المنظور الحضاري للتعليم والبحث: رؤية من منطلق الوسطية

بحث مقدم إلى المؤتمر الدولي "نحو إسهام عربي إسلامي في الحضارة الإنسانية المعاصرة" منتدى الوسطية- عمان، الأردن 8- 10/ 9/ 2007

مقدمة:

إن الحديث عن توجيه بحوث الجامعات في العالم الإسلامي لخدمة قضايا الأمة الإسلامية، كما جرى منذ عدة أشهر في مؤتمر عقدته جامعة الأزهر، أو الحديث في هذا المؤتمر عن دور الجامعات والمؤسسات العلمية في الإسهام الحضاري الإنساني لابد وأن يصطدم مع الحديث السيَّار وغير المنقطع، عن أهمية وكيفية إصلاح البحث العلمي كجزء من إصلاح منظومة التعليم العالي في دول هذا العالم الإسلامي. ذلك لأن ذلك الحديث عن إصلاح أو تطوير منظومة التعليم العالي يبدو في مجموعه، حديثًا فنيًا إجرائيًا يفتقد -فيما ندر- لحديث الفلسفة والتوجه، في حين أن الخلل الذي أصاب هذه الفلسفة وهذا التوجه هو من أهم أسباب تفسير ما تشهده حالة التعليم العالي -في معظم بلدان العالم الإسلامي (ومصر بصفة خاصة[1]- من أزمة حضارية بالمفهوم الشامل، ويصعب –بالطبع- مع حالة الأزمة هذه استشراف إمكانيات الإسهام في الفكر الحضاري الإنساني المعاصر، قبل مواجهة أبعاد هذه الأزمة. ومن أهم هذه الأبعاد الافتقاد إلى المنظور الحضاري للتعليم ومواجهة التعليم لتحديات حضارية تنال بعمق من الأمن الحضاري وليس فقط من الأمن القومي- بمعناه التقليدي.
ولذا؛ فمن أهم أبعاد الانتقاد الموجه إلى مسار تطوير التعليم العالي في مصر وغيرها من الدول العربية والإسلامية والجاري منذ أكثر من عقد، هو افتقاد التوجه والوجهة والفلسفة، وهو الأمر الذي ينعكس في بعض الإشكاليات الأساسية: ماذا نطور وكيف؟ مَنْ الذي يساعد في التطوير؟ ولماذا؟ (إشكالية العلاقة بين الداخلي والخارجي في تحديد الأهداف وموارد تمويل)، ما هي وجهة هذا التطوير وغاياته: مواجهة أزمة حضارية شاملة أم الاستجابة لاحتياجات السوق أم إدارة تدخلات العولمة وتحدياتها؟[2]
ولهذا، بزغت من بين طبول دعاوى الإصلاح والتطوير في مصر، أصوات تحاول جاهدة أن تحذر من إغفال أزمة الهوية والتحديات الحضارية التي تواجه -أو تقع في قلب- أزمة التعليم الجامعي بصفة عامة سواء في دائرة التدريس أو البحث، بل وتساءل البعض أين جامعاتنا من “الجامعات الحضارية”، وذلك بعد أن رسم خريطة تفصيلية لمعالم التشوهات الحضارية في جامعة القاهرة -نموذجًا- وبعد أن ناقش مفهوم الهوية من حيث العلاقة بين الثابت المرتبط بالنواة الصلدة لهذه الهوية وبين المتغير الذي لا يتناقض مع الاستجابة لمتطلبات التغير في العصر[3]. ولقد تشارك في حمل هموم التحديات الحضارية التي تواجه تطوير التعليم العالي في العالم العربي والإسلامي دوائر وهيئات أكاديمية متعددة[4] ناقشت موضوعات من مثل الهوية واللغة العربية، والتعليم والتحدي الحضاري، والتعاون الدولي في مجال التعليم وآثاره التدخلية الإيجابية منها والسلبية.
وفي المقابل؛ فإن الحديث عن توجيه بحوث جامعات العالم الإسلامي لخدمة قضايا الأمة الإسلامية أو عن دورها في الإسهام الحضاري الإنساني المعاصر بصفة عامة، ليحمل ابتداءً من عنوانه ثم من محتوى بعض محاوره (في ورقة العمل) دلالات أخرى وهي الدلالات الخاصة بأمرين: من ناحية مستوى عقدي حضاري للاهتمام (الأمة الإسلامية)، ومن ناحية أخرى، موضوع للاهتمام يتصل بالتوجيه والوجهة، ومن ثم؛ الحاجة إلى “مدرسة فكرية إسلامية” بين مدارس فكرية أخرى يتأطر فيها البحث العلمي.
وأعتقد أن هذه الدلالات تثور بالنسبة لكل من الجامعات الإسلامية والجامعات (المدنية) على حد سواء (باعتبارهما جامعات في العالم الإسلامي) وإن اختلفت بالطبع المنطلقات والمآلات.
وهذه الازدواجية في التعليم الجامعي بين جامعات إسلامية، وأخرى مدنية -أيًا كانت درجة وطبيعة حقيقتها ونطاق انتشارها- هي التجلي الراهن لما وقع ولما آل إليه حال الفصل بين العلوم الشرعية والعلوم الاجتماعية والإنسانية في ظل موجة التحديث (والتغريب) التي بدأت منذ أكثر من قرنين في العالم الإسلامي، وهي الموجة التي طالت مؤسسات أخرى إلى جانب مؤسسات التعليم، وعلى النحو الذي خلق مجموعات أخرى من الازدواجيات على مستوى المجتمع والدولة[5].
وإذا كانت المجموعة الأولى من الجامعات: أي الإسلامية من المفترض أنها تنطلق بالضرورة من مرجعية إسلامية ومن ثم تنال العلوم الشرعية نصيبًا وافرًا سواء كغاية في حد ذاتها أو كمدخل وتوطئة إلى جانب علوم مدنية، فيظل المحك بالنسبة لها هو كيفية الانتقال من “الشرعي” إلى “الواقع” والربط بينهما. وعلى العكس فإن المجموعة الثانية، أي ما يسمى الجامعات الحديثة أو المدنية في العالم الإسلامي، فهي بالأساس تتمحور حول “الواقع”. وتتنوع بالطبع المدارس المعرفية والنظرية والفكرية التي تعالج هذا الواقع، ولكن المؤكد، وهو الأمر الأكثر ظهورًا بالطبع في مجال العلوم الاجتماعية والإنسانية، أن المدارس والمنظورات السائدة في مجالات التدريس والبحث هي من إنتاج الخبرة “الغربية” برافديها الرأسمالي والشيوعي وبجناحيها الأمريكي والأوروبي وبمرجعياتها العلمانية الوضعية المادية؛ وهو الأمر الذي أفرز الحديث عن التحيز[6]، أو عن انسياب العلوم والمعارف وانتقالها من مراكز القوة المادية والهيمنة إلى المستويات الأدنى[7]، أو عن دوافع “إسلامية المعرفة” وأسبابها وآلياتها[8] أو عن الحاجة إلى “منظور حضاري” كأحد المنظورات المتقابلة والمتنافسة في مجال العلوم الاجتماعية[9].
ومثلت هذه الجهود المعرفية الكبرى، (التي انطلقت من دائرتنا الحضارية[10]، أطرًا كلية انبثقت عنها جهود تدريسية وبحثية، هي بمثابة استجابة (وليس مجرد رد فعل) لتحدي سيادة وغلبة المنظورات والمدارس “الغربية” على الحقول المختلفة، ولكنها بالطبع كانت الاستجابة التي تسبح ضد التيار والتي تمثل الاستثناء وليس القاعدة.
ومن هنا أهمية مشاركتي، كأستاذ علاقات دولية في كلية الاقتصاد والعلوم السياسية، جامعة القاهرة، في هذا المؤتمر، سعيًا لتحقيق عدة أمور.
وقبل توضيح هذه الأمور، تجدر الإشارة إلى أن عرضها –وإن اتصف بالعمومية- إلا أنها في الواقع نتاج خبرة عقدين في مجال العلوم السياسية وعلى صعيد كلية الاقتصاد والعلوم السياسية- جامعة القاهرة بصفة خاصة[11].
والأمور التي تنبني عليها هذه الدراسة يمكن تقسيمها في جزئين أساسيين: الجزء الأول: حول مفهوم المنظور الحضاري ودلالاته. ويتضمن هذا الجزء البحث في دوافع استخدام مفهوم “منظور حضاري” وأبعاد هذا المفهوم وخصائصه كمنظور وسطي (على الأقل وفق خبرة الباحثة في مجال العلوم السياسية- العلاقات الدولية)، وبيان كيف يمثل تراكمًا مقارنةً بمنظورات أخرى، ومن ثم كيف يمكن أن يمثل استجابة لاحتياجات الأمة الفكرية والعملية بقدر ما يمثل في نفس الوقت إسهامًا حضاريًا إنسانيًا في إنتاج المعرفة والعلم من داخل الدائرة الحضارية الإسلامية، وذلك في وقت تتنامى فيه عمليات مراجعة منظورات العلم الغربية.
الجزء الثاني: من التحديات إلى الفرص والإمكانيات. ويتضمن التحديات (والتهديدات) التي تواجه عمليات تطوير هذا المنظور الحضاري في جامعات الدول الإسلامية. كما يقدم هذا الجزء مقترحات لتفعيل الاستجابة للتحديات والتهديدات ولتعظيم الفرص والإمكانيات من أجل تدعيم دور “منظور حضاري إسلامي للعلوم الاجتماعية والإنسانية في الإسهام الحضاري الإنساني المعاصر.
وقبل التناول التفصيلي لموضوع الدراسة: المنظور الحضاري، يجدر القول إن اقتراب الدراسة هذا هو اقتراب جزئي نوعي؛ حيث إن المقصود هنا –وبناء على الخبرة المشار إليها- هو منظور حضاري في مجال العلوم الاجتماعية والإنسانية وليس منظور حضاري لإصلاح منظومة التعليم بأسرها في الدول العربية والإسلامية؛ حقيقة الأول يمثل جزءًا من الثاني، وحقيقة أدلت الباحثة بإسهامها في هذا المستوى الأخير[12]. إلا أن الإشكاليات التي يطرحها هذا الجزء أكثر كلية وشمولاً وتتصل بأمرين أساسيين: الأمر الأول هو الفلسفة العامة لتخطيط منظومة التعليم ورؤيته الاستراتيجية عن وظيفة ودور التعليم: إشكالية العلاقة بين القيمي والمادي التي تترجمها مجموعة الثنائيات من قبيل هل التعليم لمواجهة متطلبات واحتياجات سوق العمل والمتطلبات المادية للتطور أم استجابة أيضًا لاحتياجات العقل والمعرفة والقيم والأخلاق لمواجهة تحديات العمران الحضاري وليس مجرد تحديات التنمية الاقتصادية. والأمر الثاني الذي تتصل به هذه الإشكاليات هو دوافع تطوير وآلياته في ظل تدخلات الخارج المنبثق عن عمليات العولمة. ولذا، نجد –مثلاً- أن خطابات دوافع وتبرير تطوير النظم التعليمية تحفل بمفردات التعاون الدولي، المعايير الدولية، الانفتاح، التكيف مع العولمة، وفي المقابل تغيب مفردات أخرى تتصل بالذات الحضارية، مثل اللغة العربية، والموروث الحضاري، والعروبة والإسلام، والإرادة الوطنية والاستقلال الفكري، والقيم الأخلاقية… وهي المفردات التي تعكس تمسكنا بالهوية والذات الحضارية في مواجهة توجهات التذويب والتنميط. بعبارة أخرى –وكما سبق القول- فإن الأزمة الحضارية الشاملة التي تحيط بمنظومة التعليم، تجعل البعض يتحدث عن “أزمة التعليم” باعتبارها في جانب كبير منها أزمة هوية وأزمة حضارية، نتيجة التحديات الحضارية التي تعيق التنظيم الفاعل والرشيد للتعليم بل وتحول دون أن يكون التعليم ذاته سبيلاً لمواجهة التحدي الحضاري وتحقيق الأمن الحضاري. وافتقاد نظم ومقررات التعليم العالي بصفة خاصة لمنظور حضاري للعلوم الاجتماعية والإنسانية من أهم سمات وخصائص هذا الوضع الكلي. وهذا هو ما تتصدى له هذه الدراسة، ومن واقع خبرة محددة، وهي خبرة جماعية جرت على مدى ربع قرن في تخصص العلوم السياسية في كلية الاقتصاد، كما سبق التنويه.

الجزء الأول: حول المفهوم ودلالاته

خلال عقدين من خبرة التفاعل مع مشروع إسلامية المعرفة –الذي يديره المعهد العالمي للفكر الإسلامي- تعددت المشروعات المناظرة (وليس المتطابقة) تحت مسميات أخرى: أسلمة المعرفة أو إسلام المعرفة أو التأصيل الإسلامي للمعرفة أو التوجيه الإسلامي للعلوم.
وإذا كانت بعض أو معظم غايات هذه المشروعات -كما عبرت وثائقها- هي إعادة صياغة العلوم الاجتماعية والإنسانية صياغة إسلامية، أو التأصيل الإسلامي لمجال معرفي محدد، إلا أن مصطلح “منظور حضاري” هو مصطلح من تدشين ونحت د. منى أبو الفضل، وذلك بالتزامن مع تدشين أعمال المعهد العالمي في سنواته الأولى تحت شعار إسلامية المعرفة.
١- دوافع استخدام المفهوم وأبعاده:
وبدون التوقف عند أبعاد الجدال –من داخل الدائرة الإسلامية أو من خارجها- والتي مسّت في جانب منها غايات ومآلات عمليات الأسلمة وخاصة من حيث علاقتها بالعلوم الغربية[13]، أكتفي هنا بالتوقف عند ملامح موجزة لإسهام د. منى أبو الفضل حول “جدال المنظورات” ودوافع تقديم منظور حضاري للعلوم الاجتماعية والإنسانية بصفة عامة[14]. وهو الإسهام الذي انطلقت منه وأضافت وراكمت عليه خبرة بناء منظور إسلامي للعلاقات الدولية[15].
ولقد أصلت د. منى أبو الفضل المنظور الحضاري[16] والنموذج الحضاري التوحيدي مقارنة بالنموذج المعرفي الوضعي[17] ومنهاجية التعامل مع مصادر التنظير الإسلامي[18]، ناهيك عن مشروعها لنقد الفكر الغربي، وجميعها من مكونات عملية إسلامية المعرفة، إلا أن د. منى لم تتوقف بالتحديد في أعمال منشورة لنقد أو تقييم تصورات الفاروقي أو العلواني أو أبو سليمان. ولكن تكوينها الفكري والعلمي وخبرتها في مجال الفكر الغربي بكل روافده (المعرفية، الفلسفية، النظرية) وفي مجال العلوم السياسية والنظرية الاجتماعية بصفة خاصة، صبغت بصورة واضحة وجلية موقفها المنهجي من كيفية خدمة أهداف وغايات مشروع إسلامية المعرفة. ولعل من أهم الأدلة على تمايزها استخدامها لمفهوم المنظور Paradigm باعتباره الغاية التي ستصل إليها ما درج على وصفه بعمليات الأسلمة، وهي لم تستخدم مصطلح أسلمة أو إسلامية أو الصياغة الإسلامية للعلوم الاجتماعية والإنسانية ولكن استخدمت “المنظور الحضاري” وليس الإسلامي، تمييزًا منها بين الشرعي والحضاري. ولقد أضافت خبرة د. منى أبو الفضل على مستوى المنظور الحضاري وكيفية إحداث نقلة نوعية في منظورات العلوم يتمخض عنها منظور توحيدي من رحم العلوم الاجتماعية الغربية، إلا أن منى أبو الفضل لم تكتفِ بمراجعة جدال المنظورات على ضوء نقد الأسس المعرفية للفكر الغربي بل أسهمت في تطوير منهجية بديلة، وذلك بأن اهتمت بمنهاجية التعامل مع مصادر التنظير الإسلامي وذلك انطلاقًا من نقد قصور ما أسمته المنهاجية التقليدية الإسلامية عند التعامل مع الظاهرة الاجتماعية.
ومن ناحية أخرى؛ فلقد كان تركيز منى أبو الفضل على الجانب المعرفي والنظري أكثر وضوحًا وعلى نحو يبرز الرابطة بين المعرفي والمنهجي والنظري، ولذا؛ فإن فكرة الأنساق المتقابلة من أبرز إسهامات منى أبو الفضل، ليس على مستوى خطوة واحدة من خطوات عملية الأسلمة، ولكن على مستوى الناظم أو الرابط بين الخطوات. فإذا كانت كيفية الانتقال من نقد الغربي إلى نقد التراث مرورًا بالرؤية الإسلامية وصولاً إلى صياغة العلوم الاجتماعية صياغة إسلامية (سواء على مستوى الباحث الواحد أو على مستوى فريق بحثي متكامل المعارف) من أصعب العمليات المنهاجية التي تساءلتُ عن موضعها من فكر الرموز الثلاثة؛ فإن إسهام د. منى أبو الفضل حول أهمية مدخل المنظورات المقارنة والجدال بينها، والأنساق المعرفية المتقابلة بصفة عامة وحول مراجعة منظورات علم السياسة بصفة خاصة لتقدم لنا تصورًا واضحًا- عامًا وتطبيقيًا- عن كيفية التشبيك الفعال بين الخطوات في خبرة الباحث الرائد المتميز المعايش للقضية بكل ملكاته، مثل د. منى أبو الفضل.
فلم تكن إسلامية المعرفة مشروع مؤسسة مثل المعهد تساهم د. منى في إدارته مؤسسيًا ولكن كانت “إسلامية المعرفة” الفكرة والمنهج هو مشروع حياة د. منى أبو الفضل العلمي والعملي.
ومن ناحية ثالثة؛ فإن منى أبو الفضل لم تسد فقط الفجوة بين الخطوات على مستوى المعرفي والنظري فقط، ولكن يساعد إسهامها على سد الفجوة بينهم وبين حال الفكر وحال الأمة ذاتها إذ أنها ربطت بقوة بين الأسلمة وبين إصلاح حالة الأمة بل والتجديد الثقافي على المستوى العالمي والإنساني[19].
ولذا؛ فإن إسلامية المعرفة وفق تصور منى أبو الفضل عن منهاجية تطبيقها لا تفصل بين المنظور الحضاري للعلوم وبين إصلاح فكر الأمة وواقعها وبين تجديد العلوم الشرعية وكيفية الاستعانة بمصادر التنظير الإسلامية في التنظير الاجتماعي بصفة عامة.
ومن ناحية رابعة؛ يقدم إسهام منى أبو الفضل نموذج الأستاذ المتعدد المعارف والمنفتح على التخصصات المتكاملة، ولكن انطلاقًا من رؤية حضارية إسلامية تعرف محور ذاتها مقارنة بالنماذج المعرفية والحضارية المتقابلة (ولا نقول المتضادة أو المتصارعة). ومن ثم؛ فهي تقدم إسهامًا حضاريًا شاملاً وليس إسهامًا في مجال معرفي محدد أو إسهامًا إسلاميًا في تخصص محدد. فالإسلامي لديها هو الحضاري وليس الفقهي فقط ولكنه القيمي السنني وفق المفهوم الواسع للشريعة.
ويجدر في هذا الموضع الإحالة إلى بعض المصادر التي عالجت بوضوح الإشكاليات العامة المنهاجية عن أثر اختلاف الأنساق المعرفية على المنظورات المقارنة الغربية والإسلامية في مجال العلوم الاجتماعية والعلوم الإنسانية بصفة عامة ومنها العلاقات الدولية بصفة خاصة، كما تتضمن هذه المصادر تعريفًا ببضع الأبعاد النظرية المتصلة بدراسة هذه الاختلافات[20].
ويكفي بهذا الصدد أن أحيل أولاً إلى رؤية أ.د. منى أبو الفضل[21] حول أهمية الدراسة المقارنة للمنظورات الغربية وللجدالات بينها كسبيل للمراجعة التي تقود إلى طرح منظور إسلامي، وذلك على ضوء الاختلاف بين الأنساق المعرفية، ثم أحيل ثانيًا إلى أهم أبعاد الاختلاف بين خصائص النسقين المعرفيين ومصادر كل منهما. تعرف د.منى أبو الفضل النسق المعرفي Episteme بإنه القيم القاعدية والمعتقدات عن المعرفة والوجود ومصادرها، والتي تؤثر على أي مجال بحثي بدون الوعي بحدوث هذا التأثير على نحو ما. كما تعرف المنظور Paradigm بإنه هيكل الخطاب السائد من حيث النسق القيمي والإدراكي الذي ينظم التفكير في حقل ما، فيضع نطاق هذا الحقل وحدوده، ويحدد مفاهيمه ورؤاه العالمية ومعتقداته وقيمه ونظرياته.
وحول الرابطة بين اختلاف النسق المعرفي وأهمية دراسة جدال المنظورات تشير للآتي: إن مراجعة حقل علم السياسة من خلال دراسة المنظورات وجدالاتها يعد من أكبر سبل الدراسة تحديًا وصعوبة، ولكنه من أكثرها اتساقًا لإدراك معنى التنوع والاختلاف، وأكثرها مناسبة لتمهيد الطريق نحو طرح إسهامنا الذاتي في تطوير منظور يحمل بصمات ميراثنا الفكري وخبراتنا، فإذا كان قد آن الأوان ليشارك العلماء المسلمون في الجدال حول حالة الحقل لتحديد إمكانيات وأسس تطوره أو تحوله على ضوء منظورات بديلة، فإنه من الضروري للساعين نحو طريقة بديلة للنظر إلى العالم غير تلك السائدة؛ أن يزيدوا فهمهم بطبيعة ومضمون السائد منه؛ ولهذا من الضروري أن ينظروا نقديًّا لما يفعله الآخر، وذلك على ضوء ما يمكن أن يقدموه من بديل؛ ولذا؛ فإن النظر في جدال المنظورات يعكس ويبين عناصر التجانس في حقل ما ويشارك في تحديد درجة الاتفاق العام حول نطاقه وموضوعاته وقيمه وقواعده.
وفيما يتصل بخصائص كل من النسقين المعرفيين ومصادر كل منهما أكتفي أيضًا بالإحالة إلى د.منى أبو الفضل ود.المسيرى[22].
وفي رؤيته عن فقه التحيز يحدد د.المسيري خصائص النسق المعرفي الغربي كالآتي بأنه نموذج عقلانى مادي نفعي يتلخص في مقولة الواحدية المادية التي بدأت بأن الإنسان مركز الكون ثم تحولت إلى المطابقة بين الإنسان والطبيعة، لا يوجد فارق بينهما والجميع يسير في خط تطوري يسعى نحو الاتزان ولكن بتقدم مستمر لا تراجع فيه. هو نموذج بدأ – كما يقول المسيري بإعلان موت الله بإسم الإنسان ثم موت الإنسان بإسم وحدة الطبيعة، فهو لا يعرف المقدس أو المطلق أو الغائي ولا يوجد سوى اللذة والمنفعة وتعظيم المادى والتحيز له على حساب الإنسان، كما يتحيز للعام على حساب الخاص، وللمحسوس والمقاس كميًا على حساب الكيفي، ويتحيز للموضوعى والعقلانى على حساب الذاتى.
وإذا كان من الملاحظ أن وصف “الغربي” الذي استخدمه د.المسيري في حين صدور كتاب فقه التحيز (1992) كان ينطبق على الرافد المهيمن حينئذ والمسمى “الوضعى – العلمانى –المادى” إلا أنه كان يحجب رافدًا نقديًا كان قد بدأ في التبلور منذ نهاية الثمانينات وأخذ يترك آثاره على حالة النظرية الاجتماعية والعلوم السياسية والعلاقات الدولية، بصورة تدريجية متصاعدة (كما سنرى لاحقًا). ولذا أضحى هذا الوصف “الغربي” في فقه التحيز لدى المسيري يبدو كأنه يتجاهل نتائج حالة المراجعة الذاتية في المنظورات الغربية حينئذ التي إن أفرزت توجهًا قيميًا غير ماديًا إلا أنها تظل حبيسة الوضعية كما أنها لا تسود. ولذا تعرض مفهوم التحيز في حين بروزه لدى المسيري لانتقادات نظرًا لإسقاطه حالة المراجعة لإشكالية الذاتية والموضوعية، فضلاً عن عدم تبلور البديل – لدى المسيري- حينئذ مقارنة بما تراكم لديه بعد ذلك تحت مسمى “الإنساني” من مرجعية إسلامية.
ومن هنا يبدو أن طرح د.منى أبو الفضل حول الأنساق المتقابلة المعرفية والمتزامنة تقريبًا مع طرح فقه التحيز في منتصف التسعينيات قد بدا، حينئذ، أكثر توازنًا وتكاملاً لاعتبارين. فهو قدم مقارنة بين نسقين وبدون استخدام صفة الغربي أو الإسلامي. ويتخلص طرح د.منى وخاصة من حيث دلالته بالنسبة للظاهرة السياسية في الآتى:
إن منظور الأنساق المعرفية المتقابلة يعنى بإعادة طرح الخصائص التفصيلية للنظرية الاجتماعية المعاصرة تمهيدًا للبحث في الرؤيا البديلة للخطاب السائد. والأنساق المعرفية المتقابلة المقصودة لدى د.منى هما النظام المعرفي التوحيدي والنظام المعرفي التجريدى والذي اصطلحنا على نعته بالعلمانى أو “الأنسوى/ الطبائعى- العلمانى”. ومتواليات المنظومتين المعرفيتين تشكل بدورها أرضية نموذجين ثقافيين متجاورين عبر التاريخ. وهذان النموذجان هما: النموذج الثقافي الوسطي (Median Culture- Type) والذي يمثل جماع المتقابلات حول ميزان حاكم يضبط العلاقة بين النِسب والمقادير، وبين الكل والجزء، والمطلق والمقيد، والثابت والمتحول، والنموذج الثقافي المتأرجح (Oscillating Culture- Type) (وهو السائد في النظرية الاجتماعية) والذي يتذبذب حول طرفي نقيض عالم الروح وعالم المادة ومتواليات كل منهما، في غيبة المعيار الموضوعى وميزان الاعتدال. وتعرض د.منى للنماذج المتقابلة من خلال استراتيجية منطقية تسعى كما تقول د.منى – إلى تجاوز التنميط المعهود الذي يؤكد الفصام والمجابهة بين الغرب الإنجيلى الكلاسيكى بوصفه الذات العليّة (الإغريقية – الرومانية واليهودية- المسيحية) والشرق الإسلامي بوصفه الآخر – وهنا ينبغى الإشارة إلى تنوية مهم قدمته د. منى ويفسر عدم إستخدامها مصطلح “الغربي” وهو التنوية بطبيعة العلاقة بين الأنساق الثقافية المعيارية وبين الجماعات أو النماذج الحضارية التاريخية، فإن أي تلازم موضوعى بين الغرب التاريخى وثقافة المتأرجح، هي من باب التزامنات العارضة وليست من قبيل الحتميات أو الخصائص الأصلية. وعلى نفس المنوال، فإن المجتمعات الواقعة ضمن الحوض الحضاري الإسلامي والمنتمية تاريخيًا إلى النموذج الثقافي الوسطى، إنما تشكلت بفعل مبادئ أساسية يمكن للمجتمعات الأخرى أن تصل إليها وتقيم حياتها على أساسها. وهكذا فإن التوافق بين النموذج الثقافي الوسطى والمجتمع الإسلامي التاريخى يحتفظ بفاعلية ما دامت تلك الصلة التكوينية قائمة ومتماسكة، والعكس صحيح. أي أن خصائص التزامن قد ترجح على خصائص التكوين.
إن فهم طبيعة هذه العلاقة بين النموذج القياسي والنموذج التاريخى من الأهمية بمكان، حيث إنها، وفق د.منى تتيح استيعاب وتجاوز الثنائيات التاريخية، والاستقطابات التنميطية، والتي من شأنها تعميق الخلافات وتجذيرها، ومصادرة التاريخ وإهدار مقومات الحرية والمسئولية.
وتجدر الإشارة هنا –بعد هذا العرض الموجز عن دوافع تقديم منظور حضاري وأسباب أهمية أن هذه الدوافع وهذه الأسباب تتقاطع، وإن كانت لا تتطابق مع دوافع ومقتضيات مشروع إسلامية المعرفة، كما عبر عنها رموز وكوادر هذا المشروع؛ فإن الدوافع إلى إسلامية المعرفة هي بمثابة البيئة والإطار المحيط بعملية بناء منظور حضاري، وباعتبار هذا الأخير -منتجًا إبداعيًا مبنيًا على منهاجية عملية إسلامية المعرفة، كما عبر عنها الرموز والكوادر، إلا أنه يظل لمفهوم المنظور الحضاري -كما يتبين من تأصيله ومن تطبيقاته في مجال النظم المقارنة والعلاقات الدولية- متمايزة؛ حيث إنه ينطلق ابتداء من نقد المنظورات الغربية وعلى ضوء دلالات النماذج المعرفية المتقابلة (التوحيدي/ العلماني).

٢- خصائص منظور حضاري إسلامي للعلوم الاجتماعية والإنسانية: الوسطية بين القيمي والواقعي، بين النص والواقع بين الأحكام والقيم والسنن (العلاقات الدولية نموذجًا):
انطلاقًا من طبيعة النسق المعرفي الإسلامي وخصائصه، بالمقارنة بالغربي والسابق توضيحهما وما تعرض له الأخير من انتقادات سواء من داخله أو من خارجه، حول مصداقية عالميته ومدى إطلاقه من عدمه، وانطلاقًا من الرؤية للعالم وللوجود الخاصة بكل من النسقين، لا يمكن أن نقبل أن المنظورات المنبثقة عن النسق المعرفي الغربي، هي فقط التي تتمتع بالعلمية والموضوعية أو العالمية، ولكن لابد وأن نقول بإمكانية وجود منظورات أخرى ذات طبيعة مختلفة نظرًا لاختلاف الأنساق المعرفية.
ومن ثم؛ فأمام مادية ونفعية وعقلانية المنظورات الغربية السائدة، لابد وأن نسجل أن منظورًا إسلاميًّا لدراسة العلاقات الدولية هو منظور قيمي ذو طبيعة خاصة.
ولهذا الوصف مبرراته ومؤشراته التي توضح أيضًا الفروق مع المنظورات الغربية الوصفية العلمانية، المادية منها والقيمية على حد سواء. وهنا نستطيع أن نرصد مجموعة من الإشكاليات المنهاجية، وكيفية التعامل معها:
1- إشكالية العلاقة بين الثابت والمطلق وبين المتغير:
أي إشكالية العلاقة بين مصادر المنظور سواء الأصول الثابتة أو الاجتهاد المتغير، وما تطرحه من إشكالية العلاقة بين الوحي والعقل في ظل معطيات الواقع ومتطلباته المتغيرة[23].
وهذه الإشكالية المتعددة الأوجه حول مصادر المنظور فرضت ثلاثة مسارات منهاجية:
المسار الأول: إن مصادر بناء منظور إسلامي للعلاقات الدولية لابد وأن تنطلق من أساس شرعي سواء أحكام قاطعة أو منظومة القواعد والمبادئ والأسس العامة التي أوردتها الأصول بشأن العلاقة بين المسلمين وغيرهم وفيما بينهم.
ولذا، كانت نقطة البداية في مشروع العلاقات الدولية في الإسلام هي دراسة: “الأساس الشرعي والمبادئ الحاكمة للعلاقات الخارجية في الإسلام”[24]؛ وهي تنطلق في دراسة هذا الأساس الشرعي من أن المسلمين، بغض النظر عن شكل التنظيم السياسي الذي يجمعهم (أمة في دولة واحدة، عدة دول، جماعة)، مأمورون -بُناء على عموم وشمول الشريعة- بالاتصال بغيرهم لتوصيل الدعوة، وذلك بناء على أسس معينة تمثل الأساس الشرعي المستمد من الأصول. وتقوم هذه الدراسة على مناقشة الاتجاهات الفقهية الثلاثة الكبرى حول تأسيس أصل العلاقة بين المسلمين وغيرهم وصولاً إلى تقديم اجتهاد يتبنى “الدعوة” كأصل لهذه العلاقة. ومن المبادئ والأسس الحاكمة لهذه العلاقات وحدة الإنسانية، وما يترتب عليها من مبادئ المساواة والعدل، ومبدأ الوفاء بالعهود وما يترتب عليه من مبادئ واجب النصرة وعدم المعاملة بالمثل عند الإخلال بالعهود، وأخيرًا مبدأ الولاء والبراء.
المسار الثاني: هو تأسيس مصادر المنظور على منظومة القيم الحضارية التي يتضمنها الإسلام؛ ولذا كانت المحطة المنهجية الثانية في المشروع هي مدخل القيم كإطار مرجعي لدراسة العلاقات الدولية في الإسلام[25].
فبعد نقد مفهوم القيم في الفكر الغربي، وفي الفكر الإسلامي على حد سواء، وبعد بيان مبررات الحاجة لرد الاعتبار للقيم في مواجهة ما يسمى العقلانية الرشيدة والعلمية الموضوعية ضمن منظومة البحث في العلوم الاجتماعية والإنسانية، وبعد عرض أبعاد الحاجة لإعادة تأصيل مفهوم القيم وإمكانياته، يتضح لنا كيف أن هذه المحطة المنهاجية الثانية في المشروع تنبني على المقومات التالية: من ناحية: النظر إلى القيم باعتبارها الروح السارية في البنية المعرفية للرؤية الإسلامية، ولهذا؛ فهي مفهوم حضاري، هي مدخل منهاجي، هي إطار مرجعي، هي نسق قياس، هي تأسيس لرؤية كلية للعالم، هي نموذج إرشادي ومعياري. ومن ثم؛ فإن القيم -لهذا الاعتبار- تصبح مفهوم مظلة مفهوم منظومة، مفهوم جامع، مفهوم واصل، مفهوم شامل أي أنها ليست مجرد مثاليات أو تنظيمات تجريدية، ولكنها عملية تأصيل، وعملية تحريك، وعملية تفعيل، وعملية تشغيل. ولذا؛ فإن هناك علاقة حميمة وفق هذه الرؤية بين القيمة والممارسة بين النظر والحركة، بين الفكر والعمل والعلم.
ومن ناحية أخرى: تقديم منظومة قيمية تتكون من سبع مفردات: العقيدة الرافعة، الشرعة الدافعة، القيم التأسيسية الحاكمة، والقيم الوسطية، والقيم المولدة، الأمة الجامعة، الحضارة الفاعلة الشاهدة، السنن الشرطية، المقاصد الحافظة.
وجميع هذه المفردات تناظر ثلاث مجموعات جرت التصنيفات وفقًا لها في الدراسات النظرية الدولية المعاصرة وهي:
عناصر الرؤية للعالم، القوى المحركة ومجالاتها، وحدات الدراسة ومستواها.
وتحليل جميع هذه المفردات يطرح أمامنا عناصر المفارقة بين الرؤية التأسيسية والتأصيلية التي تجد حجيتها في المصادر التأسيسية الثابتة وبين الرؤى الاجتهادية التي تجد حجيتها في الواقع والإمكانات المتغيرة.
ومن ناحية ثالثة: تقديم نماذج التشغيل (الانتقال من الأصل إلى الواقع) ونماذج التفعيل (قياس الواقع على الأصل) لهذه المنظومة القيمية السباعية في مجالات عدة: مثل تأصيل العلاقة في الدعوة، إعادة بناء مفهوم القوة، مفهوم الحرب، أسس تصنيف الدور.
المسار الثالث: وإلى جانب الأبعاد المنهاجية الخاصة بالأساس الشرعي والأبعاد المنهاجية الخاصة بالأساس القيمى الحضاري، لابد وأن ينبني منظور إسلامي للعلاقات الدولية على خبرات منهاجية في التعامل مع مصادر دراسة الأصول إلى جانب المصادر التراثية المختلفة. ولذا؛ فإن مشروع العلاقات الدولية في الإسلام يتضمن جزئين منهاجيين آخرين؛ وهما الجزء الثالث[26] والسابع[27]. ويتضمن الأول تسجيل دقيق وحيّ لخبرة فريق البحث في التعامل مع كتب الفقه والسيرة والتفاسير فيما يتصل بدراسة العلاقات الدولية في الأصول الإسلامية، ولتحديد الاتجاهات الفقهية الكبرى حول قضايا وموضوعات محددة مثل الحرب، والسلام، الدولة. وتنبع أهمية هذا الجزء المنهاجي من أنه يقدم خبرة متخصص العلوم السياسية بفروعها المختلفة (القانون الدولي، النظرية والفكر، والنظم) في التعامل مع هذه المصادر، على نحو يساهم في محاولة سد الفجوة التي يعاني منها مثل هؤلاء المتخصصين؛ أي الفجوة بين دراسة العلوم الاجتماعية والعلوم الشرعية والإسلامية. أما الجزء السابع؛ فهو يتضمن الخبرة المنهاجية للتعامل مع مصادر دراسة التاريخ الإسلامي اللازمة لمتابعة تطور وضع الأمة في النظام الدولي مقارنة بالخبرة المنهاجية للدراسات النظمية الدولية (الغربية) التي تعاملت مع التواريخ الغربية.
وأخيرًا، وعلى ضوء ما سبق، يمكن القول إن إشكالية الثابت والمتغير بين مصادر المنظور تحمل أبعادًا منهاجية مهمة لدراسة العلاقات الدولية من منظور إسلامي، وتحمل دلالات أكثر أهمية بالنسبة لطبيعة المنظور ذاته. فالإطار الشرعي أي إطار الاحتكام إلى المرجعية تتطلب دراسته أدوات منهاجية خاصة لازمة للرجوع إلى شروح الأحاديث وكتب التفاسير، كما يتطلب خطوة لاحقة وأساسية؛ وهي تقديم اجتهاد معاصر على ضوء التراث الفقهي باتجاهاته المختلفة حول القضية الكبرى التي لابد وأن ينبني عليها المنظور؛ ألا وهي قضية أصل العلاقة أي المحرك الأساسي للعلاقات والقواعد والمبادئ والأسس العامة التي تحكمها (كما سنرى لاحقًا). وبالمثل؛ فإن الأساس القيمي الحضاري يتطلب، بعد تأسيس النموذج، تشغيله وتفعيله في دراسة القضايا، وإعادة بناء المفاهيم وتحديد أجندة الاهتمامات.
وفي المقابل، وبالنظر إلى مصادر المنظورات الغربية الكبرى، سواء الواقعية أو التعددية أو الهيكلية وجذورها الفلسفية والفكرية، نجد أنها مصادر بشرية متغيرة نابعة من خبرة الفكر السياسي الغربي. ومع ذلك؛ فإن هناك اتجاهًا إلى إرجاع روافد هذه المنظورات وتنويعاتها إلى مدارس فكرية وفلسفية ثلاثة كبرى، والخصائص الكبرى لكل مدرسة تمثل القاسم المشترك الأساسى بين روافد المنظور الواحد الذي ينبثق عنها، وهي الروافد التي تبلورت عبر تاريخ هذا المنظور.
2- إشكالية العلاقة بين منظور إسلامي قيمي وبين الواقع:
المنظور الحضاري الإسلامي -وإن كان قيميًا بحكم مصادره وطبيعته- إلا أن الرؤية التي يقدمها حول العالم المحيط إنطلاقًا من الأساس الشرعي، ومن منظومة القيم ومجموعة القواعد والمبادئ، ليست رؤية تقرر ما يجب أن يكون فقط، ولكن هي ذات صلة كبيرة بالواقع؛ ذلك لأن للقيم دورًا ووظيفة في الرؤية الإسلامية، كما أن هذه القيم ذات طبيعة مختلفة عن نظائرها الغربية؛ لأن القيم في منظور إسلامي هي إطار مرجعي، هي مدخل منهاجي، هي نسق لقياس الواقع لتفسيره وتقويمه وتغييره.
وهنا يبرز لنا سؤالان: كيف تختلف القيم في منظور إسلامي لدراسة العلاقات الدولية عنها في منظور غربي يهتم بالقيم؟ وما انعكاسات هذا الاختلاف على الموقف من الواقع؟
بالنسبة للسؤال الأول، حددت د. ودودة بدران أبعاد هذا الاختلاف حول مصدر القيم ومستواها ونطاقها ودرجة إلزامها وعلاقاتها على النحو التالى[28]:
1. نظرًا للاختلافات الفكرية بين الباحثين المؤيدين لأهمية دور القيم في العلاقات الدولية، فليس هناك تعريف مشترك لما هو أخلاقي كإطار عام للتحرك الدولي. إن مشروع العلاقات الدولية في الإسلام يمكن أن يوضح حدًا أدنى من الاتفاق حول ماهية القيم، فالقيم التي يمكن أن تحكم العلاقات الدولية محددة بالكتاب والسُنّة، كذلك فإن الأخلاق في الإسلام ترتبط بمفهوم السنن، وتحديدها مرتبط في الإسلام بالمصلحة والمنفعة للعباد في النهاية.
2. يثير الباحثون المهتمون بموضوع القيم قضية العلاقة بين الأخلاق الفردية والأخلاق الجماعية الدولية، فيرى البعض إمكانية القياس، أما البعض الآخر فيرى عدم إمكانية القياس. ويلاحظ هنا أن إثارة مشكلة القياس الجماعي على الفردي ترتبط بغياب التنظيم الجماعي في الثقافة المسيحية المستمدة من الدين المسيحي. أما الإسلام فقد نظم الاثنين كلاً على مستواه وبالتالي فإن دراسة العلاقات الدولية في الإسلام يمكن أن يوضح أنه لا توجد حاجة للقياس والخلط، فهناك الاثنان وكل منهما له قواعده.
3. إنه مع اعتراف بعض الباحثين بأهمية القيم في السياسة الخارجية إلا أنهم يؤكدون أنه لا توجد مبادئ مجردة وعالمية (إلا في بعض الحالات الاستثنائية) تحكم السياسة الخارجية. إن بحث العلاقات الدولية في الإسلام يمكن أن يوضح وضعًا مخالفًا تمامًا، فنظرة الإسلام للعالمية تناقض هذه النظرة الغربية فالحرام شرعًا يتجاوز الزمان والمكان ويستمد حدوده من الوحي مع مراعاة تغير الظروف. أي أن مشروع العلاقات الدولية في الإسلام يمكن أن يوضح أن الأخلاق الإسلامية في التعامل الدولي هي الأساس والخروج عنها هو الاستثناء.
4. يرى بعض المؤيدين للاهتمام بالبعد القيمي في تحليل العلاقات الدولية أن الانتقال المنهجي يكون مما هو قائم إلى ما يجب أن يكون وليس العكس. وفي هذا الصدد توضح بعض الأدبيات الغربية أن أخلاقية صانع القرار هي أخلاقية مسئولة وليست أخلاقية اقتناع، أي أن ما يقتنع أو يؤمن به السياسي يجب أن يخرج إلى حيز الواقع بعد مروره بحسابات التكلفة، فما هو جيد في الحسابات السياسية يرتبط بما هو ممكن. إن دراسة العلاقات الدولية في الإسلام يمكن أن توضح نمطًا مختلفًا لمثل هذا التوجه، فنقطة البداية هي المنهج الإسلامي الذي يمكن أن نقيس عليه الواقع.
أما بالنسبة للسؤال الثاني، وكما سبق واتضح لنا من الإطار القيمي الحضاري أن منظومة القيم في منظور إسلامي لدراسة العلاقات الدولية هي بمثابة الإطار المرجعي، المدخل منهاجي وكذلك النسق لقياس الواقع بناء عليه؛ وذلك لتفسيره وتقويمه وتغييره.
ولهذا، وكما يقول البعض[29] عن غايات التنظير من منظور حضاري إسلامي: فإن هذه الغايات لا تنفصل عن فقه الواقع، فهذا الفقه منطلق أساسي في هذا المنظور، ولكن مع عدم الفصل بينه وبين فقه الحكم الشرعي. بعبارة أخرى، لا يعرف المنظور الحضاري الإسلامي فصلاً بين الممارسة المتغيرة، والبعد القيمي الثابت الذي يتم الاحتكام إليه دائمًا عند التفسير وعند التقويم وعند التدبر وعند التغيير: فإذا كان فقه الحكم الشرعي، ومنظومة القيم والقواعد والمبادئ هي الميزان؛ فإن الواقع هو الموزون الذي يدور حوله أعمال العقل والتجريب والاجتهاد والتجديد وفي المقابل؛ فإن المنظورات الغربية لا تحوز هذا الميزان القيمي. ولهذا؛ فإن المنظور الإسلامي يعد وسطًا بين أقصى المثالية القيمية التي تقدم الفكرة والقيمة لذاتها وبين أقصى المادية التاريخية الملتزمة بالتجريب والتي تريد الحفاظ على الواقع القائم في إطار التوازن (هذا ولقد سبق وأشرنا إلى خصائص النسق المعرفي الإسلامي الذي ينبثق عنه مثل هذا المنظور ذو الطبيعة القيمية – غير المنفصلة عن الواقع).
ولهذا أيضًا؛ فلا يمكن القول إن منظور إسلامي لدراسة العلاقات الدولية هو مجرد منظور مثالي يوتوبي؛ لأنه يقرر ما يجب أن يكون عليه حال هذه العلاقات، في حين: أن هذه المثالية، لم تنطبق -كما يتصور البعض- إلا 40 عامًا فقط؛ ذلك لأن هذا المنظور بقدر ما يحدد الغايات، فهو بحكم طبيعة مصادره يحدد أيضًا ضوابط الحركة وشروطها التي تحكم بدورها النتائج. بعبارة أخرى، هو ليس مثالي أخلاقي بالمعنى الضيق، ولكنه متصل بالسلوك وبأبعاد الاستخلاف في الواقع، ومن ثم؛ فإن فقه هذا الواقع لا يقل أهمية عن فقه الأساس الشرعي والأساس الحضاري القيمي. ولكن وبدلاً من الانطلاق من الواقع فقط ونحوه بدون نسق قياس فإن منظومة القيم الإسلامية (كمدخل منهاجي وإطار مرجعي كما أوضحنا) تمثل الإطار الجامع الكلي المحيط بالسلوك ضبطًا لكل من المادية المفرطة والعقلانية والتجريبية الجامدة والتي تفتقد معها الرؤى والتحليلات كل منطق أو هدف غير مادي. ولذا يصبح مثلا الجهاد قيمة وليس مجرد أداة، وتصبح حقوق الإنسان ضرورة وليس قضية.
هذا ويتضح؛ أن هذا التحديد والتوصيف لطبيعة المنظور الإسلامي كمنظور قيمي ذي طبيعة خاصة (بمعنى أنه لا ينفصل عن الواقع وعن المادي) إنما يمثل ردًا على بعض أوجه الرفض والنقد السابق ذكرها النابعة من رؤية تحبس الدين في أماكن العبادة، وترفض أن يكون هناك علاقة بين العقل والوحي وذلك على ضوء فهم محدود للعقل وللدين تحت تأثير الخبرة التاريخية الأوربية المسيحية، ولا تفهم حقيقة الإسلام كعقيدة ودين ونظام حياة ومنظومة قيم وسنن وأحكام، ومن ثم فإن هذه الرؤية تنغلق في معنى ضيق للمنهاجية الإمبريقية التي تتطابق مع المفهوم الضيق للعلمية ولا تنفتح على المراجعة الراهنة لهذا المعنى للعلمية. وهي المراجعة الداعية لعدم الفصل بين المنهج العلمى والقيم على نحو يجدد منه (التي تتطابق مع المفهوم الضيق للعلمية ولا تنفتح أي الذي يجدد آفاق النظرية المعيارية، القيمية الغربية)، وهذه النظرية لا تعترف ـ في نفس الوقت ـ بعد التناقض بين الوحى وبين العقل والعلم في حين أن معرفة الواقع التجريبي كما اتضح في المراجعات ليست حسا ماديا فقط ولكن تنطلق من رؤية للواقع وللحقائق ليست هي الحقيقة في ذاتها، كذلك فإن الوحي في الخطاب القرآني لا يقوم على الغيب فقط ولكن على الواقع المحسوس المشهود[30].
أما على الصعيد المقابل أي المنظورات الغربية الوضعية (المادية وغير المادية): ماذا كانت المثالية التقليدية (التي سادت مرحلة ما بين الحربين العالميتين) وكذلك المثالية الحديثة (التي ظهرت خلال مرحلة ما بعد السلوكية ممثلة في روافد الاهتمام بالنظام الدولي الجديد new international order أو رافد الاعتماد المتبادل الاقتصادي المتفائل أو المجتمع العالمي) قد تجادلت مع الواقعية التقليدية ومع الواقعية الجديدة[31]، إلا أن بعض الاتجاهات التنظيرية قد نحت إلى انتقاد الإفراط في الواقعية وكذلك الإفراط في المثالية (من حيث مصداقية وشكل العلاقة انفصالا أو تطابقا بين القيم والمعيار وبين الواقع ولذا وصف هذا الاتجاه المنظور الوسط بأنه المثالي ـ الواقعي[32]. بعبارة أخرى هناك اتجاه لمراجعة التقاليد المنهجية في ظل إشكالية العلاقة بين “المثل” وبين الواقع وكذلك في ظل إشكالية العلاقة بين “المثالي والمادي”.
وهنا يقدم اقتراب النظرية الاجتماعية في دراسة العلاقات الدولية توضيحًا مهمًا مقارنًا. فوفق طرح البعض من متخصصي العلاقات الدولية الذين اجتهدوا من هذا الاقتراب فإن المنهج البنائي في دراسة العلاقات الدولية هو نتاج هذا الاقتراب، وهو ملتصق بالواقعية وإن كان بمثابة مثالية هيكلية. وهو يرى السياسات الدولية كبناء اجتماعي تؤثر فيه الأفكار ولقد تسارع تبلور هذه الرؤية بعد نهاية الحرب الباردة، وهي تختلف عن الرؤيتين المادية والفردية ولها انعكاساتها على كيفية دراسة نظريات السياسات الدولية (من حيث الفواعل والدوافع) وهي تقوم على شرح أربع ثنائيات إحداها هي ثنائية المادي – المثالي[33].
كذلك ـ وكما سبق الإشارة فهناك أيضًا اتجاه لمراجعة التقاليد المنهجية في ظل إشكالية العلاقة بين الإمبريقي وبين القيمي فهناك اتجاهات تراجع الإمبريقية المفرطة مؤكدة على عدم إمكانية الفصل بين العلمي وبين القيمي في المنهجية[34] ومع ذلك يظل الدين -لدى هذا الاتجاه- ليس في قلب -إن لم يكن في خارج- مصادر منظومة القيم موضع الاهتمام. فضلاً عن محدودية نطاق القيم التي تترادف في معظم الأحيان مع الأخلاق أو المعنوي Ethics le moral، ناهيك عن اعتبارها مجرد متغير من المتغيرات أو مدخل منهجي وليس إطار مرجعي أو نسق قياسي ذي قوة إلزامية بحكم مصدره كما هو الشأن مع منظومة القيم في منظور إسلامي.
خلاصة القول وبناء على ما سبق؛ فإن هذه الطبيعة الخاصة لمنظور إسلامي لدراسة العلاقات الدولية باعتباره منظورًا قيميًا- واقعيًا، لابد وأن تنعكس على مستويات تحليلية مختلفة: نظمية كلية أو جزئية خاصة بمفاهيم أو أحداث معينة أو رؤى حول مواقف محددة،.. وهكذا فنجد مثلاً أن تشخيص وتفسير واقع وضع الأمة الإسلامية في النظام الدولي إنما يكون قياسًا على المدخل السباعي للقيم السابق شرحه قربا أو بعدًا من القيم المختلفة التي تحكم العلاقات بين المسلمين وغيرهم بقدر ما تحكم العلاقات فيما بينهم أيضًا وبقدر ما تحكم سياسة الدولة الواحدة في نطاق الأمة (كما سنرى لاحقًا).
وعلى صعيد آخر فإن هذه الطبيعة الخاصة لمنظور إسلامي كمنظور قيمي تنعكس على المفاهيم الأساسية للمنظور من جانب وعلى المفاهيم المقارنة مع المنظورات الغربية. من جانب آخر فإذا كانت مفاهيم التوحيد، الدعوة، الجهاد، العمران، الاستخلاف مفاهيما أساسية خاصة فإن المصلحة والقوة والصراع على سبيل المثال من المفاهيم المقارنة التي تحملها رؤية إسلامية بمضامين تختلف عما تحمله لها رؤية غربية واقعية كانت أو ماركسية مثلاً (كما سنرى لاحقا بقدر أكبر من التفصيل.
وعلى صعيد ثالث نجد أيضًا -كما سنرى لاحقًا- أن وظائف الدولة الإسلامية الخارجية، ومصالح الأمة أو الدول، وأدوات تحقيق هذه المصالح وحمايتها، عوامل القوة والضعف، تحمل جميعها أبعادًا غير مادية (قيمية) إلى جانب الأبعاد المادية التقليدية موضع الاهتمام الأساسي والغالب في المنظورات الغربية.
وأخيرًا، قد يتضح مما سبق أننا لا نتحدث عن وضع القيم في دراسة العلاقات الدولية من منظور إسلامي ولكن نتحدث عن طبيعة منظور إسلامي لهذه الدراسة باعتباره منظورًا قيميًا انطلاقا من أساسه الشرعي ومن مدخله القيمي كإطار مرجعي ومدخل منهاجي ومن هنا موطن تميزه عن منظورات أخرى.
بعبارة أخرى نحن لا نتكلم فقط عن الإسلام -كعقيدة وحضارة- باعتباره مصدر للقيم والأخلاق التي يمكن أن ينبني عليها النظام الدولي ويشترك فيها المسلمون مع العالم. ولكن نحن نتحدث عن مستوى آخر وهو منظور للعالم حول قضاياه وتفاعلاته ومتغيرات تشكيله انطلاقا من إطار مرجعي شرعي- قيمي يحكم الواقع ويفسره ويقوِّمه بل ويحدد شروط تغييره. هذا الإطار المرجعي ليس اختياريًا ولكن إلزاميًا بحكم مصادره الثابتة التي انبثقت عنها تيارات اجتهادية ومتنوعة عبر الزمان والمكان.

٣- المنظور الحضاري منظورًا وسطيًا يحقق تراكمًا معرفيًا في ظل مراجعة حالة النظرية الاجتماعية الغربية الوضعية:
إن المنظومة المعرفية والقيمية للإسلام –والنابعة من عقيدة التوحيد- والتي تعكسها رؤية العالم في الإسلام، التي ترتكز بدورها على طبيعة النسق المعرفي الإسلامي، إن هذا الكل المترابط من الأبعاد العقيدية، المعرفية، القيمية يمكنه أن يقدم الكثير للعالم الحديث سواء على المستوى المعرفي والأكاديمى ابتداء أو على مستوى الرؤى الكلية عن قضايا التنمية ومقاومة الظلم والاستبداد والعدوان، والتعارف والتواصل مع الآخر… وغيرها من القضايا التي تقع في صميم إعادة تشكيل التوازنات الإقليمية والعالمية الجارية، والتي تتحكم في خيوطها وتهيمن عليها حاليًا قوى ذات رؤى واقعية – براجماتية تحركها المصالح المادية أساسًا فتفقد إنسانيتها وروحها. وفي المقابل، لا تجد تلك الرؤى عن إسهام الإسلام الحضاري القوى الداخلية أو الخارجية التي تضمن له النفاذية والشيوع وتتبناه كأساس لتحقيق مصالح ملموسة.
وفي المقابل فإن الإسلام والإنسانية صنوان وإذا كانت بعض الدعاوى والحركات الواقعية المصلحية تتذرع أيضًا باسم الانسانية، فهي الإنسانية وفق النموذج الوضعي المادى الذي جعل من الإنسان مادة ومنفعة ومكسبًا مجردًا من أسسه الروحية والإيمانية والقيمية والأخلاقية. أما الإسلام ورؤيته للعالم وللعلاقات بين الأمم والشعوب فمدخله هو القيم بالمعنى الواسع.
وبناء على التأصيل المعرفي والفلسفي والنظرى التي أفاضت فيه الدراسات والبحوث التي تنظر إيجابًا لما يستطيع أن يقدمه الإسلام للعالم، ليس اليوم فقط ولكن منذ أن بدأت الرسالة –وانطلاقًا نحو مجالات محددة لبيان كيفية تفعيل وتشغيل المجرد أو المثل أو الأصل، فيمكنني التوقف عند الملامح التالية:
بالنظر إلى خصائص مراجعة النظرية الاجتماعية بصفة عامة ونظرية العلاقات الدولية بصفة خاصة (التي تندرج على صعيدها الأبعاد النظرية لموضوع هذه الدراسة) من ناحية، وبالنظر من ناحية أخرى إلى سمات الأزمة التي يمر بها علم العلاقات الدولية في المرحلة الراهنة من تطوره، وبالنظر ثالثًا إلى دعوات متكررة من بعض منظري العلاقات الدولية الغربيين إلى ضرورة تعدد المنظورات الحضارية للعلم حتى تتحقق عالميته[35]، يمكن أن تتضح لنا مبررات تقديم منظور حضاري إسلامي للعلاقات الدولية، بمقدوره مقارنة بمنظورات العلم الأخرى، أن يحقق تراكمًا في حالة العلم، يساعد على علاج بعض ملامح أزمته الراهنة. ناهيك عن إسهامه في تقديم رؤى تغييرية لواقع النظام الدولي وحالة الأمة الإسلامية.
وتتلخص الخصائص التي أظهرتها المراجعات كالآتى:
· التغير المستمر في المنظورات مع التغير المستمر والمعقد في الواقع الدولي بدعوى الاستجابة لمتطلبات دراسة هذا التغير والتأثير على مساره، وهو الأمر الذي أدى إلى فوضى المنظورات المتنافسة والمتقابلة وعلى نحو دفع للتساؤل عن عواقب الافتقاد للثابت، وهل هي منظورات لجوانب مختلفة من عالم واحد أم هي رؤى عن عوالم مختلفة، وهل يحقق هذا التغير أهداف حركية للقوى المهيمنة سياسيًا وفكريًا ونظريًا؟ أي لماذا هذا المسار في التحول من أولوية السياسي – العسكري إلى الثقافي الحضاري مرورًا بالاقتصادي؟
· مشاكل الاستقطاب الثنائي للمنهاجية بين العلمي والقيمي ومن ثم بروز الدعوات التوفيقية أو الوسطية حول إمكانيات الدراسة العلمية دون استبعاد القيم والثقافة (أو الذاتية بصفة عامة) ومن ثم الحديث عن الواقعية – القيمية أو القيمية الواقعية أو المثالية- الواقعية.
· انتقاد الجزئية والاختزالية عند تناول الظاهرة الدولية المعقدة والمركبة سواء بالتركيز على الأبعاد العسكرية أو الاقتصادية أو الثقافية أو بالتركيز على الأبعاد المادية دون غيرها، وهو الأمر الذي يحول دون الفهم العميق والدقيق للتحولات الجارية والمستقبلية، ومن ثم الحاجة إلى رؤية كلية تستدعي بالضرورة إسقاط الحدود بين علم العلاقات الدولية والعلوم الاجتماعية والإنسانية الأخرى، وتفعيل التعاون البيئي.
· لماذا هذا التأرجح بين أولوية الصراع بين القوى والمصالح والحروب وبين أولويات آليات الاعتماد المتبادل أو تجانس المصالح؟ وماذا عن منظومة أو نسق هذه العمليات والعلاقات بينها؟
· وأخيرًا لماذا اتجاه منظورات العلم –فيما يتصل بالحركة– للحفاظ على الوضع القائم باسم الحفاظ على الاستقرار.

خلاصة القول: إن السبيل إلى رؤية كلية للظاهرة الدولية تجمع بين الجزئي والكلي، وبين المادى وغير المادى، وبين الداخلي والخارجي، وبين العقلانية والقيمية، أي أن السبيل إلى رؤية كلية عن المحتوى والمنهاجية هو منظور إسلامي.
إن منظور إسلامي لدراسة العلاقات الدولية هو منظور قيمي – واقعى ذو طبيعة خاصة. وترجع خصوصية هذه الطبيعة إلى تميز مصادره وأصوله عن نظائرها في المنظورات الغربية، وهو التميز الذي يرجع بدوره لاختلاف طبيعة النسق المعرفي. هذا، وتنعكس هذه الطبيعة القيمية الخاصة بدرجة كبيرة على منهجية المنظور وأدواته وعلى افتراضات المنظور ومقولاته حول الأبعاد الأساسية لدراسة العلاقات الدولية: أصل العلاقات ومحركها، الفواعل ووحدات التحليل ومستوياته، نمط قضايا العلاقات الدولية وتفاعلاتها محل الاهتمام، نمط التفاعلات، العلاقة بين الداخلي والخارجي وبين المادى وغير المادى في تفسير الأحداث والتطورات.
إن هذا المنظور القيمى لدراسة العلاقات الدولية ليس مجرد طرح نظرى – مثالى لا يصف الواقع أو يفسره، كما أنه لا يهدف إلى تكريس هذا الواقع والحفاظ على الوضع القائم ولكن ينطلق من نظام معرفي متكامل، وفي ظل خبرة تاريخية ممتدة وذلك نحو تقييم الواقع وتفسيره سعيًا لتغييره، انطلاقًا من رؤية كلية شاملة للأبعاد المادية وغير المادية، الواقعية والمثالية، الداخلية والخارجية السياسية منها أو الاقتصادية أو العسكرية أو الثقافية على حد سواء.
ويقدم هذا المنظور منظومتان للمفاهيم[36]: الدعوة– القوة– الجهاد، ومنظومة الأمة– الجماعة– الدولة، وهما منظومتان مرتبطتان يقدمان رؤية للعالم تحدد القوى المحركة للتفاعلات وأدواتها ووحدات ومستويات التفاعلات، على نحو يجمع في وحدة وتوازن وتجانس بين الثنائيات المتضادة التي تغلب على المنظورات الأخرى. فعلى سبيل المثال وفيما يتصل بالمنظومة الأولى فإن الانطلاق من مفهوم الدعوة وليس صراع القوى أو المصالح يرتبط به مفهومًا مقارنًا للقوة، ينتقد الأسس الفلسفية المادية لمفهوم القوة الواقعية والذي جعل من القوة غاية تسعى لتكريس الأمر الواقع بكل خلله ومظالمه، كما جعل من القوة أمرًا حتميًا باسم الواقعية والرشادة. وفي المقابل فإن المفهوم الإسلامي عن القوة يجعل منها حقيقة استخلافية تحرك الفعل الحضاري العمراني، ويجعل منها وسيلة ومقدمة للواجب الذي هو الحق والعدل، وهي ليست عناصر مادية فقط، على أهميتها، ولكنها أيضًا عناصر معنوية. ومن ثم فإن هذا المنظور لا يجعل من حالتي الحرب أو السلام حالات متقابلة ولكن ينظر إليهما باعتبارهما أدوات لإدارة العلاقات فلا يمكن أن تكون الحرب فقط أو السلم فقط هي أصل العلاقات بين الأمم. ولكن الظرف التاريخى وحالة عناصر القوة والغايات يحددون متى تكون الحرب ومتى يكون السلام، حركة فعل حضارية ملتزمة وواعية وقادرة على أن تحقق لكل ظرف أهدافه في ظل شروطه.
وهكذا وعلى ضوء العرض السابق، يمكن القول إن التحدي الأساسي أمام عملية بناء منظور حضاري إسلامي لمجال معرفي محدد يتمثل في تحديد وضع هذا المنظور بالمقارنة بمنظورات العلم الغربية على ضوء خصوصية وتميز طبيعته بالمقارنة بخصائص وطبيعة المنظورات الأخرى السائدة والمتنافسة من ناحية، وعلى ضوء موضعه من نتائج المراجعات القائمة للحالة السائدة للمنظورات والجدال بينها.
هذا، ويجدر بالقول إن الطلبة النابهين والمتميزين –في مرحلة الدراسات العليا- الذين درسوا منظور حضاري إسلامي مقارنة للعلاقات الدولية قد يتساءلون كثيرًا عن مغزى وأسباب تركيزي على تدشين مبررات الحاجة للمنظور من داخل العلم الغربي ابتداءً، أي بالإحالة إلى المراجعات النظرية التي تقدم هذه المبررات، ومتسائلين ألا يمتلك هذا المنظور “الإسلامي” في حد ذاته أسس شرعيته ومشروعيته؟ ولماذا يبدو أن الدفاع من جانبي عن شرعية ومشروعية المنظور قد غلب على تطوير محتواه وعلى تشغيله وتفعيله تطبيقيًا؟ ومن ثم ما هي المؤشرات التي ستثبت مصداقية هذا المنظور وقدرته على المنافسة مع المنظورات الأخرى للعلم؟ وهل سيحقق قبولاً من الجماعات العلمية؟
هذا، وإذا كانت هذه الحالة من المراجعة للعلم الغربي تمثل مبررًا علميًا (وليس دافعًا) للحاجة لمنظور حضاري إسلامي مقارن يراكم في مجال الإسهام الحضاري الإنساني، إلا أن هذا التوجه، أي توليد منظور حضاري إسلامي من رحم مراجعة ونقد العلوم الغربية يمثل –كما يقول مثلاً لؤي الصافي- مشكل يثير خلافًا كبيرًا. ونذكر على سبيل المثال كيف يرى ضياء الدين سردار[37] أن مثل هذا التوجه ليس إلا تغريبًا للإسلام، ولذا؛ فإن المطلوب –من وجهة نظره- هو توليد علوم جديدة وليس إعادة صياغة العلوم الإسلامية صياغة إسلامية أو بناء منظور حضاري إسلامي للعلوم الغربية القائمة.
والجدير بالذكر هنا أن منظورًا حضاريًا في مجال معرفي محدد مقارنًا بمنظورات العلم الأخرى –غربية أو غيرها، أي التطوير من داخل العلم القائم والسائد وبدون انفصال عن منظوراته الأخرى، هو السبيل حتى لا يظل ما هو “إسلامي” يبدو منفصلاً عن العلوم الحديثة ولا ينتمي إلا إلى العلوم الشرعية. فضلاً عن أن المنظور يحدد نطاق العلم وموضوعاته بل ومنهاجيته.
هذا ومن ناحية أخرى، لا يقتصر تفعيل المنظور الحضاري على مجال إنتاج المعرفة والعلم ولكن يمتد إلى نطاق إصلاح فكر الأمة وتجديد طاقات نخبها وكوادرها ومؤسساتها. ولقد قدمت خبرة الجماعة البحثية للعلوم السياسية في كلية الاقتصاد خبرة تبين تعدد مستويات هذا التفعيل[38] كما تبين أن الحديث عن توجيه البحوث لخدمة الأمة أو للإسهام الحضاري الإنساني المعاصر ليس مجرد حديث إنشائي وأمنيات، ولكن يجب أن يكون حديث خطة علمية منظمة متعددة المستويات في نطاق بيئة وإطار علمي نشط ومتعدد، قادر على تحديد خريطة التحديات وخريطة الفرص والإمكانيات وكذلك قادر على إدارتهما على النحو الذي يسمح بالإنجاز ولو بقدر ما تسمح به الظروف المحيطة.

الجزء الثاني: من التحديات إلى الفرص والإمكانيات

1) على رأس التحديات التي تواجه جهود بناء وتطوير منظورات حضارية للعلوم الاجتماعية هو تجديد الذاكرة عن الأمة الإسلامية وإحياء الوعي بوجودها ووحدتها ولو على المستوى المعرفي والحضاري، وكذلك استدعاء الوعي باختلاف النماذج المعرفية ومن ثم إمكانية تعدد وتنوع المنظورات الحضارية في مواجهة مقولة عالمية العلم الغربي وتفرد منظوراته. وبناء عليه؛ فإن علاج التشوهات والقصور في الفكر والعقل المسلم نتيجة انقطاعه عن جذوره المعرفية والثقافية والحضارية يصبح تحديًا استراتيجيًا. وينبثق عن هذا التحدي الاستراتيجي الذي هو في الواقع الأقرب إلى الهدف الاستراتيجي مجموعة من التحديات النوعية. ويمكن التمييز بين الفئات التالية من هذه التحديات:
1. التحديات من بيئة التدريس والبحث ومن أهمها ثلاثة: أ- الانقطاع بين طلبة الجامعات المدنية –في معظمهم وبين مصادر الثقافة الإسلامية- ومن ثم؛ فإنه لا عجب أن يتراوح رد فعل طلبة الدراسات العليا في كلية الاقتصاد والعلوم السياسية فور سؤالهم عن “منظور إسلامي” للعلوم الاجتماعية والسياسية، ما بين استغراب واستبعاد واستيضاح واستفهام وبين رفض ناقد أو ناقص، وبين القبول بشروط وتحفظات، والقليل من الطلبة هو الذي قدم مداخلات مؤيدة إما على أساس من الحماية التي لا تستند إلى مبررات منظمة وعلمية، أو على أساس من تبني إطار مرجعي إسلامي أو على أساس مجرد التمييز بين الإسلام كدين وعقيدة وبين الإسلام ككيان حضاري وثقافي أو من حيث هو رؤية للعالم مما يسمح بالحديث عن منظور إسلامي.
إن هذه الخريطة من مقولات الطلبة تعكس مجموعات من التوترات نابعة من عدد من الثنائيات: الواقع والتنظير، الذات والآخر، الواقع المادي والقيم، الديني والعلمي، الموضوعي والمتحيز وأخيرًا التقليدي والجديد. ومن ناحية أخرى؛ فإن هذه المقولات عكست الوعي بثلاثة: الاحتياج للمنظور من عدمه، مضمونه ومنهجه، فاعليته وتفعيله في دراسة الواقع المعاصر[39].
ب-تنوع الأطر المرجعية للأساتذة المتخصصين الذين تراوحت مواقفهم ما بين الرفض والتحفظ بالرغم من عدم إطلاعهم في معظمهم على الأدبيات العلمية حول قضية التوجه الإسلامي للعلوم أو المنظور الإسلامي للعلوم[40]. ولذا؛ فإن مراجعة التوجهات السائدة وإعادة بناء التوجهات اللازمة لخدمة قضايا الأمة معرفيًا وعمليًا- هو عملية مركبة تقتضى خطة علمية ترعاها جهود جماعية وليس فردية، وذلك للتصدي للتحديات التي تواجه هذه العملية. فإن هذه الجهود لتطوير منظور حضاري قد واجهت تحفظات ونقد بل رفض ونقض. واجتمعت على هذا الصعيد اعتبارات سياسية (تخلط بين ما يسمى الإسلام السياسي والإسلام الحضاري كما تخلط بين التجديد الحضاري وبين احتمالات الفتنة الطائفية) مع اعتبارات معرفية ومنهاجية ونظرية (من جانب الاتجاهات الوضعية العلمانية التي لا تستطيع التمييز بين العلاقة بين الدين والسياسة وبين كون الإسلام هو مصدر للقيم والسنن التي تشكل التصورات والرؤى المنهاجية) واعتبارات الدونية السياسية والاقتصادية لدى المسلمين (حيث يستعجب البعض كيف وحال الأمة الإسلامية على ما هي عليه من ضعف وتفكك يمكن أن يفرز منظورًا في مجال العلم)..إلخ من الاعتبارات التي تشكل المواقف المختلفة ابتداء من الاستعجاب وعدم العلم، إلى التشكك من إمكانية الحدوث، إلى التحفظ والتحذير من بعض العواقب والنقائص، إلى النقد الإيجابي الذي يساعد على اكتشاف مكامن الحاجة للتعميق والتوضيح، إلى النقض والرفض الكاملين والرافضين التعددية الحضارية انطلاقًا من أن الغربي السائد فقط هو العلمي وهو العالمي[41]. ومما لا شك فيه أن هذه التحديات -في حالة الخبرة المصرية- تشترك في قسمات عديدة مع خبرات أخرى على المستوى العربي والإسلامي[42].
جـ- الموارد البشرية اللازمة لتدريس منظور إسلامي- ومن قبل تدريس متطلباته في مرحلة ما قبل المنهج ثم تطبيق المنهاجية الإسلامية في العلوم الاجتماعية- هذه الموارد البشرية لا تتوافر –كمًا ونوعًا- بالدرجة التي تساعد على تحقيق اختراق نوعي عبر جيل من الزمان ليس بالطبع في مجال التدريس فقط كجيل جديد ولكن في مجال البحث العلمي المنظم من أجل إنتاج معرفة جديدة. ولعل ضآلة حجم إنتاج المعرفة الجديدة –بعد عقدين ونصف من خبرة المعهد العالمي للفكر الإسلامي (ناهيك عن المؤسسات الأخرى التي حملت نفس الرسالة)- خير مؤشر على هذا التحدي. فإذا كان تدشين الفكرة والمشروع وتسويقه قد حقق نتائج ملموسة إلا أن غايات ومآلات المشروع لم تتحقق على النحو الذي يضمن للمشروع المنافسة مع المنظورات الأخرى أو الحصول على القبول من الجماعة العلمية السائدة في كل حقل. بل يجدر القول إن التفاعل بين المنتمين لدائرة “مشروع الأسلمة أو الإسلامية أو التأصيل أو المنظور” –أيًا كانت التسمية أو المصطلح المستخدم وبين الدوائر الخارجية- وخاصة الغربية، شبه معدوم.
هذا، وكان بعض قادة المعهد العالمي للفكر الإسلامي –د. عبد الحميد أبو سليمان- يرون أنه من الضروري الاستعداد الذاتي أولاً قبل الاحتكاك العلمي مع الآخر، وأن الداخل هو الذي في حاجة لخدمة وتطوير وأن الجدال مع الآخر لن يساعد على ذلك. وفي المقابل، رأي البعض الآخر –من كوادر وخبراء مشروع النموذج المعرفي الإسلامي الإنساني وتطبيقاته (د. المسيري) أن مشروع الإسلامية قد استفاد بقوة لحظة تدشين مؤسسته في بداية الثمانينيات من عملية المراجعة التي شهدتها العلوم الغربية الوضعية، وأنه بإمكانه الاستفادة أكثر في المرحلة الراهنة التي تنضج فيها المراجعات وتزداد الحاجة في مجتمعاتنا إلى منظورات حضارية لحل مشاكلها ومشاكل الإنسانية[43] ناهيك عن أن بناء منظور جديد وإثبات مصداقيته وتفعيله في دراسة الواقع إنما هو أمر لا يتوقف على جهود فردية وإنما يحتاج إلى مؤسسات قوية لتنفيذه من ناحية، وإلى قوى مجتمعية وسياسية تحوله من فكرة ونظرية إلى واقع عملي. وإذا كانت المؤسسات التي حملت راية هذا المشروع قد بدأت بداية قوية في الدعوة للفكرة وتعبئة المساندة لها بل وخلق الوعي بها بين الدوائر الأكاديمية والفكرية عبر أرجاء العالم الإسلامي، إلا أنها لم تستطع تحقيق اختراق نوعي للأسباب السابق ذكرها، ناهيك عن الآثار السلبية للبيئة المحيطة –ليس معرفيًا أو فكريًا فقط (كما سبق التوضيح) ولكن سياسيًا أيضًا سواء داخليًا أو خارجيًا. ولعلي هنا أستطيع أن أستحضر عبارات كتبها مارسيل بوازار 1980، وأجدها ما زالت ملائمة حتى الآن، فهو يقول “قد لا تبدو الظروف الراهنة الأكثر ملاءمة لظاهرة تأكيد الذات الإسلامية؛ فالتذكير المتكرر بالأخلاق، بالعدالة والإنصاف يشبه الضرب على حديد بارد، في محيط عالمي موسوم بالتكالب المسعور على الماديات وبالبحث اللاهف على التفوق السياسي والثقافي. وفضلاً عن ذلك، فالمهمة ستكون عويصة داخل الأمة الإسلامية نفسها، التي قطع التاريخ أوصالها والمتكونة من مجتمعات جزأتها إلى مستويات مختلفة ثنائيات نشأت من دخول الأفكار الأجنبية التي لم تهضم، خاصة من الشباب…”.
“على الإسلام أن يتقدم للعالم برسالته الخاصة، بل بما عنده من مختلف من إسهامه الممكن في المستقبل الكوني يكمن في استعداده لجمع –لا لخلط– المبادئ والمواقف التي جزأتها الحضارة المعاصرة كل التجزئة. التوحيد الديناميكى لا يفصل المعطيات بل يميزها. إنه يدفع المختلف إلى الوحدة، طارحًا في نفس الوقت معاملة بالمثل تسهل تعميق الأشياء. وهكذا تسمح الروحانية الأكثر سموًا بتشبع الإنسان والطبيعة بالمتعالى وتحول الوجود الإنسانى إلى تجربة حياة مسئولة..”.
لا ينبغي لرؤية أخلاقية متعالية أن تخفي الواقع السياسي– الاقتصادى. الأزمة تولدت من عدة عوامل، منها الاستخدام المتزايد للتكنولوجيا…”.
“هناك مؤامرة دولية تتخفى تحت ستار “العالمية” لكي تمنع الإقلاع الاقتصادي لجزء من العالم. يستطيع الإسلام، باندماجه في واقع البلدان النامية، بروحانيته الإنسانية وأخلاقه العالمية أن يؤثر على مجرى الأمور، خاصة ضد ضلال الاستهلاك المفرط والاستغلال المغالى للطبيعة…
التطور التقنى واجب لا مناص منه. فالله يؤتى “الراسخين في العلم” قبل غيرهم “أجرًا عظيمًا” لكن لابد لهم أن يؤمنوا. يجب إذن تجاوز التقدم التكنولوجى والمادى، توسيعه وتخطيه لا التخلى عنه للعودة إلى مواقف وقاية النفس الخائفة. لا يستطيع المسلمون، كما لا يستطيع أتباع أي منظومة دينية أخرى أو أعضاء أي ثقافة كانت، أن يضربوا صفحًا عما يجري في العالم على القناعة الروحية والاعتزاز الثقافي اللذين هما أكثر ديناميكية من أي مثل أعلى خيالى حديث، أن يدفعا إلى الأمام. لكن لابد من توضيح “جدل التقدم الوفي لنفسه بعمق وجدل رفض الترادفات الزائفة والفلسفات الوضعية القصيرة النظر التي يستتر بها هذا التقدم، خاصة في حقبة الامبريالية. وهو جدل من أشد أنواع الجدل عسرًا في العالم الراهن ينقسم المثقفون أو المناضلون إلى أتباع أصالة بدون مستقبل وأتباع حداثة بدون جذور…”.
“الأزمة عالمية. إنها لا تمس فقط البلدان الإسلامية، العالم الثالث أو المجتمعات الصناعية، بل مجموع الإنسانية. يؤكد الإسلام نفسه كمصدر إلهام كونى. تساهم مبادئه وقيمه، أكثر من أي وقت مضى في الأخوة، في جهد جميع الشعوب الراغبة في تقدم الإنسان، في تعزيز السلم والتعاون العالمى…”.
خلاصة القول بعد التشخيص السابق لملامح الاستبعاد والتقييد أو الاستدعاء السلبى للإسلام، إن الإسلام –ليقدم حلاً لمشاكل العالم الحديث[44]– أو ليساهم منظور حضاري إسلامي إسهامًا إنسانيًا معاصرًا- ليس لخدمة الأمة فقط ولكن لخدمة العالم، إن ذلك كله يتطلب بيئة مواتية تؤمِّن على الصعيد الوطنى والإقليمى والعالمى، فرصًا متكافئة للمرجعيات المتنافسة بما يضمن تعددًا حضاريًا وثقافيًا فعليًا، أي يمثل مدخلاً أساسيًا من مداخل التغيير السياسي والمجتمعى والثقافي، ولا يكون مجرد ديكور سطحى أو خطاب أجوف للاستهلاك عن العالمية في حين يتم اكتساح الأسس الحضارية للشعوب الإسلامية لصالح الحضارة الزاحفة الساعية للهيمنة. وهذا القول لا يصدر من أصحاب المرجعية الإسلامية (ولو من روافد متنوعة) فقط باعتبارهم محل استبعاد قصدي ومتعمد سواء بأساليب سلمية أو قمعية، ولكن يصدر أيضًا من عقلاء الغرب المهمومين بالأثر السلبى الذي تمارسه الهيمنة والمركزية الغربية على مستقبل العالم برمته.

2) وأخيرًا ماذا عن الفرص والإمكانيات لتشغيل وتفعيل “منظور حضاري” في التدريس والبحث (العلاقات الدولية نموذجًا).
إن غاية الجهود في هذا المجال ليست معرفية ونظرية فقط ولكن يجب أن تنتقل من نطاق النخب إلى نطاق خدمة التغييرات الداخلية والخارجية في دوائر ثلاثة متقاطعة:
1- يجب أن تكون منطلقًا لإسهام حضاري لإبداع حلول ذاتية لمشاكل مجتمعاتنا، تراعى خصوصية هذه المجتمعات وتستفيد من خبرات الآخر.
2-الإسهام في بلورة أفكار التغيير السياسي والمجتمعي وذلك بتقديم أطروحات لمشروع حضاري إسلامي يزداد التساؤل عن ماهيته، وخاصة مع بروز وزن القوى السياسية ذات المرجعيات الإسلامية ومع بروز دور المجتمع المدني الإسلامي، وذلك في نفس الوقت الذي تواجه فيه هذه القوى السياسية والمدنية تحديات خارجية تزيد من وطأة التحديات الداخلية.
3- كما يمكن أن تساهم في التجديد الحضاري العالمي فإذا لم تكن قدراتنا المادية تكافئ قدرات القوى المتقدمة والمهيمنة، إلا أن منظومة قيم نموذجنا الحضاري يمكن أن تساهم في علاج الخلل القيمي على المستوى العالمي.
إن الغايات السابقة ليست آنية ولكن تحتاج لتحققها مزيدًا من التحديد لأولويات أجندة قضايا البحث والحركة، ومزيدًا من الرؤى التجديدية في مجال التغيير الداخلي والخارجي. ناهيك بالطبع عن مزيد من التراكم في الإنتاج العلمي المعرفي منه والنظري. ومن ثم فيمكن تقديم بعض المقترحات كالآتي:
‌أ- نظرًا لأن إشكالية التدخل الخارجي وتأثيراته على الداخلي اتخذت أبعادًا متنامية، وحيث إن قضايا: الإصلاح، الوحدة، الاستقلال هي قضايا ثلاث متشابكة في منظومة الرؤية الإسلامية للعلاقات الدولية (من الداخلي إلى البيني إلى الآخر) وحيث إن فكر رموز الأمة من مفكريها وعلمائها وفقهائها -عبر نصف القرن الماضي- لم تلقِ بعد من العناية والدراسة ما لاقاه نظرائهم في قرن 19 وحتى منتصف القرن العشرين؛ فإن هناك حاجة للقراءة الجامعة الشاملة التراكمية المقارنة في فكر هؤلاء الأعلام في محاولة لجمع خيوط “مشروع حضاري إسلامي” للتغيير. فكم بذلت جهود فكرية وحركية على هذا الصعيد، وهي وإن لم تحرز نتائج جذرية عبر نصف القرن الماضي؛ فإن أحد أهم الأسباب هو تناثرها وتجزئها وعدم القيام عليها بالجهد التجميعي أو المقارن. بحيث لا عجب الآن من تكرار مقولات أين ملامح مشروع حضاري إسلامي يواجه التحديات الخارجية -قبل الداخلية- والتي ازدادت وطأتها بدرجة غير مسبوقة في ظل العولمة وما بعد الحادي عشر من سبتمبر؟
إذن المنطلق هو ما تم إنجازه مسبقًا، من خبرات فكرية وحركية، قبل أن نتساءل ما الجديد المطلوب. ولعل من أهم الدوافع لهذا المنحنى الاستراتيجي هو البحث في الرؤى عن كيفية تحويل الرابطة العقدية بين أرجاء الأمة إلى روابط مصالح ملموسة وبحيث لا تصبح دائرة الأمة الإسلامية دائرة مثالية أو مبعثًا لمجرد روابط روحية وإيمانية وتاريخية لا علاقة لها بالحاضر أو بالمستقبل، بعبارة أخرى فإن خدمة قضايا الأمة الإسلامية لابد وأن ينطلق من تأصيل كيف أن إنشاء الروابط المصلحية بين الأمة وتدعيمها هو من أهم خطوات خدمة قضايا الأمة -سواء على المستويات الوطنية أو الإقليمية أو عبر الإقليمية أو العالمية.
‌ب- استجابة البحوث المستقبلية لأجندة قضايا ذات أولوية يمكن وضعها تحت العنوان التالي: الأبعاد الدينية والثقافية للتدخلات الخارجية حقيقة أم توظيف سياسي؟ فإن إشكالية العلاقة بين الثقافي والسياسي تقفز على أكثر من مستوى. ابتداء من الحوارات مع الآخر (دوافعها، وأهدافها وآلياتها ومخرجاتها) إلى عمليات الإصلاح الداخلية وموضع الثقافي- الديني منها (تجديد الخطاب الديني، التربية المدنية (بلا دين)، ديموقراطية بلا إسلاميين؟ المعايير المزدوجة تجاه قضايا الأقليات في العالم الإسلامي وقضايا المسلمين في الغرب).
بعبارة أخرى؛ فإن الوعي بالأهداف السياسية والاقتصادية والعسكرية للتدخلات الخارجية في العالم الإسلامي يجب ألا يحجب الوعي أيضًا بالأبعاد الثقافية والحضارية ذات الجذور التاريخية والعقدية.
كما أن التخوف والتحذيرات من مقولات صراع الحضارات التي أطلقها غربيون يجب ألا تجعلنا ونحن في غمار تأصيل مفاهيم التدافع والتعارف الحضاري أن ننكر ما نلمسه وما نشهده من علامات ودلائل الصراع الحضاري من جانب دوائر غربية تقود وتهيمن على سياسات الغرب تجاه العالم الإسلامي، ولا تستنكف أن توظف وبوضوح وبعلانية وبدون مواربة أو دبلوماسية أدوات ثقافية ودينية فجة.
ومن ثم؛ فإن التسييس لا يجب أن يخفى عن وعي الباحثين في مجال حوار الأديان والثقافات، كما أن الأبعاد الثقافية لا يجب أن تخفى عن وعي الباحثين في مجال التدخلات الخارجية في عمليات التحول السياسي والمجتمعي في دولنا.
‌ج- دعم الجهود الفردية والمتناثرة الساعية لتطوير منظور حضاري مقارن للعلوم السياسية والعلاقات الدولية بخاصة، وذلك يتطلب ما يلي:
1. التطوير من داخل العلم وبدون انفصال عن منظورات العلم الأخرى، حتى لا يظل ما هو “إسلامي” يبدو منفصلاً عن العلوم الحديثة ولا ينتمي إلا إلى العلوم الشرعية. فهذا هو التحدي المعرفي والنظري الأساسي الذي يواجهنا.
2. حماية ودعم المناخ الأكاديمي التعددي مثل الذي ساد في كلية الاقتصاد وسمح لهذه الجهود بالبروز والنمو إلى جانب جهود منظورات ومدارس أخرى. وبحيث أضحى الجدال الأكاديمي بين هذه المنظورات من أهم علامات إنجاز كلية الاقتصاد والعلوم السياسية.
3. دعم توجه البحوث الجماعية التي تقفز الحدود بين تخصصات العلوم السياسية وبينها وبين غيرها من العلوم الاجتماعية الأخرى كما تقفز الحدود بين العلوم الاجتماعية والعلوم الشرعية. وإذا كانت هذه البحوث وسيلة من وسائل تجسير الفجوة بين الشرعي والاجتماعي، إلى جانب وسائل أخرى مسبقة (مثل دورات تدريب المتشرعين (في مجال العلوم الاجتماعية) ودورات تدريب الاجتماعيين (في مجال العلوم الشرعية).
4. البحوث الجماعية هي السبيل أيضًا لتحقيق قفزات نوعية في سبيل تطوير منظور حضاري مقارن. وإذا كان مشروع العلاقات الدولية في الإسلام كمشروع جماعي قد حقق قفزة نوعية أولى فإن هناك حاجة إلى قفزة ثانية وثالثة ورابعة، لن تتحقق إلا بجهود جماعية، وذلك للانتقال من مرحلة تأصيل الحاجة إلى منظور جديد وشرح خصائصه إلى مرحلة بناء المفاهيم وتصميم مناهج التطبيق، والتشغيل على تطبيقات تتصل بقضايا الأمة المحورية.
5. إن سياسة حرق المراحل تحتاج لأمرين متلازمين: أولهما هو تحقيق التواصل بين الجزر التي تقوم على نفس الهموم الأكاديمية في عدة دول إسلامية، وذلك حتى يتحقق التراكم النوعي القادر على إحداث قفزة نوعية في زمن أقل. وثانيهما: مد جسور التواصل مع الجماعات البحثية الغربية التي تهتم بتعدد المنظورات الحضارية في مجال العلم كما تهتم بالأبعاد الثقافية للعلاقات الدولية، فإن مثل هذه الجماعات قد تبدى تفهمًا أكثر أو اهتمامًا أكبر بالجهود المبذولة لتطوير منظور حضاري للعلاقات الدولية (وهي الداعية إلى أن عالمية العلم لن تتحقق بدون إسهام منظورات حضارية أخرى إلى جانب الغربية) مقارنة بأبناء الوطن المنتمين إلى مدارس أخرى، حيث يبدو أنهم في معارضتهم ونقدهم ملكيون أكثر من الملك، أو متمسكون بقديم العلم الذي تجاوزته التطورات في الغرب ذاته، وذلك مع تجدد الاهتمام بالقيم وبدور الدين والثقافة في العلاقات الدولية.
بعبارة أخرى فإن جهود تطوير منظور حضاري للعلاقات الدولية يجب أن توضع كجزء مندمج من اتجاهات التطور في العلم وليس بمعزل عنه، وهذا يتطلب الكتابة باللغة الإنجليزية وعقد المؤتمرات الدولية حول هذا الموضوع أو المشاركة في مؤتمرات دولية ذات صلة مثل المؤتمرات السنوية للجمعيات العلمية العالمية وهو ما لم يتحقق حتى الآن بصورة كاملة.
‌د- وتبقى مسألة تشغيل تفعيل هذه البحوث وهذه المنظورات الحضارية، أي مسألة خلق الصلة والرابطة بين العالم وبحوثه ورؤاه وتصوراته وبين صانع السياسة ومتخذ القرار من ناحية وبين المواطنين الذين في حاجة لتجديد في سلوكهم وفي أنماط رؤاهم من ناحية أخرى.
فإلى متى تظل صناعاتنا الثقيلة في الجامعات وفي المراكز البحثية قاصر تفعيلها وتشغيلها على حيز النخب العليا الفكرية والدراسية (هذا بفرض التحقق على هذا الصعيد أيضًا)؟ حقيقة أن دور العالِم والباحث، على صعيد إعداد الأجيال الوسيطة التي تستمر بتقاليد المدارس الفكرية وتطورها هو دور أساسي ولا غنى عنه ويضمن التجديد واستمرار العطاء على صعيد إنتاج العلم والرؤى والتصورات، ولكن يظل السؤال المطروح عاليًا يكتسب مشروعيته وذلك بالنظر إلى حجم الفجوة القائمة بين النخب الفكرية من أعلى وبين المواطنين من ناحية وبين صناع السياسة ومتخذي القرار في بلداننا من ناحية أخرى. ولذا كم تساءل أستاذنا د. حامد ربيع عن كفاحية عالم السياسة وكم انطلق في بحوثه الاستراتيجية من ضرورة خلق الرابطة بين النظرية والحركة.
ومما لاشك فيه أنه إذا عرفنا أسباب هذه الظاهرة التي وراء عدم تشغيل وتفعيل منتجات العلم الاجتماعي والإنساني من أجل خدمة قضايا الأمة الإسلامية، لعرفنا كيف نعالج هذا القصور. ومن التفسيرات المطروحة بهذا الصدد ما يلي:
الأمر الأول هو عزوف صناع السياسة والحركة عن تلقى المشورة العلمية لأسباب ترجع لطبيعة استبداد النظم والحكومات وعدم توافر هياكل تداول الآراء والمشورة، ناهيك بالطبع عن العزوف الأكبر عن الاستعانة بأصحاب التوجهات الإسلامية المعرفية والنظرية أو بالذين يدعون إلى أخذ دائرة الأمة الإسلامية في الاعتبار عند تخطيط السياسات وتحديد الأهداف والمصالح المرجو تحقيقها. وهذا العزوف مرجعه مقولات سيارة -غير ذات مصداقية- ألا وهي أن الرابطة العقدية وإن ولدت مشاعر وتضامن معنوي إلا أنها لا تولد بالضرورة مصالح، ومن ثم؛ فإن البراجماتية وحماية المصالح الوطنية لا تقتضي بالضرورة تخطى حدود المصالح الوطنية وتهديدها تحت دوافع النصرة مع الدول الإسلامية… كما يرجع هذا العزوف إلى أمر آخر أكثر أهمية وهو أن أصحاب هذه التوجهات الإسلامية (الحضارية في مجال البحث العلمي) محسوبون على المعارضة السياسية الإسلامية أو على ما يسمى الإسلام السياسي – سواء كان سلميًا أو عنيفًا.
والأمر الثاني: هو مسئولية العالم ذاته عن فقدان الصورة الصحية عن العلاقة بين المثقف أو المفكر أو الأكاديمي وبين السلطة. فنجد من خرج عن عزلته ولكن ليركب موجة الشهرة فيلبس لباس الدور العام متخطيًا حدود العلاقة بين العالِم وبين السياسي. وبدلاً من أن يصبح خبيرًا للسلطة يصبح سياسيًا، سواء في صفوف دكاترة السلطان أو في صفوف قوى المعارضة.
وإذا كان صوت هذا النموذج يصل للقادة ويصل للناس إلا أنه -وبسبب طبيعة النظم الاستبدادية- لا يكون ذو مردود سريع وفاعل سواء لدى صانع القرار أو المواطن العادي؛ فلقد أضحى مجرد ظاهرة صوتية في نظر صاحب القرار وإن كان يساعد على تقديم صورة مزيفة عن ديمقراطية النظام، كما أضحى هذا العالِم يمثل في نظر المواطن -وعبر الفضائيات- ظاهرة حوارية يراقبها عن بعد، وقد يفقه بعض ما يقوله وقد لا يفقه. بعبارة أخرى فإن معظم هذه النخب الفكرية والأكاديمية ذات الدور العام مازالت تتكلم فيما بينها أو تتجه إلى قمة النظام أو تناشد الشعوب، ولكنها مازالت تفتقد –في نفس الوقت- التواجد الفعلى بأفكارها بين الناس لتحركهم تحركًا فاعلاً يؤمن بضرورة التغيير وجدواه ولتحدد لهم خطوات إجرائية محددة يستطيعون من خلالها المساهمة في التغيير.
الأمر الثالث: أن الواقع الذي يقدمه التفسير السابق، ليس مسئولية العالِم بمفرده -سواء الذي لم يستطع أن يكسر جدار العزلة أو من نزل إلى ساحة الحركة ولكن بلا مردود فاعل- ذلك لأن انتقال الفكرة إلى الواقع بطريقة طبيعية وعلى نحو مثمر إنما يفترض مناخًا وهياكل غير متوافرة في بلداننا. ألا وهو مناخ الاحتفاء بفكرة واحتضانها بواسطة مراكز بحثية وتداولها في مناقشات عامة -خاصة وعامة- لبلورتها وتطويرها وحتى يتلقفها الإعلام ليوصلها إلى القاعدة أو يتلقفها الساسة لتحويلها إلى برامج عمل. ولكن ما يحدث لدينا هو العكس منذ البداية فلا يكتب للفكرة هذا النماء بل ربما يتم وأدها عمدًا أو عن غير عمد. ولعل من أهم أسباب الوأد غير المتعمد للأفكار ومن ثم عدم نمائها وعدم خروجها من محاضن ولادتها، هو افتقادنا لتقاليد الجماعة البحثية، التي يقوم أعضائها بالقراءة النقدية لإنتاج بعضهم البعض ويحدثون تراكمًا على من سبقهم في نفس المجال وبنفس التوجه. وكذلك افتقاد الصلة بين تلك الجماعات وبين وسائل الإعلام الجادة أو مراكز صنع القرار التي تؤمن بأهمية صناع الرؤى والتصورات الاستراتيجية كمنطلق لحركة سليمة.

وإذا كان مشروع العلاقات الدولية -في كلية الاقتصاد- قد حقق قفزة نوعية بواسطة فريق بحثي جماعي كان فريدًا من نوعه في حينه سواء من حيث تضافره أو من حيث اختلافاته ونقاشاته، فلم يتوافر نفس القدر من الزخم بعد ذلك، ومن ثم لا يمكن مقارنة الإنجاز المعرفي والنظري (وإن لم يكن التطبيقي) الذي حققه المشروع، بما تحقق بعد ذلك عبر عقد من الزمان (1996- 2006) حيث لم تتوافر الجهود الجماعية العلمية المنظمة اللازمة لاستكمال ما أسسه المشروع بصورة أكثر عمقًا وشمولاً. فباستثناء جهود متفرقة من جانب البعض، لم يتحقق الجمع بينها بصورة منظمة وجماعية لتقديم اجتهادات في مجال المفاهيم المقارنة، والمنهاجية المقارنة. بعبارة أخرى وإن ازدهرت دراسات واقع العلاقات الدولية للعالم الإسلامي في دائرتنا البحثية –مقارنة بما قبل- إلا أن الإنجاز المعرفي والنظري والمنهاجي لم يؤد إلى استكمال عملية بناء منظور حضاري (إسلامي) مقارن لنظرية العلاقات الدولية. كذلك لم تتوافر المؤسسات الفاعلة -الوسيطة بين القلم وبين القارئ- لتسوق منتجاتنا عن قضايا وأحوال العالم الإسلامي، وهي منتجات ثقيلة وليست بمقال لرأي في صحيفة أو كتيب جيب، ولذا عزفت دور النشر عن نشرها وتسويقها بحجة أنها ليست طلب القارئ ولا يمكن تسويقها على نحو يحقق أرباح. ولقد كان مثال طبع ونشر موسوعة الأمة في قرن من أوضح النماذج على ذلك، لدرجة أن مؤسسات إسلامية متخصصة (الإيسيسكو) رابطة الجامعات الإسلامية لم تستجب لطلبنا شراء نسخ للتوزيع على الجامعات والمؤسسات الثقافية في العالم الإسلامي.
وعلى ضوء كل ما سبق فإن توجيه البحوث في جامعة القاهرة، وغيرها من جامعات مصر والدول الإسلامية التي يوجد بها تخصصات علوم سياسية وعلاقات دولية (بصفة خاصة) سواء من أجل خدمة قضايا الأمة الإسلامية انطلاقًا من منظور حضاري في حاجة لمساندة الهيئات والمؤسسات المدنية والرسمية والإسلامية ذات الموارد المالية وذات إمكانيات الوصول إلى الإعلام وإلى الناس.
وهذه المساندة مطلوبة في مجالات ثلاثة:
دعم ومساندة تكوين فرق البحث الجماعية المنظمة لتنفيذ خطط قصيرة الأجل (عامان) لتحقيق تراكم في عملية بناء منظور حضاري إسلامي مقارن لدراسة العلاقات الدولية أو غيرها من العلوم.
التنسيق بين الجماعات البحثية (الوطنية) التي تقوم على مثل هذه الخطط حتى لا يحدث تكرار وحتى يتحقق التراكم العام في هذا المجال. وحتى تنكسر الحواجز بين هذه الجماعات وبينها وبين نظائرها في الجامعات الأجنبية. يمكن الآتي:
· تكوين شبكة لدارسة وباحثي العلاقات الدولية من منظورات مقارنة في جامعات الدول الإسلامية.
· عقد مؤتمر دوري كل ثلاث أو أربع سنوات لعرض نتائج مشروعات الفرق البحثية في الجامعات المختلفة ويشترك فيه علماء بارزون في نظرية العلاقات الدولية في الجامعات الغربية من المهتمين بالمداخل الثقافية والحضارية المقارنة لدراسة العلاقات الدولية (المدرسة البنائية الجديدة، المدرسة النقدية).
· ومنعًا لهدر الطاقات والجهود السابقة للتشبيك والتنسيق، يمكن الانطلاق من تقييم ما حققته حتى الآن مؤسسات مثل: علماء الاجتماع المسلمون في الولايات المتحدة وفي بريطانيا وخاصة بالطبع من حيث البحث المعرفي والنظري في مجال نظرية العلاقات الدولية والعلاقات الدولية للعالم الإسلامي. (وإن كان لا يجب الفصل بين هذين الجانبين النظري والتطبيقي، إلا أنه يجب ألا يجور أحدهما على الآخر).
وأخيرًا: الاهتمام بإعداد كوادر الجيل الثاني من شباب الباحثين وأعضاء هيئة التدريس. ومن سبل ذلك: إعداد دورات التدريب المنهاجية من ناحية، وإدماجهم في مشروعات البحث الجماعية وخاصة النظرية من ناحية أخرى، وتشجيع وتنظيم احتكاكهم المستمر بالدوائر الأجنبية حتى تتسع دائرة معارفهم وخبراتهم العلمية ولا تقتصر على دوائر جامعات العالم الإسلامي.
فإن خدمة قضايا الأمة الإسلامية، في المجالات الثلاثة السابق اقتراحها لن يتحقق بدون الانفتاح على جامعات دوائر حضارية أخرى والتواصل معها بطريقة إيجابية، أي بطريقة لا تقتصر على النقل واستهلاك العلم المستورد فقط ولكن تقوم على نقده وتقييمه واستيعابه وتجاوزه بإنتاج جديد يجسد واقع ما أسمته د. منى أبو الفضل الأنساق المعرفية المتقابلة من ناحية، ويساهم في عملية التجديد الثقافي العالمي إلى جانب منظورنا الحضاري الذي يجب أن يمثل -كما تقول د.منى أبو الفضل- قوة من قوى تحقيق هذا التجديد المطلوب عالميًا الآن. وأعتقد أن مجال العلوم السياسية بصفة عامة وفي مجال العلاقات الدولية بدرجة أوضح (وخاصة على صعيد الجماعة البحثية في مصر) قد حقق، عبر ثلاثة عقود في السبعينيات وأوائل الثمانينيات) مسارًا وئيدًا دشن قواعده العامة د.حامد ربيع وأسست د.منى أبو الفضل ركائزه النظرية في أواخر الثمانينات وأوائل التسعينات، وقام فريق مشروع العلاقات الدولية في الإسلام منذ 1986 وحتى الآن باستكشاف وتطوير إمكانياته النظرية التطبيقية في أحد فروع علم السياسة.
*****

الهوامش:

[1] انظر تفاصيل التطور التاريخي لوقوع هذا الخلل في: طارق البشري: تطوير الرؤى الحاكمة للتعليم العالي في مصر، ويونان لبيب رزق: التعليم العالي في مصر الحديثة.. بين المدارس العليا والجامعات الحديثة، (في) د. سيف الدين عبد الفتاح (محرر): التعليم العالي في مصر خريطة الواقع واستشراف المستقبل، (جامعة القاهرة: كلية الاقتصاد والعلوم السياسية، مركز البحوث والدراسات السياسية)، 2006.
[2] د. نادية محمود مصطفى: في خبرة تطوير التعليم العالي في مصر: الإشكاليات والمسار، (في) المرجع السابق.
– د. نادية محمود مصطفى: في فلسفة تطوير التعليم العالي والرؤى الاستراتيجية الحاكمة له (في) د. منى البرادعي، د. سامي السيد (تحرير): رؤى تطوير التعليم العالي في مصر، كلية الاقتصاد والعلوم السياسية، جامعة القاهرة، مايو 2007.
[3] د. سيف الدين عبد الفتاح: التعليم والهوية: نحو تأسيس جماعات حضارية، (في) د. سيف الدين عبد الفتاح (محرر)، مرجع سابق.
[4] انظر على سبيل المثال: أعمال مؤتمر: الهوية واللغة والتعليم الذي نظمه اتحاد الجامعات العربية في الدوحة في أكتوبر 2003.
– كذلك انظر بعض الجلسات عن التعليم والتحدي الحضاري، وذلك ضمن أعمال المؤتمر الذي نظمته مؤسسة الفكر العربي، بالتعاون مع الإيسيسكو واليونسكو والألكسو في بيروت، سبتمبر 2005 تحت عنوان “الملتقى الثاني للتعليم في الوطن العربي”.
[5] حول مسار هذه الازدواجية وأسبابها وعواقبها: انظر على سبيل المثال: طارق البشري: سلسلة: المسألة الإسلامية المعاصرة، دار الشروق، القاهرة، (6 أجزاء).
[6] وفق أطروحات د. عبد الوهاب المسيري: انظر على سبيل المثال: مقدمته عن التحيز، (في) د. عبد الوهاب المسيري (محرر): إشكالية التحيز رؤية معرفية ودعوة للاجتهاد، المعهد العالمي للفكر الإسلامي، القاهرة، 1994 (جزءان).
[7] د. أنور عبد الملك: تغيير العالم، سلسلة عالم المعرفة (رقم 95)، المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، الكويت، 1985.
[8] انظر أطروحات رموز مدرسة إسلامية المعرفة، ومنها على سبيل المثال: د. إسماعيل الفاروقي، أسلمة المعرفة: المبادئ العامة وخطة العمل، دار البحوث العلمية بالكويت، 1983، ترجمة عبد الوارث سعيد.
– د. طه جابر العلواني، إسلامية المعرفة بين الأمس واليوم، المعهد العالمي للفكر الإسلامي، هيرندن- فيرجينيا، 1996.
– A.A. Soliman, Islamization: Reforming contemporary knowledge, IIIT, London, 1994.
[9] د. منى أبو الفضل، النظرية الاجتماعية المعاصرة: نحو طرح توحيدي في أصول التنظير ودواعي البديل، إسلامية المعرفة، العدد 6، سبتمبر 1996، ترجمة د. نصر عارف، ص ص 69- 109.
– Mona Abul Fadl, Islamization as a force of global cultural renewal or the relevance of the Tawhidi episteme to modernity, AJISS, Vol. 5, No 2, December 1988, pp. 163- 179.
[10] وهناك أيضًا دعوات انطلقت من الدائرة الغربية ذاتها وحملتها تيارات نقد ومراجعة لحالة العلوم ومرجعياتها ومدى عالميتها، وهي التيارات التي تعترف بالتعددية في النماذج المعرفية.
– انظر د. نادية محمود مصطفى: عملية بناء منظور إسلامي للعلاقات الدولية، إشكاليات خبرة البحث والتدريس، (في) د. نادية محمود مصطفى، د. سيف الدين عبد الفتاح (محرران): المنهاجية الإسلامية في العلوم الاجتماعية: العلوم السياسية نموذجًا. المعهد العالمي للفكر الإسلامي، مركز الحضارة للدراسات السياسية، القاهرة، 2002.
– انظر نسخة منقحة ومزيدة ومتراكمة في د. نادية محمود مصطفى: إشكاليات البحث والتدريس في العلاقات الدولية من منظور حضاري مقارن، (في) مؤتمر التحيز الدولي الثاني “مسارات معرفية متنوعة في حوار الحضارات، برنامج الدراسات الحضارية وحوار الثقافات (حوار الحضارات سابقًا)، مركز الدراسات المعرفية، القاهرة، يناير 2007 (تحت التحرير للطبع).
[11] انظر عرضًا تفصيليًا موثقًا لهذه الخبرة في: د. نادية محمود مصطفى: التوجهات العامة في تدريس العلاقات الدولية وبحوثها: قراءة في خبرة جماعية من كلية الاقتصاد والعلوم السياسية، جامعة القاهرة، (في) أعمال المؤتمر العلمي الأول لكلية التربية جامعة الأزهر بالاشتراك مع مركز الدراسات المعرفية: “توجيه بحوث الجامعات الإسلامية في خدمة قضايا الأمة المنعقد في الفترة بين 18- 19 فبراير 2007، القاهرة، ص ص 167- 185.
[12] د. نادية محمود مصطفى: في خبرة تطوير التعليم العالي، مرجع سابق.
– د. نادية مصطفى: في فلسفة تطوير التعليم…، مرجع سابق.
[13] انظر على سبيل المثال: د. فتحي ملكاوي: حوارات إسلامية المعرفة، عرض وتحليل، إسلامية المعرفة، العدد 25، 2001.
– وانظر أيضًا بحث كل من: سامر الرشواني: الدراسات النقدية والتقييمية لخطاب إسلامية المعرفة.
– أماني صالح: قراءة في مفهوم إسلامية المعرفة داخل التيار الأساسي للمدرسة.
– د. نادية محمود مصطفى: منهاجية إسلامية المعرفة من التأصيل العام إلى التطبيقات.
وهي بحوث مشروع تقييم “إسلامية المعرفة عبر ربع قرن” بالتعاون بين مركز الحضارة للدراسات السياسية ومركز الدراسات المعرفية، القاهرة. تحت الإعداد للمناقشة والنشر.
[14] انظر قراءة في إسهام منى أبو الفضل في: د. نادية محمود مصطفى: منهاجية إسلامية المعرفة، مرجع سابق، الجزء الثاني.
– د. لؤي صافي: إسلامية المعرفة: من المبادئ المعرفية إلى الطرائق الإجرائية، إسلامية المعرفة، العدد 3، يناير 1996.
[15] د. نادية محمود مصطفى: إشكاليات البحث والتدريس في العلاقات الدولية: مرجع سابق.
[16] د. منى أبو الفضل: المنظور الحضاري وخبرة تدريس النظم السياسية العربية، (في) د. نادية مصطفى، د. سيف الدين عبد الفتاح (محرران): المنهاجية الإسلامية في العلوم السياسية نموذجًا، مركز الحضارة للدراسات السياسية، المعهد العالمي للفكر الإسلامي، القاهرة، 2002.
[17] د. منى أبو الفضل: النظرية الاجتماعية المعاصرة: نحو طرح توحيدي في أصول التنظير ودواعي البديل، إسلامية المعرفة، العدد 6، سبتمبر 1996، ترجمة د. نصر عارف، ص ص 69- 109.
[18] د. منى أبو الفضل: نحو منهاجية للتعامل مع مصادر التنظير الإسلامي: بين المقدمات والمقومات، المعهد العالمي للفكر الإسلامي، سلسلة المنهجية الإسلامية (13)، القاهرة، 1996.
[19] Mona Abul Fadl, Islamization as a force of global cultural renewal or the relevance of the Tawhidi episteme to modernity, AJISS, Vol. 5, No 2 December 1988, pp. 163- 179.
[20] د. عبد الوهاب المسيري، فقه التحيز، (في) د. عبد الوهاب المسيري (محرر): مرجع سابق.
– د. حامد عبد الماجد: الوظيفة العقيدية للدولة الإسلامية، دار التوزيع والنشر الإسلامية، القاهرة، 1993، ص ص 23- 48.
– د. سيف الدين عبد الفتاح: بناء علم سياسة إسلامي، سلسلة بحوث سياسية، مركز البحوث والدراسات السياسية، رقم 6، 1988.
– د. نصر عارف (تقديم)؛ في: د. نصر عارف (محرر)، قضايا المنهاجية في العلوم الإسلامية والاجتماعية، المعهد العالمي للفكر الإسلامي، القاهرة، 1996، ص ص 7- 15.
– Dr. Mona Abul Fadl: Islamization as a force of global culture renewal: the relevance of Tawhidi episteme to modernity, the American Journal of Islamic Social Sciences, Vo 2, 1988.
– Dr. Mona Abul Fadl: Paradigms in Political Science revisited, op. cit, No 1, 1989, pp. 1- 15.
– د. منى أبو الفضل، النظرية الاجتماعية المعاصرة: نحو طرح توحيدي في أصول التنظير ودواعي البديل، إسلامية المعرفة، العدد 6، سبتمبر 1996، ترجمة د. نصر عارف، ص ص 69- 109.
[21] Mona Abul Fadl: Paradigms.., op.cit.
[22] د. عبد الوهاب المسيري: فقه التحيز، مرجع سابق، ص ص 61- 77.
– د. منى أبو الفضل: النظرية الاجتماعية المعاصرة…، مرجع سابق.
[23] تسهم في دراسة هذه الإشكالية حقول معرفية متنوعة، وتقع هذه الإشكالية أيضًا في صميم اهتمامات متخصصي العلوم السياسية أصحاب الرؤى النقدية. وحول العلاقة بين العقل والوحي ووضعها في البحث المقارن بين النسق المعرفي والغربي وانعكاسها على المنظورات انظر على سبيل المثال: أحمد أوغلو، الفلسفة السياسية، ترجمة د. إبراهيم البيومي غانم، دار الشروق الدولية، القاهرة، 2005.
– Louay El Safy: The Foundations of knowledge, IIIT, USA, 1996.
[24] د. أحمد عبد الونيس: الأساس الشرعي والمبادئ الحاكمة للعلاقات الخارجية في الإسلام، (في) مقدمة مشروع العلاقات الدولية في الإسلام، (في) مرجع سابق.
[25] د. سيف الدين عبد الفتاح، مدخل القيم: إطار مرجعي لدراسة العلاقات الدولية في الإسلام، (في) مرجع سابق.
[26] د. أحمد عبد الونيس، د. عبد العزيز صقر، د. سيف الدين عبد الفتاح، د. مصطفى منجود: المداخل المنهاجية للبحث في العلاقات الدولية في الإسلام، (في) مرجع السابق.
[27] د. نادية محمود مصطفى: مدخل منهاجي لدراسة تطور وضع العالم الإسلامي في النظام الدولي، (في) مرجع سابق.
[28] د. ودودة بدران، وضع الدول الإسلامية في النظام الدولي في أعقاب سقوط الخلافة، مشروع العلاقات الدولية، المعهد العالمي للفكر الإسلامي، 1996.
[29] د. حامد عبد الماجد: مرجع سابق، ص ص 46- 47.
[30] د. لؤي صافي: مرجع سابق.
[31] د.نادية محمود مصطفى: نظرية العلاقات الدولية بين المنظور الواقعي والدعوة إلى منظور الجديدة. مجلة السياسة الدولية، أكتوبر سنة 1985.
[32] Keen Booth: Security in anarchy: utopian realism in theory and practice, International Affairs, Vo 67, No 3, July 1991, pp. 527- 546.
[33] Alexander Wendt: Op. cit, pp. 23- 25.
[34] انظر على سبيل المثال:
من المدرسة الفرنسية إسهام الأستاذ جون لوكا. ومن أحدث المشاركات مع الجماعة البحثية المصرية للعلوم السياسية كانت محاضرته في الندوة المصرية الفرنسية التاسعة، مرجع سابق.
– Fred Halliday: The future of international relations fears and hopes, (in) K. Booth and others, International relations theory positivism and beyond, 1995, pp 318- 322.
[35] انظر تفاصيل هذه المراجعات النظرية في علم العلاقات الدولية (في) د. نادية محمود مصطفى: إشكاليات البحث والتدريس في العلاقات الدولية من منظور حضاري مقارن، مرجع سابق، ص ص 11- 24.
[36] انظر أبعاد خريطة مقارنة أفقية وكذلك خريطة مقارنة رأسية بين منظورات غربية ومنظور حضاري إسلامي للعلاقات الدولية في: المرجع السابق: ص ص 31- 65.
[37] انظر هذا الرأي في: فتحي الملكاوي: مرجع سابق.
[38] انظر تفاصيل هذه الخبرة الكاملة طوال عقدين في: نادية محمود مصطفى: التوجهات العامة في تدريس العلاقات الدولية وبحوثها: مرجع سابق.
[39] حول مجموعة كاملة من مقالات الطلبة التي تم رصدها وتصنيفها عبر سنوات التدريس (1998- 2006)، والتي يتضح منها اختلاف الأسس التي انطلقت منها مواقف الطلبة معرفيًا ومنهاجيًا أو واقعيًا، انظر: د. نادية محمود مصطفى: إشكاليات البحث والتدريس.. مرجع سابق، ص ص 17- 20.
[40] انظر: المرجع السابق، ص ص 20- 23.
[41]انظر على سبيل المثال:
– د. علي الدين هلال، في الكلمة الافتتاحية في أعمال مؤتمر مناقشة مشروع العلاقات الدولية في الإسلام (في) د. نادية محمود مصطفى، د. سيف الدين عبد الفتاح (محرران)، مرجع سابق.
– انظر أيضًا: د. وجيه الكوثراني: الذاكرة والتاريخ في القرن العشرين، دراسات في البحث التاريخي، الفصل الثامن تحت عنوان: “في البحث عن خبرة التاريخ الإسلامي لدراسة العلاقات الدولية، نقد للمنهج الإسلامي أو المنظور الإسلامي، ويتضمن مشاركته في أعمال مؤتمر مناقشة مشروع العلاقات الدولية في الإسلام بالتعقيب على الجزء السابع من المشروع من إعداد د. نادية محمود مصطفى تحت عنوان: مدخل منهاجي لدراسة التطور في وضع العالم الإسلامي في النظام الدولي.
– وانظر عرضًا كليًا مقارنًا لهذه المواقف في: د. نادية محمود مصطفى عملية بناء منظور إسلامي في العلاقات الدولية، مرجع سابق.
وكذلك انظر مناقشة لهذه المواقف في: د. مصطفى منجود (محرر): مرجع سابق.
[42] انظر: د. عبد الخبير عطا: دور الجامعات في العالم العربي والإسلامي في بناء النسق الثقافي والحضاري للأمة أسباب الفشل ومقومات النجاح، (في) د. سيف الدين عبد الفتاح (محرر): التعليم العالي في مصر..، مرجع سابق.
[43] انظر هذه الآراء في جانب من المناقشات التي دارت في المؤتمر الذي نظمه المعهد العالمي للفكر الإسلامي في استانبول في ديسمبر 2006 بمناسبة مرور 25 عام على تأسيسه.
– وانظر عرضًا كليًا مقارنًا لهذه المواقف في: د. نادية محمود مصطفى عملية بناء منظور إسلامي في العلاقات الدولية، مرجع سابق، وكذلك انظر مناقشة لهذه المواقف في – د. مصطفى منجود (محرر): مرجع سابق.
[44] نادية محمود مصطفى: التوجهات العامة في تدريس العلاقات الدولية وبحوثها…، مرجع سابق، ص ص 185- 193.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى