ماذا يعني منظور حضاري لسياسات وقضايا العالم وموقع الأخلاق منها؟

مداخلة د. نادية مصطفى:

يعد هذا لقاءً تدشينيًّا تعريفيًّا لملتقى الحضارة: “التحولات والقضايا العالمية من منظور حضاري“، وهو ملتقى تواصلي تفاعلي مباشر، نعرض فيه جديدًا من حيث المحتوى والهدف، ولكنه امتداد وتراكم لبرامجنا السابقة في المركز عبر 25 عامًا، وللمشروع العلمي الفكري الذي يقوم عليه المركز، ألا وهو مشروع حضاري لعلم السياسة والعلاقات الدولية.

افتتحت د. نادية مصطفى الملتقى، فتضمَّنت كلمتُها مقدِّمات حول مدرسة المنظور الحضاري في العلوم السياسية، ومنطلقات هذا المنظور في دراسة القضايا العالمية، ثم تحديد أهداف الملتقى، واستدعاء بعض مشاهد الواقع الدالَّة على ذلك، وأعقبتْها برسم خريطة أجندة الموضوعات التالية، ثم ختمت كلمتها بمجموعة من التساؤلات.

أولا- مقدمات

وهي مقدمات شارحة تستدعي ذاكرة تبيِّن أن مركز الحضارة جزء من مدرسة حضارية وحركة علمية وفكرية عالمية في ظلِّ عالم يموج بالتغيُّرات على صعيد الواقع أو على صعيد العلم. وتشمل:

  • مجموعة أولى من المقولات من دائرتنا الحضارية العربية الإسلامية لأساتذة نَدِينُ لهم بفضل تأسيس هذه المدرسة ورعايتها:
  • القيم والسياسة… (د. حامد ربيع)
  • المنظور الحضاري.. تجديد للفكر من أجل تغيير الواقع … (د. منى أبو الفضل)
  • اختلاف الأنساق المعرفية يفسِّر اختلافَ مفاهيم العلم وأدواته وأجندته… (د. عبد الوهاب المسيري)
  • إنتاج علوم اجتماعية جديدة من مرجعية إسلامية ضرورة ليس لحلِّ أزمة الفكر والعقل المسلم ابتداءً ولكن لإصلاح الأمة ونهوضها… رموز وروَّاد مدرسة إسلامية المعرفة (د. إسماعيل الفاروقي، د. طه العلواني، د. عبد الحميد أبو سليمان)

فضلًا عن أعلام المدرسة الحضارية من أرجاء أخرى في العالم العربي والإسلامي.

  • مجموعة ثانية من المقولات عن الدائرة الحضارية الغربية ذات المركزية العلمية الآن كما تدَّعي، وفيها إرهاصات عبر العقود الثلاثة الماضية -أو أكثر- تستدعي القيم والثقافة والدين وتنتقد «الوضعية»، ويصعد فيها بالتوازي التيار النقدي للمركزية الحضارية الغربية.
  • وجميعهم اتَّفقوا على أنه حتى تتحقَّق عالمية علم العلاقات الدولية، لا بدَّ أن تساهم المراكز الحضارية المختلفة في العالم، لأن المركزية الغربية متفرِّدة ولكنها ليست عالمية.
  • وجميعهم استدْعوا مركزية وأهمية القيم والأخلاق والدين والثقافة والحضارة في التحليل الدولي، ليس كمثاليَّات كما يرى الوضعيُّون وإنما كضرورة لعلاج مشاكل الواقع.

هذه المقولات عايشْنا بجانبها موجات من التغيُّرات العالمية ومن ثمَّ أنتجَ المركزُ خلالَها عملية تفاعلية متعدِّدة المراحل بين نقد إنتاج المركزية الغربية ونقد تراث أمَّتنا الحضاري، وبين نقد فقه واقع العالم وموقعنا منه، في محاولة لإنتاج جديد من الفكر والعلم ليس غايةً في حدِّ ذاته ولكن وسيلةً نحو تغييرٍ عالمي وفي قلبه تغيير وضع أوطاننا وأمَّتنا في دورة التداول الحضاري العالمية، سعيًا نحو تجديد ونهوض حضاري. وربطًا بين الرؤية والتغيير المنشود، والتنظير والفكر، وبين حقائق الواقع، ولها ما يسجِّلها من إصداراتنا، على مستويات مختلفة.

ثم انتقلنا من التنظير -وهو عملية لا تكتمل أبدًا- إلى التشغيل والتفعيل في دراسة قضايا وتحوُّلات العالم، والأمة في قلبه تؤثِّر وتتأثَّر، حتى كان الانتقال منذ عامين لمؤتمر دولي، ننطلق منه بتوصيات من ضمنها الملتقى.

ثانيا- المنطلقات

تدور حول ماذا ولماذا منظور حضاري للتحولات والقضايا العالمية، بدون الدخول في تفاصيل علمية شارحة لمعنى منظور حضاري، وباختصار، نجد هناك:

  • منطلقات معرفية (لا تنظير بدون رؤية للعالم أو مرجعية أو نسق معرفي أيًّا كانت طبيعته) فليس هناك تنظير عالمي أو أحادي أو موضوعي فقط، إنما يتأثَّر برؤية للعالم.
  • منطلقات نظرية (لا يوجد منظور واحد -مهما كانت مرجعيَّته- قادر على شرح وتفسير واقع العالم المركب والمعقد).
  • منطلقات عملية (لا منظور بدون فقه للواقع وفقه للتغيير) سواء على مستوى دائرة حضارية معيَّنة أو على مستوى العالم متعدِّد الدوائر الحضارية.
  • ومن ثم منظور حضاري من مرجعية إسلامية يعني توازن وميزان وكلية وشمول يتجسَّد في  تكسير الثنائيَّات النكدة التي تقع منظورات أخرى أسيرة لها: فلا مصالح ولا قوة بدون قيم وأخلاق، لا تعاون أو صراع بدون قوة خادمة وحامية للحقوق، لا عالم بدول فقط دون أمم وحضارات، لا توزيع للثروات في العالم بدون عدل ومساواة، لا واقع مطلق بدون تاريخ وذاكرة وهوية، لا سلام واستقرار بمركزية أحادية مهيمنة وبدون تعدُّدية تشارُكية في مجتمع عالمي، لا عالم للكبار فقط بدون الأصغر، وغيرها كثير.
  • إن مفاهيم القوة والمصلحة والصراع والتعاون والأمن، وكذلك مفاهيم الأمة والدولة والحضارة، وكذلك مفاهيم العدالة والحرية والمساواة؛ كلها مفاهيم ذات خصوصيات حضارية وذات أبعاد قيمية مقارنة بنظائرها في منظورات أخرى.

وكذلك مفاهيم الرسالة للعالمين والأمة والدعوة والجهاد والسُّنن والتدافع والتداول والتعارف هي مفاهيم خاصة بالمرجعية الإسلامية تنطلق من مفاهيم تأسيسية وهي التوحيد والاستخلاف، والتزكية، والعمران، والعالمية، وتنبني عليها.

إذن، على ضوء هذه المقدِّمات والمنطلقات، كيف يمكن أن تنعكس هذه المنطلقات على مضمون ومنهاجية وتفاعلية هذا الملتقى عن قضايا وتحوُّلات عالمية؟

والأهم لماذا الآن هذا الملتقى، فللتوقيت دلالات هامَّة: ففي مركز الحضارة نعمل دائمًا على قضايا العالم وموقع الأمَّة منها، ولكن نريد أن نقدِّم شيئًا جديدًا على ضوء نتائج المؤتمر وتوصياته. ومن ثم نأتي للأهداف.

ثالثًا- الأهداف

أهداف الملتقى وأهميته الآن:

الأمر الأول: دلالات لتوقيت الحالة الراهنة العالمية، فحقيقة تفعيل تطبيق منظور حضاري ارتبط بفقه واقع الأمة سعيًا لتغييرها في ظلِّ تغييرٍ عالميٍّ أشمل،  وبناء وتأسيس هذا المنظور من عقود كان بدايةً استجابةً لحالة الأمة وليس حالة العلم فقط، وكذلك استجابةً للمرحلة الراهنة العالمية منذ أكثر من عقد بصفة خاصة، فيها الكثير من التحديات والمخاطر التي تزيد من أعباء المسؤولية العلمية والمسؤولية الأخلاقية والإنسانية، فنحن أمام وضعٍ يتزايد اتِّضاح أنه لا يحقِّق عدالةً عالميةً، ويسْعى بالإنسانية إلى دمارٍ في سلسلة متتالية من الحروب تنعكس على الأبعاد الإنسانية الحضارية الشاملة في كافَّة أبعاد النظام الدولي الآن.

وفي ظلِّ القناعة بأن التنظير ليس غايةً في حَدِّ ذاته، ولكننا نجتهد ولو برؤانا الفكرية، وحين نقول التحولات العالمية لا نقصد غيرنا فحسْب، بل نحن في قلب عملية التقييم والنقد.

الأمر الثاني: التحفيز الذي وضعَنا فيه المؤتمرُ الدوليُّ نحو مدرسةٍ حضاريةٍ في نظرية العلاقات الدولية، التي وكما اتضح من التقرير الختامي له أن من أهدافه: التشبيك والتشابك والتأسيس والتواصل حول قضايا وإشكاليات تطوير رؤى حضارية؛ لنطبِّقها ونفعِّلها في دراسة قضايا واقع العالم وواقع أمَّتنا.

ومن ثم لإظهار الخيط الناظم بين أهمية تجديد التنظير وتغيير الواقع، يمكن أن نستدعي قسطًا ممَّا أسْهم به علَمان في حقل علم العلاقات الدولية في مشاركاتهم في المؤتمر وهما د. مصطفى كمال باشا، ود. بهجت قرني.

ويمكن استدعاء نتائج المؤتمر في التقرير الختامي العامر بالمنطلقات والمقدِّمات والذي تضمَّن عدَّة أمور عن ماهية منظور حضاري وخصوصيَّتها، وعن الخيط الناظم بين العلم النافع والمنظور وفقه الواقع والتغيير المنشود. وتوصيات منها أن يكون هناك أشكالٌ من التعاون الإلكتروني، وتبيُّن الحاجة للتفكير المشترك.

رابعًا: مجموعة مشاهد دالَّة من واقعنا على أهمية الأهداف والمنطلقات والمنهجية التي نفترض أن نطبِّقها: سواء من داخل مؤسساتنا الجماعية الإقليمية والأممية أو من داخل مجتمعاتنا وسياساتها ونُظمها الداخلية أو من داخل سياسات أوطاننا الخارجية وبالمثل، على صعيد الدوائر الحضارية الأخرى شرقًا وغربًا داخليًّا وخارجيًّا ونظميًّا وكذلك على مستوى العالم أجمع:

ماذا نرى إذا طبَّقنا وفعَّلنا رؤانا الحضارية النقدية:

  • نجد الزيف في المبادئ المدَّعَى عالميَّتها.
  • البعد القيمي والإنساني غائب ومنتهك وغير معتبر في سياسات القوى التقليدية.
  • الحاجة إلى رؤية تجديدية حضارية تكون منطلقًا لسياسات تغيير ليصبح العالم أكثر عدالة وحرية وإنسانية، ابتداءً في التغيير من داخلها، فنحن حين نتكلَّم عن التغيير العالمي لا نقصد الآخر الذي يفعل بنا، نحن جزءٌ من العالم والبداية من الذات بنقدها وتقييمها ومراجعاتها، قبل أن نتَّهم غيرَنا بما يفعل بنا، فداخلنا ما مَكَّنَهُ من هذا وعلى نحو متصاعد.

خامسًا: خريطة أجندة للبرنامج الطموح الممتد والمشروعات التي نتحدَّث عنها طوال العام خلال هذا الملتقى، فهي اختصارًا مجموعة تحوُّلات، ومجموعة قضايا.

ونلاحظ أننا جمعنا مجموعة من القضايا العالمية في منظومات، لأن بينها وبين بعضها تأثيرات متبادلة، ونرجو من الأساتذة المشاركة في هذه الموضوعات كل حسْب اهتمامه.

سادسًا: مجموعة من الأسئلة تفتح الطريق لمداخلة د. مدحت. وهي أسئلة قلق، وتنبع من طبيعة موازين القوى العالمية، وطبيعة تحكُّم سياسات القوى التقليدية التي تعبِّر عنها المنظورات التقليدية في الإنسان العادي والجماعات والأمم والحضارات لحساب الدول والشركات العابرة للقارات والرأسمالية العالمية ومنظومة المركَّب الصناعي العسكري الرأسمالي، وهذه الأمور التي نعرفها ونرى أنها أضْحت مهدِّدة للإنسانية كلها، خاصة تصارُع وتيرة الأزمات وتصاعد أرقامها في السنوات الخمس الفائتة:

  • هل بمقدور “الضمير العالمي” والقيم الأخلاقية أن تتصدَّى وتؤثِّر في لعبة المصالح والقوى وإلى أي حد؟ هل بمقدور هذه الأبعاد -القيمية الأخلاقية- أن تؤثِّر في مسار تسويات القضايا العالمية؟ ما هي الموارد والمصادر المطلوبة وما هي أهم التحديات؟
  • هل يكفي إعلان المواقف الفكرية والمواقف القيمية النقدية دون امتلاك مصادر للتأثير، أكثر من العلانية وتعبئة مواقف الرأي العام العالمي، أو أكثر من مجرد تسجيل الرؤى النقدية في علم العلاقات الدولية دون أن نتمكَّن من تحقيق السيادة؟ في علم العلاقات الدولية أو على أرض الواقع في السياسات، نماذج قليلة للغاية مشرقة نجحت في هذا: رئيسة وزراء نيوزيلاندا، وكندا.
  • ألَا يستخدم ممارسو سياسات القوى التقليدية المهيمنة مبررات ودواعي أخلاقية لتجميل سياساتهم العسكرية التدميرية وسياساتهم الاقتصادية التدميرية للهوامش لصالح المركز؟
  • كيف نواجه النفاق الدولي للكبار حماية لمصالح الإنسانية؟ والأهم كيف نواجه الداخل؟ فالدولي هو المحلي والعالمي.
  • كيف نعالج القضايا العالمية التي تمسنا جميعًا كالجوع والأمراض والبيئة وغيرها من الأزمات؟

وهذه مجموعة من الأسئلة مستبطنة لإشكالية مهمَّة:

هل سلاح القيم والأخلاق ونقد سياسات القوى هو سلاح الضعفاء منزوعي عناصر القوة قسرًا أو استسلامًا، فلدينا حتمًا عناصر قوة، أم أن مقاومة المستضعفين في أرجاء عالمنا العربي والإسلامي وفي العالم أجمع -ونحن لدينا أنماط عديدة من المقاومة الحضارية المتجدِّدة والمتراكمة سواء بالسلاح أو العلم أو الانتخابات أو الديمقراطية- لا تنفي هذا السلاح بل تستلزمه، وتستلزم وجوده وتوظيفه شريطة أن يكون مجرد وجه لعملة وجهها الآخر هو عدم التخاذل أو الكف عن الأخذ بما يمكن من عناصر القوة الذاتية مهما صغرت في مرحلة ما: (علم – تماسك مجتمعي – مقاومة مسلحة حين يقتضي الأمر – انفتاح وتواصل عبر الحدود مع المناظرين في الرؤية والهم – …).

 

مداخلة د. مدحت ماهر:

دارت المداخلة حول سؤال: لماذا حين نصف منظورًا حضاريًّا لدراسة أو رؤية السياسات العالمية نصفُه بأنه واقعي قيمي أو أخلاقي؟

وهذا يتَّصل به أن نجيب على أسئلة خُتمت بها مداخلة د. نادية مصطفى تخصُّ واقعنا، إجابات فاعلة، وأيضًا إجابات إنسانيَّة، فاعلة: أن نفقه واقعنا جيِّدًا، وإنسانيَّة: أن نضع أساسًا لهذه الإنسانية ويكون هذا الأساس غير قاصر علينا.

ومن هنا جاء البعد الديني أو الأخلاقي للنظر للعالم من منظور حضاري.

بداية نحتاج لتمهيد مفاهيمي: ماذا نقصد بالأخلاق؟ أو ماذا نقصد بالبُعد الأخلاقي في النظر للسياسة العالمية؟ ثم لماذا نطرح هذا الطرح الآن؟ وكيف نتعامل مع السياسة العالمية ونحن نستصحب بعدًا أخلاقيًّا؟

والأخلاق مفهوم عالمي مطروح في الغرب والشرق؛ في الغرب نجد نوعًا من التعطُّش والمراجعات الضخمة، وشبه إجماع على أن البعد الأخلاقي يجب أن يعود. ما هو وكيف يعود؟ وكيف نوظِّفه أو ندمجه علميًّا؟ كلها مشاكل ضخمة ناتجة عن الاستمرار على فلسفة وضعية علمانية لا قيميَّة لمدة قرن، لكن ومع ذلك هناك نوع من التقدُّم خطوات في العقود الثلاثة الأخيرة في الحديث عن الأخلاق ودرورها في صنع السياسات العالمية لفاعلين دوليِّين، أو النظر للقضايا المأساوية كالجوع والأمراض أو غيرها من قضايا.

لكن في عالمنا نحن هنا قصة أخرى، الأخلاق عندنا لم تكن غائبةً بهذا الشكل الذي عاشَه الغرب على مستوى التشكيك أو الإنكار.

في تاريخنا عندنا قرآن، أخلاقي من كل جهة، وسنة نبوية أخلاقية، وتراث سياسي أخلاقي بالرغم من تجاوزات مرَّت به. ولكن القرن العشرين جاء مع محاولات التغريب، أراد الغرب أن يعلِّمنا ويكون هو مصدر المعرفة فانصبَّ هذا على موضوع الأخلاق، فبدأنا الدفاع عن الحسِّ الأخلاقي وفطريَّة الإنسان وبدأ التنظير للأخلاق من رؤية إسلامية تقابل الغربية، وجاء في هذا السياق مشروع د. محمد عبد الله دراز، وكذلك طرح آخر في نقد الغربي ومفهومه عن الأخلاق وهو طرح د. طه عبد الرحمن.

في الوسط تأتي المدرسة الحضارية، حين عملت على إعادة إنتاج علم السياسة من منظور الذات الحضارية متفاعلة مع الواقع، اعتبرت أن “القيم والأخلاق” هي المدخل الأوْلَى بذلك. ومن ثم فنحن أمام منظور أسَّس نفسَه على مدخل منهاجي ومدخل نظر قوامه القيم والأخلاق. وراجع من ثم حالة القيم في العلم وفي العالم وطرح مجموعة من المعطيات لاتصالها بالقوة والمصلحة.

الخلاصة: المدرسة الحضارية تمَّ من خلالها تأسيس هذا المنظور (الحضاري) على أنه مدافع عن الأخلاق ويرى بها العالم، فكيف يرى بها العالم؟

الأخلاق هي مجموعة من المعاني تحدِّد السلوك، وفي الوقت الذي لم يكن أحدٌ يفكر أن تمثِّلَ الأخلاقُ والقيمُ منظورًا للسياسة بعامة أو السياسة العالمية بخاصة، كان حامد ربيع ومنى أبو الفضل يقدمان منهجية في هذا الإطار؟

حيث تفعيل وتسكين الأخلاق في السياسة العالمية، تلك الأوصاف كيف نصلها بمنطق لا يرى إلَّا القوة والمصلحة؟

فكان لنقد المفاهيم السياسية ومراجعة مقاصد السياسة أهمية كبيرة، نقد مفاهيم المصلحة والقوة والأُسس التي تقوم عليها. وربط المدخل المقاصدي بها. إنها العلاقة بين القوة والمصلحة والأخلاق /… وهذا المدخل المقاصدي القيمي هو الذي يطرح السؤال: ما الذي نريد أن نفعله بعالمنا في النهاية؟

من منظور حضاري كانت فكرة حفظ الإنسان وحفظ العالم، الحفظ بالمعنى السلبي (ضدَّ العدوان) والإيجابي (زيادة العمران)؛ وهو مفهوم مأخوذ من الفقه الإسلامي.

المدخل المقاصدي القيمي يعني أن تكون الأخلاق -حين تُضَمُّ إلى المصلحة- منتجةً لأسئلة مهمَّة عن: الأولويات، المآلات، الإمكانيات، والموازنات.

فأولا- الأولويَّات: كيف يرتب القادة ومسؤولو المنظمات الدولية أولويَّاتهم؟ فمن المدخل المقاصدي، مصالح الإنسان لا يمكن أن تتساوى، هناك ضروريات وكماليات، توفير الدواء والغذاء للدول المتضرِّرة من الحروب هل يصبح أولوية أمام مصالح الكبار؟ … هذا مثال لسؤال الأولويات. وهو سؤال يخاطب التفكير السياسي، ويدخل في عمليات التخطيط والاختيار بين بدائل السياسات.

ثم ثانيا سؤال المآلات؛ وهو سؤال مصلحي أخلاقي: فإلى أين تذهب بنا السياسة العالمية الحالية؟ بنا جميعا. فالمدخل المقاصدي ينقلنا من ضيق المنظورات الوضعية التي تنظر في مصالح كلِّ دولة (باسم المصلحة القومية) إلى أن ننظر لعالمنا بكلِّيَّتِه. خاصة أننا أصبحنا في عالم قصير المسافات، متداخل المساحات. وهذا السؤال أساسي في التخطيط للسياسات.

ثم ثالثا يطرح المنظور المقاصدي -مع التقاء المقاصد والأخلاق بالقوة- يطرح سؤال الإمكانيَّات: أخذًا من قاعدة أن «ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب»، ومن ثم فتحصيل القوة واجب أخلاقي؛ المتقاعس عنه مسيء لنفسه ولغيره ممن ينتظرون تضامنه ونصرته. وسؤال الإمكانيات هو سؤال الواقع العملي، والإعداد الواقعي.

وكذلك -رابعا- يثير المدخل المقاصدي التفكير في السياق: وما ينشأ عنه من فقه الموازنات. أن نوازن بين السياسات والمفاهيم المفعلة في الساحة العالمية؛ على موازين المآلات، والأولويات، والإمكانيات.

ومن ناحية أخرى، فإن البعد الأخلاقي يتدخَّل في تفسير العالم وفي تغييره بمستويين:

  • المستوى الأول كلي: يقدِّم للناظرين فيه رؤية للعالم بشكل مختلف، يرى فيها البشر من أصل واحد، فالرؤية الأخلاقية الكلية نواجه من خلالها -على سبيل المثال- حالة النفاق الدولي؛ أولا بأن لا نكون نحن في عداد هذا النفاق، وأن نأخذ منه -ثانيا- موقفًا مضادًّا. وإذا سؤلنا: كيف نعالج الجوع العالمي؟ فإن الرؤية الكلية الأخلاقية تكرِّس أولاً مفهوم العالمية، ولا تكرِّس عولمة غير أخلاقية؛ ومن ثم تفسر الجوع بسياسات كلية، عامة، شاملة، وتعالجه بجهود مشتركة؛ يشترك فيها الجميع وفي مقدمتهم: الجائعون.
  • المستوى الثاني: كيف نفسِّر التحوُّلات والقضايا العالمية الجزئية من منظور حضاري يهتمُّ بهذا البُعد الأخلاقي؟ مثلا: حين وقعت جائحة كورونا كانت الأسئلة التي يطرحها هذا المنظور الحضاري أسئلة مختلفة، وقد الحس الأخلاقي أدان ما حصل ولا يزال يدين الجميع. لم نتضامن، تحكمت الحسابات الأنانية، وضع التنافس موضع التعاون، قدم بعضنا المعايير الاقتصادية الرأسمالية على الحياة والكرامة الإنسانية، … وهكذا.

 

وختامًا هناك إشكالية في الثقافة العالمية تحول دون فعالية هذا البُعد الأخلاقي ينبغي أن نعترف بها، وينبغي أن يعمل خطاب العلم وخطاب الفكر وخطاب الثقافة على مواجهة هذه الثقافة التي يعتبر الغرب (الذي رَأَسَ العالم لمدة قرنين) هو المسؤول الأول عن وضعها وتكريسها ونشرها في العالم.

ومن ثم هذا البعد الأخلاقي ليس بُعْدًا مثاليًّا يزرع شجرة يُسْتَظَلُّ بظلِّها بعيدًا عن العالم وإنما يفرض هذا البُعد أخلاقَ قوة، ليس بالمعنى الذي أنتجه الغرب أيضًا من أول نيتشه حتى القوة الأخلاقية والقوة المعياريَّة في الأدب الأوروبي، فهو معنى مُشين يُعيد إنتاج نفس المعنى الوضعي العلماني الصراعي ولكن بغلاف الأخلاق. ولكن بمعنى الأخلاق الحقيقية التي منها أخلاق الشجاعة، والحزم، والعزم، والهمة، والتفاني، والتضحية، وأخلاق المقاومة والاعتزاز بالذات.. إلخ.

فينبغي أن نتابع التحولات العالمية؛ ليس فقط لنرى كيف ستتحرَّك القوة من الغرب إلى الشرق، أو كيف تتنافس القوى الكبرى على مقاعد الصدارة، ولكن بالأولى لنرى كيف ستتحرك مصادر تعليم العالم الأخلاق، ومآلات ومنتجات ذلك … ومن هنا نبحث لنا عن دور؟

 

ملتقى التحولات والقضايا العالمية

اللقاء الأول 20 مايو 2023

يمكن مشاهدة المحاضرة من خلال هذا الرابط

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى