الضغوط الأمريكية والأوروبية، وفي وقت يستمر فيه العدوان الإسرائيلي على الشعب الفلسطيني لتحقيق مخطط شارون ألا وهو فرض سلام إسرائيلي/أمريكي.
ومن ناحية أخرى: لم يعد الصراع العربي/الإسرائيلي منذ بداية التسعينيات يمثل –بمفرده- مصدر التهديد الأساسي للأمن الأوروبي. ولكن قفزت إلى الصدارة –وفق الرؤية الأوروبية- مصادرُ جديدة لتهديد هذا الأمن، مثل: الأصولية الإسلامية، الهجرة، الجريمة المنظمة. وكانت الشراكة الأوروبية/المتوسطية –كمشروع استراتيجي كلي وشامل- قد مثلت الاستجابة الأوروبية لهذه الشبكة من التهديدات منذ منتصف التسعينيات، إلا أن تداعيات أحداث الحادي عشر من سبتمبر قد مثلت نقلة نوعية في نمط ودرجة الاهتمام الأوروبي الجماعي بما يسمى “الإرهاب” كمصدرٍ أساسٍ لتهديد الأمن الأوروبي والعالمي. وإذا كانت هذه الأحداث، وكذلك انهيار عملية التسوية السلمية للصراع العربي/الإسرائيلي، واحتلال العراق، قد انعكست سلبًا –وبعمق- على جانبٍ أساسٍ من البعد السياسي للشراكة، إلا أن أبعادًا أخرى لهذه الشراكة قد بدأ تفعيلها كسبيل لحماية الأمن الأوروبي؛ وهي البعد السياسي فيما يتصل منه بدعم الديمقراطية وحقوق الإنسان من ناحية، والبعد الثقافي من ناحية أخرى، وهما بعدان مرتبطان بقوة في المنهج الأوروبي الخاص بالإصلاح في المنطقة العربية.
أ- فلقد كان من أهم خصائص الشراكة الأوروبية/المتوسطية -باعتبارها مرحلة أساسية من مراحل تطور التوجه الجماعي الأوروبي نحو المتوسط (المتوسطية)- هو ارتباط سياساتها بالبعد الثقافي إلى جانب البعدين التقليديين في السياسات المتوسطية الأوروبية، وهما البعد الاقتصادي والبعد السياسي.
ولقد برز وزن البعد الثقافي تحت تأثير محددات أوروبية وإقليمية وعالمية، ترتبط برؤية النخب الرسمية والقيادات الأوروبية الوطنية والجماعية للتغير الذي أصاب مصادر تهديد الأمن الأوروبي وسبل مواجهته؛ حيث اهتمت هذه النخب والقيادات بتصاعد وزن مصادر التهديد ذات الطبيعة الثقافية والحضارية. إن هذه المصادر ليست مصادر تقليدية لتهديد الأمن –بمعناه الضيق- ولكن تتسع لتضم كل ما يتصل بتهديد الأمن بمعناه الشامل؛ أي تتصل بأوضاع ونواتج عدم الاستقرار والاستبداد السياسي والتدهور الاقتصادي والاجتماعي في دول جنوب المتوسط: أي الهجرة، والعنف، والأصولية، وتداعياتها على المجتمعات والنظم الأوروبية.
ومن هنا، كان بروز الأبعاد الاجتماعية الثقافية بين مصادر التهديد للأمن الأوروبي. وهو التهديد الذي لا يقتصر على المصالح الأوروبية المختلفة في جنوب المتوسط وشرقه، ولكنه التهديد الذي يتبلور أيضًا على صعيد المجتمعات والنظم الأوروبية ذاتها؛ وذلك نظرًا للتزايد –وفق الإحصائيات- في الوجود المسلم في أوروبا؛ وهو الأمر الذي يثير كثيرًا من الإشكاليات حول إمكانيات إدماج هذا الوجود في هذه المجتمعات، أو حول إمكانيات تأثيره على هذه المجتمعات ذاتها.
كما اهتمت النخب والقيادات الأوروبية بسبل جديدة لمواجهة هذه التهديدات؛ نظرًا لما لها من تأثير مباشر على الأمن الأوروبي من ناحية؛ ونظرًا لتأثيراتها على نطاقات التعاون الأوروبي المتوسطي في مجال الاقتصاد والسياسة من ناحية أخرى ومن هذه السبل الحوار والتعاون الثقافي.
وإذا كانت الشراكة الأوروبية المتوسطية قد تم إرساء قواعدها وتبلورت بعض سياساتها منذ 1995؛ أي قبل أحداث الحادي عشر من سبتمبر، تلك الأحداث التي فجرت الاهتمام الراهن بالأبعاد الثقافية الحضارية للعلاقات بين العالم الإسلامي والغربي، فإن هذا يعني أن الأبعاد الثقافية للعلاقات الأوروبية–المتوسطية قد فرضت نفسها قبل تداعيات هذه الأحداث. ولكن مما لا شك فيه أن مسار هذه الأبعاد الثقافية قد اكتسب زخمًا إضافيًا في إطار فورة الاهتمام بهذا النمط من التفاعلات الثقافية على صعيد ما يُسمَّى “الحرب الأمريكية ضد الإرهاب”.
إن دراسة التوجه الجماعي الأوروبي -والتوجهات الوطنية- نحو أسباب أحداث الحادي عشر من سبتمبر ومبرراتها وعواقبها[12]، لتَبُينُ عمقَ ما أضحى يمارسه البعد الثقافي (المقصود هنا الرؤية لوضع الإسلام والمسلمين بصفة خاصة) من تأثيرٍ على صياغة السياسات الأوروبية الجماعية والوطنية تجاه جنوب المتوسط وتجاه مسلمي أوروبا، فلم تقصر هذه التوجهاتُ الجماعية والوطنية مصادرَ الإرهاب وجذوره على الأبعاد السياسية والاقتصادية المتدهورة في جنوب المتوسط، ولكن ربطته أيضًا –بدرجة أكبر من الوضوح عن ذي قبل- بالأبعاد الثقافية.
وهو الأمر الذي كان من شأنه الزيادةُ المتسارعة في مشروعات التعاون الثقافي مع جنوب المتوسط وخاصة في مجال التعليم والإعلام والشباب, وفي مبادرات الحوار الثقافي تجاهه, وفي تقنين الاتحاد الأوروبي لمنظومة القيم التي يجب على دول المتوسط مراجعتها أو تبنيها, وفي مراجعات قضية الهوية والاندماج في المجتمعات الأوروبية ذاتها[13].
وإذا كان الإسلام حاضرًا–غائبًا في تحركات ما قبل الحادي عشر من سبتمبر، فلقد أضحى ظاهرًا وفي قلب هذه المجالات السابق الإشارة إليها؛ حيث أضحى البعد الثقافي للشراكة هو أحد أذرع أوروبا في الحرب على الإرهاب، ولكن وفقًا لاستراتيجية الاتحاد الأوروبي، القائمة على ضرورة مكافحة جذور الإرهاب بالسبل المتنوعة؛ ومنها الثقافية (وفي تعاضدها مع السبل السياسية والاقتصادية)، وعدم الاقتصار على محاربة قوى الإرهاب فقط، حيث إن تلك الأخيرة ليست إلا تجليات لجذور وأسباب كامنة وظاهرة على حد سواء.
هذا، ولقد ثار جدال عام بين التيارات الفكرية والسياسية الكبرى في الدول العربية حول الشراكة الأوروبية/المتوسطية، حيث إن هذا المشروع وخاصة ما يتصل ببعده الثقافي لم يتحقق له توافق أو رضاء عربي عام حول أهدافه وغاياته وعواقبه[14].
كذلك أبرزت هذه التيارات الفكرية والسياسية الجدالَ بين المفاهيم الأوروبية والأمريكية حول الإرهاب وسبل مقاومته. وهو الجدل الذي تمحور حول العلاقة بين الأحكام الثقافية وبين الرؤية السياسية الاجتماعية عند تفسير الإرهاب ووصف تجلياته والتخطيط لمقاومته[15]؛ أي هو الجدل بين الذين يرون أن الإرهاب هو نتاج واقع ثقافي تتحمّل فيه النصوص الدينية مسئوليةً كبيرة، وبين الذين يرون أنه نتاج سياق اجتماعي وسياسي تتحمَّل فيه السياسات الظالمة للقوى الكبرى المسئوليةَ جنبًا إلى جنب مع أوضاع غياب الديمقراطية وتفشي الفساد في النظم العربية. ومما لا شك فيه أن الفروق الثقافية والتاريخية بين أوروبا وبين الولايات المتحدة جعلت مواقف الاتحاد الأوروبي المعلنةَ ترفض الإطلاق والتعميم في التفسيرات الثقافية، في حين مالت الإدارة الأمريكية الجمهورية المحافظة إلى تلك التفسيرات وإلى تبنيها؛ وهو الأمر الذي انعكس -في البداية- على اختلافٍ حول استراتيجية مقاومة الإرهاب الدولي، وفي قلبها عملية مساندة ودعم التحول الديمقراطي وحقوق الإنسان.
هذا ولم يكن البعد الثقافي للشراكة منفصلاً عن بعدها السياسي فيما يتصل منه بالتحول الديمقراطي وحقوق الإنسان.
ولقد تبلورت مجموعة من الآراء حول سبل تفعيل البعد الثقافي، وخاصة من حيث ارتباطاته بالبعدين السياسي والاقتصادي، سواء ما يتصل منها مباشرة بالساحة العربية/المتوسطية (الديمقراطية وحقوق الإنسان والتنمية الرأسمالية وتحرير التجارة)، أو ما يتصل بالساحة الأوروبية (الهجرة والوجود المسلم في أوروبا).
وتتلخص أسانيد هذه الرؤى وشروطها في الأمور التالية:
من ناحية[16]: التقدم المتزامن على محاور التعاون الأوروبي/المتوسطي: السياسية والاقتصادية والثقافية: فإذا كان “إعلان برشلونة” لم يتضمن أية إشارة عن الرابطة بين أبعاده الثلاثة، وإذا كان البعض يرى أن دفع التعاون الثقافي يساعد على التوصل لحلول للقضايا السياسية، وإذا كان البعض الآخر يرفض تسييس الحوار الثقافي مما يعني أن عدم التقدم على صعيد القضايا السياسية يجب ألا يؤثر على قوة دفع الحوار الثقافي، فإن اتجاهًا رابعًا يرى أنه لا يمكن حدوث تقدم حقيقي في مجال التعاون الثقافي ما لم يصاحبه تقدم مماثل على المحورين السياسي والاقتصادي، ومن ثم فإنه في حالة عدم التوصل إلى حل للقضايا السياسية والاقتصادية الرئيسية، فإن الحوار الثقافي سيُصاب بالخلل وسينعكس سلبيًا على أمن الطرفين؛ ولذا فعلى أوروبا أن تتحرك وبفعالية أكثر على صعيد قضايا فلسطين والعراق والتحول الديمقراطي (خبرة الحوار العربي/الأوروبي)؛ ذلك لأن التفاعلات بين الشعوب لا تخلق في حد ذاتها أشكالاً للتعاون، بل قد تقود إلى صراع، وذلك حينما تتم في ظل ظروف تتسم بعدم التكافؤ بين الأطراف المتفاعلة؛ ولذا فمن المهم أن يتوافر الإطار السياسي والاقتصادي اللازم لدفع الأطراف إلى تبني منظور إيجابي للمزايا المشتركة المتبادلة. ومن ثم -ووفق هذا الرأي- فإن التقدم في مجال التعاون الثقافي مرهون بحدوث تقدم في مجال تحقيق مشاركة اقتصادية متكافئة، وحل الصراعات بين الشركاء المتوسطيين، وتحقيق التعاون السياسي والأمني بين شمال المتوسط وجنوبه.
ولكن من ناحية أخرى[17]: فإن المعضلة تكمن في ارتباط البعد الثقافي بالبعد السياسي في المنظور الأوروبي، على نحو قد لا يساعد على تحقيق التقدم في حل المشاكل وفق منظور جنوب المتوسط. وهنا تبرز العلاقة مع قضية الديمقراطية وحقوق الإنسان.
فإن دعوة الاتحاد الأوروبي للديمقراطية وحقوق الإنسان إنما ترتبط بحقيقة الإدراك الجماعي الأوروبي لمصادر جديدة لتهديد الأمن الأوروبي، ذات أبعاد ثقافية؛ مثل “الأصولية الإسلامية”؛ لذا فإن الرؤية الأوروبية عن الاستقرارَ السياسي في جنوب المتوسط إنما تعني استقرار نظم الحكم القائمة في مواجهة المعارَضة الإسلامية، (وهي أساسًا نظم غير ديمقراطية وفقًا للمعايير الغربية)، ما دامت لا تمانع –هذه الحكومات، في التعاون مع الاتحاد الأوروبي. وقد واجهت هذه الرؤية الأوروبية عن الاستقرار في المنطقة انتقادات عديدة؛ نظرًا لم تحمله من تناقضات مع معايير الديمقراطية الغربية ذاتها، والثمنُ هو عدم وصول الحركات المعارِضة الإسلامية للحكم. ومما لا شك فيه أن هذا المنظور الأوروبي عن التحديث السياسي -مصحوبًا بالتحديث الاقتصادي والتحديث الاجتماعي في مجالات التعليم والإعلام والآداب والفنون- “إنما يعبر عن رغبة أوروبية أكيدة في توصيل مجموعة من القيم المستمدة من الثقافة العقلانية العلمانية الأوروبية كبديل لأيديولوجية التيارات الإسلامية المتطرفة التي تدعو إلى مواجهة الغرب وقيمه العلمانية (التغريب) بكافة السبل؛ بما فيها استخدام العنف، إذا لزم الأمر، والذي يتضمن القيام بأعمال إرهابية”. ولهذا فإن الدعوة الأوروبية إلى التعاون الثقافي أثارت قضايا خلافية بين الاتحاد الأوروبي من جانب وبين الدول العربية من جانب آخر، وعلى نحو يبين كيف أن التقدم على صعيد هذا التعاون يرتهن بالتقدم على صعيد قضايا أخرى؛ مثل الديمقراطية وحقوق الإنسان.
وإذا كانت بعض قوى المجتمع المدني والنخب الفكرية قد ارتأت في الدعوة الأوروبية لحقوق الإنسان والديمقراطية سبيلاً للتخلص من نظم الحكم الديكتاتورية في المنطقة، فإن قوى أخرى رأت أن تطبيق مبادئ النموذج الغربي الليبرالي للديمقراطية يختلف من دولة إلى أخرى وفق أوضاعها الخاصة واختلافها من حيث أطرها الحضارية والثقافية، وبالتالي لا ينبغي اتخاذ الدعوة لاحترام هذه المبادئ ذريعة للتدخل المباشر في الشئون الداخلية ليس لتحقيق أهداف سياسية فقط –متصلة بنمط الاستقرار السياسي المطلوب- ولكن لتحقيق أهداف ثقافية أيضًا متصلة بمنظومة القيم السائدة وكيفية تغييرها سعيًا للتغلب على المصادر الجديدة لتهديد الأمن الأوروبي؛ وفقًا لمنظور الاتحاد الأوروبي.
كما أن فريقًا ثالثًا رأى أن أمن أوروبا لن يتحقق إلا إذا تخلت عن مفهومها هذا عن الاستقرار في المنطقة؛ ألا وهو استقرار النظم القائمة المتعاونة مع الغرب، وعن فكرة أن التقدم الاقتصادي لهذه النظم ضروري قبل التغيير السياسي حتى يحدث إصلاح تدريجي لا يهز الاستقرار؛ وهو الذي يرتبط به أمن أوروبا.
وإذا كانت الرؤية الأوروبية عن الاستقرار في المنطقة وعلاقته بعملية التحول الديمقراطي قد واجهت انتقادات من داخل المنطقة العربية، إلا أنها قد واجهت أيضًا انتقادات أمريكية قدمتها العديد من الأدبيات التي اهتمت بالمقارنة بين الاقتراب الأمريكي والاقتراب الأوروبي من هذه القضية[18]، ومن ثم تبلورت الدعاوى الأمريكية –وخاصة بعد إطلاق مبادرة الشرق الأوسط الكبير- في ضرورة التنسيق والتعاون بين جانبي الأطلنطي على أفضل السبل لحفز التغيير الديمقراطي في المنطقة وفق استراتيجية عبر اطلنطية.
ومن أهم الانتقادات للمسلك الأوروبي أنه “تدرجي” يقوم على الشراكة، وليس الضغط من أجل تغيير سياسي سريع. لا يلجأ هذا المسلك إلى المشروطية في تقديم المساعدات للنظم القائمة؛ حيث لا يربطها بدرجة التحول الديمقراطي، يتجه تمويل الاتحاد الأوروبي للتحول الديمقراطي إلى برامج الحكومات أكثر مما يتجه إلى برامج المجتمع المدني. إن البرامج الأوروبية لم تحقق نتائج ملموسة حتى الآن، والمساعدات الأوروبية تتجه أساسًا للجانب الاقتصادي والمجتمعي والثقافي على أساس أن التقدم على الصعيد الاقتصادي والمجتمعي والثقافي يساعد على امتصاص جذور العنف والإرهاب ويقيد الهجرة؛ ومن ثم يساعد –بصورة غير مباشرة- على التحول الديمقراطي، وعلى أساس أن الاصلاح السياسي هو جزء من عملية تحديث شاملة؛ ولهذا فإن التمويل الموجَّه مباشرة لبرامج التنمية الديمقراطية أقل بالمقارنة بالتمويل الموجَّه للثقافة والتعليم والتنمية والحكم الرشيد.
وعلى ضوء هذه الانتقادات التي تبين القيود على الحركة الأوروبية السياسية من أجل تفعيل الديمقراطية، على الأقل من وجهة النظر الأمريكية، فإن الاتحاد الأوروبي أخذ (وخاصة بعد 9/11) في إعادة تقييم سياساته في هذا المجال، وعلى نحو يحقق درجة أكبر من التنسيق والتشاور مع الولايات المتحدة الأمريكية، مما يؤكد ما سبق طرحه؛ وهو أن توزيع الأدوار -وليس تنافسها أو تكاملها- هو السمة التي تغلب على العلاقات الأوروبية/الأمريكية حول المنطقة العربية.
ولقد كانت نتائج قمة الثمانية، والقمة الأوروبية/الأمريكية، وقمة الناتو في إستانبول 2004، علاماتٍ ثلاثًا أساسية على هذا الطريق؛ سواء فيما يتصل بقضية فلسطين أو العراق أو دارفور أو التحول الديمقراطي.
ولذا صدر عن الاتحاد الأوروبي عقب قمة الدول الصناعية الثانية ما يسمى “الشراكة الأوروبية الاستراتيجية مع المتوسط والشرق الأوسط” في مايو 2004؛ وذلك بعد أن كان قد صدر في مارس 2003 ما يسمى “سياسة الجوار لأوروبا الكبرى”، كما أصدرت المفوضية الأوروبية في مايو 2003 بيانًا بعنوان “إعادة تنشيط خطط عمل الاتحاد الأوروبي لحقوق الإنسان والديمقراطية مع الشركاء في البحر الأبيض المتوسط”؛ حيث حددت هذه الوثيقة مبادئ إرشادية لتعزيز تنفيذ المادة المتعلقة بحقوق الإنسان في اتفاقيات الانضمام إلى الشراكة، وأقرت الوثيقة بالسجل المخيِّب للآمال لجهود الاتحاد الأوروبي من أجل النهوض بحقوق الإنسان مع شركائه من دول البحر المتوسط، وقدمت عشر توصيات لتحسين هذه الجهود.
وأخيرًا، فإن المظلة الاستراتيجية لخطة “أوروبا الجديدة” لتشجيع الديمقراطية تتشكل من ثلاث وثائق رئيسية وهي: “استراتيجية الأمن الأوروبي”، و”تعزيز علاقات الاتحاد الأوروبي مع العالم العربي (ديسمبر 2003)”، “تقرير الشراكة الاستراتيجية للاتحاد الأوروبي مع المتوسط والشرق الأوسط” (مارس 2004)، وبهذه الوثائق تحرك الاتحاد الأوروبي خطوة نحو التنسيق عبر الأطلنطي، حيث طوَّر مفهوم الشراكة والاشتراطية.
فما مآل هذه السياسة الأوروبية الجديدة للنهوض بالديمقراطية في المنطقة؟ سؤال ينتظر الإجابة من خبرة السنوات القادمة.
*****

الهوامش:

(1) حول التفاصيل انظر على سبيل المثال:
– د. حامد ربيع: الحوار العربي الأوروبي: استراتيجية التعامل مع القوى الكبرى، بيروت، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، ١٩۸۰.
– د. حامد ربيع (إشراف)، المضمون السياسي للحوار العربي الأوروبي، القاهرة، معهد البحوث والدراسات العربية، 1977.
– د. نادية محمود مصطفى: الدبلوماسية الفرنسية والغزو الإسرائيلي للبنان. مجلة الفكر الاستراتيجي العربي، عدد 8- 9 يوليه- أكتوبر سنة 1983.
– د. نادية محمود مصطفى: السياسة الفرنسية تجاه الصراع العربي الإسرائيلي (1967- 1977): الأبعاد المحددات. مجلة الفكر الاستراتيجي العربي، عدد 13- 14 يوليه 1985.
– د. نادية محمود مصطفى: أوروبا والوطن العربي، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، 1987.
– د. نادية محمود مصطفى: مصر والقوى الكبرى (في) د. علي الدين هلال، د. عبد المنعم سعيد (محرران): مصر وتحديات التسعينيات. مركز البحوث والدراسات السياسية- جامعة القاهرة، 1990م.
– د. نادية محمود مصطفى: تقويم العلاقات السياسية بين مصر والجماعة الأوروبية، (في): د. هناء خير الدين، د. أحمد يوسف أحمد (محرران): مصر والجماعة الاقتصادية الأوروبية 1992. مركز البحوث والدراسات السياسية- جامعة القاهرة. كلية الاقتصاد والعلوم السياسية، 1991.
(2)- انظر على سبيل المثال:
– د. نادية محمود مصطفى: أوروبا الغربية وأمن الخليج (1980- 1987)، مجلة الفكر الاستراتيجي العربي. العدد 28، أبريل 1989.
– د. نادية محمود مصطفى: أزمة الخليج الثانية والنظام الدولي الجديد. (في) د. أحمد الرشيدي (محرر): أزمة الخليج والأبعاد الدولية والإقليمية، مركز البحوث والدراسات السياسية- جامعة القاهرة، أكتوبر 1991.
– د. نادية محمود مصطفى: حرب الخليج الثانية: بين السياسة الجماعية والسياسات القومية الأوروبية، (في): د. ودودة بدران (محرر) مصر والجماعة الأوروبية 1989- 1990، مركز البحوث والدراسات السياسية- جامعة القاهرة، 1993.
(3) Muriel Asseburg: De la rhétorique á la pratique? Les trois dimensions de la politique européenne á l’égard du conflit (dans) Martin Ortega (direction) L’Union Européenne et la crise au Moyen Orient. Cahiers de Chaillot N0 62, Juillet 2003, Institut d’études de sécurité, Paris. PP. 12- 19.
(4) د. نادية محمود مصطفى (محرر) مصر ومشروعات النظام الإقليمي الجديد، مركز البحوث والدراسات السياسية، جامعة القاهرة، 1997.
– د. سمعان بطرس فرج الله (محرر): أعمال ندوة مستقبل الترتيبات الإقليمية في منطقة الشرق الأوسط وتأثيراتها على الوطن العربي. معهد البحوث والدراسات العربية، جامعة الدول العربية، 1998.
– د. نادية محمود مصطفى: أوروبا والعرب: من تسوية الصراع العربي الإسرائيلي إلى الشراكة الأوروبية المتوسطية (في) تقرير حال الأمة في عام (1997)، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، 1998.
(5) د. نادية محمود مصطفى: الأبعاد السياسية للمتوسطية (في) د. نادية محمود مصطفى (محرر)، مرجع سابق.
(6)د. محمد السيد سليم: المشاركة الأوروبية- المتوسطية: رؤية عربية لميثاق السلام والاستقرار، كراسات استراتيجية، العدد 87، 2000.
(7) حول أبعاد الدور السياسي الأوروبي خلال عملية التسوية السلمية في التسعينيات انظر على سبيل المثال:
– د. حسن أبو طالب: الرؤية العربية لسياسات الاتحاد الأوروبي تجاه صراعات المنطقة. بحث مقدم إلى الملتقى المصري الفرنسي الحادي عشر تحت عنوان: الاتحاد الأوروبي والوضع السياسي الجديد في المنطقة العربية (1991- 2003). مركز البحوث والدراسات السياسية، مركز الدراسات والوثائق الاقتصادية والقانونية الفرنسي، مكتبة الإسكندرية، يناير 2004 (تحت الطبع).
(8) د. محمد السيد سليم، أسباب وعواقب انهيار عملية السلام في الشرق، بحث مقدم إلى ندوة “آفاق التسوية الإسرائيلية الفلسطينية”، مركز البحوث والدراسات السياسية، مارس 2005.
– د. نادية محمود مصطفى (محرر) ماذا بعد انهيار عملية التسوية؟، مركز البحوث والدراسات السياسية، مركز دراسات الوحدة العربية، 2003.
– د. نادية محمود مصطفى، أمجد جبريل (محرران): بين تطوير الحل العسكري الإسرائيلي ومراجعة السياسة الإسرائيلية تجاه التسوية السلمية: قراءة في وثيقة جنيف وتداعياتها، 2000- 2004.
– د. عماد جاد: رؤية الدول العربية للسياسة الخارجية الفرنسية والألمانية والبريطانية تجاه العصبة الفلسطينية (في) الاتحاد الأوروبي والوضع السياسي الجديد…، مرجع سابق.
– Muriel Asseburg: op. cit. pp. 22- 28.
– Martin Ortega: La paix est entre leur main (dans) M. Ortega (direction), op.cit. pp. 55- 60.
– Avi Shlaim: Europe and the Israeli Palestinian conflict, Oxford- Research Group, November 2004.
(9)- انظر التفاصيل على سبيل المثال في:
– فرانسواز كليمن: دور الحركة- الدولية المدنية السلمية في التضامن مع القضية الفلسطينية، (في): د. نادية محمود مصطفى (محرر): مرجع سابق.
(10) حول أبعاد الدور الأوروبي بالمقارنة بالقوى الخارجية الأخرى خلال الأزمة العراقية والعدوان الأمريكي انظر على سبيل المثال:
– د. عمرو الشوبكي: المتغير الأوروبي والموقف الفرنسي من الحرب، د. عمرو حمزاوي: الاتحاد الأوروبي وإعادة تعريف العلاقة مع الولايات المتحدة، (في): د. نادية مصطفى، د. حسن نافعة (محرران): العدوان على العراق، خريطة أزمة… ومستقبل أمة، مركز البحوث والدراسات السياسية، قسم العلوم السياسية، جامعة القاهرة، 2003.
– د. مصطفى علوي: آفاق التعاون مع القوى الكبرى في مواجهة الهيمنة الأمريكية (في) د. نادية مصطفى، د. عمرو دراج (محرران): مصر والأمة ماذا بعد العدوان على العراق، مركز البحوث والدراسات السياسية، نادي أعضاء هيئة التدريس، جامعة القاهرة، القاهرة، 2003.
– أحمد إبراهيم محمود (محرر)، الخليج… والمسألة العراقية (1990- 2003)، مركز الدراسات السياسية والاستراتيجية، الأهرام، 2003.
– د. ثناء فؤاد عبد الله: رؤية عربية حول سياسات الدول الأوروبية إزاء الحرب على العراق (في) الاتحاد الأوروبي والوضع السياسي الجديد في المنطقة العربية…، مرجع سابق.
– د. خير الدين حسيب، مستقبل العراق: الاحتلال، المقاومة، التحرير والديمقراطية، مركز دراسات الوحدة العربية، سلسلة كتب المستقبل العربي (35)، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، 2004.
(11) انظر على سبيل المثال:
– Geoffrey Kemp, Europe’s Middle East Challenges. The Washington Quarterly 27, Winter 2003- 2004, pp. 163- 177.
– Sascha Miller- Kraemer: Europe’s Role in the new World Order- Partner or counterweight to America, Remarks to the Commission on Globalization conference “National Sovereignty and universal challenges- choices for the world after Iraq, June 2003, Brussels.
(12) انظر تفاصيل هذه الدراسة في: مروة فكري وياسمين زين العابدين، الدائرة الأوروبية: بين السياسات الجماعية والسياسات القومية، حولية أمتي في العالم (2001- 2002)، مركز الحضارة للدراسات السياسية، القاهرة، 2003، ص ص 87- 169.
– انظر أيضًا: د. عمرو الشوبكي: الرؤى العربية للمواقف الأوروبية تجاه الحرب الدولية على الإرهاب: الاتحاد الأوروبي بين قرائتين للإرهاب، الجدل بين الأحكام الثقافية والرؤية السياسية الاجتماعية. بحث مقدم للملتقى المصري الفرنسي الحادي عشر تحت عنوان: الاتحاد الأوروبي والوضع السياسي الجديد في المنطقة العربية (1991- 2003), مركز البحوث والدراسات السياسية ومركز الدراسات والوثائق الاقتصادية والقانونية الفرنسي، مكتبة الإسكندرية، يناير 2004، (تحت الطبع).
(13) انظر التفاصيل في:
– د. محمد السيد سليم: الشراكة الأوروبية المتوسطية، الأبعاد الثقافية، كراسات استراتيجية، العدد 109، 2001.
– سامية بيبرس: الشراكة الأوروبية- المتوسطية وحوار الثقافات، السياسة الدولية، يناير 2004.
– د. وفاء الشربيني: ملتقيات البعد الثقافي في الشراكة الأوروبية المتوسطية (في) د. نادية محمود مصطفى، د. علا أبو زيد (محرران): من خبرات حوار الحضارات قراءة في نماذج على الصعيد العالمي والإقليمي والوطني، برنامج حوار الحضارات، كلية الاقتصاد، القاهرة، 2003.
(14) انظر على سبيل المثال:
– د. حامد عبد الماجد، د. نادية أبو غازي: مستقبل المشاركة المتوسطية المصرية، دراسة في إدراكات الرأي العام وقواه السياسية الأساسية (في) الندوة المصرية الفرنسية الحادية عشرة: الاتحاد الأوروبي والوضع السياسي الجديد في المنطقة العربية (1991- 2003)، مرجع سابق.
– د. سمعان بطرس فرج الله: مصر والدائرة المتوسطية: الواقع والمستقبل حتى 2020، منتدى العالم الثالث (مكتبة مصر 2020)، دار الشروق، القاهرة، ط 2002، ص ص 202- 204.

(15)- انظر على سبيل المثال:
– د. عمرو الشوبكي: الرؤى العربية للمواقف الفرنسية والألمانية…، مرجع سابق.
– د. عمرو حمزاوي: اتجاهات وحدود الإدراك العربي لدور الاتحاد الأوروبي في الحرب العالمية ضد الإرهاب (في) المرجع السابق.
(16) د. محمد السيد سليم: الشراكة الأوروبية المتوسطية…، مرجع سابق، ص ص 11- 13.
(17) د. سمعان بطرس فرج الله: مصر والدائرة المتوسطية، مرجع سابق، ص ص 206- 207، ص ص 136- 139.
وحول مزيد من التحليلات العربية عن المواقف الأوروبية من قضية حقوق الإنسان والديمقراطية وما يثور حولها من انتقادات انظر:
– د. هويدا عدلي رومان: رؤية منظمات حقوق الإنسان لسياسات الاتحاد الأوروبي تجاه قضية حقوق الإنسان والتحول الديمقراطي في مصر. بحث مقدم إلى الملتقى المصري الفرنسي الحادي عشر تحت عنوان الاتحاد الأوروبي والوضع السياسي الجديد في المنطقة العربية (1991- 2003)، مرجع سابق.
– Béchir Chourou: Security Partnership and democratization: Perception of the activities of Northern Security institutions in the South (in) H.G. Brauch, A. Marquina, A.Biad (eds) Euro- Mediterranean partnership for the 21st century, Palgrave, 2003.
(18) حول التفاصيل انظر على سبيل المثال:
– L’Europe, les États- Unis et le Grand Moyen- Orient, Le Monde, 13/4/2004.
– Mona Yacoubian: Promoting Middle East democracy, European Initiatives United States Institute of Peace, Special Report N0 127, October 2004.
– Richard Youngs: Europe’s uncertain pursuit of Middle East Reform, Carnegie Papers, Middle East Series, N0 45, June 2004.
– Volker Perthes, America’s “Greater Middle East” and Europe: Key issues for dialogue, Middle East Policy, V0 XI, Fall 2004.

نشر في مجلة “شؤون عربية” ربيع 2005

للتحميل اضغط هنا 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى