درجات وأنماط التنمية في ظل أنظمة اقتصادية مختلفة عبر ستين عامًا

مقدمة
جاء التأسيس لنظام يوليو باعتباره نظامًا مختلفًا عن النظام السابق بناء على انحيازاته الاقتصادية والاجتماعية، ومن ثم تأسيسه لنظام اقتصادي واجتماعي جديد، وكان هذا التأسيس يتمُّ في سياق دولي تتنافس فيه القوَّتين الرئيسيَّتين في العالم على كسب ولاءات الدول الصغرى والمتوسِّطة، ومن ضمن عملية التنافس تلك الاستقطاب نحو الاندماج في النظام الاقتصادي الرأسمالي السائد أو تجذير الانحيازات الاجتماعية للفئات الثائرة عبر الفكر الاشتراكي والشيوعية التي يحاول الاتحاد السوفييتي نشرها بوسائله المختلفة.
كانت مصر في عام 1956 -عام خروج الاحتلال من مصر- غير مدينة للعالم بشيء، فقد سبق وأصدرت الحكومة المصرية قانون تمصير الديون في 1943، وتحوَّلت مصر بعد الحرب العالمية الثانية من مدينة لبريطانيا إلى دائنة لها بمبلغ 340 مليون جنيه، لكن هذا لم يَعْنِ وضعًا اقتصاديًّا أفضل كثيرًا ممَّا قبل الحرب، فقد انخفضت أسعار القطن عالميًّا، وكان الميزان التجاري لمصر يتَّجه لغير صالحها، ولم تلاحق التنمية معدَّلات الزيادة السكانية، وكان على اقتصاد الثورة أن يحقِّق تطوُّرًا اقتصاديًّا وتنمويًّا يواكب عملية التحرُّر والاستقلال عن المستعمر بالإضافة لتحويله لنموذج تنموي([1]).
إن محاولة إرساء نموذج تنموي مصري مختلف مقترن بنظام يوليو 1952 جديرة بالدراسة عبر مراحله المختلفة ومصيره من حيث أسس ودعائم هذا النموذج بمحاولة التحديث والدخول في التصنيع إلى الاندماج في اقتصاد الخدمات ثم الانتقال للاقتصاد النيوليبرالي وطبيعة علاقة الدولة بعملية التنمية في تلك المراحل، هل هي رأسمالية دولة أم دولة متخلِّية لصالح القطاع الخاص أم دولة خاضعة للقطاع الخاص؟ وما مدى وفاء نماذج دول عبد الناصر والسادات ومبارك بحاجة الاقتصاد المصري من مصادر التمويل الدولي ومن السلع الأساسية ودور الاقتصاد المصري وحجمه عالميًّا؟ مع التركيز على تطوُّر وتدهور الصناعة في المشروع الوطني من التأميم إلى الخصخصة، ودلالات علاقات الداخل والخارج على الاستثمار في مصر.
ولتتبُّع درجات وأنماط التنمية عبر 60 عامًا من نظام يوليو بنشأته والتراجع عن منطلقاته وتدهوره نحو النقيض، فإننا سوف نتتبَّع درجات وأنماط التنمية عبر كل فترة رئاسية على حدة من خلال أهم المنطلقات التأسيسيَّة والقوانين والسياسات وما كُتب عنها على النحو التالي:
أولًا- درجات وأنماط التنمية في العهد الناصري
● الانحيازات والمنطلقات التأسيسية:
سعت ثورة يوليو لبناء اقتصاد يعمل على إحداث تنمية مستقلَّة ويناهض التبعية للغرب وللقوى المهيمنة، ربما وجد الاقتصاد السياسي لمصر -باعتباره أحد نماذج التصدِّي للقوى الإمبريالية العالمية- سياقًا داعمًا في انتشار مقولات مدرسة التبعيَّة التي ازدهرت في دراسات الاقتصاد الدولي وتطبيقاته على علاقات الشمال والجنوب وعلاقة المستعمر بمستعمراته، فكانت الحركة الوطنية المصرية دومًا تراودها فكرة التخلُّص من التبعيَّة وتطبيق نظم اقتصادية مغايرة للمستعمر باعتبار الاقتصاد في عهده هدفه الاستغلال للموارد والاستعباد للبشر بينما النظام الجديد هو نظام تحرُّر وطني، بيد أن محاولات التحرُّر الوطني اقتصاديًّا لم تصحبها محاولة موازية للتنمية السياسية المستقلَّة سواء ببناء نموذج سياسي مغاير لنمط الديمقراطية التمثيليَّة المصاحبة لنظام اقتصاد السوق الحر، أو ببناء مؤسسات سياسية تعدُّدية حقيقية بديلًا عن تلك التعدُّدية الشكلية التابعة للملك في العهد السابق.
وكانت التنمية تستهدف إعادة التوزيع، وبما أن الثورة قامت ضدَّ نظام إقطاعي فاسد وظالم فإن عليها أن تقوم بالاستيلاء على أملاك هذه الإقطاعيَّات وإعادة توزيعها على الشعب المؤيِّد لحركة الجيش. من ناحية، فإن ذلك يؤدِّي إلى خلق شرعية جديدة بإعادة التوزيع تلك، ومن ناحية أخرى، يكسر شوكة مؤيِّدي النظام القديم والطبقة الاجتماعية الموالية له بسلبهم ممتلكاتهم وتوزيعها، لا يتبيَّن المرء ما إذا كانت هذه السياسات نابعة من توجُّهات أم مجرَّد إجراءات لكسب الشرعية السياسية ومغازلة القطاع الأوسع من المصريِّين الذين يعملون في قطاع الزراعة ويسكنون في الريف، فقد كانت المسألة الزراعية مطروحة بقوة منذ العشرينيات وحتى الأربعينيات نتيجة للفقر المتزايد في الريف، وسوء توزيع الملكية، وتحكُّم كبار الملَّاك في الاقتصاد الزراعي المصري وفي الحياة السياسية.
كما كانت التنمية تستهدف أيضًا العدالة الاجتماعية، فيرى عبد الناصر في كتابه “فلسفة الثورة” أن “الشعب بحاجة إلى ثورة اجتماعية تتصارع فيها طبقاته ثم يستقر الأمر فيها على ما يحقِّق العدالة لأبناء الوطن الواحد”([2]). ثم تبع هذا الاستهداف سياسات تأسيسيَّة أصدرها محمد نجيب واستفاد من أثرها الشعبي عبد الناصر، والتي عرفت بقوانين الإصلاح الزراعي، وأهمها قانون تحديد ملكية الأراضي الزراعية، فقد جاء القانون الأول للإصلاح الزراعي في سبتمبر برقم 178 لسنة 1952، محدِّدًا الملكية الزراعية بمئتي فدان للفرد كحدٍّ أقصى، وله أن يهب أبناءه 100 فدان، وتوزيع الأراضي الزائدة على صغار الفلاحين بواقع (فدانين إلى 5 أفدنة) على أن يسدِّدوا ثمن هذه الأراضي على أقساط لمدة ثلاثين عامًا وبفائدة 3% سنويًّا، يضاف إليها 1,5% من الثمن الكلِّي للأرض وفاء للموجودات التي كانت عليها، برغم أن القانون سمح للملَّاك ببيع أراضيهم الزائدة عن الحد الأقصى لمن يريدون وصرف تعويضات للملاك.
وقد كانت الضجَّة السياسية التي أثارها هذا القانون أكثر بكثير من آثاره في المجالين الاقتصادي والاجتماعي، فقد صدر هذا القانون باسم الملك فاروق وهيئة الوصاية المؤقَّتة ولم يكن الملك قد غادر البلاد بعد([3])، ممَّا أثار حفيظة كبار الملَّاك، والذين كانوا يسيطرون على الأرض وعلى السياسة، واستقالت وزارة على ماهر احتجاجًا على القانون، وبدأت آثاره تظهر في شكل مصادمات بين الفلاحين وكبار الملَّاك والسلطات المحلِّيَّة في بعض القرى وصولًا للتمرُّد المسلح في المنيا من قبل أحد كبار الملاك وهو عدلي لملوم ومن خلفه عائلته([4]).
ثم أدخل عبد الناصر مزيدًا من التشريعات الاقتصادية التي تعمِّق ذات التوجُّهات الاقتصادية لتحقيق العدالة الاجتماعية، ومنها قانون الإصلاح الزراعي الثاني رقم 127 لسنة 1961 والذي تضمَّن تخفيض الملكية الزراعية لمئة فدان للفرد، يضاف إليها 50 فدانًا لبقية الأسرة (الأولاد) للانتفاع فقط، وتحريم أي مبيعات للأرض من المالك لأبنائه، كما ألغى القانون الاستثناءات السابقة الخاصة بالأراضي قليلة الخصوبة. وتقدَّر الأراضي التي آلت إلى “الإصلاح الزراعي” نتيجة هذا القانون بـ214,132 ألف فدان، ثم جاء القانون رقم 50 لسنة 1969 الذي أطلق عليه قانون الإصلاح الزراعي الثالث، والذي جعل الحدَّ الأقصى لملكية الفرد 50 فدانًا، غير أن هذا القانون الأخير لم يجد فرصة للتطبيق في واقع الأمر. وتقول الإحصائيات الرسمية بأنه حتى سنة 1969 تمَّ توزيع 989,184 ألف فدان على الفلاحين منها 775,018 ألف فدان تمَّ الاستيلاء عليها وفقًا لقوانين الإصلاح الزراعي، و184,411 ألف فدان كانت تتبع بعض المؤسَّسات المختلفة، أما الباقي وقدره 29,755 ألف فدان فكان حصيلة أراضي طرح لنيل، ووفقًا لنفس هذه الإحصائيات الرسمية فقد وُزِّعَتْ تلك الأراضي على 342 ألف أسرة، أي ما نسبته 10% من الأسر الفلاحية([5])، ويمكن القول إن هذه القوانين وتلك السياسات المرتبطة بها تعيد لقطاع الزراعة قيمته وتحاول خلق مظاهر عدالة اجتماعية حقيقية.
ثم كانت القوانين الاشتراكية في عام 1961 لتحدِّد الاتجاه العام للاقتصاد المصري، فهو اقتصاد يقوم على سيطرة القطاع العام كرافعة للاقتصاد وكآلية للاستقلال عن تبعية رأس المال المحلِّي للرأسمالية العالمي، وكماكينة للتصنيع السريع، فقد كانت القضية الأساسية التي تواجه الرئيس جمال عبد الناصر هي بناء الصناعة، في الوقت الذي لم يأت فيه رأس المال الأجنبي للمشاركة في هذا المجال، وفي نفس الوقت عجز القطاع الخاص عن الوفاء بمتطلبات التنمية في وقت تتزايد فيه نسبة السكان بمعدل 2.5% سنويًّا، أصبح لا يمكن الحديث عن ثورة يوليو والصناعة دون الحديث عن القطاع العام الذي بدأ بتمصير بعض المصالح الأجنبية بعد تأميم قناة السويس، ثم قامت الدولة منذ عام 1960 بإجراء بعض التأميمات، ثم صدرت القوانين الاشتراكية الأساسية في يوليو سنة 1961. بهذه الإجراءات تكوَّن القطاع العام وبدأ ينمو بمكون أساسي هو الشركات المؤمَّمة، ثم قامت الدولة بإقامة مشروعات وشركات بأموالها تنفيذًا لبرامج التصنيع المتتالية([6]).
لقد اختلف حينها وحتى الآن حول هذه الإجراءات، هل هي تأمين للنظام أم للثورة وحمايتها ولضرورتها التنموية وللحفاظ على الاستقلال الوطني، لكن الكثير حتى ممَّن تحوَّلوا عن التوجُّهات الناصرية يرون أن حجم هذه الإجراءات وأثرها في المجتمع والاقتصاد والاستجابة لمطالب ومشاكل المجتمع تصبح معه الفكرة الأمنية قاصرة عن تجريد هذا الإجراء من قيمته حتى لو توافق ذلك مع مصلحة ذاتية للنظام الناصري([7]).
نعود للسؤال حول ماهية النظام الاقتصادي المغاير الذي كان يريده عبد الناصر، ونلحظ أن الرجل بدأ يحلم في “فلسفة الثورة” بنموذج رأسمالي قريب الشبه بنموذج دولة الرفاه، فهو يقول عن الطريق إلى ذلك ودور الجيش أو الطليعة فيه ويتساءل ويجيب قائلا “ما هو الطريق؟ وما هو دورنا على هذا الطريق؟ أما الطريق فهو الحرية السياسية والاقتصادية، وأمَّا دورنا فيه فدور الحارس فقط؟ لا يزيد ولا ينقص… الحارس لمدة معيَّنة بالذات موقوتة بأجل”.
لكن يبدو أن هذه المدَّة المؤقتة وهذا الدور الحارس قد طرأ عليه تغيُّرات كبيرة أثناء حكمه في الفترة من الاستفتاء عليه في 1956 حتى وفاته عام 1970، فقد فشلت كل محاولات تحفيز الرأسمالية الوطنية لتشكيل رافعة للاقتصاد كما فعل طلعت حرب، ومن هنا التجأ الرجل لتقوية دور الدولة في الاقتصاد عبر دخول القطاع العام في كافَّة مجالات الاقتصاد كمنافس قوي ثم كمحتكر لمجالات بعينها.
أيًّا ما كان الأمر، فإن نظام يوليو نجح بتمصير الطبقة المسيطرة على الاقتصاد صناعة وزراعة وتجارة، ثم حوَّل هذه السيطرة إلى الدولة لتصبح رأسمالية دولة إلى حدٍّ بعيد، وكان لهذه التوجُّهات الاقتصادية وتلك السياسات والتشريعات الاقتصادية آثار اقتصادية واجتماعية جيِّدة على غالبية المواطنين، لكن هذا النمط من التصنيع السريع خلق ما يسمِّيه البعض برجوازية الدولة أو البرجوازية البيروقراطية، وهذه الطبقة أو الفئة الاجتماعية استُخدمت من قبل النظام الحاكم لمجابهة البرجوازية التقليدية التي كانت ممثَّلة في ملَّاك الأراضي([8]). وهذه الفئة مثَّلت وعاءً جيِّدًا لتحويل الاقتصاد للنمط الليبرالي في المرحلة اللاحقة باستيعابها لسياسات الانفتاح الاقتصادي كآليَّة للتحديث يمكن لهذه الفئة الإفادة منها بالانفتاح على القطاع الخاص والوكالات التجارية للشركات العالمية.
● هيكل الاقتصاد الناصري:
بداية من العام 1959 تحوَّلت مصر إلى نمط الاقتصاد المخطَّط الشامل، وبما أنه كان هناك اهتمام بالزراعة كقطاع حيوي للاقتصاد المصري الذي كانت أهم سلعة ينتجها حتى قيام الثورة هي القطن الخام، يمكن القول إن قوانين الإصلاح الزراعي تعدُّ أهم مكتسبات ثورة يوليو للفئات الشعبية المصرية، وهي أساس قاعدته الشعبية وأحد أهمِّ أسس العقد الاجتماعي الذي اعتمده النظام، وجوهره “الصمت حتى نحقق التنمية الاقتصادية”، ولتنمية الزراعة والطاقة معًا جاء مشروع السد العالي، والذي جاء تمويله بتوقيع اتفاقية قرض بقيمة 97 مليون دولار مع الاتحاد السوفيتي، تلا ذلك اتفاقية قرض أخرى مع الاتحاد السوفيتي لتمويل مجمع الحديد والصلب بحلوان واتفاق للتعاون الاقتصادي مع ألمانيا الغربية بقيمة 124 مليون دولار([9])، أي إن نظام عبد الناصر استأنف سياسة الاقتراض، وإن كانت لتمويل مشروعات قومية إنتاجية حقيقية ومؤثِّرة في هيكل الاقتصاد والصناعة المصرية وفي إطار تمويل الخطة الخمسية الأولى (1959-1965)، وهي خطة حقَّقت مستهدفاتها بشكل كبير؛ إذ ارتفعت معدَّلات الاستثمار ومعدَّلات التصنيع، وارتفع الدخل الحقيقي للفرد بنسبة 3% بعد ركود لأكثر من أربعين عامًا، وحقَّقت نموًّا اقتصاديًّا حقيقيًّا يفوق 6%([10]).
كانت فلسفة الخطة الخمسية الأولى هي التصنيع السريع وإحلال الواردات للبدء في خلق أرضية متكاملة للتنمية المستقلَّة، وتحويل مصر من دولة زراعية إلى دولة صناعية، وهي خطة اعتمدت الاهتداء بتجارب الاتحاد السوفيتي والصين والهند ودول أمريكا اللاتينية في خلق اقتصاد مستقل وسوق محلية متَّسعة تستوعب الإنتاج الصناعي وقطاع زراعي يتم زيادة إنتاجه واستخراج الفائض منه لخدمة أهداف الصناعة([11]).
كانت الديون والمعونات مسألة في غاية الحساسية في تلك الفترة، إذ كان يُنظر إليها باعتبارها تمسُّ الاستقلال الوطني والكرامة وتكرِّس التبعيَّة، كانت مصر تتلقَّى معونات غذائية أمريكية ومساعدات فنية في عام 1956 بلغت 17 مليون دولار، لكنها انقطعت لعامين ولم تستأنف إلا في العام المالي 1958/1959، وبلغ إجمالي ما تلقَّته مصر من قروض ومساعدات في الفترة (1958-1965) قرابة 800 مليون جنيه مصري (300 مليون جنيه من الولايات المتحدة و500 مليون جنيه من الاتحاد السوفيتي ودول الكتلة الشرقية والمؤسسات الدولية وبعض الدول الغربية)، هذا الاقتراض الضخم كان يمثِّل 5% من الناتج المحلي الإجمالي في تلك الفترة أو 30% من الاستثمارات العامة، وهي نسبة بدت مزعجة حينها لنظام يبحث عن التحرُّر الوطني والاستقلال والخروج من التبعية([12]).
بعد نكسة 1967 واجه الاقتصاد المصري أزمة اقتصادية حادَّة جرَّاء ضعف المعونات من الكتلتين الغربية والشرقية، وتكلفة التهجير لحوالي مليون من سكان مدن القناة، وحُرمت مصر من عائدات قناة السويس والسياحة وتوقف إنتاج بترول سيناء، بالإضافة لتكلفة المجهود الحربي في الفترة من 1967 إلى 1973، كما أن آجال الوفاء بالديون حلَّت في تلك السنوات، وبدأت مصر في تلقِّي المعونات والمنح العربية كبديل عن المعونات الأمريكية والغربية، لكن الديون كانت أكبر حجمًا من كل المعونات والمساعدات التي قرَّرها مؤتمر الخرطوم 1968، ولم تجدَّد اتفاقية المعونات الغذائية الأمريكية سوى بعد توقيع اتفاقية السلام مع إسرائيل، وهنا نجد أن المعونات وإن كانت بشروط ميسَّرة ماليًّا، إلا أنها تشير في استمرارها أو انقطاعها إلى مدى رضاء المانحين على السياسات المتَّبعة.
إذن فالتجربة التنموية التي بدأت بمساعي نحو التحرُّر من التبعيَّة وبناء نموذج تنموي مستقل يعتمد على الذات؛ آلت بفضل الديون وبفضل عدم اقترانها بمسار سياسي ديمقراطي وسوء إدارة العمليات العسكرية إلى نكسة اقتصادية وانتكاسة للفلسفة العامة لإدارة الاقتصاد وضرورة للبحث عن آليات مغايرة، بل تمَّ النظر إليها باعتبارها رأسمالية دولة بخطاب اشتراكي، ورغم ذلك كانت تجربة تنموية متوازنة يمكن نقدها والبناء على مكتسباتها، فلم تكن تنمية التصنيع على حساب الزراعة بل نما القطاعان بشكل متوازٍ ومتوازن، سواء من حيث إسهام كلٍّ منهما في الناتج المحلي الإجمالي أو معدَّلات النمو أو التشغيل.
ثانيًا- عهد السادات: الدولة المتخلية واقتصاد النمو التابع
ورث السادات اقتصاد حرب، حيث إن نسبة غير قليلة من عوائد ووسائل العملية الإنتاجية كانت موجَّهة إلى المجهودات والإمدادات الحربية، وكانت كلفة الحرب حاضرة في خطابات السادات دومًا، سواء عند تبريره لتوجُّهاته ولسياسات التحرير الاقتصادي ورفع الدعم، أو في مواجهته للخطابات السياسية العربية التي بدأت في معاداته عقب توقيع اتفاقية السلام المصرية الإسرائيلية في كامب ديفيد.
لم تسمح ظروف النكسة وحرب الاستنزاف وحرب أكتوبر للنخبة المصرية ولا للنظام السياسي بالوقت الكافي لمراجعة تجربة التنمية المستقلَّة ونتائجها وإخفاقاتها وتحدياتها، بالإضافة إلى أن الاقتصاد العالمي كان قد بدأ يتحوَّل من هيمنة رأسمالية الدولة الوطنية إلى هيمنة السوق الحر والاندماج، ولكن هذا التحوُّل كانت تلعب فيه الدولة القومية دورًا أساسيًّا، وهو تحوُّل لا يؤدِّي كما يصوِّر اليمين إلى الرخاء والرفاهية، ولكنه تحوُّل مأزوم وذو طبيعة مركبة وغير متكافئة، وكانت مدرسة التبعية تواجه تحديًا يتمثَّل في أن عددًا من البلدان التي كانت تتبنَّى نموذج السوق بدأ يشهد نموًّا اقتصاديًّا غير مسبوق، ففي آسيا شهدت كوريا الجنوبية وتايوان وهونج كونج وسنغافورة نموًّا اقتصاديًّا سريعًا تعدَّى ما شهده الاتحاد السوفيتي في مجده. وفي أمريكا اللاتينية، وتحت سيطرة جنرالات يمينيِّين كانوا قد وصلوا إلى السلطة في البرازيل مثلا في ١٩٦٤، شهد ذلك الاقتصاد، وهو الأكبر في القارة الجنوبية، توسُّعًا صناعيًّا كبيرًا. وفي القارة الأوروبية شهدت بلدان مثل إسبانيا واليونان والبرتغال، وكلها تحت سيطرة يمين يطبق سياسات السوق، نموًّا سريعًا سمح بدخولها السوق الأوروبية المشتركة([13]).
كانت رؤية السادات قائمة على أن اللعبة السياسية والاقتصادية في العالم مفاتيحها بيد الغرب الأمريكي والأوروبي المسيطر على الاقتصاد العالمي والداعم الأكبر للنماذج الراغبة في الانعتاق من التبعية للاتحاد السوفيتي والبُعد عن النماذج التنموية المنبثقة عنه، اشتراكية كانت أو شيوعية أو حتى ديمقراطية اجتماعية، ومن هنا سادتْ إجراءات لبيرالية اقتصادية مع انفتاح سياسي محدود للغاية، غير أن تلك الليبرالية الاقتصادية، في غياب الإصلاحات السياسية الهادفة، أفْضَتْ إلى ظهور رأسمالية المحسوبيَّات. فقد استحوذت النخب المتمتِّعة بالامتيازات على جانب كبير من مكاسب الخصخصة والنمو الاقتصادي الكلِّي والتجارة المتزايدة([14]).
وعلى الرغم من أنه بعد الحرب قد أُتيحت لنظام السادات موارد محليَّة من خلال عودة الملاحة في قناة السويس أو صادرات البترول أو عوائد العاملين بالخارج، فإنه لم يحسن ترشيدها لتمويل احتياجات الاقتصاد دون اللجوء للاقتراض الخارجي، ففي عهد السادات كانت هناك إغراءات كثيرة من قبل الدائنين الغربيِّين للسادات للتوسُّع في الدَّيْن، وكذلك الانفتاح الاقتصادي على الغرب واتِّباع سياسات اقتصادية متناقضة، بين قطاع عام مكبَّل، وعدم تجديد بنيته الإنتاجية، وبين اتجاه حركة استيراد غير منضبطة، ممَّا أدَّى إلى عدم توصيف دقيق للهوية الاقتصادية لمصر، فلا هي اشتراكية، ولا هي اقتصاد سوق حر، ووفقًا لجلال أمين فإن الدين الخارجي قُدِّرَ مع وفاة السادات بنحو 14.3 مليار دولار([15]).
إلا أن هذه الأوضاع الاقتصادية مرتبطة أيضًا بالتوجُّهات السياسية للسادات وبسياساته الإقليمية حيث تدهورت العلاقات الاقتصادية مع الدول العربية بعد توقيع القاهرة اتفاقية السلام مع إسرائيل، ممَّا أدَّى إلى عودة الكثير من العمالة المصرية بدول الخليج؛ وبالتالي ضعف التحويلات وتراجع حادٍّ للمساعدات العربية لمصر والتي كانت تشكِّل رقمًا مهمًّا في الناتج القومي الإجمالي وكذلك ضعف الاستثمارات العربية بمصر، إلا أن المساعدات الغربية لنظام السادات بلغت ذروتها في أعوام المفاوضات التي أفضت إلى توقيع اتفاقية كامب ديفيد 1974-1978، وتراوحت بين 15 و22% من الناتج المحلي الإجمالي([16])، وعادة ما ارتبطت الزيادة الكبيرة في هذه المعونات بتغيُّرات في مواقف مصر الخارجية([17]).
وهذه السياسات الاقتصادية المعتمدة على الاستدانة والمعونات الإنمائية لسدِّ عجز الموازنة كانت بداية لانكشاف الاقتصاد المصري خارجيًّا وانتهاء صورة الاقتصاد الذي يتَّجه نحو التنمية المستقلَّة، حيث بدأت الدولة تفقد دورها لصالح الداعمين، سواء كان مصدر الدعم هذا هو الولايات المتحدة عبر برنامج المعونات الاقتصادية والعسكرية المقترن باتفاقية كامب ديفيد، أو دول منظمة التنمية والتعاون الاقتصادي، والتي بدأت بدورها تضغط باتجاه إجراء إصلاحات لصالح القطاع الخاص وطبقات رجال الأعمال، فلقد تسلَّم السادات مصر بحجم مديونية خارجية لا تزيد على 1.3 مليار دولار بينما سلمها مدينة ب14.3 مليار دولار عند مقتله في 1981 كما أشرنا سابقًا([18]).
كانت هذه السياسات بالطبع مقترنة بمشروطيَّات الدائنين وتحوُّل هيكل الدين الخارجي من دين متنوِّع المصادر بين الكتلة الشرقية والكتلة الغربية والمؤسسات المالية الدولية والمساعدات العربية، إلى دين يغلب على هيكله الاستدانة من نفس المصادر متمثلة في الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي والمؤسسات المالية الدولية، بما لهذه الجهات من مشروطيَّات قاسية على الاقتصاد والمواطن المصري، ولعل السادات نفسه دفع ثمن هذه السياسات بالاحتجاجات الشعبية التي واجهها، وعلى رأسها انتفاضة 18 و19 يناير 1977، حيث أعلنت الحكومة إجراءات تقشُّفية لتخفيض العجز، ومنها تخفيض الدعم للحاجات الأساسية بصورة ترفع سعر الخبز بنسبة 50 % والسكر 25 % والشاي 35 % وكذلك بعض السلع الأخرى ومنها الأرز وزيت الطهي والبنزين والسجائر وربط هذا بضرورة الاتفاق مع صندوق النقد الدولي والبنك الدولي لتدبير الموارد المالية الإضافية اللازمة، وهو الأمر الذي أشعل الاحتجاجات ليومين إلى أن تراجعت الحكومة عن قراراتها تلك([19]).
إن اختيار السادات لاقتصاد النمو التابع للرأسمالية العالمية بتعبير البعض، لم يحلَّ المعضلات الاقتصادية الرئيسية من حيث تزايد العجز والبطالة والتضخُّم، ولم يخلق له قاعدة اجتماعية قوية مثلما فعلت القوانين الاشتراكية من إصلاح زراعي وتأميم لنظام عبد الناصر، وبالتالي فإن اتِّباع هذه السياسات الانفتاحية من منطق المغايرة وفقط كان له أثر كبير على الاقتصاد والاجتماع المصري([20]).
● هيكل الاقتصاد المصري في عهد السادات:
استلم السادات السلطة بهيكل اقتصادي متنوِّع بين الزراعة وتجربة التصنيع السريع ومحاولات الاكتفاء الذاتي من بعض السلع ومصادر الطاقة، لكن يمكن القول إن السادات بسياسات التحرير الاقتصادي قد خلق ما يمكن تسميته القطاع الصناعي الانفتاحي التجميعي، حيث إن القطاع الصناعي الذي نشأ منذ 1974 لم يكن في معظمه سوى صناعات قائمة على التجميع، فكانت 45-60% من احتياجات قطاع الصناعة تستورد من الخارج، ويحتكر استيرادها مجموعة محدودة من الأفراد والشركات([21]).
ويمكن القول أيضًا إن السادات كان يريد إنهاء مرحلة الاقتصاد المركزي القائم على التخطيط الشامل مع إبقاء الدولة مسيطرة على مفاصل الاقتصاد، فقد غيَّر الرجل التوجُّه العام للاقتصاد من اقتصاد ذي صبغة اشتراكية إلى اقتصاد في طريقه للاندماج في الاقتصاد الرأسمالي الغربي، وسواء كان هذا التوجُّه قائمًا على كراهية السادات للنموذج السوفيتي والحديث عن أنه في طريقه للأفول أو كانت هذه رغبة دفينة لديه في خلق نظام اقتصادي مختلف التوجُّهات والأولويَّات عن الاقتصاد الناصري لخلق شرعية جديدة تساند شرعية الحرب -بعد أن قضتْ على جزء كبير منها هرولته للدخول في عملية سلام غير محسوبة- فإن التوجُّه العام للاقتصاد قد تغيَّر بالكلية.
أيضًا فإن السادات أنشأ جهاز مشروعات الخدمة الوطنية سنة 1979 بغرض تحقيق الاكتفاء الذاتي النسبي لاحتياجات القوات المسلحة وإمداد السوق المحلي، وكان هذا بمثابة محاولة ترضية للجيش باعتبار أن 1973 هي آخر الحروب، وبالتالي لا بدَّ من شغْل الجيش بأمور أخرى حتى لا ينشغل بالسياسة ولا ينقلب على قيادته، وكانت هذه بداية لاقتصاد الجيش الموازي والذي لا يعلم أحد حجمه الحقيقي حتى الآن ويشكِّل بابًا من أبواب الفساد لعدم خضوعه لأية شفافية ومحاسبة.
ثالثًا- مبارك والسياسات النيوليبرالية: نحو إنهاء عهد سيطرة الدولة على الاقتصاد
جاء مبارك للسلطة بعد انتهاء مرحلة اقتصاد الحرب، بل وبعد سنوات من قطع العلاقات العربية مع نظام السادات، ما جعل مهمَّته في استعادة تلك العلاقات سهلة بعض الشيء، وجاءت الحرب العراقية-الإيرانية الممتدَّة من 1979 حتى 1986 فرصة متميزة للنظام في مصر للعودة للصف العربي ولو من الناحية البرجماتية البحتة، لكنه جاء في ظلِّ تخبُّط اقتصادي في التوجُّهات والسياسات، فلا النظام الساداتي استطاع القطع بالكلية مع سياسات عبد الناصر، ولا استطاع إرساء نظام تنموي مغاير، ولا استطاع الاستجابة لمتطلبات واحتياجات الاقتصاد والمجتمع والدولة المصرية بطريقة تحفظ على النظام استقراره، لكن هذا لا يعني قيودًا كبيرة على نظام مبارك والذي استفحل في مسار الابتعاد عن نمط التنمية المستقلة وسار في مسارات معادية لمكتسبات يوليو التي ترى في الدولة وتدخُّلها سببًا للمشكلات لا طريقًا للحلِّ على نحو ما سنرى:
● سياسات الخصخصة وانسحاب الدولة من الاقتصاد:
بدأت سياسات الخصخصة بوتيرة سريعة في التسعينيات، واستمرَّت حتى قيام ثورة يناير 2011. بدايةً من عام 1993 وحتى نهاية عام 2010، أي خلال سبعة عشر عامًا، تمَّ بيع 236 شركة بسعر 33 مليار جنيه في الوقت الذي كان ثمنها يقدَّر بـ 270 مليار جنيه ولم يتبق إلا 136 شركة فقط مملوكة للدولة، بل وظهرت مؤشِّرات وتقديرات فعلية رسمية أكبر لحجم الفساد في عملية الخصخصة تلك، دلَّتْ على إهدار المال العام في عمليات الخصخصة بسبب الفرق في القيمة السوقية للشركات المباعة وبين القيمة الفعلية التي بيعت بها، والذي بلغ 500 مليار جنيه حسب تقديرات بنك الاستثمار القومي([22]).
كان المبرِّر حينها حاجة الدولة لتمويل عجزها الدائم والمتفاقم للإنفاق على الصحة والتعليم والخدمات الأساسية، إن تجارب عديدة للخصخصة نجحت في الخلاص من عبء القطاع العام باعتباره قطاعًا غير منتج ويحقِّق خسائر فادحة، لكن هذه السياسة وإن حقَّقت مؤشِّرات نموٍّ عالية، فقد خلَّفت مؤشِّرات بطالة وتضخُّم وفقر عالية وتدهور اقتصادي حاد على مستوى التفاصيل، فلم تُسفر أرقام النمو الكبيرة عن إعادة توزيع حقيقي أو عن جسر هوة التفاوت الموجود.
لم يكتف مبارك بهذه التوجُّهات والسياسات الاقتصادية الكلية، بل قام بالتزامن بإنهاء آخر مكتسبات نظام يوليو وهو قانون الإصلاح الزراعي بإدخال تعديلات أفرغت ما تبقَّى منه من مضمونه، ففي الرابع والعشرين من يونيو 1992 أصدر مجلس شعب مبارك القانون 96 لسنة 1992 بتعديل بعض أحكام القانون 178 لسنة 1952، الأخير هو قانون الإصلاح الزراعي الأول، أما تعديلاته فعرفت رسميًّا بقانون تنظيم العلاقة بين المالك والمستأجر في الأراضي الزراعية، وعرفت لدى الفلاحين بقانون طرد المستأجرين، أعطى القانون الجديد مهلة خمس سنوات انقضت في الأول من أكتوبر 1997، وهو اليوم الذى فقد فيه ما يقرب من مليون عائلة أراضي كانوا حتى صدور القانون يتمتَّعون فيها بحيازة آمنة. الغالبية الساحقة منهم كانوا من صغار المزارعين الفقراء، وبفقدان الأرض فقدوا مصدرًا رئيسيًّا لرزقهم ولأمانهم الغذائي أيضًا؛ وأدَّتْ هذه السياسة لإفقار وتهميش قرابة 10% من المصريِّين بضربة واحدة، وكانت القوى السياسية فى مجملها غير رافضة للقانون فيما عدا حزب التجمع واتحاد الفلاحين (تحت التأسيس آنذاك)، لكن اعتراضاتهم ذهبت أدراج الرياح، رغم أن موقف حزب التجمع لم ينكر وجود إشكالية خاصة بالوضع القائم وقدَّم اقتراحات جدِّيَّة للتعامل معها، كان أهمها اقتراح إنشاء صندوق لإقراض المستأجرين بغرض شراء الأراضي من الملاك بسعر السوق ثم تقسيط السعر على فترة طويلة([23]).
إذن قام نظام مبارك بتفكيك كافَّة ما تبقَّى من إرث يوليو، وأسَّسَ لنظام اقتصادي واجتماعي شديد الهشاشة، بينما قام بتقوية أجهزته الأمنية، كان الهدف العام لرجالات نظام مبارك هو إثبات نظرية التساقط الليبرالية الجديدة، لكن الشيء الوحيد الذي تساقط هو نظامه السياسي في 2011 دون تغيير كبير في سياساته الاقتصادية والاجتماعية.
● هيكل الاقتصاد المصري في عهد مبارك:
اعتمد اقتصاديو عهد مبارك -سواء المجموعة الاقتصادية في الوزارة أو الخبراء الاقتصاديين المؤيدين له- على أن نظرية التساقط كفيلة بتحقيق النمو، وأن الاهتمام بقطاع واحد كرافعة للاقتصاد بإمكانه جر المؤشِّرات الاقتصادية لأعلى بوتيرة منضبطة، وأن عوائد النمو سوف تتوزَّع تلقائيًّا على الجميع، فكان القطاع الرافعة هو القطاع الخدمي بما يرتبط به من عائدات العبور في قناة السويس والسياحة وحصيلة بيع شركات القطاع العام والخدمات اللوجستية المرتبطة بقطاع الاتصالات، ثم بعد صعود المجموعة الاقتصادية النيوليبرالية بقيادة جمال مبارك بدأ عهد المضاربات الكبير في البورصة والعقارات، باعتبار القطاع المالي والمصرفي هو قاطرة هذا الاقتصاد نحو نموٍّ مطَّرد.
في سبيل ذلك أُهملت الزراعة والصناعة، وباتت الضرائب والديون المصدر الرئيسي لتمويل المشروعات والاستثمارات الحكومية، وتمَّ اعتبار دعم الفئات الفقيرة عبئًا على الموازنة العامة، في حين أن دعم الصادرات فرض عين لجذب الاستثمار الأجنبي وتحسين مؤشِّرات الاقتصاد الكلي، فقد انهارت زراعة القطن تمامًا جراء خصخصة العديد من شركات الغزل والنسيج وإهمالها وتدهور ماكيناتها وتحوُّل أراضيها لعقارات بيعت في إطار اقتصاد السمسرة والمضاربات وتضاءلت المساحة المنزرعة به من 656 ألف فدان عام 2004-2005 إلى 369 ألف فدان 2009-2010 وفقًا للجهاز المركزي للتعبئة والإحصاء([24]).
عشية الثورة كنَّا بصدد اقتصاد خدمي مالي بامتياز يعتمد على الديون الخارجية والمحلية وعلى ريع السياحة وعوائد العبور بقناة السويس، وتحويلات المصريِّين العاملين بالخارج، ويتحوَّل من دعم المواطنين إلى دعم المستثمرين، ويقوم على سيطرة القطاع الخاص على مفاصل الاقتصاد وعوائد النمو عبر الشركات الكبيرة في قطاعات الحديد والصلب والإنشاءات والاتصالات، وبالتالي فهو اقتصاد ديون منكشف خارجيًّا إلى حدٍّ بعيد من ناحية الديون ومن ناحية اعتماده على مصادر التمويل الدولية عالية الكلفة بشكل مفرط.
والوصف الدقيق للأوضاع التي خلَّفها نظام مبارك أنه نظام سلطوي يعتمد في استقراره علي دولة شبه ريعية حظيت بتدفُّقات مالية هامة من النفط وعائدات قناة السويس ومن المساعدات الخارجية، وعندما انهارت هذه الإيرادات الريعية قام النظام بإعادة ترتيب أولوياته لصالح تقوية أجهزته الأمنية وزيادة مواردها على حساب الفقراء، وظلَّ طلب المساعدات الخارجية هو أحد أهم أنشطة نظام الحكم في مصر، وهي وضعية أدق وصف لها هو تعبير الراحل سامر سليمان “النظام القوي والدولة الضعيفة”([25]).
● وعلى مستوى التصنيع العسكري للنظم الثلاث (عبد الناصر/ السادات/ مبارك): كانت هناك محاولات جادة لتطوير التصنيع العسكري المصري في العهد الناصري، فعندما قامت ثورة ۲۳ يوليو ۱۹5۲ كان أهم مبادئها إقامة جيش وطني قوي يعتمد على صناعة حربية وطنية تمدُّ هذا الجيش بالعتاد والسلاح، ومن ثمَّ توالَى إنشاء وإقامة المصانع الحربية بهدف تصنيع الذخائر والمفرقعات والأسلحة المختلفة، رغم التأثير السلبي للدعاية المبالغة على العمل الفني الهندسي سواء فيما يتعلَّق بتصنيع الطائرات أو الصواريخ.
ففي بداية الستينيات بدأت مصر مشروعًا طموحًا لإنتاج وتطوير الطائرات بمساعدة إسبانيا وبعض المهندسين الألمان الفارِّين من الملاحقات السوفيتية، وفي إطار المشروع قامت مصر بتصميم طائرة خفيفة الوزن أسرع من الصوت وتمت تسميتها HA-300P، وبذلت جهدًا لتصميم محرك للطائرة.
وعندما واجه المشروع أزمة في شراء محرك الطائرة رأت الحكومة المصرية أن المبلغ كافٍ لإنشاء مصنع لصناعة المحركات في مصر، وفي عام 1960 بدأ إنشاء مصنع 135 لمحركات الطائرات، وتمَّ تدريب المهندسين المصرين بالمصنع علي أيدي كفاءات من طياري ألمانيا الشرقية والاتحاد السوفيتي، وتمَّ توفير أماكن الاختبار والورش الخاصة بالطائرة والمحرك بقاعدة حلوان الجوية جنوب شرق القاهرة، وتمَّت تجربة المحرك الجديد E-300 أول مرة في يوليو 1963، في حين أن النموذج التجريبى للطائرة HA-300 تمت تجربته في 7 مارس 1964([26]).
وأثمرت هذه الجهود عن تعاون مصري هندي، حيث قامت الهند بالمساعدة في التمويل لتطوير المحرك E-300 وذلك للحصول على محركات جديدة لمقاتلتها ماروت HAL HF-24 Marut وتم إرسال اثنين من الطيَّارين المصريِّين لكلية الطيران بالهند للاستعداد لقيادة الطائرة HA-300، ووفَّرت الهند طائرة من طراز Marut لتجربة محرك E-300، ولكن بعد نكسة 1967 مارس السوفييت ضغطًا متواصلًا لإيقاف المشروع، ونتيجة للمشاكل المالية وتوافر عدد كبير من الطيَّارين الرُّوس قامت الحكومة المصرية بإلغاء المشروع في 1969، وذلك بعد إنتاج النموذج الثالث من المحرك E-300 وتجربته. وقد كلَّف هذا المشروع الحكومة المصرية أكثر من 135 مليون جنية مصرى، وتمَّ استخدام المحرك E-300 في المقاتلات الهندية ماروت HF-24 Maruti.
حاول السادات استغلال الدعم العربي لمصر أثناء الحرب؛ فقام بالتعاون مع ثلاث دول عربية هي السعودية وقطر والإمارات في عام ۱۹۷۵ لإنشاء الهيئة العربية للتصنيع برأس مال مشترك يفوق المليار دولار، بغرض بناء صناعة الدفاع العربي المشترك إثر إتفاق دولي عربي لتأسيس قاعدة صناعية متطوِّرة، وشاركت مصر بحصة عينية متمثِّلة في: مصنع ۳٦ (لإنتاج الطائرات)، ومصنع ۷۲ (لصناعة المركبات المدرعة)، ومصنع ۱۳۵ (لإنتاج محركات الطائرات)، ومصنع ۳۳۳ (لصناعة الصواريخ)([27]).
وفي عهد مبارك يمكن إدراك أن الرجل كانت لديه رغبة في إنهاء التصنيع العسكري وتركيز اهتمام الجيش أكثر بالأنشطة الاقتصادية البعيدة عن الأهداف العسكرية، فرغم ما تشير إليه وزارة الإنتاج الحربي من تطوير لمدرعات أو سيارات للأغراض المدنية أو حتى حديث عن محركات طائرات، إلا أنها تظل بعيدة عن جوهر التصنيع العسكري المتقدِّم الذي كان يمكن الوصول إليه بالبناء على تجربة الستينيات، إذ انصرفت الهيئة إلى تصنيع أجهزة منزلية وصناعات غير متطورة في أنشطة للسكك الحديدية لكن يظل التسليح المصري الأساسي مستورَدًا، وهو ما يستتبع الجيش والقرار المصري لصالح المنتجين ودولهم، بل وصل الأمر بمبارك أن أهدى طائرات حلوان 300 إلى متحف الطيران ببرلين، بدلًا من البناء على هذه النماذج واستكمال تلك البرامج، وتمَّ تحويل المصنع من تصنيع الطائرات إلى صناعة الأدوات المنزلية([28]).
خاتمة:
كان الرئيس عبد الناصر يحاول بناء نظام تنموي مستقل قائم على التخطيط المركزي الشامل، وقد لاقت هذه المحاولة سياقًا دوليًّا مواتيًا من حيث تنوُّع مصادر التمويل وتبادل الخبرة، لكن هذا السياق الدولي تغيَّر بمجرَّد رؤية بشائر تحقُّق هذا النمط التنموي، وبمجرد تحدِّيه للوجود الإسرائيلي في المنطقة، لكن هذا النموذج التنموي لم يستحضر خطورة الاستدانة بالشكل الكافي وهو النظام الذي جاء بعد قرابة سبعين عامًا من فقدان المصريين لاستقلالهم وحريَّتهم بسبب هذه الديون.
مهَّدت ديون نظام عبد الناصر الطريق للتطوُّر الكبير في المديونية الخارجية لمصر والتي نجمت بالأساس عن التوجُّهات الاقتصادية للرئيس السادات نحو تحرير الاقتصاد المصري من سيطرة الدولة والقطاع العام، ودمجه في النموذج الاقتصادي الرأسمالي السائد، بينما لم يكن هيكل تجربة التصنيع وتنويع الاقتصاد مستعدًّا لهذا الانفتاح، وهو ما حوَّل الاقتصاد المصري لنمط التنمية التابعة للمركز الرأسمالي وحوَّل الاقتصاد لخدمة الدائنين وأثقل المصريِّين بالغلاء والتفاوت.
جاء نظام مبارك مكمِّلًا لسياسات سلفه ولكن بنخبة وطبقة اقتصادية جديدة قامت ببيع أصول الدولة المصرية بأبخس الأثمان تحت مسمَّى الخصخصة، وشرعنت الفساد عبر اعتماد التخصيص بالأمر المباشر للأراضي وممتلكات الدولة كوسيلة لجذب مزيد من الاستثمارات، وأسس اقتصاد رأسمالية المحاسيب.
يشير النمط التنموي المصري إلى أنه ما لم يموَّل ذاتيًّا أو عبر وسائل التمويل الدولية الأقل كلفة كالاستثمارات الأجنبية والتحويلات النقدية للعمالة بالخارج وتعظيم عوائد السياحة والملاحة؛ تؤول نتائجه للفشل، وما لم تصحبه توجُّهات اقتصادية صحيحة؛ فإنه يعاني من سوء توزيع عوائده، الأمر الذي يخلق فجوات اقتصادية واجتماعية تجعل من المجتمع ساحة صراع لا ساحة تعاون للبناء والتراكم والتقدُّم، كما تشير إلى أن التخطيط المركزي للاقتصاد وإن كانت له مساوئه إلا أنه أحدث طفرة اجتماعية في قطاعات التعليم والصحة وقطع شوطًا لا بأس به في مسيرة التصنيع والتحديث.
*****

الهوامش:

[1] جلال أمين، قصة الاقتصاد المصري من عهد محمد على إلى عهد مبارك، (القاهرة: دار الشروق، ط1، 2012)، ص ص45-48.
[2] جمال عبد الناصر، فلسفة الثورة، (القاهرة: بيت العرب للتوثيق العصري، 1996)، ص 33، متاح على موقع ناصر عبر الرابط التالي: http://bit.ly/2m5y1E0
[3] للاطلاع على نص القانون رقم 178 لسنة 1952 يمكن زيارة الرابط التالي: http://bit.ly/2kWrjjj
[4] أحمد حامد، 23 يوليو.. “الإصلاح الزراعي” أيقونة الثورة ورمز خلاص الفلاح المصري من الإقطاع، بوابة الأهرام، 22 يوليو 2018، متاح عبر الرابط التالي: https://cutt.us/tKrDD
[5] انظر:
– خالد أبو بكر، قانون الإصلاح الزراعي بين المؤيدين والمعارضين، مرجع سابق.
– وحدة الدراسات بمركز الدراسات الاشتراكية، تحولات الاقتصاد المصري.. ملاحظات أولية، (القاهرة: مركز الدراسات الاشتراكية، 1999)، ص 6، متاح على موقع الاشتراكي عبر الرابط التالي:
http://bit.ly/2ngQVrS
[6] سامي شرف، اشتراكية عبد الناصر والانحياز للفقراء، المصري اليوم، 25 ديسمبر 2018، متاح عبر الرابط التالي:
https://cutt.us/ODehr
[7] طارق البشري، الديمقراطية ونظام 23يوليو 1952-1970، (بيروت: مؤسسة الأبحاث العربية، ط1، 1987)، ص 118.
[8] أحمد ثابت، الدولة والنظام العالمي: مؤثرات التبعية ومصر، (القاهرة: مركز البحوث والدراسات السياسية بكلية الاقتصاد والعلوم السياسية جامعة القاهرة، 1992)، ص 140.
[9] جلال أمين، قصة الاقتصاد المصري من عهد محمد على إلى عهد مبارك، مرجع سابق، ص ص 48-50.
[10] المرجع السابق، ص 51.
[11] وحدة الدراسات بمركز الدراسات الاشتراكية، تحولات الاقتصاد المصري.. ملاحظات أولية، مرجع سابق، ص 8.
[12] علي الجريتلي، التاريخ الاقتصادي للثورة.. 1952-1966، (القاهرة: دار المعارف، 1974)، ص ص 128-134.
[13] وحدة الدراسات بمركز الدراسات الاشتراكية، تحولات الاقتصاد المصري، مرجع سابق، ص ص 3-4.
[14] جوزيف باحوط وبيري كاماك، الاقتصاد السياسي العربي: مسارات نحو النمو العادل، مركز كارنيجي للشرق الأوسط، 21 يناير 2019، متاح عبر الرابط التالي: https://cutt.us/dLVt3
[15] جلال أمين، قصة الاقتصاد المصري من عهد محمد على إلى عهد مبارك، مرجع سابق ص ص 66-67.
[16] البنك الدولي، صافي المساعدات الإنمائية الرسمية المتلقاة (% من إجمالي الدخل القومي) – Egypt, Arab Rep.، موقع البنك الدولي، متاح عبر الرابط التالي: http://bit.ly/2mUvLjv
([17] عمر سمير، الثورة والسياسة الخارجية المصرية.. دراسة في الاقتصاد السياسي الدولي 2011-2015، رسالة ماجستير غير منشورة، (القاهرة: كلية الاقتصاد والعلوم السياسية – جامعة القاهرة، 2018)، ص 118.
[18] جلال أمين، قصة الاقتصاد المصري من عهد محمد على إلى عهد مبارك، مرجع سابق، ص 66.
[19] دروس انتفاضة يناير 1977، مجلة الاشتراكية الثورية، 2001، متاح عبر الرابط التالي: http://bit.ly/2m882Mf
[20] أحمد ثابت، الدولة والنظام العالمي: مؤثرات التبعية ومصر، مرجع سابق، ص 147.
[21] عبد الخالق فاروق، مأزق الاقتصاد المصري وكيفية الخروج منه، (القاهرة: دار الثقافة الجديدة، ط1، 2013)، ص 16.
[22] أحمد حافظ، موجات الخصخصة في مصر 1993-2011، المعهد المصري للدراسات، 29 مارس 2019، متاح عبر الرابط التالي: http://bit.ly/2mVWxaV
[23] ريم سعد، عن قانون الإيجارات الزراعية وعما فعله مبارك بمصر والمصريين، جريدة الشروق، بتاريخ 22 يونيو 2014، متاح عبر الرابط التالي: http://bit.ly/2n5bwQ0
[24] الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء، مؤشر المساحة المحصولية للقطن، متاح عبر الرابط التالي: http://bit.ly/2mr9hpZ
[25] لمزيد من التفصيل حول الاقتصاد السياسي لنظام مبارك عشية الثورة يمكن مراجعة: سامر سليمان، النظام القوي والدولة الضعيفة: إدارة الأزمة المالية والتغيير السياسي في عهد مبارك، (القاهرة: الهيئة المصرية العامة للكتاب، ط3، 2013)، ص ص 280-291.
[26] مقابلة تليفزيونية لقناة روسيا اليوم مع المهندس رشدي عطية، أحد مهندسي مصنع حلوان للطائرات، بتاريخ 20 مايو 2015، متاح عبر الرابط التالي: https://cutt.us/LHVnM
[27] لمزيد من المعلومات والتفاصيل حول الهيئة وأنشطتها الحالية يمكن زيارة موقع الهيئة،عبر الرابط التالي: http://bit.ly/2ngTw5a
[28] مقابلة تليفزيونية لقناة روسيا اليوم مع المهندس رشدي عطية، مرجع سابق.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى