قراءة في جهد حامد ربيع عن إسرائيل

مقدمة

أجمع تلاميذ حامد ربيع ودارسوه على أهمية هزيمة 1967م وتأثيرها الكبير على مساره العلمي وإسهامه الفكري؛ فقد كان لها وقع كبير على نفسه، إلا أنه كان واحدًا ممن انفردوا بطريقة تعاملهم معها، فهي لم تجعله ينكفئ على نفسه، بل جعلته يفتش عن أسباب الهزيمة مع حرصه على بث الأمل في استعادة الأرض واسترداد الكرامة(1)، وقد مثَّلت الهزيمة نقطة تحوُّل في حياته، فقد كان كل اهتمامه -قبل هذا التاريخ- ينصبُّ على كيفية التعامل مع السلطة الحاكمة وما يتَّصل بها من تنظيمات مثل الاتحاد الاشتراكي العربي(2)، إلا أنه بدأ في أعقابها يهتم بالعالم العربي وبالصراع العربي-الإسرائيلي وكيفية التعامل مع هذا الصراع(3)، وهكذا فتحت الهزيمة مجالات اهتمام واسعة أمامه. فكتاب “البترول” كانت بدايته محاضرة ألقاها في يناير 1968 في بغداد، وكتاب “الدعاية الإسرائيلية” الذي طبع في عام 1970م بدأ العمل فيه عام 1968م، وتطوَّر عمله إلى النظام السياسي الإسرائيلي، أما كتاب “الدعاية الصهيونية” الذي طبع عام 1975م فقد بدأ الكتابة فيه عام 1969م مع مؤسَّسة الدراسات الفلسطينية، وتوالت كتاباته المعنية برصد وتحليل وتفكيك هذه القضية، وقد شغله في كل ذلك سؤال مركزي(4): ما هو مستقبل الأمة العربية بعد عام 1967؟
وفي محاولة إجابته عن هذا السؤال لم ينكفئ على دراسة التأثيرات المباشرة والضيقة لهذه الحرب على المنطقة وإنما اعتبر أن حرب الأيام الستة كانت نقطة الفصل نحو انتقال الولايات المتحدة الأمريكية إلى التمركز في المحيط الهندي وأثر ذلك على الاستراتيجية الأمريكية تجاه آسيا، كما رصد تحوُّل الكيان الصهيوني ليكون ركنًا من أركان الاستراتيجة الشاملة للولايات المتحدة الأمريكية في المحيط الهندي بما يعني ذلك من مساندة لتوسُّع إقليمي معيَّن، ولو على الأقل بتأييد وحماية الأوضاع التي خلقتها الأيام الستة، أي قبل احتواء إسرائيل للأراضي المحتلة، وبصفة خاصَّة الضفَّة الغربية وغزَّة والجولان، بل إن أحداث لبنان 1982م تدعو للقناعة بأن السياسة الأمريكية قد حسمت هذا الافتراض لصالح الكيان الصهيوني، كما لم يستبعد حامد ربيع لجوء الولايات المتحدة الأمريكية للأوراق الصهيونية في احتلال آبار البترول(5).
وفي إطار دراسته لهذه الحرب وأثرها على دول المنطقة فقد انتقد حال السياسة العربية في العديد من مؤلَّفاته مؤكِّدًا أنه ما كان للكيان الصهيوني ومن يدعمه من القوى الدولية تحقيق ما حقَّقه إلا بسبب السياسة العربية. فقد أكَّد في أحد مؤلَّفاته(6) الذي صدر بعد مرور سبعة أعوام على هزيمة يونيو 1967، أن “التخبُّط والغوغائية لا تزال تسيطر على قياداتنا ولا تزال تتحكَّم فى حركتنا السياسية” ويتساءل “كيف يحدث أن أمَّة تصاب بمثل هزيمة عام 1967م ولا تواجهها بعملية إعادة تشكيل كاملة للنُّظم السياسية وللقيادات الحاكمة؟ وكيف نستطيع أن نتصوَّر أن هذه الجماعات التى هُزمت ومُرِّغت في الأوحال والتي فقدت من شبابها الكثير، وأكثر من ذلك عرَّضت كيانها القومي وجسدها السياسي للتفتُّت والتمزُّق، وقفت رغم ذلك تعبِّر عن السلبية المطلقة، حتى إنها -وعقب تلك الهزيمة بسبعة أعوام- تتساءل عن مدى إمكانية تغيير النُّظم السياسية التى قادت إلى تلك الهزيمة؟ إن التاريخ لم يعرف حتى اليوم نموذجًا مماثلًا لهذه السلبية ولهذا الفشل”(7).
يُعَدُّ اهتمام حامد ربيع بدراسة الكيان الصهيوني القضية المركزية والهمَّ الرئيس والأساس له، لتقاطعها مع دوائر اهتماماته الثلاث (المصرية، والعربية، الإسلامية) من جانب، ولتزامن اشتعال هذه القضية -بوقوع حرب 1967م- مع تطوُّره الفكري ونضوجه العلمي والعقلي من جانب آخر، بعد رحلة علمية متميزة وفريدة في معظم الجامعات الكبرى في العالم، حيث حصل على ست درجات دكتوراه، وستة دبلومات ودرجتين علميَّتين فيما بعد الدكتوراه(8)، وقد أجاد عدَّة لغات منها الإنجليزية، والفرنسية، والإيطالية، واللاتينية، بالإضافة إلى العربية، وقد انعكست هذه الخبرة وتلك الإمكانات في معالجته لهذه القضية من مداخل ثلاثة، وهي: الدراسات الصهيونية، ودراسة المجتمع الإسرائيلي، والصراع العربي الإسرائيلي. وقد استحوذت هذه المداخل على ما يزيد عن ثلث إنتاجه العلمي والفكري الذي تجاوز أكثر من (45 كتابًا)، و350 دراسة، بالإضافة إلى آلاف المقالات في معظم الدوريات والصحف العربية والأجنبية(9)، وفيما يلي استعراض لجهد حامد ربيع في دراسة إسرائيل والكيان الصهيوني من خلال هذه المداخل الثلاثة، وذلك على النحو التالي:

أولًا- اهتمام حامد ربيع بالصهيونية وتشابكاتها

وضع حامد ربيع اللبنات الأولى والأساسية في بناء نظرية متكاملة الأبعاد لظاهرة الرأي العام من منطلق الوظيفة الاتصالية للدولة المعاصرة في القرن الواحد والعشرين(10)، حيث ركَّز في إسهاماته على نموذجين، هما: إعادة تطويع الشخصية الوطنية والقومية والإسلامية من جانب، وتطبيقات الحرب النفسية والتسميم السياسي في المنطقة العربية والصراع مع الكيان الصهيوني(11) من جانب آخر. وحاول توظيف هذه النظرية في القضية المركزية وهي الصراع مع الكيان الصهيوني، رافعًا رايته “أمتي والعالم” و”أمتي أمة القيم” و”سوف أظل عربيًّا”(12).
تحدَّث حامد ربيع كثيرًا عن أسباب اهتمامه المبكِّر بالدولة اليهودية مشيرًا إلى أن ذلك يعود لسببين: الأول- الحاجة إلى بناء فقه سياسي عربي ينطلق من تصوُّر ذاتي للمشكلة اليهودية ولا يقنع بمجرد النَّقل عن الآخرين، لأن كل ما كتب عنها كان متحيزًا مختلطًا بالحسابات السياسية وهو إمَّا معها أو ضدها، ولأن كلا الفقهين الأنجلوساكسوني والأمريكي تعامل مع المشكلة اليهودية بوصفها مشكلة تتعلَّق بالحريات تارة، وبحقوق الأقليات تارة أخرى، وبحقوق الإنسان تارة ثالثة، أي أنهما تناولاها بمعزل عن الصراع العربي-الإسرائيلي، ويرى ربيع أن خطورة ذلك تتمثَّل في أنه يجرِّد الحقيقة العبرية من حقيقتها كظاهرة استيطانية، بل ويحول دون الإلمام بالتطوُّر الذي لحق بمفهوم الاستيطان على يد الكيان الصهيوني، والسبب الثاني- هو الخصوصية التي تُمَيِّزُ النظامَ الإسرائيليَّ ذاته، وانتقد القصور الأكاديمي العربي والمصري بكلِّ ما يتعلَّق بإسرائيل(13).
حاول حامد ربيع، جبر هذا القصور بتركيز جزءٍ من جهده الفكري في كشف الرابطة بين العنصرية الصهيونية أو الصهيونية كدعوة عنصرية، وبين الفكر والحركة العنصرية في أوروبا، كما عمد إلى تحليل مصادر النزعة العنصرية المتأصِّلة في الصهيونية وحدَّدها بثلاثة مصادر: التعاليم الدينية، والتاريخ اليهودي، ومجتمع الجيتو(14)، ورصد حامد ربيع -وكان من الرواد في ذلك- قيام الحركة الصهيونية بنقل واستعادة معظم مقولات وتفسيرات نظرية “تفوُّق العرق” الجرمانية الألمانية التي تعتبر أن محرِّك التاريخ أو القوة الفاعلة في السيرورة التاريخية هي الصراع العرقي(15)، كما انشغل بالبحث المعمق في الدعامتين اليهودية والإسرائيلية وكان من أهم المحاور التي شغلت اهتمامه محور السعي الدائب من قبل الحركة الصهيونية لمخاطبة شرائح الرأي العام بغرض النَّفاذ إليه، ليس فقط لمحاولة التأثير العميق فيه، ولكن لعزل إن لم يكن لتحطيم شريحة الرأي العام المعادية للدعاية، وبث نوع من التسميم السياسي لديه حتى يشعر بالعجز عن مواجهة أو تفنيد دعاوى الدعاية الصهيونية(16).
يعرِّف حامد ربيع الصهيونية بأنها تلك “العقيدة السياسية التي تقوم على أساس دعوة جميع اليهود للعودة إلى الأرض المقدسة لتكوين الدولة الإسرائيلية استجابة إلى الأمر الإلهي الذي فرض على تلك الجماعة أداء وظيفة حضارية في قيادة الإنسانية المعذبة نحو الكمال الروحي”، من هذا التعريف يحدِّد الخصائص العامة التي تميِّز الصهيونية كعقيدة ومذهب لا يقتصر على مجرد تفسير القائم أو تبريره، وإنما يسعى إلى ذلك التغيير الذي هو جوهر المذهب السياسي(17)، ويؤكِّد أن الحصول على الشرعية السياسية التي تتمركز حول فكرة إنشاء وطن قومي لليهود في فلسطين يمثِّل الهدف الرئيسي والثابت في الحركة الصهيونية(18).
يشير حامد ربيع إلى أنه في أعقاب هزيمة (يونيو) اكتشف الرأي العام العربي فجأة أن أحد أبعاد المخطَّط الإسرائيلي في منطقة الشرق الأوسط هو تشويه الصورة القومية للأمَّة العربية، فمخطِّطوا “المنظمة الصهيونية العالمية” ومنذ مراحلها الأولى تنبَّهوا إلى عملية التوجيه والدعاية منذ تلك اللحظة، ورغم التطوُّرات المتلاحقة التي أصابت الجهاز الصهيوني ظلَّت العملية النفسية المرتبطة بالإثارة والتوجيه تحتل موضعًا نظاميًّا مهمًّا في تشكيل عناصر المؤسَّسة الصهيونية، ومنذ بداية القرن التاسع عشر كان أحد أهداف الفكر اليهودي -وعن طريق الدعاية المنظمة- هو إزالة الصورة المشوَّهة لليهودي التي سيطرت على الفكر الغربي، على أن هذا لا يعني أنه من الممكن تحليل الدعاية الإسرائيلية اليوم منفصلة عن المعركة التي تدور في الوطن العربي، الدعاية الإسرائيلية هي عنصر من عناصر المعركة السياسية، ويمكن القول إجمالًا بأن هذه المعركة السياسية تستند إلى دعائم ثلاث: صراع عسكري، وتخطيط دعائي منظم، ودبلوماسية نشطة(19).
وقد كان حامد ربيع يرى أن تحليله العلمي للدعاية الإسرائيلية لا تقتصر فائدته على مجرَّد المعرفة بالعدو، ولكن الأهمية أبعد من ذلك وأكثر عمقًا، فالمعركة مع الوجود الإسرائيلي في الأمد الطويل هي أساسًا معركة سياسية وبالتالي معركة دعائية، ممَّا يبرز أهمية السلاح النفسي، وكذلك التحليل الدعائي كأسلوب من أساليب اكتشاف الأوضاع السياسية المرتبطة بالمجتمع المُعادي، فعن طريق تحليل المضمون، وهو الأسلوب الذي يجب أن يُتبع في تحليل الدعاية الإسرائيلية؛ يمكن الوصول إلى اكتشاف ما يسمَّى بالاستراتيجية الدعائية “Propaganda Strategy”، وحيث إن الاستراتيجية الدعائية هي أحد عناصر السياسة الخارجية فإن اكتشافها يساعد في فهم أبعاد السياسة الخارجية، والسياسة الخارجية هي امتداد للسياسة الداخلية ومن ثم فهي تسمح باكتشاف علاقة القوة التي تربط مختلف عناصر المجتمع السياسي، وهكذا يمكن الوصول عن طريق تحليل الدعاية بطريق التدرُّج المتتابع إلى التنبؤ بخصائص الموقف السياسي الذي يسود المجتمع الإسرائيلي من لحظة معينة Situational factor(20).
وخلص حامد ربيع إلى أن الفكر العربي الذي يتعرَّض لتحليل الظاهرة الصهيونية أو لدراسة الوجود الإسرائيلي في أيٍّ من أبعاده النظامية أو الحركية تسيطر عليه ظاهرة الخلط بين اليهودية والصهيونية والإسرائيلية، ويوضِّح أن “اليهودية” دين، و”الصهيونية” نموذج حضاري، و”الإسرائيلية” أداة سياسية(21).

ثانيًا- اهتمام حامد ربيع بدراسة النظام الإسرائيلي

لقد مثَّلت جهود ربيع في دراسة النظام السياسي الإسرائيلي اجتهادًا مبكِّرًا لدراسة إسرائيل من الداخل تأسيسًا على أن الصراع العربي-الإسرائيلي هو صراع حضاري ممتد يحتاج إلى التسلُّح في مواجهته بسلاح معرفة الخصم، وقد حرص ربيع في دراسته للمشروع الصهيوني بدولته وفكره وعقيدته على تأكيد أهمية الإطار القيمي الحضاري في تحليل المشكلة اليهودية، ومن إجادة توظيف الأدوات المنهاجية في مقاربتها مقاربة تجمع بين الجديد والقديم، وبين القانوني والاجتماعي والنفسي والسلوكي، ومن الانتقال من أسطح الظواهر إلى أعماقها عبر إثارة القضايا الخلافية حول تماسك المجتمع الإسرائيلي وديمقراطيته واشتراكيته وعنصريته(22)، وقد انطلق في ذلك من محورية دور الأحزاب السياسية، كما اهتم ربيع بتحليل التكوين الطبقي للمجتمع الإسرائيلي واعتبره مصدرًا رئيسيًّا من مصادر تفجير الصراعات الداخلية، كما حرص على دراسة المصادر الخارجية وأهميَّتها في تحديد اتجاهات السياسة الداخلية الإسرائيلية وأولويَّاتها والتطوُّر المحتمل في علاقة الدولة العبرية بعناصر المساندة الغربية عمومًا والأوروبية على وجه التحديد(23)، واعتبر أن وضعه مجتمع العدو تحت مجهر التحليل لاكتشاف عناصر القوة وعناصر الضعف هو جوهر عملية التحليل السياسي كأداة من أدوات التخطيط الاستراتيجي لاكتشاف عناصر القوة لمعرفة كيفية توجيهها، ولمعرفة نواحي الضعف لكيفية استغلالها(24).
يؤكِّد حامد ربيع أن الدراسة الحقيقية للظاهرة العبرية في حاجة إلى الكثير من الأسلحة التي يكاد يستحيل توفُّرها في المجتمع العربي المعاصر بما هو عليه من تخلُّف فكري وعدم قدرة على الارتفاع بأدواته الأكاديمية إلى مستوى ليس فقط المجتمعات المتقدمة بل ومستوى الشعور بمسؤولية وظيفته الكفاحية إزاء القضايا المصيرية التي تطرحها مشكلة الصراع العربي-الإسرائيلي، رغم ذلك فإن جميع هذه الظروف لا تمنع من ضرورة البدء في سلوك هذا الطريق والذي لا يمكن أن يكون أساسه سوى الجمع بين محورين ثابتين في عملية الإعداد العلمي للخبير المتخصِّص: الوضعية من جانب، والتصوُّر الذاتي من جانب آخر(25)، ويؤكِّد على أن إسرائيل هى عدو المنطقة وهى مصدر جميع المآسى التى يعيشها الوطن العربى منذ الحرب العالمية الثانية(26)، كما أن سرَّ قوة إسرائيل هو ضعف خصومها، وأن القوة الحقيقية التي يكمن فيها نجاح الدولة العبرية هو تفكُّك ذلك المجتمع المتعفِّن الذى ظلَّت تضربه بقسوة وتركله باحتقار حتى قُدِّرَ له أن يحاول أن يقف على قدميه(27).
كما يرصد ما يميز السياسة القومية الإسرائيلية، ومنها الترابط بين الحاكم والمحكوم، ولو على مستوى الحركة في لحظات التكتُّل المصيري، وظاهرة التحالفات الحاكمة التي تسمح بها العلاقة الأيديولوجية المتراصَّة حول مفهوم الصهيونية الإسرائيلية، وحكومة الوحدة الوطنية وإمكانيات تحقيقها في لحظات الخطر الذي وصل إلى حدِّ المخاطرة بالكيان القومي، ومبدأ توزيع الأدوار الذي يسيطر على التعامل الخارجي والدولي، والترابط بين الأداة الحاكمة الإسرائيلية والقوى اليهودية والصهيونية(28).

ثالثًا- اهتمام حامد ربيع بقضية الصراع العربي-الإسرائيلي

يرى حامد ربيع حقيقة الصراع العربي-الإسرائيلي في أن المعركة ليست مجرد اقتطاع جزء من الأرض، كما أن التحدِّي ليس مجرَّد مشكلة منع العالم العربي من تحقيق وحدته، وإنما هي أكثر من ذلك، إنها السعي نحو تفتيت الحضارة العربية والقضاء على أيِّ ذاتية مشتعلة للوجود العربي كمفهوم مجرَّد للسلوك والحياة، إن عملية التسميم المعنوي التي بدأت تشنُّها إسرائيل بدقَّة وصبر ونجاح لا تتَّجه إلى مجرد تفتيت الإرادة القتالية، وإنما تسعى إلى الاستيعاب الكلي والكامل للوجود الحضاري في تلك المنطقة(29)، وقد حرص على وضع قضية الكيان الصهيوني في قلب المخاطر التي تواجه الأمن القومي العربي الذي اعتبر أنه في جوهره مفهوم عسكري ينبع من خصائص الأوضاع الدفاعية للإقليم القومي، وقد ساهمت الأجواء التي أحاطت بملابسات التوصُّل إلى معاهدة السلام المصرية-الإسرائيلية إلى صياغة رؤيته لنظرية الأمن القومي العربي(30).
رصد حامد ربيع نزول إسرائيل في المنطقة كعامل منافس في أكثر من ناحية من نواحي الاستغلال للثورة البترولية، مؤكِّدًا أن مواجهتها في النطاق الدولي لابد أن تكون في إطار تكتُّل معين وتخطيط سياسي يفترض التنافس والتعاون الحقيقي والفعلي بين البلاد العربية، وقد اهتمَّ حامد ربيع بتحليل وتفكيك ثم تركيب الدور الإسرائيلي في بترول المنطقة مع تحليل سياستها البترولية، ورصَد كيف استطاعت إسرائيل القيام بغزو شامل للأسواق الأفريقية من خلال تدشينها للصناعات الملحقة على المواد البترولية، وتحدَّث أيضًا عن السياسة البترولية الإٍسرائيلية ومدى ثقلها بالنسبة للصراع العربي-الإسرائيلي، كما تحدَّث عن البترول العربي كاستراتجية في تحرير الأرض المحتلة، وقد كان تقديره أنه سيتم الوصول إلى تحويل البترول العربي إلى سلاح سياسي عن طريق كونه أحد أدوات الضغط الاقتصادي في التعامل الخارجي، وقد انتقد التوظيف العربي لهذا السلاح عام 1973م، مؤكِّدًا أن السلاح لم يوجَّه للخصم المباشر “إسرائيل” وإنما وُجِّهَ للخصم المساند وهو الولايات المتحدة الأمريكية ويصل في تقديره إلى أن هناك أيدٍ خفية من الجانب العربي أساءت استخدام ورقة البترول فتكسَّرت نصله، لأن الآثار التي ترتَّبت بعد ذلك كانت مخيفة، وهي ازدياد التناقض بين الدول العربية الغنية والدول العربية الفقيرة(31)، وقد كان جوهر كتابه “سلاح البترول والصراع العربي الإسرائيلي” هو سؤال: كيف نستطيع خلق الإرادة العربية الصافية المستقلة في المستقبل القريب بخصوص استخدام البترول كسلاح سياسي؟(32)

رابعًا- القوى الدولية وموقفها من قضية الصراع العربي-الإسرائيلي

لم يحدث أن اتفقت جميع مصالح القوى المرتبطة والمتحكِّمة في منطقة الشرق الأوسط -التى أعدت حوادث 1967م- على هدف واحد كما حدث خلال تلك الفترة وما أعقبها، فالولايات المتحدة تريد أن تحتفظ بهذا العالم على حالته من التجزئة لتستطيع أن تطمئن على الذهب الأسود الذي أضحى يمثُّل بالنسبة لها مادة استراتيجية لابد وأن تتحكَّم في أبعاد تخطيطها السياسي بعيد المدى، والاتحاد السوفيتي (روسيا) من جانب آخر يرفض أن يدع الحوادث تخلق في هذه المنطقة قوة قومية جديدة تخرج عن ولايته ولا تنصهر في إطار عقيدته انصهارًا يسمح له بالتحكُّم في أبعاد حركتها المحلية والإقليمية، فهو لا يستطيع أن ينسى خبرته مع الصين ولا يريد أن يجد نفسه وقد أضحى مهدَّدًا من قوة جديدة ذات كيان دولي ووضع استراتيجي معين(33)، يكمل هذا الوضعَ الإقليمي المعادي للأمة العربية والإسلامية أزمةُ القانون الدولي والتي في جوهرها تعبير عن حقيقة التناقضات التي تعيشها الأسرة الدولية إذ تتحدَّث بلغة لا تتَّفق مع حقيقة الممارسة ومضمون التعامل، لغة الشرعية والعدالة هي حديث منمَّق لا يتفق مع الواقع المعاش وهو لغة الغالب ومنطق المجتمع الوحشي، وليس أدلَّ على صدق هذه الحقيقة من أن استعراض تاريخ مشكلة الصراع العربي-الإسرائيلي ومنذ الحرب العالمية الثانية حتى هذه اللحظة (رغم أن حامد ربيع كان يقصد بهذه اللحظة مطلع الثمانينيات من القرن الماضي، إلا أنها ما تزال صالحة للاستخدام في نهاية العقد الثاني من القرن الحالي) لا يمكنه الإجابة بنعم على السؤالين التاليين: هل صدر قرار دولي قُدِّرَتْ له الفاعلية لمجرد أنه استمدَّ وجوده من الإرادة الشرعية صاحبة الحق في اتِّخاذ القرار؟ وهل حدث احترام لإرادة دولية لمجرد أنها عبَّرت عن العدالة السياسية بأي معنى من معانيها؟(34)
وهكذا فإن الصراع العربي-الصهيوني بمختلف أبعاده ومستوياته ليس سوى أحد مظاهر التعبير عن حقيقة التفسُّخات والتقلُّصات التي تعيشها الأسرة الدولية المعاصرة، وهو ما يحتاج إلى نظرية القيم السياسية لتحليله، إلا أن هذه النظرية تتضمَّن في حقيقة الأمر مشاكل ثلاث: التحديد بالقيم التي تمثل جوهر وأهداف الحركة السياسية، ثم اختيار القيمة العليا بمعنى دفع إحدى القيم السياسية لتعلو وتسمو على غيرها من القيم التي تعتبر بالنسبة لها حتمًا تابعة، ثم تشكيل نظام الممارسة تبعًا لمنطلق تلك القيمة العليا بحيث تخلق التجانس بين الفكر والحركة، وبين التصوُّر والممارسة، إلا أنه لا يجب إغفال أزمة القانون الدولي(35) التي تمَّت الإشارة إليها سابقًا، وانطلاقًا من هذه الرؤية كان حامد ربيع يؤمن إيمانًا كاملًا بأن حلَّ المنازعات الإقليمية لم يعد يستند إلى لغة العدالة أو منطق الشرعية وإنما ينبع فقط من حقيقة واحدة: لغة القوة وأسلوب العنف، وقد يتساءل البعض: هل يعني ذلك أن حلَّ الصراعات الإقليمية لم يعد يقبل منطق التعامل السِّلمي؟ يوجز حامد ربيع القول بتأكيده أن التعامل السِّلمي ليس له سوى تطبيق واحد: عندما تستطيع القوى المحلية أن تخلق الوفاق بين القوى الكبرى حول الدلالة التي تسعى إليها من منطلق التعامل السِّلمي، وهذا أيضًا في حقيقة الأمر هو تعبير عن قوة الإرادة وليس منطق العدالة، ولكنها في هذا التطبيق تصير قوة التعامل الدبلوماسي وقد ارتبطت بها ورغمتها قوَّتين مساندتين: قوَّة التعامل الاتصالي من جانب، وقوَّة السيطرة الإقليمية والأداة العسكرية من جانب آخر(36).

خامسًا- موقفه من رد الفعل العربي في قضية الصراع مع الكيان الصهيوني

رصد حامد ربيع افتقاد السياسة العربية لمعاني وملامح وخصائص الأمن القومي العربي، فهي سياسة غير مخطَّطة تفتقد لأبجديات تخطيط السياسة الداخلية والخارجية كما أنها تفتقر لمفهوم الأمن القومي حيث تخلط ما بين المشاكل المصيرية التي لا تقبل غير أسلوب القوة وغير المصيرية التي يمكن أن تقبل غير ذلك من أساليب، ورَصَدَ ما أسماه بالتدهور المتتالي للسياسة العربية المعاصرة مقارنًا بردِّ فعل المنطقة العربية عام 1956م إبان العدوان الثلاثي ورد الفعل عام 1982م إبان الغزو الإسرائيلي على لبنان(37)، وكان يرى أن الوجود الإسرائيلي في المنطقة مشكلة مصيرية لا تقبل إلا القوة ولا يمكن أن تنتهي إلا من خلال العنف الدموي، وأن استخدام أسلوب الاتصال قد يكون مكمِّلًا أو مؤقَّتًا ولكن لا يمكن أن يكون دائمًا ولا وحيدًا(38).
كان يرى في اتفاقية “كامب ديفيد”، أنها تعبير عن أن الجانب العربي لا يزال –وقتها- يعيش في عالم مغلق من السذاجة، متناسيًا أن التعامل الدولي لا يخضع إلا لمنطق الغابة، في مقابل أن أحد عناصر قوة القيادة الحاكمة الإسرائيلية هو وضوح مفهوم الأمن القومي للدولة العبرية لا فقط في كلماته بل وفي جميع جزئيَّاته، العالم العربي الذي يملك أربعة عشر قرنًا من الخبرة السياسية لم يستطع بعد أن يبلور عناصر ومقاطع محدَّدة وواضحة لأمنه القومي. وهنا يبرز مرة أخرى مدى تقاعس الفكر السياسي عن أدائه لوظيفته، ومن وجهة نظره فإن من أسباب الانفصام بين الفكر والحركة في الواقع العربي: اختفاء التقاليد القومية – وعدم وجود مراكز معلومات عربية – وعدم احترام العلماء(39)، ورغم أن هذه الاتفاقيات لا تعدو أن تكون تعاملًا بين مصر وإسرائيل إلا أنها تعبير عن مرحلة حاسمة من مراحل التطوُّر للصراع العربي-الصهيوني، بهذا المعنى هي خاتمة لمراحل سابقة وبداية لمرحلة جديدة، وعلى المحلِّل السياسي ألَّا ينسى في فهمه لتلك الاتفاقية أنها تدخل في نطاق التصوُّرات الصهيونية، حيث مفهوم إسرائيل الكبرى الممتدَّة من النيل إلى الفرات هو المحور الثابت لتقاليد اليهودية السياسية(40).
اعتبر حامد ربيع أن كتابه “الثقافة العربية بين الغزو الصهيوني وإرادة التكامل القومي” دعوة إلى القتال، مؤكِّدًا أنه ليس رفعًا لراية التحدِّي ضدَّ أذناب الاستعمار، ولكن رفع راية التحدِّي ضدَّ الحكام والمسؤولين، مشيرًا إلى أن مصادر التغيُّر والتغيير لابد من أن تتعامل وتتفاعل في إطار واحد من التأثير والتأثُّر والتكتُّل الإرادي: (القيادة، والوعي الجماعي، والطبقة المثقَّفة)، وأن الأخيرة هي التي تخلق علاقة الترابط بين الوعي الجماعي والقيادة، ويعرِّف الثقافة بأنها هي الحضارة، وكلاهما إنما يتبع من نظام القيم، وهنا تبرز وظيفة الطبقة المثقَّفة، إن هذه الطبقة التي لم تؤدِّ وظيفتَها الحقيقية طيلة أكثر من قرن كامل من الزمان آنَ لها أن تعرف مسؤولياتها التاريخية(41).
توصَّل ربيع إلى أن إسرائيل ليست هي الخطر الوحيد على العالم العربي، وإنما دُوَلُهُ خطيرةٌ عليه أيضا، وذلك بقوله: إذا كانت إسرائيل تشلُّ القلب، فإن القوى الجاذبة الجانبية تشدُّ القوى الموجودة خارج دائرة القلب؛ وهكذا تمنع المساندة، وأشار للعديد من النماذج في المنطقة العربية، وانطلاقًا من ذلك كان يرى أن وظائف الفكر العربي يجب أن تتمثَّل في: أولًا- تبصير القيادات الحاكمة بخفايا الحقائق التي لا تملك تلك القيادات القدرة أو الصلاحية للمعرفة بها. فلم تعد السياسة الدولية صنعة الهواة، وثانيًا- بناء خطط التعامل مع الموقف، وثالثًا- تذكير الضمير الجامعي بضرورة الحذر والاستعداد لجميع الاحتمالات إزاء الأوضاع التي سوف تواجهها الأمة العربية، ورابعًا- الفكر السياسي العربي سوف يكون الأداة الوحيدة لخلق الترابط الجماعي والوعي المتكامل بالوحدة وقد تحطَّمت عناصر التجانس والتناسق في الحركة بين القيادات العربية(42)، وذلك للخروج من الوضع الحالي -في زمنه ولا يزال- لملامح السياسة العربية التي وصفها بأنها غير مخطَّطة، وهي سياسة متخلِّفة، ولا تفهم مبدأ توزيع الأدوار، ولا تزال تعيش في عقدة الخوف من المستعمر الأجنبي، وتعاني من انفصام فعليٍّ بين المشرق العربي والمغرب العربي وقد ترتَّب على هذه الأوضاع المختلفة أن السياسة العربية في تعاملها الدولي وبغضِّ النظر عن المبادئ التي تسيطر على القيادات العربية أنها -أي هذه السياسة العربية- تسير دائمًا في مسالك أربعة ما كان يمكن أن تقود إلا إلى الفشل السريع، وهي: الإلقاء بالثقل على جانب واحد في التحرُّك الدولي، وجعل التحرُّك من المنطق الرسمي دون فهم أو الاهتمام بالتعامل غير الرسمي، وجعل مفهوم التعامل يدور حول عملية المساومة بالإعطاء دون الأخذ، وسياسة الصوت الواحد(43).
بالإضافة إلى انتقاده للسياسة العربية والفكر العربي والقيادة العربية لم يستثْنِ الباحثَ العربيَّ من النَّقد، فقد أشار إلى هؤلاء الذين سقطوا في فخِّ الاستلاب الغربي والاستسلام للنظريَّات والرؤى الجاهزة التي لا تعبِّر عن المجتمع ولا القيم ولا الفكر ولا حتى مناصرة القضية العربية ولو شكليًّا، ومن ثمَّ فقد أعطى مساحة كبيرة في حديثه عن موضوعات إسرائيل الثلاثة (الصهيوينة، إسرائيل من الداخل، الصراع العربي-الإسرائيلي) لوظيفة المحلِّل السياسي بتأكيده على أن وظيفة المحلِّل السياسى التى ترتفع عندما يقدَّر له أن يتعامل ولو من منطلق الفكر المجرَّد مع عملية إدارة الصراع القومى وفق عامليْن، العامل الأول- يتعيَّن على خبير السلطة المتخصِّص فى الثقافة السياسية أن يحدِّدَ تلك الخفايا والتى قد تخفى على الرجل العادي وأن يحيلَها إلى متغيِّرات، كلٌّ منها له موضعه من التطوُّر العام المرتبط بالموقف موضع التعامل الحركي، والعامل الثاني- يرجع إلى أحد خصائص الطابع القومي العربي، فلقد تميَّز العربي في تاريخه الطويل ببلاغة الكلمة، ولكن هذه القدرة سلاح ذو حدَّين: إنها تزيد من قوة القويِّ بخلق القناعة والاستسلام من الطرف الآخر، ولكنها أيضًا تزيد من ضعف الضعيف لأنها تخلق مسالك التبرير والتفسير للأوضاع المتعفِّنة، إنَّ أيَّ باحث يتتبَّع مشكلة الشرق الأوسط ويربطها بمجريات الأمور ومواقف صانع القرار وردود فعل الجماهير لا يملك إلا أن يتساءل: لماذا يبدو العالم العربي، قيادات وشعوبًا، صحافة وعلماء، مأخوذًا إزاء الأحداث وقد صدمته المفاجأة بين غير مصدق ومكذب، وما إن تقع الأحداث إلا وتتوالى الانفعالات حيث تسيطر المبالغة والمهاترة دون النظرة المتأنية الهادئة(44).
ومن هنا تبرز وظيفة المحلِّل السياسي، إن كفاحيَّة التحليل السياسي لا تصير حقيقة تبرز واضحة إلا عندما يشعر عالم السياسة بأن عليه أن يضع علمه وخبرته في عملية تشريح القوى السياسية وإبراز مواضع قوَّتها ومواضع ضعفها، وهكذا يرى أن ما قام به في دراسة إسرائيل من خلال المداخل الثلاثة أمر طبيعي لاكتشاف حقيقة القوة للحصول عليها من خلال تلك المعالجة التى تسمح بشلِّ مواطن الصلابة، وإبراز ملامح الضعف لفتحها أمام عملية التسلُّل فى جزئيَّات ذلك الجسد تمهيدًا لامتصاصه. كما وظَّفَ موقفَه من وظيفة المحلِّل السياسي في العالم العربي ليبحث موضوعًا أكثر أهمِّية، وهو: هل هناك سياسة عربية؟ بمعنى هل هناك حدٌّ أدنى من قواعد التعامل مع مشكلة الشرق الأوسط تتَّفق حولها القوى المسؤولة بحيث يمكن أن تستخلص منه حدًّا أدنى ولو في أبسط مفاهيمه لتشكِّل إطارًا عربيًّا للتعامل مع مشاكل المنطقة، ويطرح تساؤلا آخر: لماذا لا يساهم الفكر السياسي في مسؤوليته بخصوص وضع هذا الإطار العام للسياسة العربية المتجانسة؟ أليست السياسة حركة وهل يمكن للحركة أن توجد دون إطار متكامل من المدركات للتعامل مع الوقائع؟ ولماذا تعوَّد العالم العربي أنه يفاجأ بالأحداث، قيادة ومحكومين؟(45)
وهكذا يعلن حامد ربيع الخلاصة في معالجته لهذا الملف من خلال كفاحيَّته في التحليل والفكر، بأن الدولة العبرية هى سرطان قد زرعته يدٌ أجنبية في قلب الوطن العربي ولابد من استئصاله، بالإضافة إلى أن النظام السياسي الإسرائيلي قد أثبت قوَّة وأثبت ضعفًا. فالقوَّة: أبرزتها هزائم عام 1967م، والضعف: قدَّمته معارك وانتصارات عام 1973م؛ فلنتعلَّم من خلال مشاهد القوة كيف نتابع الخبرة التى قدَّمتها لنا انتصارات أكتوبر فى الأعوام اللاحقة(46).
يمكن القول إن النقلات النوعية في حياة حامد ربيع بدأت من الاهتمام بالدائرة المصرية قبل عام 1967م إلى الدائرة العربية بعد عام 1967م، ثم إلى الدائرة الإسلامية بعد عام 1975م(47)، ويكشف الإنتاج الفكري والمعرفي لحامد ربيع قدرته على إبداع نموذج تحليلي يقدِّم رؤى متكاملة للتفسير والتحليل، وهو ما يجعل البعض يصفه بالعالم الموسوعي وآخرون اعتبروه بالمفكر الملتزم بقضايا أمَّته المصرية والعربية والإسلامية، وقد استطاع حامد ربيع أن يقدِّم هذه الرؤية من خلال دقَّته العلمية وقدرته على صياغة مصطلحاته ومفاهيمه، وإمكاناته العقلية جعلته قادرًا على البحث باستمرار وعدم الوقوف على سطح الظاهرة بل الغوص الخلَّاق، ليس فقط من أجل الحفر المعرفي، وليس فقط لتعمُّق الإيمان بالانتماء لقضايا الأمَّة المحورية، وإنما في إطار بحثه عن صياغة رؤية كلِّيَّةٍ شاملة عن منهاجية تفسيرية خلَّاقة لا تقع تحت مُسلَّمات النظريات التحليلية الغربية(48).
كما أن معظم ما كتبه حامد ربيع من مقولات وأفكار وخلاصات ثبتت -وما تزال- صحَّتها ودقَّتها بشأن قضايا الصهيونية والعنصرية والكيان الصهيوني والدعاية الصهيونية أو الإسرائيلية ولديناميات الحضارة المجتمعية المحرِّكة لأطراف الصراع -عربًا وصهاينةً وقوى خارجية- ومع أنه كان مدركًا للفروق إلا أنه كان مدركًا أكثر للارتباط بينها(49)، وهو أمر محل اتِّفاق معظم تلامذته ودارسيه، وهو لم يتعامل مع علم السياسة تعاملًا فنيًّا وظيفيًّا بل على العكس تمامًا؛ فقد وظَّف كلَّ أدوات العلم وكل قيم الموضوعية والحياد العاطفي، من أجل وصف الظواهر وكشفِها من أجل غايةٍ أسْمى لديه، لأنه يؤمن أن علم السياسة هو علم الفاعلية الحركيَّة لتحقيق الصالح العام، ولا يمكن أن يكون هناك “علم سياسة” طبقًا لحامد ربيع، إلا إذا كانت له وظيفة حركيَّة تتعلَّق بمستقبل الأمَّة وتحقيق مصالحها، فقد أدرك حامد ربيع وظيفة العلم الحقيقية واستوعب قيم الحياد والموضوعية التي تتعلَّق بتطبيق أقصى درجات الحياد العاطفي والقيمي عند وصف الظواهر وعند تحليلها وتفسيرها، ولكن عند استخلاص النتائج التي تترتَّب عليها حركة، فإن الحياد في ذاته يعني موقفًا لأنه يرادف السلبيَّة، وهي موقف، فلا يمكن أن يكون هناك حياد في عملية التفسير أو التنبُّؤ أو توظيف العلم لإصلاح المجتمع أو رسم مستقبله، فالعلم طبقًا لحامد ربيع وظيفة حضارية لابد من إدراك مدى خطورتها في مستقبل الأمم، ومن هنا فقد كان يرى أنه القاطرة التي تقود الأمم إمَّا إلى النهوض والمستقبل أو إلى الركود والتراجع(50).
وقد ساهم ذلك في بلورة رؤيته للعالم التي تنساح في جنبات نصوصه(51)، الممزوجة بكفاحيَّته المشهودة، وإدراكه لهموم أمَّته وانشغاله بها بالصورة التي هيمنت عليه في اهتماماته وكتاباته وأفكاره وإنتاجه العلمي والأكاديمي وما واكب ذلك من رحلة علمية وفكرية وعملية، حيث زار وعمل في معظم دول العالم العربي الأمر الذي يتحقَّق فيه وصف أستاذنا الدكتور سيف الدين عبد الفتاح له بأنه “العالم الأمة” وكان يراه في الجماعة العلمية “العالِم القطب”، ويراه أيضًا “العالِم الذي كوَّن مدرسة بحق وجب أن تُسَمَّى باسمه “المدرسة الربيعية” كما أن حامد ربيع لا بد أن يتحوَّل إلى مؤسَّسة بأفكاره وإنتاجه الفكري والبحثي(52) .
*****

الهوامش:

(*) باحث في العلوم السياسية.
(1) كمال المنوفي، احتفالية أ. د. حامد ربيع، (في) تراث ربيع بين كفاحية العالم ومقتضيات المنهج، حسن نافعة، وعمرو حمزاوي (محرران)، (القاهرة: جامعة القاهرة، كلية الاقتصاد والعلوم السياسية، 2004)، ص 13.
(2) عبد الخبير عطا، مقدمات أولية: الأبعاد الحضارية في منهاجية البحث في العلوم السياسية لدى الدكتور حامد ربيع، (في) تراث ربيع بين كفاحية العالم ومقتضيات المنهج، المرجع السابق، ص 65.
(3) عبد الخبير عطا، المرجع السابق، ص 66.
(4) عمرو كمال حمودة، إسهامات حامد ربيع في مجال الدراسات النفطية، (في) تراث ربيع بين كفاحية العالم ومقتضيات المنهج، المرجع السابق، ص ص 483.
(5) نادية مصطفى، قراءة في أعمال د. حامد ربيع في مجال العلاقات الدولية، (في) تراث ربيع بين كفاحية العالم ومقتضيات المنهج، المرجع السابق ص ص 416 – 418.
(6) حامد ربيع، تأملات فى الصراع العربى الإسرائيلى، (بيروت: المؤسسة العربية للدراسات والنشر، يناير 1976).
(7) المرجع السابق.
(8) نصر محمد عارف، ثيوروس علم السياسة العربي: منهجية التحليل السياسي عند حامد ربيع ـ ورقة أولية، (في) تراث ربيع بين كفاحية العالم ومقتضيات المنهج، مرجع سابق، ص 143.
(9) حامد عبد الماجد، في نظرية الرأي العام والاتصال السياسي: دراسة في إسهامات العلامة الراحل حامد ربيع، (في) تراث ربيع بين كفاحية العالم ومقتضيات المنهج، المرجع السابق، ص 336.
(10) المرجع السابق، ص 325.
(11) المرجع السابق، ص 326.
(12) المرجع السابق، ص 335.
(13) نيفين مسعد، إسهام الدكتور حامد ربيع في مجال السياسة المقارنة، (في) تراث ربيع بين كفاحية العالم ومقتضيات المنهج، المرجع السابق، ص 341.
(14) أحمد ثابت، رؤية حامد ربيع للصهيونية وطبيعة الصراع مع إسرائيل: قراءة في النموذج المنهاجي التفسيري، (في) تراث ربيع بين كفاحية العالم ومقتضيات المنهج، المرجع السابق، ص ص 459 – 461.
(15) المرجع السابق، ص 464.
(16) المرجع السابق، ص 471.
(17) حامد ربيع، دراسات أساسية حول الصهيونية وإسرائيل، (منشورات إدارة الشؤون العامَّة والتوجيه المعنوي لجيش التحرير الفلسطيني وقوات التحرير الشعبية، د. ت.).
(18) حامد ربيع، الدعاية الصهيونية: حول تأصيل نظرية التعامل النفسي في التقاليد السياسية اليهودية، (القاهرة: معهد البحوث والدراسات العربية، 1975)، ص 257.
(19) حامد ربيع، فلسفة الدعاية الإسرائيلية، (بيروت: دار الطليعة للطباعة والنشر، 1982).
(20) المرجع السابق.
(21) حامد ربيع، الدعاية الصهيونية: حول تأصيل نظرية التعامل النفسي في التقاليد السياسية اليهودية، مرجع سابق.
(22) نيفين مسعد، مرجع سابق، ص ص 362 – 363.
(23) المرجع السابق، ص ص 358 – 361.
(24) حامد ربيع، إطار الحركة السياسية في المجتمع الإسرائيلي، (القاهرة: دار الفكر العربي، 1978).
(25) حامد ربيع، النموذج الإسرائيلي للممارسة السياسية، (القاهرة: المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم، معهد البحوث والدراسات العربية، 1975).
(26) حامد ربيع، كيف تفكر إسرائيل والحرب القادمة فى منطقة الشرق الأوسط.
(27) حامد ربيع، من يحكم في تل أبيب؟ حول تحليل علاقة التماسك في النظام الإسرائيلي ومتغيرات الحركة السياسية في منطقة الشرق الأوسط، (بيروت: المؤسسة العربية للدراسات والنشر، الطبعة الأولى، 1975).
(28) المرجع السابق، ص 463.
(29) أحمد ثابت، مرجع سابق، ص 458.
(30) أحمد يوسف أحمد، حامد ربيع.. رسالة إلى الوطن والأمة في مطلع قرن جديد: تأملات في مساهمته في دراسة الأمن القومي العربي، (في) تراث ربيع بين كفاحية العالم ومقتضيات المنهج، مرجع سابق، ص 369.
(31) عمرو كمال حمودة، مرجع سابق، ص ص 488 – 499.
(32) حامد ربيع، سلاح البترول والصراع العربي الإسرائيلي، (بيروت: المؤسسة العربية للدراسات والنشر، الطبعة الأولى، 1974)، ص 216.
(33) حامد ربيع، إطار الحركة السياسية في المجتمع الإسرائيلي، (القاهرة: دار الفكر العربي، 1978).
(34) حامد ربيع، العنصرية الصهيونية ومنطق التعامل السياسي في التقاليد الغربية، (دمشق: منشورات الطلائع، منظمة طلائع حرب التحرير الشعبية – قوات الصاعقة، 1976).
(35) المرجع السابق.
(36) المرجع السابق.
(37) أحمد يوسف أحمد، مرجع سابق، ص 375.
(38) المرجع السابق، ص ص 388 – 389.
(39) حامد ربيع، اتفاقيات كامب ديفيد.. قصة الحوار بين الثعلب والذئب، (دمشق: منشورات الطلائع، منظمة طلائع حرب التحرير الشعبية – قوات الصاعقة، 1979).
(40) المرجع السابق.
(41) حامد ربيع، الثقافة العربية بين الغزو الصهيوني وإرادة التكامل القومي: نحو بناء نظرية سياسية عربية، (القاهرة: دار الموقف العربي، 1975).
(42) حامد ربيع، اتفاقيات كامب ديفيد، مرجع سابق.
(43) المرجع السابق.
(44) حامد ربيع، الصهيونية: بين الواقع الإقليمي والمتغيرات الدولية، نص المحاضرات التي ألقيت على طلبة قسم الدراسات العليا، بجامعة بغداد – كلية القانون والسياسة فى إبريل/مايو 1979.
(45) حامد ربيع، اتفاقيات كامب ديفيد، مرجع سابق.
(46) حامد ربيع، من يحكم في تل أبيب؟، مرجع سابق.
(47) عبد الخبير عطا، مرجع سابق، ص 67.
(48) أحمد ثابت، مرجع سابق، ص ص 416 – 418.
(49) المرجع السابق، ص 444.
(50) نصر محمد عارف، مرجع سابق، ص 147.
(51) سيف الدين عبد الفتاح، إسهامات حامد ربيع في دراسة التراث السياسي الإسلامي، (في) تراث ربيع بين كفاحية العالم ومقتضيات المنهج، مرجع سابق، ص 160.
(52) المرجع السابق، ص 249.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى