لبنان بين حافتي الانفجار والاستقرار

ثقافة الطائفية بين المشاركة والخوف

عاش لبنان طوال عام 2010 أزمة سياسية حادة تلخصت في ما عرف بأزمة “المحكمة الدولية”، والمقصود بهذه الأزمة هو انقسام اللبنانيين الشديد حولها بين مؤيد لها ولشرعيتها ولما سيصدر عنها من قرارات أو اتهامات بجريمة اغتيال رئيس الحكومة اللبنانية الأسبق رفيق الحريري، وبين من يشكك بهذه الشرعية أصلا ويعتبر المحكمة أداة سياسية في يد القوى الدولية وخصوصًا الولايات المتحدة لتصفية الحسابات والنيْل من المقاومة ومن حزب الله.
لم يقتصر أمر الخلاف والانقسام على الرؤى السياسية أو القضائية بشأن هذه المحكمة، بل امتد هذا الانقسام إلى بنية المجتمع اللبناني نفسه؛ بحيث بات تأييد المحكمة أو رفضها والتشكيك في شرعيتها هو تأييد أو رفض الطوائف والمذاهب أيضًا وليس القوى السياسية فقط، فالجريمة التي ارتكبت في الرابع عشر من شباط /فبراير 2005 طاولت رئيس الحكومة “السني” رفيق الحريري الذي كان يحظى بتأييد واسع وغير مسبوق في طائفته، والمتهم المفترض الذي ستوجه إليه تهمة ارتكاب هذه الجريمة، وفقًا لتسريبات الصحف والشخصيات السياسية المختلفة والمواقع الالكترونية…هو “أفراد من حزب الله” الذي قاد حركة مقاومة ضد إسرائيل حققت نجاحات غير مسبوقة أيضًا في تاريخ الصراع مع هذا الكيان، كما أن للحزب امتداد شعبي وتأييد قوي في وسط شيعة لبنان؛ أي أن المحكمة من حيث تعمدت ذلك أم لا باتت سببًا لانقسام مذهبي ليس جديدًا على بنية المجتمع اللبناني الذي تعيش فيه الطوائف جنبًا إلى جنب في ظل نظام سياسي طائفي يأخذ بالاعتبار منذ تأسيس الكيان اللبناني عام 1920حصص الطوائف في توزيع السلطة وفي إدراة البلاد، وتخشى كل طائفة في الوقت نفسه من أن تحاول الطوائف الأخرى أن تستحوذ على ما تعتبره “حقًا لها” في هذا الموقع السياسي أو الإداري أو ذاك.
وقد ابتكر اللبنانيون ما عرف بصيغة 6و6 مكرر، التي تعني المناصفة بين المسلمين والمسيحيين في المشاركة في إدارات الدولة ومؤسساتها… هكذا نشأت تدريجيًا في لبنان ثقافة “المشاركة” من جهة و”ثقافة الخوف” من أن تنال الطوائف الأخرى أكثر من حصتها في معادلة تقاسم السلطة المفترضة من جهة ثانية.
فنلاحظ على سبيل المثال أن شكوى الموارنة اليوم، وهم الذين هيمنوا على الحكم منذ تأسيس لبنان إلى بداية حربه الأهلية عام 1975، هي في تراجع سلطة رئيس الجمهورية الماروني بعد اتفاق الطائف عام 1989. في حين تتكرر مقولات الشك بالشيعة باتهامهم بأنهم يريدون مكاسب أكبر لطائفتهم في هذه التركيبة التي أعطت السُنَّة بعد اتفاق الطائف، الحصة الأرجح في مجلس الوزراء وفي قيادة دفة البلاد…
ومن هنا نفهم لماذا تحاول الأطراف السياسية وقادة الطوائف، في ظل الأزمة السياسية الحالية التأكيد على التمسك باتفاق الطائف. والمقصود بذلك هو الإقرار بمعادلة توزيع المناصب بين الطوائف الأساسية في البلاد، وعدم السعي إلى تغييرها وهذا ما يريده الرئيس الحريري بقوله: “…الوحدة الوطنية تعني أن يكون هناك تفاهم بين جميع الأطراف في لبنان على احترام الطائف والدستور…”[1].
ساهمت عوامل كثيرة منذ عام 2005 في تأجيج هذا التوتر وهذا الانقسام بين اللبنانيين،كما ساهمت عوامل أخرى مقابلة في السيطرة عليهما وفي منعهما من الانفجار. وربما لم يعرف لبنان في تاريخه المعاصر مثيلا لهذا الانقسام السياسي والمجتمعي، فكيف وصل لبنان إلى هذه المرحلة من الاضطراب ومن شيوع ثقافة “التهديد والخوف المتبادل” بين طوائفه وأحزابه ومنظماته؟ ولماذا يتمسك اللبنانيون في الوقت نفسه بمشاريع المصالحة والتوافق؟
ولماذا تعجز الأطراف المختلفة السياسية والطائفية عن التوافق الداخلي وتحتاج في حل كل أزمة أو في وقف كل حرب إلى تدخل القوى الإقليمية لمساعدتها على إيجاد الحلول إن لم يكن “لفرضها” كما حصل مع اتفاق الطائف (في المملكة السعودية) عام 1989 الذي أنهى الحرب الأهلية، ومع اتفاق الدوحة (في قطر) عام 2008 الذي أنهى الأزمة السياسية الحكومية التي استمرت أكثر من سنة ونصف، وساعد في ولادة “حكومة وحدة وطنية” عجز اللبنانيون عن تشكيلها بإرادتهم الذاتية المباشرة، من دون أن نغفل دور سوريا طوال نحو ثلاثة عقود في إدارة الحياة السياسية اللبنانية.
كيف وصل اللبنانيون إذًا إلى ما وصلوا إليه اليوم عام 2010 من حال الانقسام الذي لا يخفى على متتبع ولا ينكره أهله الذين يؤكدون في الوقت نفسه رغبتهم في تجاوزه والعودة إلى ما يعتبرونه وحدة واتصالا وعيشًا مشتركًا بين أبنائه كافة؟

أبعاد تفسير الحالة اللبنانية

ثمة مستويات أو أبعاد عدة يمكن أن تسمح بتفسير ما جرى بين اللبنانيين ويمكن أن تساعدنا إلى حد بعيد في توقع ما يمكن أن يحصل لهم ولبلدهم في المستقبل المنظور.

§ البعد الطائفي الداخلي:

يصعب على أي باحث في الشأن اللبناني أن يشرح سبب الأزمات المتلاحقة التي يشهدها هذا البلد وصولا إلى أزمة “المحكمة الدولية”، من دون أن يضطر إلى العودة إلى تاريخ تشكل هذا الكيان في مطلع العشرينيات من القرن الماضي. فقد عملت فرنسا -الدولة المنتدبة آنذاك- على دعم تشكيل نظام سياسي يقوم على تقاسم السلطة بين الموارنة والسُنّة؛ بحيث كانت الهيمنة للموارنة الذين نالوا حصة رئاسة الجمهورية والمواقع الأوْلى والمهمة في المؤسسات الأمنية والسياسية والإدارية، في حين نال السُنّة موقع رئاسة الوزراء، أما بقية الطوائف (الشيعة تحديدًا) فلم يكونوا شريكًا فعليًا في هذا التوزيع.
وكانت فرنسا الدولة المنتدبة بمثابة ما عُرِف بـ”الأم الحنون” للموارنة خصوصًا وللمسيحيين عمومًا، في حين كان المسلمون السُنّة أكثر ميلا نحو العروبة ونحو الدولة العربية الأكثر نفوذًا مثل مصر سابقًا والمملكة السعودية حاليًا. وقد استمرت هذه “الغلبة” المارونية في إدارة السلطة والحكم في لبنان منذ الاستقلال عام 1943 إلى اندلاع الحرب الأهلية عام 1975. ولذا كان من المنطقي أن تكون الرغبة في التخلص من هذه الغلبة المارونية أحد أسباب تلك الحرب بالإضافة إلى أسبابها الأخرى الإقليمية والدولية[2].
أتاحت هذه المعادلة الطائفية للنظام أن تبرر الطوائف “المغبونة” لنفسها التفكير في رفض “أزلية” الهيمنة من جهة والتهميش من جهة ثانية. هكذا سنشهد محاولات في أثناء الحرب الأهلية وبعدها لتقليص صلاحيات الرئيس الماروني لمصلحة رئيس الحكومة السني. كما سنشهد أيضًا محاولات شيعية للحصول على المزيد من الصلاحيات لرئيس البرلمان الشيعي…كما سعت كل طائفة في الوقت نفسه إلى أفضل ما يمكنها الحصول عليه من مواقع في إدارات الدولة. بحيث بات من “الطبيعي” أن نشهد نقاشات وخلافات حول من سيحصل على منصب مدير عام قوى الأمن الداخلي: الشيعة أو الموارنة، ومن سيحصل على موقع رئاسة الجامعة اللبنانية، وفي يد من ستكون وزارة المالية؟ ومن سيكون مديرًا لهذه الإدارة العسكرية أو الاقتصادية أو الاجتماعية أو الثقافية أو تلك…
كان النظام يسمح بذلك التقسيم على قاعدة توزيع المناصب مناصفة بين الطوائف، من دون أي التزام دقيق أو عادل بهذا التوزيع. وما يؤكد عدم عدالة هذا التوزيع على المستوى الوطني العام أن مناطق واسعة من لبنان (في الشمال والجنوب) لم تنل حظها لا من التنمية ولا من الاهتمام الحكومي ولا حتى من التوظيف في إدارات الدولة ومؤسساتها مثل المناطق الأخرى.
لم تستمر تلك المعادلة من الهيمنة من جهة والتهميش من جهة ثانية على حالها، فقد جرت تحولات مهمة ولكن بطيئة في وسط الطوائف المهمشة وخصوصًا في وسط الشيعة. فقد تمكن هؤلاء تدريجيًا من مغادرة الجهل الذي عرف عن آبائهم وانتقلوا من المهن الوضيعة في أسفل السلم الاجتماعي إلى مهن أخرى أكثر انسجامًا مع مستوياتهم التعليمية الجديدة ومع ارتفاع مستوياتهم الاقتصادية، وباتوا في الوقت نفسه أكثر وعيًا على المستوى السياسي “بحقوقهم” الطائفية أسوة بالطوائف الأخرى. هكذا سنشهد منذ منتصف السبعينيات مشهدًا سياسيًا – طائفيًا جديدًا في لبنان من خلال حركة الشيعة وتظاهراتهم للمطالبة برفع الغبن عنهم من جهة ولمطالبة الدولة من جهة ثانية بحمايتهم في الجنوب اللبناني من الاعتداءات الإسرائيلية التي لم تتوقف عليهم منذ تأسيس الدولة العبرية عام 1948، ولينخرطوا بعد ذلك في حركة مقاومة مباشرة ضد الاحتلال الإسرائيلي.
أفضى هذا التحول في واقع الشيعة في لبنان إلى تغيير في واقع التوازن القديم بين الطوائف. لكن الدستور الجديد كما عبر عنه اتفاق الطائف لم يلحظ تمامًا هذا التحول. وما زاد الأمور تعقيدًا أن ما جرى بعد هذا الاتفاق زاد من حجم الدور الشيعي ومن تأثيره السياسي والاجتماعي، في حين بات من الصعب بالنسبة إلى الطوائف الأخرى إعادة النظر في دستور البلاد (اتفاق الطائف) لتحقيق التوازن الفعلي بين الواقع الاجتماعي –السياسي وبين النصوص الدستورية لهذا التوازن. إذًا على المستوى الداخلي الطوائفي سيشعر الشيعة أن اتفاق الطائف غير عادل بالنسبة إليهم، حتى لو لم يجعلوا هذا الأمر أولوية أو مطلبًا ملحًا في إطار الأزمة السياسية التي يشهدها لبنان حاليًّا.
التحق الشيعة عمومًا منذ الاجتياح الإسرائيلي للبنان بحركة المقاومة ضد هذا الاجتياح، واستمروا في هذه المقاومة إلى أن نجحوا عام 2000 في تحرير معظم الأراضي التي وقعت تحت الاحتلال لأكثر من عشرين سنة. لذا كانت، بالنسبة إلى الشيعة، الدعوات التي أطلقتها قوى سياسية وطائفية أخرى في لبنان لنزع سلاح حزب الله بعد التحرير عام 2000 وبعد اغتيال الحريري عام 2005 وأثناء الأزمة الحالية مثابة دعوة للعودة إلى مرحلة الاعتداءات الإسرائيلية من دون أي رادع.
وما يزيد من قلق الشيعة في هذه المعادلة الطائفية أنهم باتوا بعد سوريا هدفًا للاتهام “أفراد من حزب الله” بجريمة اغتيال الرئيس الحريري. هكذا ستشهد البلاد في التعامل مع المحكمة الدولية حالة من الانفعال المذهبي بين السنة الذين فقدوا زعيمهم “التاريخي” وبين الشيعة الذين يعتبرون “أنهم قدموا التضحيات والشهداء من أجل الدفاع عن لبنان ومقاومة الاحتلال الإسرائيلي…في حين أنهم يتعرضون مقابل ذلك إلى الضغوط من أجل نزع سلاح المقاومة وإلى الاتهام بقتل الرئيس الحريري…”. وهذا يفسر تصريحات كثير من المسؤولين الغربيين لتبرير اتهام “أفراد من حزب الله” بأن هذه التهمة ليست ضد طائفة معينة (الشيعة) كما قالت على سبيل المثال وزيرة الدفاع الفرنسية ميشال أليو ماري[3].
سيشعر سنة لبنان في المقابل -بعد اغتيال الرئيس الحريري- بأنهم يتعرضون لمؤامرة القضاء على زعمائهم، فقد اغتيل سابقًا الشيخ حسن خالد مفتي الجمهورية اللبنانية في أثناء الحرب الأهلية، وكذلك الدكتور الشيخ صبحي الصالح أحد العلماء والمفكرين السنة.
وكانت تكفي المقارنة مع زعماء الطوائف الأخرى من الشيعة والمسيحيين والدروز وقوة حضور هؤلاء الزعماء ودورهم في المعادلة الداخلية لكي يتمسك السنة برفيق الحريري ومبايعته زعيمًا بلا منازع على الطائفة. كما كان الحريري على المستوى السياسي أول رئيس حكومة سيحظى بعد اتفاق الطائف بالصلاحيات الجديدة التي انتقلت إلى رئيس الحكومة السني بعدما انتزع قسم من تلك الصلاحيات من رئيس الجمهورية الماروني. بحيث سيبدو الحريري في نظر السنة اللبنانيين وهو يرأس اجتماعات مجلس الوزراء ويتصدى لرئيس الجمهورية، وينسج علاقات دولية وعربية واسعة بمثابة الزعيم التاريخي الذي لم يعرفوا مثيلا له بعد عقود من التهميش السياسي في ظل النفوذ السوري في لبنان، ومن غياب الزعامات المهمة للطائفة.
كما ظهر الحريري وربما لأول مرة في تاريخ الكيان اللبناني كأول رئيس حكومة “سني” أقوى من رئيس الجمهورية الماروني، في حكومات ما بعد الطائف. ولذا كان “الاشتباك السياسي” حتميًا بين الرئيس إميل لحود وبين رئيس الحكومة رفيق الحريري لأن لحود لم يرضخ لإغراءات الحريري ولم يمرر له كل ما أراد من مشاريع اقتصادية من الخصخصة إلى الاتفاقيات الاقتصادية والتجارية مع الدول الأوروبية (باريس 1 وباريس 2)…
هكذا سيشعر الرأي العام السني بالانزعاج من الرئيس اميل لحود وسيصبح أكثر التصاقًا بالرئيس رفيق الحريري. كما سيشعر المسيحيون أيضًا بمثل هذا القلق من رفيق الحريري رئيس الحكومة القوي في مواجهة الرئيس الماروني الذي كان قبل اتفاق الطائف الرئيس الأول بلا ند. ومن الممكن أن نتخيل أي شعور سيتولد لدى سنة لبنان بعد اغتيال الحريري عام 2005 واتهام سوريا بذلك الاغتيال بعدما قررت سوريا قبيل اغتياله التمديد للرئيس إميل لحود “خصم” الرئيس الحريري… لذا لم تواجه تهمة سوريا باغتيال الحريري أي عقبة لدى الجمهور السني الواسع في لبنان. وهي اللحظة التي ستبدأ فيها الأزمة اللبنانية الراهنة التي ستستمر طوال السنوات الخمس الماضية إلى عام 2010 من دون أي حل لها.
وقد ساهمت القوى السياسية المحلية والخارجية خصوصًا فرنسا والولايات المتحدة في هذا التحريض ضد سوريا[4]، ولم يكن من العسير دعوة هذا الجمهور للنزول إلى الشارع من أجل “السيادة والحرية والاستقلال” (ثورة الأرز) للتعبير عن الغضب مما فعلته سوريا وضرورة خروجها من لبنان، ولا من تحويل سوريا إلى العدو رقم واحد للبنان (“البحر من أمامكم والعدو ورائكم”: سمير جعجع في الذكرى الثانية لاغتيال الحريري في 14/3/2006).
هكذا يمكن أن نفهم لماذا بايع سُنَّة لبنان سعد ابن رفيق الحريري زعيمًا لهم وهم لا يعرفونه؛كانت المبايعة تعبيرًا عن حالة “التضامن الوجودي” لدى الطائفة السنية بعدما فقدت غدرًا أحد أهم زعمائها التاريخيين. وما فعلته هذه الطائفة ليس خارج مألوف العلاقات العائلية والقبلية والعشائرية في لبنان أو في المنطقة العربية… فقد فعل الدروز في لبنان الأمر نفسه بعدما بايعوا وليد جنبلاط إثر مقتل والده عام 1978، ولم يكن بدوره أكثر اهتمامًا بالشأن من سعد الحريري.
شعر المسيحيون بدورهم بما يمكن أن نسميه القلق “الاستراتيجي” على وجودهم وعلى مستقبلهم. ليس فقط بسبب تراجع صلاحيات رئيس الجمهورية الماروني لمصلحة الطوائف الإسلامية الأخرى، بل بسبب تغير موازين القوى الديمغرافي في البلاد لمصلحة المسلمين, وتشير الإحصاءات الأخيرة بحسب لوائح الشطب في انتخابات 2009 أن نسبة المسيحيين لم تتجاوز 35% من مجموع السكان، وهذه النسبة ستزداد انخفاضًا مع تزايد هجرة الشباب المسيحي وانخفاض نسبة الولادات عمومًا في العائلة المسيحية.
لم يكن بمقدور المسيحيين أن يوقفوا عجلة التحولات التاريخية والديمغرافية والسياسية، فقد خرجوا منهكين ومشتتين من الحرب الأهلية وفقدوا في اتفاق الطائف امتيازاتهم التاريخية… وقد باتوا في كثير من المناطق اللبنانية بحاجة إلى التحالف مع المسلمين السنة أو الشيعة للفوز بمقاعد انتخابية لهم. كما انسحب الأمر على التحالفات السياسية بين طرفين مسيحيين أساسيين (التيار الوطني الحر الذي تحالف مع حزب الله ليشكلا معًا نواة المعارضة اللبنانية، والقوات اللبنانية وحزب الكتائب الذين تحالفوا مع تيار المستقبل في إطار الموالاة).
هكذا تبدو معادلة الطوائف في لبنان شديدة التعقيد والتداخل، فهي تشبه المثلث الذي لا يمكن أن يتقوص أو يتمدد أحد أضلاعه من دون أن تتأثر الأضلاع الأخرى مباشرة. فيصعب أن نفصل بين طموحات الشيعة أو مخاوفهم على سبيل المثال من دون أن نلتفت إلى تداعيات ذلك على السنة. ومن غير الممكن أن نبحث في حجم نفوذ السنة من دون معرفة كيف ينظر الشيعة والمسيحيون إلى هذا النفوذ. ولا إلى مستقبل العلاقات بين السنة والشيعة من دون أن نلحظ مخاوف أو هواجس المسيحيين من هذه العلاقة سواء كانت إيجابية أو سلبية.

§ البعد السياسي الإقليمي/الدولي:

على الرغم من هذا الواقع الطوائفي المباشر في علاقات اللبنانيين في ما بينهم لا ينبغي أن نغفل التداخل القوي بينه وبين الواقع السياسي الإقليمي والدولي. ليس فقط لأن لبنان شديد التأثر بتحولات ما يجري في محيطه، بل لأن الخيارات السياسية لكل طرف أيضًا كانت تتجاوز الطائفة إلى المحاور الإقليمية باتجاهاتها المختلفة.
لذا حاول الكثيرون في لبنان أن يثبتوا دومًا أن الصراع هو صراع سياسي وهو خلاف على مشاريع سياسية لها امتداداتها في المنطقة. وهذا في الواقع صحيح؛ لأن قوى “الرابع عشر من آذار” -على سبيل المثال- وعمودها الفقري تيار المستقبل ومعه حلفاؤه من القوات اللبنانية ومن حزب الكتائب تؤيد المحكمة الدولية من جهة، وتدعو من جهة ثانية إلى نزع سلاح المقاومة والتسوية مع إسرائيل (أيد رئيس الحكومة سعد الدين الحريري استئناف المفاوضات الفلسطينية الإسرائيلية في سبتمبر/2010…)، وتجاهر هذه القوى بانحيازها إلى”دول الاعتدال العربي”، وتحديدا مصر والمملكة السعودية. في حين كانت “الجبهة” الأخرى، أي قوى “الثامن من آذار” وعمودها الفقري حزب الله وحركة أمل وحلفاء الحزب من السنة ومن المسيحيين (التيار الوطني الحر)، ترفض المحكمة الدولية وتشكك في أهدافها، وتؤيد التمسك بسلاح المقاومة وتعتبره ضرويًا لحماية لبنان من أي عدوان إسرائيلي، وهي أقرب سياسيًا إلى “محور الممانعة” -أي إلى سوريا وإيران.
أي إن الخلاف بين الطوائف في لبنان لا يقتصر على المستوى الداخلي فقط بل يمتد في الوقت نفسه إلى خيارات هذه الطوائف السياسية تجاه ما يجري في المنطقة وخصوصًا تجاه الصراع مع إسرائيل. وهذا ينطبق على المواقف من المحكمة الدولية التي تحظى بالتأييد أو الرفض من القوى الإقليمية أو الدولية انسجامًا مع مواقف حلفائها في لبنان. وربما تكفي للدلالة على هذا البعد السياسي المباشر للخلاف في لبنان، المقارنة بين وثيقتي حزب الله وتيار المستقبل اللتين نشرتا في فترتين متقاربتين نسبيًا لنتأكد من هذا التباين في الرؤية حول قضايا الصراع وحول كيفية التعامل معه، وحول نظرة كل فريق إلى موقعه فيه. في الوقت الذي لا تختلف فيه تقريبًا رؤية هذين الفريقين إلى الدولة وإلى ضرورة بنائها وتعزيز دور مؤسساتها…
يستلهم “تيار المستقبل” في وثيقة إعلان حزبه السياسي (ربيع 2010) وفي ذروة الأزمة السياسية في لبنان “تجربة الرئيس الراحل رفيق الحريري”، في حين يشير حزب الله في وثيقته السياسية (شتاء 2009) إلى “أولوية الفعل وأسبقية التضحية”. فالأول يعتبر أنه لم يعد بالإمكان تأريخ المرحلة الممتدة من ثمانينات القرن الماضي “دون ربطها بإسم رفيق الحريري” وتجربته، والثاني يرى أنه لم يعد بالإمكان مقاربة التحولات الجارية حاليًا من “دون ملاحظة المكانة الخاصة التي باتت تشغلها المقاومة أو تلك الرزمة من الإنجازات التي حققتها مسيرتها”.
المستقبل يدعو إلى”تجديد العروبة وتحديثها لجعلها رابطة منفتحة وديموقراطية وجامعة، أما بالنسبة لـ”حزب الله”، فتتحول مقاومته من “قيمة وطنية لبنانية” تدحر الاحتلال الإسرائيلي وتؤثر في بناء الدولة “القادرة العادلة”، إلى “قيمة عربية وإسلامية”، بل “قيمة عالمية وإنسانية”، هدفها “استنهاض الأمة” وتغيير موازين القوى في المعادلة الإقليمية لمصلحة المقاومة وداعميها.
إن مجرّد قراءة هاتين المقدمتين تظهر لنا الفوارق الكبيرة في مشروعَي كل من التيار والحزب، سواء على الصعيد المحلي أو الإقليمي أو الدولي. والتمايز واضح وعميق، بين محور لا يرفض السلام مع إسرائيل، وآخر يرفض أي شكل من أشكال التسوية معها، ذلك أن إسرائيل بالنسبة للحزب خطر دائم، كما أنها “مولود غير طبيعي وكيان غير قابل للحياة والاستمرار ومعرض للزوال” (المقدمة)، وبالتالي لا حاجة للاعتراف بها أو إقامة سلام معها. في حين يعتبر تيار المستقبل نفسه “مكوِّنًا استراتيجيًا من مكونات الاعتدال العربي، القائم على “ملاقاة التحول الجاري في العالم العربي”، واستراتيجية السلام مع إسرائيل على أساس الحل العادل كما تجسده المبادرة العربية المقررة في قمة بيروت.
أما “حزب الله” فيريد إضافة القيم التأسيسية المتأتية من المقاومة إلى قيم لبنان الأساسية التي تكرّست في ميثاق 1943. وبالتالي إن “لبنان الحديث” هو تراكم “لبنانين”: لبنان الحرية والثقافة والعلم والتنوع، أي لبنان – الميثاق في العام 1943، ولبنان العنفوان والكرامة والتضحية والبطولة، التي يعتبر الحزب أنه حقّقها بفضل مقاومته وتحريره الجنوب (الفصل الثاني، ثانيًا: المقاومة)…أما مشروعه، فهو قائم على مبدأ المقاومة ورفض عملية التسوية في المنطقة. والمحور الإقليمي الذي يعلن “حزب الله” الانتماء إليه يتناقض مع ذاك الذي يؤيده “تيار المستقبل”، فالحزب مع فكرة المقاومة في “المعركة الحضارية التاريخية” ضد الغرب الاستكباري. أما “المستقبل” فمع محور “الاعتدال العربي” القائم على الانفتاح على الثقافات، ركيزته “العروبة الجديدة” التي انطلقت من قمة الرياض…[5].

§ الاضطراب الطائفي-السياسي:

اضطربت العلاقات الداخلية بين الطوائف اللبنانية وخصوصًا بين السنة والشيعة بعد اغتيال الرئيس رفيق الحريري في شباط/فبراير 2005. وتفاقم هذا الاضطراب بعد تشكيل المحكمة الدولية وما تسرب عن قرارها الظني الذي سيتهم أفرادًا من حزب الله… قبل ذلك التاريخ لم يكن لهذا الاضطراب أي أثر يذكر في الحياة السياسية والاجتماعية اللبنانية.
لقد سارعت قوى ودول كثيرة في لبنان وخارجه، ومن دون أي دليل أو بينة، وفي مقدمتها فرنسا والولايات المتحدة إلى اتهام سوريا بارتكاب هذه الجريمة. فاعتبر السنة أن الشيعة شركاء غير مباشرين في هذه الجريمة لأنهم حلفاء سوريا، ولأنهم لم يتفاعلوا مع التهمة الموجهة إليها، كما رفضوا أصلا هذه المحكمة قبل أن يشككوا في أهدافها.
لكن سوريا، كما أشرنا، ستتحول في نظر قوى الرابع عشر من آذار إلى “عدو” لبنان الأول الذي ينبغي ترسيم الحدود معه ومنعه من ارسال السلاح إلى حزب الله، وإلغاء كل الاتفاقيات التجارية والمائية والاقتصادية والأمنية التي عقدت معه في المرحلة السابقة… وطوال السنوات الخمس الماضية سيستمر التوتر الداخلي بين القوى اللبنانية السياسية وبين الطوائف الرئيسة، يخبو حينًا ويتصاعد حينًا آخر. وسيبلغ ذروته عام 2010 ليس فقط على طبيعة الحكم والمخاوف من الاستئثار، بل وأساسًا على المحكمة الدولية التي ستتحول في البداية إلى رهان دولي ومحلي على إسقاط سوريا أو إضعاف نظامها… ما يعني إضعاف حلفائها في لبنان وفلسطين (حزب الله وحركة حماس) وإيران… قبل أن تطوى صفحة ذلك الاتهام ضد سوريا، ليتوجه بحسب كل التسريبات (قبل صدور القرار الاتهامي) إلى “أفراد من حزب الله”.
هكذا سيعود التوتر بشدة إلى العلاقات الداخلية اللبنانية بعد الانقسام حول المحكمة الدولية بين مؤيد لها وللعدالة التي ستحققها (قوى الرابع عشر من آذار) وبين رافض ومشكك في أهدافها (قوى الثامن من آذار)…
مع تسريب هذا الاتهام سنعود مجددًا عام 2010 إلى الاضطراب السياسي والإعلامي، ومعهما المخاوف من عدم الاستقرار ومن الفتنة التي قد تطل برأسها في لبنان…
لم يكن الوضع الداخلي في لبنان بطبيعة الحال معزولا عما يجري حوله على الصعيد الإقليمي، فقد تدهورت العلاقات السورية – السعودية بعد حرب تموز 2006، بعدما اعتبرت المملكة ما قام به حزب الله (عملية خطف الجنديين الإسرائيليين) مغامرة غير مسؤولة… في حين وقفت سوريا إلى جانب الحزب والمقاومة واعتبرت نتائج الحرب انتصارًا لها وإدانة لمن وقفوا جانبًا.
وقد انعكس هذا التدهور على حلفاء الطرفين: تيار المستقبل وقوى الموالاة من جهة، وحزب الله وقوى المعارضة من جهة ثانية؛ بحيث بات من الصعب تجاوز الخلافات الداخلية في ظل استمرار الخلاف بين السعودية وسوريا. ولهذا كان رئيس المجلس النيابي نبيه بري يؤكد دائمًا في معرض رؤيته للحل في لبنان وخصوصًا ما تعلق بأزمة المحكمة الدولية على ما يسميه: “معادلة س/س” أي سوريا والسعودية، ما يعكس إدراك اللبنانيين لمدى تأثير البعد الإقليمي على أوضاعهم الداخلية وعلى سبب خلافاتهم وعلى فرص الحلول التي يبحثون عنها.
ولم يكن البعد الدولي بدوره بعيدًا عن هذا التأثير وعن هذه المعادلة الداخلية /الإقليمية في تأجيج الصراع أو في البحث عن الحلول والتسويات؛ فقد وقفت الإدارة الأميركية علانية إلى جانب المحكمة الدولية ولم تكُّف عن إعلان الدعم والتأييد تارة لرئيس الحكومة اللبنانية فؤاد السنيورة في مواجهة “من يريد تخريب استقرار لبنان ومنع تحقق سيادته”…وتارة للرئيس سعد الحريري، من خلال زيارات المسؤولين السياسيين والعسكريين إلى لبنان “للإشادة بصلابة رئيس الحكومة، ولتأكيد الدعم للمحكمة الدولية”…

2010 عام المحكمة الدولية:

تحولت المحكمة الدولية إلى قضية العام الرئيسة، بعد التسريبات المتلاحقة في الصحافة الغربية عن اتهامها أفراد من حزب الله وعن “موعد قريب لصدور قرارها الظني”، إلى “قنبلة موقوتة” يخشى الجميع انفجارها في وجه اللبنانيين في أي لحظة.
فقد عاد التداول وبقوة في وسائل الإعلام المحلية والأجنبية إلى ما سبق ونشرته صحيفة دير شبيغل الألمانية (في 23 أيار/مايو 2009) عن ما اعتبرته “خلاصة جديدة تتجه إليها التحقيقات مفادها أن السوريين لم يخططوا ولم ينفذوا عملية الاغتيال، بل القوات الخاصة التابعة لتنظيم حزب الله الشيعي اللبناني”، ونقلت مضمون هذا التقرير فضائيات وصحف عربية وأجنبية عدة. ودخل لبنان في دوامة من الشائعات عن الموعد المفترض لصدور القرار الظني الذي سيوجه الاتهام إلى “أفراد من حزب الله” بجريمة الاغتيال.
لكن عام 2010 هو أيضًا عام المصالحة الرسمية اللبنانية مع سوريا، فقد توجه رئيس الحكومة وزعيم تيار المستقبل سعد الحريري إلى دمشق بعد وساطة سعودية “لفتح صفحة جديدة من العلاقات بين البلدين”. أما أهم نتائج هذه المصالحة فهي اعتراف الرئيس الحريري بتصريح إلى جريدة الشرق الأوسط السعودية في 6/9/2010 “ببراءة سوريا من اغتيال والده وإقراره بوجود شهود زور ضللوا التحقيق وأساءوا إلى علاقات لبنان مع سوريا”.
وأهمية هذا الاعتراف من رئيس الحكومة اللبناني أنه يعتبر نقيضًا لكل اتهامات لجنة التحقيق الدولية، وفريق رئيس الحكومة السياسي طوال خمس سنوات لسوريا بجريمة الاغتيال؛ أي أن الاعتراف ببراءة سوريا وبوجود شهود زور هو إقرار بأن مسار التحقيق السابق من جانب التحقيق الدولي لم يكن صحيحًا، وأن أبرياء سجنوا بسبب هؤلاء الشهود الزور.
تمحور الخلاف حول المحكمة وحول قرارها المرتقب على القاعدة السابقة نفسها من الانقسام السياسي والطائفي معًا؛ أي المعارضة: (حزب الله وحركة أمل وحلفاؤهم من القوى والطوائف الأخرى -حلفاء وأصدقاء سوريا وإيران)، والموالاة: (تيار المستقبل والقوات اللبنانية والقوى السياسية الأخرى_حلفاء وأصدقاء المملكة السعودية ومصر والولايات المتحدة)، بين من يدافع عن هذه المحكمة من “أجل الاستقرار والعدالة”، وبين من يتهمها بالتسييس خدمة لأهداف الدول التي تريد محاصرة المقاومة أو القضاء على دورها في الصراع ضد إسرائيل.
وفي ظل هذا الانقسام بات لبنان أمام محنة جديدة: إما أن يدخل أتون فتنة سياسية ومذهبية تطيح باستقراره، أو أن يتم الحل أو التوافق الذي يمكن أن ينجم ليس عن التفاهم اللبناني – اللبناني فقط، بل عن التفاهم السعودي- السوري لتطويق قرار المحكمة الدولية ومنع انفجار الوضع اللبناني مجددًا.
ومع التلويح بهذا الاتهام ضد حزب الله سيعود لبنان مجددًا إلى الاضطراب السياسي والإعلامي وإلى سجالات لن تتوقف حتى الأيام الأخيرة من العام 2010 بين مؤيدين للمحكمة ومعارضين لها، وستتعرض الحكومة اللبنانية للشلل، وتتوقف عن الاجتماعات في الأشهر الأخيرة من العام نفسه على الرغم من تفاقم المشاكل الاجتماعية والاقتصادية…وسيتمحور الخلاف بين أطراف حكومة (الوحدة الوطنية) على قضية رئيسة هي قضية شهود الزور؛ ففي الوقت الذي سيتمسك فيه فريق المعارضة (حزب الله وحلفاؤه) بالتحقيق مع هؤلاء الشهود، سيرفض فريق الموالاة (تيار المستقبل وحلفاؤه) هذا الأمر.
وتستند المعارضة في دعواها إلى ما أعلنه الرئيس الحريري نفسه لجريدة الشرق الأوسط السعودية عن “وجود شهود زور ضللوا التحقيق…ولذا ينبغي بالنسبة إلى المعارضة معرفة هؤلاء الشهود الذين اعتمدت عليهم لجنة التحقيق الدولية، ومعرفة من كلفهم مثل هذه الشهادة ولأي غاية ولماذا ضللوا التحقيق!!! في حين يصر فريق الموالاة تارة على عدم وجود مثل هؤلاء الشهود وتارة على أن محاكمتهم لا يجب أن تتم قبل صدور القرار الظني بحق المتهمين بجريمة الاغتيال…
وقد زاد هذا التباين الأزمة تعقيدًا ومعها المخاوف من عدم الاستقرار ومن الفتنة التي قد تطل برأسها في لبنان…ذلك أن صدور مثل هذا القرار سيعني أن حزب الله هو من اغتال الرئيس الحريري وليس أفرادًا “غير منضبطين”. كما سيعني الأمر على مستوى أوسع أن الشيعة هم من اغتالوا زعيم السنة في لبنان. خصوصًا وأن تداعيات الفتنة بين السنة والشيعة التي ستنجم عن مثل هذا الادعاء لن تقتصر على لبنان وحده بل ستتوسع على الأرجح إلى بلدان عربية أخرى، وسيشهد مشروع التفاهم العربي- الإقليمي برعاية سوريا والسعودية صعوبة لحل الأزمة في لبنان من دون توافق داخلي مناسب (الأسد من قطر: نرفض الاتهام من دون دليل وأفكار الحل تعلن لبنانيًا السفير 15/12/2010).
بعد هذا التحول في وجهة التحقيق الدولي وفي وجهة الاتهام نحو حزب الله بدلا من سوريا، بدأ حزب الله معركة دفاعية استباقية ضد هذه المحكمة وضد قرارها الظني المرتقب. وقد اعتمد الحزب في هذه المعركة على الجوانب الأمنية والسياسية والقانونية ليثبت وهن المحكمة وخضوعها للتدخل السياسي وبالتالي فقدانها لمعايير النزاهة والمهنية المفروضة للوصول إلى العدالة ولمعرفة القتلة، فسأل المحكمة لماذا لم تكن إسرائيل بين المتهمين بهذه الجريمة؟ ولماذا لم يحاول المحققون التحقيق مع أي من المسؤولين الإسرائيليين (علمًا بأن طائرات التجسس الإسرائيلية لا تنقطع عن الطيران فوق لبنان، وكانت مثل هذه الطائرات موجودة فوق مسرح الجريمة)؟ وقدم حزب الله من أجل هذه الفرضية شريطًا مصورًا من أرشيف المقاومة يرصد حركة الطيران الإسرائيلي فوق بيروت بما فيها منطقة وقوع جريمة الاغتيال.
إلى ذلك استند الحزب أيضًا إلى ما كشف من تجسس إسرائيلي ومن قدرة على السيطرة على شبكة الاتصالات اللبنانية، خصوصًا وأن قرار الاتهام يستند إلى اتصالات مفترضة بين أفراد من حزب الله قبل حصول الجريمة وبعدها. وقد تبين من هذه السيطرة الإسرائيلية على قطاع الاتصالات أن بإمكان إسرائيل أن تفبرك اتصالات متبادلة بين من تريد من مشتركين في شبكة الاتصالات من دون أن يكون أي من هؤلاء قد أجرى أي اتصال فعلي من هاتفه النقال.
كما لجأ الحزب في إطار هجومه على المحكمة إلى الإطار القانوني، مستعينًا بشخصيات حقوقية بارزة للتأكيد على عدم قانونية إجراءاتها، خصوصًا وأن الموافقة اللبنانية الرسمية على المحكمة عام 2005 لم تكن دستورية نظرًا لعدم توقيع رئيس الجمهورية (اميل لحود) عليها ولعدم عرضها على مجلس النواب للموافقة عليها.
لم يكن حزب الله من خلال معركته الاستباقية ضد المحكمة وقرارها الظني يخشى فقط اتهامًا ظالمًا، بل كان الحزب يدرك تمامًا أن مثل هذا الاتهام لن يقتصر على مجرد تشويه صورته داخليًا أو عربيًا، لأن مثل هذا الاتهام يتجاوز ذلك إلى تأكيد أن الحزب منظمة إرهابية تقوم بالاغتيالات. ومن المؤكد أن الماكينة الإعلامية الغربية ستستغل هذه التهمة لتنسب إلى الحزب عشرات عمليات الاغتيال التي حصلت في لبنان وفي أماكن أخرى في المنطقة وفي العالم. وقد لا تكون مخاوف الحزب وتقديراته مجرد أوهام، فقد أكد جيفري فيلتمان السفير الأميركي السابق في لبنان في جلسة استماع في وزارة الخارجية في 8/6/2010 أن حكومته أنفقت 500 مليون دولار لتشويه صورة حزب الله في لبنان، كما أكد في تصريحات أخرى في شهر أكتوبر 2010 أنه يعمل على تمزيق حزب الله وتقديمه هدية الأعياد إلى اللبنانيين…[6].
ومن المرجح بعد صدور تهمة مماثلة ضد الحزب أن يتلقف مجلس الأمن ذلك ليصدر قرارات أخرى أشد قسوة تعتبره ميليشا وتدعو إلى نزع سلاحه…مع ما يعني ذلك من تعقيدات إضافية في الوضع الداخلي اللبناني ومن ضغوط ستمنع أي مؤيد للحزب في أي مكان في العالم من التعاون معه أو تأييده أو إرسال التبرعات إليه…

الاهتمام الإقليمي والدولي بالمحكمة:

لم تكن “معركة” القرار الظني، أو قضية المحكمة الدولية، في لبنان خارج بيئة الصراع أو المحاور الإقليمية والدولية، فمن المعلوم أن حزب الله وحلفائه في قوى الثامن من آذار أكثر قربًا من “محور” سوريا- طهران، مع ملاحظة التفاوت في هذا القرب بين طرف وآخر من أطراف هذه القوى (علاقة حزب الله الخاصة مع إيران). كما أن الفريق الآخر، أي قوى الرابع عشر من آذار، أكثر قربًا من محور “الاعتدال العربي” وعلى رأسه المملكة السعودية (وعلاقتها الخاصة مع تيار المستقبل) ومصر. كما تحظى هذه القوى بدعم علني وتأييد الولايات المتحدة الأميركية. ما يعني أن طبيعة الخلاف حول المحكمة أو الرهان على نتائج ما ستتوصل إليه ليس معزولا لا عن صلات القوى المحلية بالمحاور الإقليمية ولا عن علاقة هذه المحاور بالقوى الدولية.
لذا، سنلاحظ أن الأطراف الإقليمية التي أشرنا إليها ستكون لها المواقف نفسها التي تنسجم مع مواقف حلفائها في لبنان من المحكمة الدولية ومن قرارها الظني.
فإيران -على سبيل المثال- وهي الأقرب (مع سوريا) إلى قوى الثامن من آذار وإلى حزب الله، اتهمت المحكمة بالتسييس وأدانت القرار الظني المرتقب. ويعتبر علي لاريجاني رئيس مجلس الشورى الايراني بعد لقائه الرئيس الاسد في دمشق في 30/11/2010: “أن القرار الاتهامي والمحكمة الدولية الخاصة بجريمة اغتيال رفيق الحريري هي مشروع أميركي يهدف إلى ضرب الاستقرار في لبنان”.
والموقف الإيراني الأوضح والأقوى كان على لسان مرشد الثورة في 20/12/2010 بعد لقائه أمير قطر في طهران عندما اعتبر جازمًا “أن أي نتائج تتوصل إليها المحكمة الدولية الخاصة بجريمة اغتيال الرئيس الشهيد رفيق الحريري ستكون باطلة… وأن هذه المحكمة صورية وسيكون حكمها لاغيًا وباطلًا مهما كان.. داعيًا “جميع الأطراف في لبنان، إلى الحكمة والتعقل…كي لا يتحول هذا الموضوع إلى مشكلة، مشددًا في الوقت عينه على أن “المؤامرة ضد لبنان لن تنجح”.
اتهمت سوريا أيضًا المحكمة بالتسييس، فقد ربط وزير الخارجية السوري وليد المعلم بين استمرار المحكمة كأداة سياسية للقوى الخارجية وبين تهديد استقرار لبنان… واعتبر أن من يريد استقرار لبنان عليه أن يحيد المحكمة. وأشار المعلم في ندوة في جامعة دمشق في 2/8/2010 إلى أنَّ “موقف سوريا كان واضحًا منذ البداية، وهو أن المحكمة لا تسعى إلى كشف الحقيقة، بل تشكلت لأهداف سياسية وللضغط على دمشق”… معتبرًا أنَّ “هذه المحكمة التي تُسرّب معلومات عن التحقيقات إلى الإعلام والإسرائيليين، لا أعتقد أنها تبغي العدل والإنصاف وكشف الحقيقة”… كما أكد نائب وزير الخارجية السوري فيصل المقداد بدوره تهمة التسييس وأضاف: “أنا كنت في الأمم المتحدة وأعرف كل الألاعيب التي تمت من أجل إنشاء هذه المحكمة ومن أجل التحقيق قبل إنشائها…”[7].
والرئيس الأسد نفسه لم يتردد في رفض المحكمة وتوجيه التهم إليها…فقد نقل عنه في 12/12/2010 قوله لنظيره الفرنسي نيكولا ساركوزي: “أن المحكمة الدولية مُسيَّسة وهذا لا تقبله سوريًا…(وانسجامًا مع موقف حزب الله) أكد الأسد أن التفاهم بعد صدور القرار الظني سيكون صعبًا”. أما الموقف الأبرز للرئيس الأسد فكان في اعتباره “أن لجم تداعيات المحكمة الدولية على الوضع في لبنان…وأن النجاح في مواجهة القرار الاتهامي المسيَّس…سيكون إنجازًا يوازي في نوعيته وأهميته حدث إسقاط اتفاق 17 أيار[8]، وهو الاتفاق اللبناني الذي وقع مع إسرائيل عام 1983 بعد الاجتياح الإسرائيلي للبنان.
في مقابل هذه المواقف المعارِضة للمحكمة التي تتهمها بالتسييس وتدعو إلى “لجم” تداعياتها، كانت دول “محور الاعتدال” تدعم المحكمة وتؤيد استمرار عملها. فبعد لقاء وزيري خارجية مصر والمملكة السعودية في جدة (في 10/5/2010)، وبعد التباحث في عدد من الملفات الإقليمية من بينها لبنان، أكد الطرفان “ضرورة التزام كل الأطراف استقرار لبنان ودعم حكومته إضافة إلى دعم عمل المحكمة الدولية الخاصة…وأن كلا من مصر والسعودية لها موقف واضح والمحاولات المبذولة لتعطيل عمل المحكمة هي محاولات لن تحقق الهدف منها…وأن هذه المحكمة مهمة من أجل مستقبل لبنان، ومن أجل وقف عمليات الاغتيال السياسي في هذا البلد”.
دافعت الولايات المتحدة من جهتها بقوة عن المحكمة ورفضت بحزم أي دعوة، وأي دور للبنان في وقفها أو تعطيل عملها، واعتبرت أن المحكمة “مبنية على آلية دولية يتعذر الغاؤها أو المساومة حولها، واتهمت حزب الله بابتزاز لبنان والترويج لصفقة سورية-سعودية” نفت علم الإدارة الأميركية بها، مشددة على أن المحكمة ستستمر… وأن العلاقة بين دمشق وبيروت “لا تؤسس على تدمير العدالة (انسجامًا مع مواقف قوى الرابع عشر من آذار)… وأن المحكمة تشكل أمل لبنان الأفضل في حصد دعم دولي لوضع التاريخ المأساوي والدموي للعنف السياسي وراءنا”…
ووفقًا لما صرح به مسؤول أميركي لجريدة الحياة: “يريدون تخيير لبنان بين العدالة والاستقرار…نحن مع الاستقرار والمسار البنَّاء… الشعب اللبناني يستحق الاستقرار والأمن والعدالة أيضا…” وأضاف المسؤول الأميركي: أن «المحكمة الخاصة بلبنان تم تأسيسها باتفاقية بين لبنان والأمم المتحدة، إنما نصوصها خرجت من مجلس الأمن وتحت الفصل السابع وسلطاته…. ونتوقع من لبنان كعضو في مجلس الأمن وكدولة تدعم القانون الدولي، أن يستمر في التعاون وألا يحاول تدمير المحكمة، إنما بغض النظر عما يقوم به لبنان، المحكمة ستستمر»[9]. كما ربطت واشنطن بين عمل المحكمة وسيادة لبنان، فذكر الناطق باسم وزارة الخارجية الأميركية فيليب كراولي في 21/21/2010: “أن إنشاء المحكمة الخاصة بلبنان كان إشارة واضحة بأن سيادة لبنان غير قابلة للتفاوض…”.
أما إسرائيل فربما تعتبر أكثر المعنيين بتداعيات اتهام حزب الله، سواء لجهة ما سيلحق بالحزب من جراء هذا الاتهام أو لمخاوفها من الانعكاسات السلبية على التوازن السياسي في لبنان. لذا اعتبر رئيس شعبة الاستخبارات العسكرية الإسرائيلية الجنرال عاموس يدلين أن القرار الظني للمحكمة الدولية سيشكل ما سماها كارثة دعائية على حزب الله، وأنه سيقوِّض الاستقرار في لبنان. وبث التلفزيون الإسرائيلي الرسمي في 30 تموز/يوليو 2010 خبرًا ادعى فيه أن المحكمة الدولية توصلت إلى نتيجة مفادها أن المسؤول عن هذا الاغتيال هو مسؤول عسكري بارز في حزب الله وليس سوريا كما أشيع في السنوات الماضية…”[10].
واعتبرت صحيفة هآرتس في 30/12/2010 أن المدعي العام للمحكمةِ الدوليةِ دانيال بلمار سيقدِّمُ قرارَه الظنيَّ الأولي في منتصفِ الشهرِ المقبلِ (15/1/2011) دون أن ينشُرَ محتوى هذا القرارِ أو أسماءَ الأشخاصِ الذين سيصدر بحقهم القرارُ الظني…كما نقلت هارتس تقديرات ترجح نشر هذه التفاصيل في بداية شهر أبريل/نيسان المقبل (2011) هذا اذا لم يحصل تأجيل إضافي. وقد سبق لنائب رئيس الوزراء الإسرائيلي سيلفان شالوم القول: “أن إدانة صادرة من المحكمة الدولية الخاصة بلبنان ضد حزب الله ستؤدي إلى تطبيق القرار 1559 وإلزامية تجريد حزب الله من سلاحه…”.
لكن المخاوف الإسرائيلية اتجهت إلى ما يمكن أن يقوم به حزب الله إذا صدر القرار الظني، لذا بحثت الحكومة الأمنية المصغرة في إسرائيل (في 24/11/2010) في احتمال عودة التوتر مع حزب الله مع اقتراب القرار الظني… لأن احتمال توجيه الاتهام إلى حزب الله باغتيال الحريري في 2005 قد يثير “توترات كبيرة” بين إسرائيل ولبنان… ولم يصدر أي بيان في ختام الاجتماع الذي شارك فيه رؤساء وكالات الاستخبارات الإسرائيلية. حتى رئيس الحكومة بنيامين نتنياهو ربط بين عدم التدخل في شؤون المحكمة خشية التوتر الذي قد يثيره هذا التدخل من جانب حزب الله على الحدود الشمالية (3/1/2010)…

المبادرة السورية-السعودية:

ترافق التوتر الذي بلغ ذروته عام 2010 في لبنان حول المحكمة وشهود الزور والقرار الظني المرتقب…مع مساعٍ سورية-سعودية لمنع الأزمة من الانفجار في الشارع أو في وجه الحكومة… لذا كانت المساعي تدور حول إما منع القرار من الصدور أو تطويق تداعياته السياسية والأمنية المحتملة.
وقد واجهت هذه المبادرة -التي حافظت على قدر كبير من السرية والتكتم- حول تفاصيلها أكثر من اتجاه داخلي لبناني وخارجي إقليمي ودولي في التعامل معها، بين مؤيد ومشجع وبين معارض ورافض إلى من يحاول نفي وجود مثل هذه المبادرة أصلا.
كما اختلف فريقا الرابع عشر والثامن من آذار حول توقيت تنفيذ هذه المبادرة، بين من يريدها قبل صدور القرار الظني ومن يريدها بعده، والفارق شديد الأهمية بالنسبة إلى الطرفين. إذ يؤكد حزب الله أنه لن يذهب إلى التفاوض أو إلى التفاهم بعد توجيه التهمة أليه وإدانته ضمنًا، ولذا فهو يعتبر نفسه غير معني بهذا القرار وبمضمونه الاتهامي بعد صدوره. وأنه لن يفاوض وهو في موقع الاتهام. لكن حزب الله يؤكد في الوقت نفسه تأييده لهذه المبادرة ودعمه لها. وهو في الواقع (مع حلفائه المحليين والخارجيين) صاحب مصلحة أكيدة في تفاهم يبعد عنه شر الاتهام ويخفف عنه وطأة التوتر الداخلي السياسي والمذهبي ويعيد إليه اهتمامه وتركيزه السياسي والإعلامي على قضية المقاومة…
في حين يعتبر الطرف المقابل، وخصوصًا تيار المستقبل (مع حلفائه المحليين والخارجيين)، أن صدور القرار الظني سيجعل حزب الله وحلفاءه في موقع أضعف في المعادلة السياسية الداخلية. لذا يفضل هذا التيار تأجيل البحث في أي تفاهم إلى ما بعد صدور هذا القرار.
يواجه هذا التفاهم السوري- السعودي المفترض تعقيدات تدور حول المقايضة المطلوبة بين الطرفين؛ إذ يريد رئيس الحكومة سعد الحريري في مقابل التخلي عن القرار الظني إطلاق يده حكوميًا في المجالات الاقتصادية والخارجية والمالية…بعدما منعته المعارضة (حزب الله والتيار الوطني الحر) عمليًا من حرية التحرك كما يشاء في هذين المجالين؛ أي ما أطلق عليه البعض “الحكم مقابل المحكمة”.
في حين لا يبدو حزب الله مستعدًا لاستعادة المعادلة السابقة نفسها التي حكمت علاقته برئيس الحكومة الراحل رفيق الحريري عندما أطلقت يده في مجال الاقتصاد والإعمار –بوجود القوات السورية في لبنان- في مقابل عدم التعرض لشرعية المقاومة… وربما لهذا السبب يؤكد السوريون والسعوديون على دور التوافق الداخلي اللبناني وعلى أهميته في تحقق مبادرتهم…
ثمة مستوى آخر يدفع المملكة السعودية- وعلى رأسها الملك عبد الله- نحو التفاهم مع سوريا لحفظ الوضع في لبنان ومنعه من الانفجار ومن احتمال تغيير معادلته السياسية الحالية التي يشير إليها حزب الله وحلفاؤه تلميحًا أو تصريحًا… إذ تعتبر المملكة أنها لا تريد خسارة نفوذها في لبنان بعدما خسرت ذلك النفوذ في العراق؛ أي المصالحة للحد من الخسائر. في حين يعتقد البعض أن اتهام الحزب هو الذي سيخلق معادلة جديدة تعوض تلك الخسائر.
الأطراف الأخرى المعارِضة لحزب الله تبدو بدورها في حال من التردد والارتباك تجاه هذه المبادرة وتجاه تأثيراتها المحتملة على الوضع في لبنان عمومًا. فالولايات المتحدة -على سبيل المثال- تحاول أن تتجاهل وجود مثل هذه المبادرة، لأن حزب الله بالنسبة إليها “يهدد أمن إسرائيل وهو، كما تردد دائمًا، امتداد للنفوذ الإيراني في لبنان”. وهي تخوض معركة تقويض هذا النفوذ على جبهات وملفات عدة في المنطقة، ولذا فإنها تعتبر اتهام الحزب بجريمة الاغتيال فرصة ثمينة لتشويه صورته والنيل منه… لكن مصدر القلق الأميركي يكمن في عجز الولايات المتحدة عن فعل أي شيء إذا قام حزب الله بالسيطرة على البلاد وعلى فرض تغيير المعادلة السياسية لمصلحته ومصلحة حلفائه، لذا تحاول الولايات المتحدة عرقلة هذه المبادرة إلى أقصى حد ممكن. أما الدول الأوروبية التي تتمنى بلا شك إضعاف حزب الله، تخشى مع صدور القرار الظني من الفوضى المحتملة السياسية والأمنية التي ستعرض قوات اليونيفيل في جنوب لبنان لمخاطر أمنية تخلقها بيئة من الاضطراب ومن عدم الاستقرار.
لم يفصح الحزب عن نواياه إذا صدر القرار الظني، لكنه أكد دعمه وتأييده المبادرة السعودية – السورية سواء لمنع صدور هذا القرار أو لتطويق تداعياته من خلال رفض مضمونه من قِبل القوى السياسية اللبنانية خصوصًا فريق الرابع عشر من آذار، لكن الحزب عمل أيضًا على ترك الاحتمالات مفتوحة في التعامل مع هذا القرار. لذا انشغلت القوى الإقليمية والدولية في محاولة معرفة ما يمكن أن يقوم به الحزب إذا صدر القرار الظني، خصوصًا أن تسريبات صحفية وأمنية أوحت بأن الحزب قد يقوم بانقلاب مع حلفائه يسيطر فيه على لبنان بأكمله على غرار انقلاب حماس في غزة.
وعلى الرغم من نفي الحزب الدائم لهذه التهمة إلا أن المخاوف من احتمال مماثل لم تتوقف، فالمملكة السعودية على سبيل المثال تخشى أن تفقد نفوذها في لبنان إذا حصل مثل هذا الانقلاب بعد خسارتها ذلك النفوذ في العراق وفشلها في دعم وصول إياد علاوي إلى رئاسة الحكومة. وتشاطر الولايات المتحدة المملكة السعودية المخاطر نفسها. فهي تعتبر أن حزب الله ليس سوى امتداد للنفوذ الإيراني في لبنان. أما الدول الأوروبية ففي الوقت الذي تتمنى فيه إضعاف حزب الله إلا أنها قلقة من الفوضى المحتملة السياسية والأمنية التي ستجعل قوات اليونيفيل في جنوب لبنان في بيئة من الاضطراب ومن عدم الاستقرار، وهذه قضية في غاية الأهمية بالنسبة للرأي العام الغربي.
أما على المستوى الإسرائيلي، فلا شك أن الدولة العبرية ستكون المستفيد الأول من اتهام حزب الله بهذه الجريمة ومن اعتباره منظمة إرهابية تتطابق مع نظرتها الدائمة إليه، معتقدة أن مثل هذا الاتهام سيجعل هذا الحزب في وضع أسوأ وهو الذي يلوح لها بامتلاك آلاف الصورايخ التي ستسقط على مستوطناتها في أي حرب مقبلة بين الطرفين. لذا يمكن الاستنتاج بأن فرضية قيام إسرائيل بعدوان وشيك على لبنان في المدى المنظور فرضية مستبعدة، لأن إسرائيل تعتقد أن عليها انتظار تداعيات القرار الاتهامي ضد حزب الله قبل التفكير في أي حرب ضده. لكن إسرئيل أيضًا تخشى -مثل الدول الغربية الأخرى- هيمنة حزب الله وحلفاؤه على لبنان، بالإضافة إلى قلقها الخاص من أن تؤدي الفوضى في لبنان إلى جعل حدودها الشمالية معه مفتوحة على كل الاحتمالات. علمًا بأن القيادة الإسرائيلية تبدو غير مستعدة لخوض الحرب مع لبنان وضد حزب الله بعدما أثبتت المناورات المتتالية للجيش الإسرائيلي عدم قدرته على الانتصار المؤكد في هذه الحرب.

خاتمة

طوى عام 2010 أيامه الأخيرة ولم يكن القرار الاتهامي ضد حزب الله قد صدر. ولم يكن التفاهم السوري-السعودي قد أبصر النور أيضًا. ولا يمكن أن نفصل تأخير صدور القرار عن الارتباك الدولي في التعامل مع تداعياته التي اشرنا اليها.
أما تأخر التفاهم السوري-السعودي فيعود إلى ثلاثة عوامل: الأول الضغوط الأميركية الشديدة، وثانيًا التباين في وجهات النظر السعودية بين من يؤيد التفاهم للحد من الخسائر وبين من يريد الإطاحة بحزب الله لتعويض تلك الخسائر، أما العامل الثالث فيعود إلى تعقيدات التفاوض حول حجم ونوع المقايضة الداخلية على “الثمن” المفترض إذا تم التراجع عن القرار الظني ضد حزب الله…
تبدو المحكمة الدولية وقرارها المرتقب جزءًا من لعبة الأمم، وهي بلا شك إحدى الأوراق المهمة في صراعات المنطقة. وإذا كانت المحاكم الدولية عادة أداة في يد القوى الكبرى والمهيمنة، فالمحكمة الدولية الخاصة بلبنان -بحسب بعض المحللين- “أداة أميركية لضرب إيران عبر حزب الله ولو على حساب لبنان” كما كتب روجر كوهين في صحيفة نيويورك تايمز في 13/12/2010، أو كما نقلت إذاعة فرنسا الدولية عن الباحث اللبناني روجيه نبعه قوله: “إن القرار الظني يتزامن مع الإرادة الجلية للولايات المتحدة لضرب إيران الشيعية عبر حزب الله… بهذا المعنى تصبح المحكمة ذريعة -إن لم تكن أداة- أميركية…تهدد التوازن السياسي الطائفي الهش في لبنان الذي يبدو على المحك بسبب المحكمة”… وأن التدخلات الأجنبية باتت قوية لدرجة أنه بخلاف فرنسا التي لم يعد لها اليد الطولى في الشرق الأوسط فإن الولايات المتحدة تفضل رؤية لبنان “فاشل على مستوى السيادة”… وعليه يصبح من الصعب تجاهل فكرة أن وضع حزب الله في خانة المحاكمة ومنزوع السلاح إذا أمكن سيجعل من لبنان المجاور لإسرائيل على الحياد تمامًا كما تشتهي الولايات المتحدة”[11].
هكذا تحولت المحكمة الدولية إلى أخطر أزمة يواجهها لبنان عام 2010، خصوصًا بعد تواتر التسريبات عن اتهامها أفراد من حزب الله، وأصبحت المحكمة سيفًا دوليًا مسلطًا على استقرار لبنان، وإلى “قنبلة موقوتة” يخشى الجميع انفجارها في وجه اللبنانيين في أي لحظة بعدما بات الافتراق حول هذه المحكمة على القاعدة السابقة نفسها من الانقسام السياسي والطائفي معًا بين من يدافع عن هذه المحكمة من “أجل الاستقرار والعدالة”، وبين من يتهمها بالتسييس ويعتبرها مؤامرة دولية تريد -بذريعة العدالة- بث الفتنة، ومحاصرة المقاومة والقضاء على دورها في الصراع ضد إسرائيل.
وفي ظل هذا الانقسام بامتداداته الإقليمية والدولية بات لبنان أمام محنة جديدة لن ينجو منها إلا بذهابه نحو التفاهم الداخلي من خلال المبادرة السورية – السعودية..لأن دروس الأزمات والحروب في هذا البلد ودروس المحاكم الدولية في بلدان أخرى تثير القلق من التدخل الدولي الذي كانت نتائجه على الدوام عدم الاستقرار والفتن…
*****

الهوامش:

[1] الحياة 7/1/2011.
[2] راجع على سبيل المثال بشأن هذا التاريخ للبنان كتاب مسعود ضاهر، تاريخ لبنان الاجتماعي (1914-1926)، منشورات دار المطبوعات الشرقية، بيروت، 1984.
[3] السفير 5/1/2011.
[4] راجع ما ورد في كتاب “سر الرؤساء” الذي نشر بالفرنسية عام 2010 ويتحدث فيه المؤلف “فانسان نوزي” عن دور الرئيس جاك شيراك في الإعداد للقرار 1559 وفي التحريض على سوريا، وعن محاولاته لإسقاط النظام في دمشق. (نشرت جريدة السفير اللبنانية في 8/11/2010 فصول من هذا الكتاب)
[5] راجع الدراسة التفصيلية لهذه المقارنة في جريدة النهار 25/10/2010.
[6] نشر الكاتب الأميركي “فرانكلين لامب” تقريرًا على موقع “فورين بوليسي جورنال” وفيه كلام منقول عن مساعد وزيرة الخارجية الأميركية لشؤون الشرق الأدنى أن المحكمة الدولية هي وسيلة بيد “الولايات المتحدة وإسرائيل لتدمير حزب الله”. وروى “لامب” وقائع محادثة قال أنها جرت بين فيلتمان وموظفة مكتبه السابقة, السفيرة الأميركية الحالية في لبنان مورا كونيلي, في 17 تشرين الأول 2010, خلال زيارة إلى النائب وليد جنبلاط في دارته في كليمنصو, قال فيها فيلتمان: “لقد حاصرت هؤلاء حيث أريدهم يا مورا. شاهدينا فيما نحن نمزق حزب الله بألف ضربة بطيئة! من يعتقدون أنفسهم؟ وسنقوم بذلك باستخدام القرار 1757 وهذه المرة سنسلك الطريق إلى آخره”. وتابع فيلتمان “لقد طلبت من إسرائيل أن تبقى بعيدة عن لبنان، لأن الجيش الإسرائيلي لا يمكنه هزيمة حزب الله، كما أن المنطقة برمتها قد تحترق. أنا من سيتعامل مع الأمر، وهذه ستكون هديتي إلى لبنان لمناسبة عيد الميلاد”, وكأنه “بابا نويل”.
[7] الرأي الكويتية 5/12/2010.
[8] السفير 28 /12/ 2010.
[9] الحياة 23/12/2010.
[10] الشرق الأوسط 31/7/2010.
[11] السفير 15/12/2010.

نشر في حولية أمتي في العالم، عدد 2011

للتحميل اضغط هنا 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى