تدفق الاستثمارات الصينية في هوليوود

مقدمة

شهدت السنوات الأخيرة تفاعلات اقتصادية وتجارية قوية على المستوى العالمي، كما اتّسمت هذه المرحلة التي يشهدها النظام الدولي بتداخل القضايا الثقافية مع القضايا الاقتصادية في إطار العلاقات الدولية السياسية، لذلك أثرت بطبيعتها على طبيعة دراسة الاقتصاد السياسي الدولي. على هذا النحو، تعرض هذه الورقة نموذجًا تطبيقيًا لإحدى القضايا المعاصرة التي يشهدها النظام الدولي حاليا الذي يتّسم بالتعقيد ويمكن اعتبارها مثالًا حيًا على هذا التداخل في الموضوعات السياسية والثقافية والاقتصادية.
لقد تدفقت الاستثمارات الصينية في هوليوود بشكل ملحوظ في يونيو 2016، حيث قامت عدد من شركات الإنتاج الصينية الضخمة بعدد من الصفقات التجارية في هوليوود، وتضم هذه الشركات شركات مثل: “تانج للإعلام”، “المجموعة الصينية للإنترنت”؛ والتي أعلنت شراءها لواحدة من أكبر وكالات تمويل وبيع أفلام هوليوود في صفقة من أكبر الصفقات التجارية في هذا المجال[1].
لم يكن هذا النوع من الاستثمارات الصينية هو الأول من نوعه، فقد سبقت هذه الصفقة الاستثمارية استثمارًا آخر من قِبل أغنى رجل أعمال صيني “وانج جيانلين” صاحب شركة الإنتاج “داليان واندا” الذي قام باستثمار قيمته 3.5 بليون دولار لوكالة أخرى خاصة ببيع وتمويل أفلام هوليوود التي أنتجت أفلامًا عالمية شهيرة مثل Godzilla و Pacific Rim. لم يحظَ القطاع الخاص الصيني بهذا النصيب من الاستثمار وحده، حيث قامت عدد من شركات الإنتاج التابعة للدولة أيضا بالمساهمة في هذا الاستثمار[2]. وتستعرض هذه الأوراق الأسباب وراء زيادة نسبة تلك الاستثمارات.

أولًا- العوامل الداخلية الصينية:

أولا، يرى بعض المحللين أن هناك العديد من الدوافع التي شجعت الصين على القيام بمثل هذه الاستثمارات الضخمة: أولها هو تباين رؤى الفواعل الاقتصاديين والمستثمرين في الصين حيث يعمل كل منهم وفقًا لرؤيته وبما يحقق مكاسب ومصالح أكبر. هناك بعض الشركات الصينية التي تعيش حالة من الانتعاش الاقتصادي بسبب ارتفاع الأسعار والقيم في سوق البورصة الصيني، حيث لديها القدرة على ضخ أموال والإنفاق بأسعار مرتفعة. وعلى صعيد آخر، فضلت الشركات الأخرى الاستثمار خارج البلاد، حيث ازدادت مخاوفهم من انخفاض قيمة العملة في المستقبل، لذا كان عليهم الارتباط بالسوق العالمي[3].
ثانيًا، يسعى المستثمرون الصينيون إلى الاستفادة من الخبرات الأمريكية في صناعة السينما في الوقت الذي تصاعدت فيه رغبة الطبقة الوسطى في الصين في الترفيه والاهتمام بالسينما نظرًا لزيادة نصيب الفرد من الدخل الذي زاد عشرين ضعفًا في الجيل الواحد. في عام 2014، حققت صناعة الأفلام الترفيهية في أمريكا فائضًا تجاريًا بحوالي 16.3 بليون دولار وفقًا لجمعية السينما الأمريكية مما يعكس رغبة المستثمرين الصينيين في تحقيق أرباح مماثلة[4].
ثالثًا، شهد سوق الأفلام الصيني نموًا كبيرًا حيث تحدت إيرادات شباك التذاكر الصينية تباطؤ النمو الاقتصادي من خلال إضافة شاشات عرض لسوق السينما الصيني، الذي من المحتمل أن يتجاوز السوق الأمريكي ليكون أكبر سوق سينمائي في العالم في [5]2017.

ثانيًا-الجانب الأمريكي:

رحبت أمريكا بالاستثمار الصيني بشكل كبير، فأمريكا تعتبر الصين من أكبر أسواق الأفلام في العالم، حيث عانت الولايات المتحدة الأمريكية كثيرًا من نظام الكوتة الصيني الذي تضعه على الأفلام الأجنبية وبالأخص الأمريكية والذي يقيد انتشارها بشكل واسع في الصين. ففي فبراير 2012 بموجب صفقة بين الصين والولايات المتحدة الأمريكية،، خففت الصين القيود على استيراد الأفلام الأمريكية وعرضها في الصين، بالتالي زاد عدد الأفلام الأمريكية – من فئة 3D و IMAX – المسموح عرضها في الصين ليصبح 34 فيلمًا بدلًا من 20، وبناءً عليه زادت الإيرادات والعائدات الأمريكية من 13% إلى 25% لكن في الوقت نفسه كان له أثره على الإنتاج السينمائي المحلي للصين[6].
من الناحية الأخرى، واجهت الولايات المتحدة الأمريكية تحديات أعاقت انتشار الأفلام الأمريكية في الصين، لقد مَرّرت الصين قانونًا يهدف إلى نشر قيم الاشتراكية وينعش الحياة الثقافية والروحانية لدى الشعب الصيني بما يتوافق مع قيم الاشتراكية. على هذا الأساس، وضعت قواعد ثابتة تنظم صناعة الأفلام وتراقب توافقها مع تلك القيم، فمن غير المسموح أن تُصنع أفلام تنافي القانون والدستور الصيني أو تهدد الأمن القومي الصيني أو الإضرار بالكرامة والمصالح الصينية أو داعية للإرهاب والتطرف، ويشرف على تطبيق هذا القانون هيئة رقابية رسمية خاصة بالمنتجات الإعلامية والصحفية في الصين؛ ويفترض أن يتم تطبيق هذا القانون في مارس [7]2017، إذ لا زالت تعاني الولايات المتحدة الأمريكية من القيود الصينية على أفلامها بالرغم من زيادة الكوتة.
ثالثًا- منظورات الاقتصاد السياسي الدولي والاستثمار الصيني في هوليوود:
في الواقع يمكن تحليل هذه القضية في إطار دراسة اتجاهات الاقتصاد السياسي الدولي من خلال منظورات مختلفة، فهذه القضية تعكس أبعاد متعددة منها؛ الاقتصادي، القيمي (الثقافي) والسياسي، والمحدد لاختيار المنظور هو الجانب الذي ننطلق من خلاله للتحليل والتفسير، فلا يمكن الجزم بأن هناك منظورًا واحدًا يمكن من خلاله تفسير هذه السلوكيات والتفاعلات.
1- المنظور الليبرالي الجديد
للمنظور الليبرالي الجديد رؤية خاصة لكل من الوجهين الاقتصادي والسياسي، لكن في هذا إطار هذه القضية يمكن اللجوء لرؤية المنظور الليبرالي الجديد في بعده الاقتصادي ومبدأ الاعتماد المتبادل الدولي على وجه التحديد[8]. البعد الاقتصادي في هذه القضية يتمثل في المصالح التجارية والاقتصادية المشتركة بين الولايات المتحدة والصين، حيث يعكس هذا النموذج مبدأ الاعتماد المتبادل بين الطرفين بشكل كبير وواضح. كل من الصين والولايات المتحدة يعتمد على الآخر لإيمانهم بالمصالح والمكاسب المشتركة المطلقة الناتجة عن هذا التفاعل. فهي علاقة شديدة التعقد نظرًا لعلم كل من الطرفين بضرورة استمرار هذه العلاقة ولعلمهم أيضًا بالأضرار التي ستنتجج في حال إذا قرر أن ينفصل أحد الطرفين، فهو الخاسر في النهاية.
لذلك نجد قبولًا وترحيبًا كبيرًا لدى الولايات المتحدة بالاستثمارات الصينية بالرغم من القيود التي تضعها الصين سواء من خلال الكوتة أو الرقابة الصينية المحتملة على مضمون أفلام هوليوود التي ستنتج عن تدفق تلك الاستثمارات. فالولايات المتحدة ترغب في الحفاظ على أكبر أسواق الأفلام في العالم، أي ضمان استمرار أفلامها في اختراق الأسواق الصينية بما يحقق لها عائدات وأرباح هائلة. في الوقت نفسه، لوحظ أن الإنتاج الصيني للأفلام أصبح في تزايد مستمر كما آمنت القيادات الصينية أن مجال صناعة السينما هو أحد أهم مصادر الدخل القومي، لذلك يجب على الصين أن تستفيد بالقدر الكافي من الخبرة الأمريكية في هذا المجال.
النزعة القومية دائما ما تكون حاضرة في السلوك الصيني، لذلك نجد إصرار الصين على الشراكة الصينية في صنع الأفلام الأمريكية حتى تسمح بدخولها للعرض في الصين. أي تشترط اللجوء إلى شركات إنتاج وتوزيع صينية وفنيين سينمائيين صينيين للمشاركة في صنع الفيلم، بالتالي تضمن أن تلعب الفواعل المحلية دورًا في صناعة السينما حتى لا يقف عملها نهائيًا على أثر دخول الاستثمارات الأمريكية.
من الناحية السياسية، يمكن تفسير تهافت الطرفين على استمرار وبقاء هذا التفاعل الاقتصادي من خلال مفهوم القوة الناعمة في العلاقات الدولية الذي دشنه “جوزيف ناي” لما تحمله هذه القضية من تأثير على شكل العلاقات الدولية وهيكل النظام الدولي. فالقوة الناعمة في الأساس تهدف إلى إحداث تغيير أو تأثير في سلوك الطرف الآخر بغرض تحقيق أهداف الطرف الأول، ومن آليات القوة الناعمة الثقافة، القيم السياسية والسياسات الخارجية[9].
إلى جانب العنصر الاقتصادي القائم والذي يعتبره الطرفان هو مصدر للقوة والتأثير، نجد أن الجانب السياسي الأيديولوجي يلعب أيضا دورًا كبيرًا. لا يمكن إنكار أن الصين حاليًا تسعى جاهدة لتُكون قوة عظمى متحدية القوة الأمريكية في الوقت الذي يتضاءل فيه الدور العالمي الريادي للولايات المتحدة في الوقت الحالي. أي أن الهيمنة الأمريكية لم تعد موجودة بالشكل الذي كانت عليه بعد انتهاء الحرب الباردة. لذلك نجد أن الصين – ذات الأيديولوجية الاشتراكية – تحاول جاهدة أن تسلك نفس الطريق الذي سلكته الولايات المتحدة الأمريكية واتباع نفس الآليات لضمان تحقيق مكانة ريادية في النظام الدولي تؤثر على هيكله لصالحها. بالتالي تسعى الصين من خلال استثماراتها في هوليوود إلى الهيمنة والتحكم بأكبر قدر ممكن في صناعة السينما العالمية. هذا بالإضافة إلى محاولاتها لمواجهة القيم الليبرالية التي تُنشر من خلال الأفلام الأمريكية ومحاولة نشر أيديولوجيتها الاشتراكية أو بحد أدنى محاولة حمايتها من الاختراق بشتى الطرق والتي من ضمنها تمرير قانون لمراقبة محتوى الأفلام التي تُعرض في الصين لتتماشى مع قيم الاشتراكية.
كل من الطرفين يعلم جيدًا قيمة امتلاك وسائل المعرفة ووسائل الاتصال والإعلام في هذا العصر المعلوماتي، ومدى تأثيرها على تشكيل الرأي العام. فهي تلعب دورًا في تكوين رؤية عن شكل النموذج القائد الذي تَحتذي به الدول الأخرى مثلما روّجت الولايات المتحدة بجدارة لقيم الليبرالية والحضارة الغربية من قبل.
2- الاتجاه النقدي في الاقتصاد السياسي الدولي
إن أغلب الاتجاهات النقدية تؤمن بضرورة الاهتمام بالأبعاد القيمية والمعيارية في تحليل قضايا وظواهر الاقتصاد السياسي الدولي نظرًا لما فرضه واقع هيكل النظام الدولي من تغير في طبيعته وقضاياه. كما اهتمت تلك الاتجاهات بعناصر وقضايا تختلف عن التي تبنتها الاتجاهات التقليدية، أهمها هي عنصر الثقافة والنماذج المعرفية المرتبطة به. وانطلاقا من إيمان الاتجاه النقدي بأن القيم والأخلاقيات هي مصدر تأسيسي ومنشأ للقوة وليست محسنة لها، نجد أننا أمام نموذج تطبيقي لمثل هذا المبدأ[10].
العلاقة بين السلطة و المعرفة: قضية الاستثمار الصيني في هوليوود ذات أجندة قيمية ومعيارية جديرة بالاهتمام. فالأفلام السينمائية هي من أهم وأقوى آليات التأثير وتشكيل الرأي العام العالمي. كما تعكس بشكل قوي مسألة العلاقة بين السلطة والمعرفة في الاقتصاد السياسي الدولي.
لقد اعتمدت الولايات المتحدة الأمريكية في الهيمنة على النظام الدولي على أفلام السينما لتصدير صورة خاصة عن الولايات المتحدة الأمريكية كنموذج القائد العالمي الذي يجب على باقي الدول أن تقتضي به، فهو نموذج خارق لا يُهزم أو ينهار وباقٍ دائما حيث انعكست هذه الصورة في سلسلة أفلام سوبر مان وبات مان. كما نجحت الولايات المتحدة الأمريكية من خلال أفلامها في نشر قيم الليبرالية والحريات الاجتماعية كهدف على الجميع أن يحققه. إذا لا يمكن إنكار فضل الأفلام السينمائية وصناعة السينما بشكل عام على ما وصلت إليه الولايات المتحدة اليوم.
بنفس الطريقة، تؤمن الصين بأن الأفلام السينمائية هي جزء لا يتجزأ من تحقيق مشروع الهيمنة ونشر أيديولوجيتها القومية الاشتراكية كقوة عظمى قادمة. بالتالي هي تؤمن أيضا بإمكانية إحلال الحضارة الكونفوشيوسية محل الغربية كنموذج معرفي يمكن تصديره للرأي العام العالمي للاقتداء به. إذ أن صناعة الأفلام السينمائية بالنسبة للصين هي آلية قوية لكسر الهيمنة الأمريكية السائدة وبذلك جديرة بالاستثمارات من قبل القطاع العام والقطاع الخاص الصيني.
في هذا الإطار يمكن طرح التساؤل حول دور دول وحضارات العالم الثالث. هذا لأن التنافس لا يزال قائمًا بين القوى العظمى متغافلًا عن حق دول العالم الثالث ونماذجهم المعرفية في التمثيل العالمي. حيث ظلت السينما ووسائل الإعلام والاتصال الأخرى سلاحًا يحصل عليه الأقوى فقط. لذلك عاشت دول العالم الثالث طوال العقود الماضية في ثنائيات قطبية أدت دائما إلى حيرة وتشتت حول معرفة ذواتهم وهوياتهم الأصلية.
ليس من المستغرب أن نجد تدفق استثمارات في صناعة السينما العالمية من قبل أطراف جدد على الساحة الدولية. فاختراق الهيمنة الأمريكية على صناعة السينما دفعت بفواعل جدد للتفاعل مع هذا التغير الطارئ والمشاركة فيه أيضا. فهناك تدفق ملحوظ من قبل فواعل جدد على الساحة الدولية،، على سبيل المثال النموذج الهندي “بوليوود” الذي يُعد نافذة حقيقية لخروج الفن والثقافة والحضارة الهندية للعالم. تسير على نفس المنوال أيضا تركيا من خلال غزو مسلسلاتها وأفلامها الأسواق الإقليمية في منطقة الشرق الأوسط. كذلك نجد النموذج المكسيكي الذي نجح في الارتقاء للعالمية من خلال الأفلام والمخرجين السينمائيين الذين حصلوا على الأوسكار مؤخرًا مثل المخرج السينمائي Alejandro González Iñárritu في 2015 عن فيلم Birdman.
إذا تشير جميع تلك المؤشرات إلى إيمان هؤلاء الفواعل الجدد في النظام الدولي بضرورة امتلاك أدوات المعرفة والتكنولوجيا كوسيلة لتحقيق التمثيل الذاتي وكسر الهيمنة الأمريكية في نفس الوقت ومن ثم الحصول على المزيد من السلطة كما هو واضح بالأخص في النموذج الصيني.
*****

الهوامش:

* طالبة ماجستير بكلية الاقتصاد والعلوم السياسية، جامعة القاهرة.
[1] Garrahan, Matthew, and Henny Sender. “Chinese Investors Flood into Hollywood.” Financial Times, June 2016. Accessed November 25, 2016. https://www.ft.com/content/2cb93908-2c65-11e6-bf8d-26294ad519fc.
[2] ibid.
[3] ibid.
[4] ibid.
[5] Sender, Henny. “China Steps up Investment in Hollywood.” The Financial Times, June 2, 2016. Accessed November 25, 2016. https://www.ft.com/content/b7b68826-2878-11e6-8b18-91555f2f4fde.
[6] Hennock, Mary. “Boost for Hollywood Studios as China Agrees to Ease Quota on US Films.” The Guardian, February 20, 2016. Accessed November 25, 2016. https://www.theguardian.com/world/2012/feb/20/china-eases-import-quota-hollywood-films.
[7] Evans, Alan. “China Passes Law to Ensure Films ‘serve the People and Socialism'” The Guardian, November 8, 2016. Accessed November 25, 2016. https://www.theguardian.com/film/2016/nov/08/china-passes-film-industry-law-box-office-fraud.
[8]د.نادية مصطفى. “نظرية العلاقات الدولية بين المنظور الواقعي والدعوة إلى منظور جديد” ، السياسة الدولية, October 1985 صص. 886-914
[9]Nye. Jr, Joseph S. Bound To Lead: The Changing Nature Of American Power. 978-0465007448. New York, United States of America: Basic Books L.L.C, 1991.
[10] Brassett, James, and Christopher Holmes. “International Political Economy and the Question of Ethics.” Review of International Political Economy, 1466-4526, 17, no. 3 (August 2010): 425-53. Accessed November 25, 2016. doi:10.1080/096692290903507201.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى