العقوبات الدولية علي العراق

مقـــــدمة :

العقـــوبات الاقتصادية واحدة من أقدم أساليب الضغط في العلاقات الدولية عبر التاريخ ، وهى أداةٌ محدودةُ الأثر بحكم السياق الجغرافى والسياسى ، محدودةُ المدى بحكم الهدف منها ، ولقد تطور بروز وزنها كأداةٍ من أدوات السياسة الأمريكية فى مرحلة ما بعد الحرب الباردة فى ظل تنامى وزن الولايات المتحدة الأمريكية فى النظام الدولى .

وفى التاريخ المعاصر برزت هيئة الأمم المتحدة منبراً تنظيميا لإدارة والفصل فى النزاعات الدولية ، وذلك توخياً للعدالة فى التعامل ، وتحسباً لتفجر الصراعات المسلحة  فى زمنٍ بلغت خلاله الأدوات العسكرية حداً رهيباً من الطاقة التدميرية ، وما إن سرت الطمأنينةُ فى النفوس ، لما بدا فى المواثيق الدولية من لغة نظامية عادلة ، حتى تسربت المخاوف والهواجس التي ولدتها حقائق الفعل على أرض التوازنات السياسية فى النظام الدولى منذ ولادة  التنظيم الدولى المعاصر فى العام 1945م وحتى انهيار القطب الموازن فى العام 1991 م.

وخلال الفترة ما بين 1992 م وحتى 1997 م ظل التنظيم الدولى كما هو من الناحية النظامية والقانونية ، بينما اختلفت التوازنات السياسية قلباً وقالباً ، ودون الخوض فى متاهة التوصيفات التي استهدفت قراءة حركة النظام الدولى الجديد ، فان المؤكد على أرض الواقع هو تمدد النفوذ الأمريكى فى مناطق هائلة من الفراغ السياسى والعسكرى ، بشكل بدا معه أن هذا النفوذ يُمارس من خلال سياساتٍ ستهولت الوضع الجديد ، وعجزت عن استيعابه دون أن تفقد اتزانها ، كما أنها افتقدت العمق الحضارى الذى يحدد ـ أخلاقياً ـ مساراتها.

فى ظل النظام الدولى القائم ، وفى سياق اختلال التوازن السياسى فى هذا النظام ، فقد أصبحت الحدود فيما بين التنظيم الدولى (كما يرسمه القانون الدولى) وبين الإرادة الأمريكية (كما تمليها المصالح الأمريكية) غير واضحةٌ أحياناً ، وغير موجودةٌ فى أغلب الأحيان ، تستخدم الولايات المتحدة الأمريكية قنوات التنظيم الدولى كشريعةٍ ارتضاها المجتمع الدولى ، فاذا ضاقت هذه القنوات ، أبرزت آليتها الخاصة ، ضمن نظام للتأديب انبنى على قاعدة مؤداها : تلكم مرادات قدراتنا ، وحتى إشعاراً آخر!. . . وكانت العقوبات المفروضة بقرار دولى من أبرز أدوات السياسة الأمريكية ، وكان العرب هم الأكثر استهدافاً بتلك العقوبات المتجاوِزة .

فى هذا السياق تهدف الولايات المتحدة الأمريكية إلى عزل العراق وإضعافه فى إطار استراتيجية طويلة المدى ، تعتمد على استمرار الحصار المفروض عليها تحت مبررات عديدة على رأسها أسلحة الدمار الشامل وهو ما أصبح مسلّمةً فى سياق السياسات الأمريكية تجاه العراق ، والجديد دائماً هو فى أسلوب التعامل مع المستجدات و ليس ما يطرأ على الإستراتيجية الأمريكية للتعامل معها منذ حرب الخليج الثانية . إن الاقتراب من موضوع العقوبات ضد العراق ، يطرح كل قضية السياسة الأمريكية تجاه المنطقة ، وهى قضيةٌ يتم تناولها من زوايا مختلفة ، ويمكن تصنيف الأدبيات التى تناولت علاقة الولايات المتحدة بالمنطقة العربية فى خمس فئات :

الأولى: كتابات تعكس ما يتم من مراجعةٍ تقييمية فى الأوساط الغربية ذاتها ، حيث تطرح للبحث فعاليات السياسات الأمريكية و جدواها، وذلك فيما يتعلق بتعاملاتها مع القضايا ذات الطابع التصادمى مثل الموقف الأمريكى تجاه دول كإيران وليبيا والسودان والعراق ، وهى بالتالى تنظر إلى السياسات الأمريكية بمعيار الإتساق وعدم الاتساق مع المصالح الأمريكية ، وذلك بحساب التكلفة و العائد وفى ضوء ما أسفرت عنه من نتائج .

الثانية :كتابات تعكسُ آمالاً كبيرةً فى بروز قوى جديدة تحول دون انفراد قوة وحيدة بحرية الحركة فى المنطقة ، وهذه الفئة تعول كثيراً على المواقف المخالفة للسياسات الأمريكية مثل مواقف روسيا والصين وفرنسا ، رغم أنها مواقف تكتيكية لا تخدم إلا مصالح أصحابها ( فى أغلب الأحيان ) .

الثالثة : كتابات استقر فى أذهان أصحابها أن الأمل الحقيقى لا يمكن إلا أن يكون فى الكيان العربى ذاته ، فيتم إستشراف المواقف العربية بحثاً عن هذا الأمل .

الرابعة : كتابات ترتكز على أبعاد إنسانية ، وتصف من موقع الأحداث معاناة الشعب العراقى ، وهى تأمل فى أن يؤدى كشف الفجيعة إلى تسرب الخجل إلى نفوس القيادات ، ومن ثم تتحرك بصورة أكثر إحساساً بالمسؤلية الإنسانية والتاريخية ، وهذه الفئة هى الأكثر استفادة من جهود المنظمات الدولية غير الحكومية .

الخامسة: هذه الفئة من الكتابات التي تقترب نحو المثالية السياسية ، حيث تسعى إلى إبراز البون الشاسع بين القيم الإنسانية وواقع التعامل الدولى ، وترى أن الأمل فى تفعيل الإطار القانونى الدولى القائم ، هو أمرٌ ممكن ، إذا ما التزمت سياسات الدول بإطارٍ من القيم الأخلاقية .

و كلٌ من هذه المنظورات له دلالته فى تحليل وتفسير مسألة العقوبات المفروضة على العراق ، وما تثيره من أزمات متتالية خلال السبع سنوات الماضية ، سواءٌ فيما يتعلق بمعانات الشعب العراقى ، أو فيما يتعلق بعلاقات النظام العراقى فى المجتمع الدولى . وموضوع هذا التقرير هو متابعة تطورات هذه القضية . منذ أوائل أكتوبر 1997م ، وحتى نهاية عام 1998م ، حيث اتسمت العلاقة بين العراق ومجلس الأمن بالتوتر ، وظلت قضية العراق مطروحةٌ على أجندة العمل فى الأمم المتحدة والدوائر الرسمية والإعلامية والشعبية فى العالم كله ، وفى حين كان المطلب السياسى ينحو إلى حتمية رضوخ العراق لما يمليه مجلس الأمن ، حفاظاً على هيبة المؤسسة الدولية ، و تنفيذاً للإرادة الأمريكية ، كان المطلب الإنسانى ينحو إلى حتمية الاستجابة لمطلب العراق بوضع جدول زمنى لرفع العقوبات ، وذلك التزاماً بالمسئولية التاريخية إزاء شعبٍ يتعرضُ لعوامل إذلال قاسية .

فكيف تتصرف هيئة الأمم المتحدة ، بوصفها قيّماً على أُسسٍ العدل فى المجتمع المتحضر ؟ . و ما هو حقيقة الدور الذى تلعبه القوة العظمى الأمريكية فى النظام العالمى الجديد ، و التي نصّبت نفسها وصياً على الإنسان وحقوقه ، إزاء شعبٍ يحاصره الجوع و المرض حتى الموت ، للموازنةِ بين مصالحها التي تتحقق فى استمرار حصار العراق ، و بين التزامها الإنسانى والتاريخى إزائه ؟ .

ما الذى يمكن أن تقوم به القوى الكبرى فى النظام الدولى إزاء هذه القضية ، خاصةً وأن تلك القوى أعلنت اقتناعها بضرورة رفع العقوبات الدولية المفروضة على العراق ؟

أخفق النظام الإقليمى العربى فى إيجاد إطار مؤسسى فاعل لحل قضاياه السياسية والاقتصادية والأمنية ، وبلغ ذروة هذا الإخفاق ، عندما تم تحييده خلال عمليات الحرب الثانية فى الخليج ، وما تبعها من ترتيبات أمنية و سياسية ، وكانت النتيجة خصماً من طاقات دول المنطقة سياسياً واقتصادياً وعسكرياً ، بما أثر على مسارات قضاياه المصيرية فى أكثر من صعيد ، ووجد العرب أنفسهم أمام مسئولية جسيمة عما يحدث لشعب العراق ، فما الذى ترتب على هذا الإدراك ، من واقع اتجاهات السلوك السياسى العـربى إزاء تلك الأزمات ؟ .

ما هو موقف القوى غير الرسمية فى المجتمع الدولى ، كما تعبر عنه المؤسسات الاجتماعية والمنظمات التى نشأت لاعتباراتٍ إنسانية ؟ و ما حدود تأثير تلك المواقف على الوضع فى العراق ؟ .

ثم كيف يسير العراق ، كدولة ، فى ظل سيادة منقوصة بالخصم من سيطرة الحكومة على شماله وجنوبه فى مناطق الحظر ، وفى ظل سيادةٍ منتهكة بممارسات غير شرعية من جانب الولايات المتحدة وتركيا ؟ .

بتحليل خبرة التعامل بين العراق وكلٍ من مجلس الأمن والولايات المتحدة وبريطانيا ، خلال الفترة ما بين عام 1991م إلى عام 1997م ، نجد أن العراق قد اعتاد على إثارة الأزمات مع مجلس الأمن ، وبالتالى و ضع نفسه فى مرمى القصف العسكرى للقوات الأمريكية والبريطانية ، وكانت أهدافه آنذاك هى اختبار صلابة الموقف الأمريكى والدولى بالنسبة للعقوبات الدولية المفروضة عليه ، مستغلاً ظروف داخلية فى الولايات المتحدة ، مثل الفترة الانتقالية بين نهاية حكم جورج بوش وتولى الرئيس كلنتون عام 1992م ، الأمر الذى تأكد معه إصرار الإدارة الأمريكية على الانصياع العراقى الكامل ، وتُرجم ذلك بتوجيه إنذارات حادة ، ثم قصف عسكرى ، حتى قبل العراق أن يلتزم بكافة القرارات الدولية و دون شروط ([1]) ، ثم عاود العراق إثارة  الأزمات عام 1995م ، مستغلاً صورة المأساة التى تنقلها وسائل الإعلام عن الشعب العراقى ، وطالب برفع الحظر الاقتصادى المفروض على الشعب العراقى ، ورغم أن الأمم المتحدة لم تستجب لهذا المطلب ، إلا أنها وافقت على رفع جزئى للحظر الاقتصادى ، ممثلاً فى برنامج النفط مقابل الغذاء .

و لكن الأزمات التى أثارها العراق خلال عام 1997/1998م ، اتسمت بالتعدد والتقارب ، وفى ظل مناخ سياسى ، دولى و إقليمى ، مختلف إلى حدٍ بعيد عما هو عليه الآن ، فيما يتعلق بالعقوبات المفروضة على العراق ، حيث طُرحت تساؤلات عديدة حول الهدف الحقيقى وراء استمرار تلك العقوبات ، و طبيعة العلاقة بين الولايات المتحدة الأمريكية وأعضاء اللجنة الدولية المكلفة بنزع أسلحة الدمار الشامل العراقية ، وهذه التساؤلات يُمكن استشراف الإجابة عليها من خلال قراءة فى الأزمات المتتالية بين العراق و مجلس الأمن ، والتى أثارت العديد من الإشكاليات المتعلقة بمواقف الأطراف المختلفة من مستوى التعاون العراقى ، وحياد التقييم الفنى للجنة الدولية ، والنظر فى مسألة العقوبات الدولية ترتيباً على النقطتين السابقتين ، وذلك من خلال أجزاء هذه الدراسة على النحو التالى :

الجزء الأول : يتضمن تمهيداً للوضع الذى كانت عليه العلاقات بين العراق ومجلس الأمن ، بما فى ذلك مواقف مختلف القوى الدولية ذات الاهتمام بالقضية ، ومن خلال أزمة السماح للمفتشين الأمريكيين بدخول العراق ، وهى الأزمة التى نشبت بين العراق ومجلس الأمن خلال شهر أكتوبر 1997م .

الجزء الثانى: و يتناول الأزمة التى أثارها أعضاء اللجنة الدولية عندما أصروا على تفتيش القصور الرئاسية ، ومناطق أخرى وصفها العراق بأنها حساسة وتتعلق بالأمن القومى للعراق ، وهى الأزمة التى بدأت يوم 26 نوفمبر 1997م ، و انتهت بتوقيع اتفاق بين الأمين العام للأمم المتحدة والحكومة العراقية فى 23 فبراير 1998م ( أربعة شهور ) ، و شهدت هذه الأزمة أعلى مستوى من التصعيد العسكرى من جانب الولايات المتحدة ، كما مثلت مختبراً نموذجياً للتعرف على المواقف الفعلية لكل الأطراف من حيث الأهداف و السياسات والقيود .

الجزء الثالث : يتناول العلاقة بين العراق ومجلس الأمن عقب توقيع الاتفاق ، وكذلك الوضع فى العراق كما آلت إليه الأحوال    فى ظل العقوبات المفروضة ، و ينقسم إلى ثلاثة أقسام :

أولاً : قسم يتناول سير عمليات التفتيش ونتائجها ، وقرارات مجلس الأمن فى ضوء تلك النتائج ، وأثر تلك القرارات على موقف العراق بعد ذلك .

ثانياً : قسم يتناول أزمة قرار العراق بوقف التعاون مع اللجنة الدولية ، وما ترتب على هذا القرار من تعقيد وتوتر وعودة الولايات المتحدة إلى إشهار ورقة الخيار العسكرى حتى انفراج الأزمة بتراجع العراق عن موقفه .

ثالثاً : قسم يتناول الوضع فى العراق على خلفية العقوبات الدولية المفروضة على العراق من زاويتين :

أ ـ الوضع الإنسانى وتأثير برنامج النفط مقابل الغذاء ، وموقف المنظمات غير الحكومية فى العالم إزاء ما تحدثه العقوبات من أثر على الشعب العراقى .

ب ـ التجاوزات التى يتعرض لها العراق ـ كدولة ـ من جراء القيود التى تفرضها العقوبات الدولية على قدرة النظام العراقى على التحرك لحماية ذاته ، و من جراء السلوك الأمريكى والتركى الذى يستغل وضع العراق لتنفيذ مخططات تستهدف مستقبله كدولة.

( الجزء الأول )

العراق و مجلس الأمن

وقفة مع العقوبات الدولية بعد ثمان سنوات من توقيعها .

بعد مرور سبع سنوات من التطبيق الصارم لقرارات مجلس الأمن المتعلقة بمعاقبة العراق على إقدامه على احتلال الكويت ، واستباحة أجواء العراق ومؤسساته ووثائقه من قبل 120 خبير دولى يقومون بالتفتيش و التقصى وتتبع برامج العراق المتعلقة بأسلحة الدمار الشامل ، تعينها فى مهمتها أقمار التجسس الأمريكية والإسرائيلية ، بعد ذلك كله ، لم يعد من المنطق فى شىء أن يتقبل المرء مقولة أن هناك مزيد من الأسرار ينبغى الاستمرار فى البحث ورائها ، كما أن ارتباط القرارات الدولية التى تعاقب العراق بانتهاك كرامة وحق الحياة لشعب بأكمله ، أصبح أمراً يتجاوز إمكانية الصبر ، فى ظل مماثلة إسرائيل للعراق فى تعديها العسكرى ، وتجاوز إسرائيل العراق بمراحل فى ملكيتها لأسلحة الدمار الشامل ، ودون أن تطولها يد العدالة الدولية .

و نتعرض فى هذه الجزئية من الدراسة ، للمستوى الذى حققه العراق من التعاون مع خبراء اللجنة الدولية المكلفة بنزع أسلحته ، ثم التعامل السياسى مع التقارير الفنية التى يرفعها الخبراء إلى مجلس الأمن ، وكيفية سير الأمور إلى الأزمة التى أراد بها العراق أن يستبعد الدور الأمريكى من قيادة عمليات التفتيش .

أولاً : الرؤية الأمريكية ـ البريطانية و قراءة  للعقوبات الدولية المفروضة على العراق .

إذا نظرنا فى عجالة  إلى الاتجاهات الأمريكية والبريطانية العامة فى تعاملها مع الأزمات العراقية المتكررة منذ عام 1992م ، لن يكون هناك أى غموض فى أن نواياهما تتجه بالتأكيد نحو الإبقاء على العقوبات الدولية المفروضة على العراق ، و أن يبقى العراق فى أذهان القيادات العربية فى الخليج ، مصدراً محتملاً لتهديد أمنها ، وأن تبقى الولايات المتحدة الحليف المنقذ على الدوام . فعلى سبيل المثال :

1ـ فى عام 1994 م أكد ” رالف إيكيوس ” رئيس اللجنة الخاصة على أن العراق فعل كل ما هو مطلوب منه ، الأمر الذى يسمح بتسهيل أو إنهاء الحظر الدولى المفروض عليه ، بما فى ذلك الحظر على صادراته البتروليه .

2ـ فى 12 يوليو 1994 أكدت اللجنة على أن مهمة تدمير الأسلحة العراقية قد إكتملت تقريباً ، وجاء فى تقرير إيكيوس “ أن التعاون العراقى كان جيداً مع المفتشين الدوليين ، وليست هناك دلائل  تشير إلى أن الرئيس العراقى يحاول عرقلة عمل المفتشين ، وبالتالى يكون العراق  قد أوفى بالتزاماته المتعلقة بتدمير أسلحة الدمار الشامل ، ولم يبق سوى تشغيل جهاز المراقبة والاختبار، وأن 6 أشهر تعتبر فترة كافية لهذا الغرض ، لأن العراق لم يعد قادراً على تشكيل أى تهديد للكويت أو غيرها سواء بالأسلحة الكيماوية أو البيولوجية أو النووية أو الصواريخ الباليستية”.

3ـ رغم ذلك ، ورغم إصرار دول مثل روسيا وفرنسا والصين على طلب رفع الحصار المفروض على العراق ، فقد كان للولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا إرادةٌ مغايرة ، هذه الإرادة وحدها انعكست على سلوك المنظمة ” الدولية ” فجاءت النتائج مخالفةُ للمقدمات ، حيث أعلن رالف إيكيوس اكتشاف جراثيم تسبب أمراض الكوليرا والسل ، مما يعنى إحتمال وجود برنامج عراقى لانتاج أسلحة بيولوجية ، وقام مجلس الأمن بتجديد العقوبات علىالعراق.

4ـ فى تقرير قدمه الرئيس كلنتون إلى الكونجرس فى فبراير 1995 م جاء فيه “ أن صدام حسين يسعى إلى إعادة بناء أسلحة الدمار الشامل ” ، و على الرغم من موافقة العراق على قرار مجلس الأمن ، والذى يقضى بفرض رقابة طويلة المدى على منشئات العراق العسكرية ، إلا أنه يتعين التأكد من انصياع العراق الكامل لقرارات مجلس الأمن من خلال مراقبة طويلة الأمد . و ذكر التقرير أن “ نظام صدام حسين ما زال يهدد الأمن القومى الأمريكى ..” ، و على نفس الخط ، لم يكتف مساعد الأمن القومى الأمريكى لشؤن الشرق الأدنى بمطالبة العراق بالاستجابة لقرارات مجلس الأمن ، لكنه أضاف إليها التشكيك فى نوايا العراق فيما بعد رفع العقوبات مؤكداً ..” أن النظام العراقى قادرُ على استعادة قوته وتهديد شعبه  والدول المجاورة ، كما أنه يمكن أن يتراجع عن التزاماته تجاه الرقابة الدولية على المدى الطويل..” .

5ـ و عندما أعلن مجلس قيادة الثورة العراقى اعترافه رسمياً بالكويت دولة مستقلة ، فى 10 نوفمبر عام 1995 م ، سارعت الولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا إلى التقليل من شأن هذا الاعتراف ، على أساس أن هذه الخطوة  “غير كافية ولن يسمح للعراق برفع العقوبات.” وكان ذلك الموقف تعبيراً واضحاً عن حالة تلاشى المسافة بين اختصاصات الرئيس كلنتون ، كرئيسٍ لدولة الولايات المتحدة الأمريكية ، و بين اختصاصات كوفى عنان ، كأمينٍ عام لمنظمة الأمم المتحدة . هذا الوضع دفع روسيا إلى المسارعة بإعلان أن “ الاعتراف العراقى بالكويت هو اعتراف قانونى ولا يمكن التشكيك فيه أو أن يخضع للتفسيرات والتأويلات وأن رفع العقوبات عن العراق أمرٌ قد بات وشيكاً..”، وطالبت الصين برفع تدريجى للحصار المفروض على العراق ، إنطلاقاً من أن الاعتراف إنما هو خطوة مهمه على طريق حل كل المشكلات العالقة .

ثانياً: العراق ومجلس الأمن الدولى. بوادر الأزمة فى أكتوبر 1997م .

1ـ مـــوقف العـــــراق :

فى رسالة بعث بها  ” طارق عزيز  ” نائب الرئيس العراقى ، وسلمها السفير ” نزار حمدون ” ممثل العراق الدائم لدى الأمم المتحدة ، إلى السفير  ” خوان سومافيا ” رئيس مجلس الأمن وذلك فى يوم 14/10/1997 م جاء فيها : ([2])“..إن الوضع الحالى غير مقبول على الإطلاق ، والعراق أبدى طيلة السنوات الماضية شكواه من الأساليب غير العلمية التى تنتهجها اللجنة الخاصة على نطاق واسع جداً فى عملها ، وابتعادها عن الأساليب الفنية ، التى تُستخدم دولياً فى قضايا نزع السلاح ، وكذلك افتقارها إلى الحياد والموضوعية . إن اللجنة تطلب منا تفسيرات وإيضاحات ، وتجرى التفتيشات والمقابلات عندما يكون لديها شكوك فى أن عدداً من القاذفات يمكن أن يكون مخبأً ، وعندما تتأكد من تدمير هذه القاذفات ، تطلب تفسيراً كاملاً لأسباب عدم ذكرنا لها  فى حينه ، وأن بعض هذه القاذفات دمُر فى أُكتوبر 1991 م و ليس فى يوليو 1997م مثلاً .

إن العراق مستعد لمواصلة العمل مع اللجنة الخاصة بأسلوب جاد وعلمى وفنى وموضوعى لإنهاء كل هذه الملفات ، وخلال فترة قصيرة ، كى يباشر المجلس تأدية التزاماته تجاه العراق بموجب القرار687 . إن الشعب العراقى دفع ثمناً غالياً خلال السنوات الست والنصف الماضية ، ولا يمكن أن يستمر فى تحمل هذا الظلم الواقع عليه .”.

من خلال النص السابق نستطيع أن نتلمس حدود الموقف العراقى ، وأهداف النظام العراقى من إثارة الأزمات المتتالية مع اللجنة الخاصة ، فمضمون هذا الخطاب هو المضمون القائم وراء كل تحرك أو تصريح من جانب المسؤلين العراقيين ، سواء على الساحة الإقليمية أو العالمية ، وهو إذ يخاطب جهة الاختصاص الرئيسية فيما هو خاضعٌ له ، فإنه يقرر :

1ـ أن العراق قد أوفى بالتزاماته من خلال تعاونه التام مع اللجنة المختصة ، وذلك على مدار ست سنوات هى فترة كانت كافية لإنهاء مهامها.

2ـ أن اللجنة الدولية فيما تقوم به تفتقد إلى عناصر الحياد والموضوعية ، والعراق لا يرفض التعاون مع مجلس الأمن ، لكنه يعترض على تكوين وأسلوب تعامل اللجنة الحالية ، والتى تستفز العراق ممثلاً فى حكومته .

3ـ أن العراق يطلب تحديد جدول زمنى لإنهاء عمل اللجنة ورفع العقوبات ، حيث أن الشعب العراقى واقعٌ تحت طائلة ظلمٍ لن يطول صبره عليه.

2ـ الموقف فى مجلس الأمن:

قام السفير ريتشارد باتلر ، رئيس اللجنة الخاصة بالتفتيش على أسلحة الدمار الشامل فى العراق ، بإخطار مجلس الأمن الدولى ، فى 14/10/1997م ، بأن السفير نزار حمدون ـ مندوب العراق الدائم لدى الأمم المتحدة ـ قد أخطره ، بناءً على تعليمات من حكومته ، بأن بغداد ستتوقف عن التعاون مع اللجنة الدولية ومع مجلس الأمن ، إذا أقدم مجلس الأمن على تجديد العقوبات المفروضة على العراق ، أو إذا فرض عليه عقوبات جديدة .

وكان السفير بتلر قد ناقش فى مجلس الأمن تقريره بشأن مستوى تعاون العراق مع اللجنة الخاصة ، وأوضح بتلر خلال المناقشة أن العراق لا يلتزم بالكامل بالسماح للجنة بالقيام بمهمتها فى التفتيش على المنشآت العراقية ، وطالب بتلر مجلس الأمن بإعادة تأكيد الالتزام بعملية نزع أسلحة الدمار الشامل العراقية ، ومطالبة العراق بتقديم الحقائق كاملة والتعاون مع عمل اللجنة الخاصة ، كما طالب بتلر بالتأكيد على حق اللجنة ـ التى تعمل كجهاز تابع لمجلس الأمن ـ فى التفتيش على أى موقع ، واستجواب أى شخص ، للتحقق من برنامج التسلح العراقى ، والقيام بعملية المراقبة المستقبلية . وأكد بتلر على أهمية وجود إجماع داخل مجلس الأمن على اتخاذ قرار بهذا الشأن ، وعدم القبول برفض القرارات التى يصدرها المجلس فى إطار الفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة ، أو التغاضى عنها .

كما أوضح هانز بليكز ، مدير الوكالة الدولية للطاقة الذرية ، أن الملف النووى العراقى لم يغلق بعد ، وأن كافة النتائج التى تم التوصل إليها ما زالت تحتوى على عناصر غير مؤكدة ، كما أن الوكالة الدولية  للطاقة الذرية ما زالت بصدد التحقيق فى بعض التقارير الخاصة بمساعدة بعض الجهات الخارجية للعراق فى الحصول على معدات أو مواد قد تنشط برنامجه النووى ، كما أن اتخاذ القرار بشأن عدم التزام العراق بمطالب مجلس الأمن فى مجال التسلح النووى ، أو عدم التزامه ، لن يكون قراراً فنياً تتخذه الوكالة الدولية للطاقة الذرية ، وإنما يجب أن يكون قراراً سياسياً يتخذه مجلس الأمن.

و فى يوم 16/10/1997م ، واصل مجلس الأمن مشاوراته حول مشروع قرار أمريكى يندد بعدم تعاون العراق بالكامل مع اللجنة الدولية الخاصة ، ويقضى بمنع سـفر كافة أفراد الجيش والبوليس والمخـابرات العـراقية وعائلاتهم، ومطالبة كافة الدول بعدم السماح لهم بدخول أراضيها ، أو عبورها ، دون الحصول على إذن من اللجنة الخاصة ، المنشأة لمراقبة العقوبات المفروضة على العراق ، و الملحقة بمجلس الأمن([3]).

وقد طرحت روسيا من جانبها مشروع قرار آخر يشير إلى التقدم الذى تم إحرازه نتيجة للتعاون الذى  أبداه العراق مع اللجنة الدولية ، كما يطالب فى نفس الوقت حكومة العراق بضرورة التعاون الكامل مع اللجنة الدولية فى إطار الالتزام بقرارات مجلس الأمن الداعية إلى نزع أسلحة الدمار الشامل ، ويلوح مشروع القرار الروسى بأن المجلس سيتخذ المزيد من الاجرآءات إذا ثبت عدم امتثال العراق لمطالب مجلس الأمن .

وأثناء جلسة المشاورات التى عقدها مجلس الأمن ، أكد السفير نبيل العربى ، مندوب مصر الدائم لدى الأمم المتحدة ، على أن العراق اتخذ الكثير من المواقف الإيجابية خلال تعامله مع اللجنة الدولية ، كما أكد رفض مصر والدول العربية لأية عقوبات جديدة تفرض على العراق وشعبه([4]) .

بتحليل المواقف المختلفة داخل مجلس الأمن ، يمكن استخلاص النتائج التالية :

أولا: بالرغم من أن العقوبات الدولية هى قرار ينبنى على نتائج التقارير الفنية التى تقدمها اللجنة الدولية المختصة ، إلا أن هانز بليكز يقول : إن قرار رفع العقوبات هو قرار سياسي موكول إلى مجلس الأمن . وعندما يستند مجلس الأمن إلى تقارير اللجنة ، إذا بها متضاربة لا تستقر على حال ، هذا الأمر يدفع باتجاه الشك فى النوايا الحقيقية وراء ما يحدث فى العراق .

ثانياً: العراق إذ يشكك فى نوايا اللجنة الدولية ، يصطدم مباشرةً مع الولايات المتحدة الأمريكية ، باعتبارها القائد الفعلى لعملية العقوبات المفروضة عليها ، هذا الموقف يعكس ليس فقط  درجة ومستوى العلاقات العراقية ـ الأمريكية ولكن يعكس أيضا شكلاً من أشكال التضارب فى المصالح بين الدول الكبرى ، فبينما تنحاز بريطانيا إلى الولايات المتحدة ضد رفع الحظر عن العراق ، فإن روسيا والصين وفرنسا ينحازون إلى خيار رفع الحظر .

ثالثا: أما خريطة مواقف الدول الكبرى فى مجلس الأمن فهى على هذا النحو : إذ بدأت دول عربية ، خاصةً فى منطقة الخليج ، تتخذ موقفاً ضد استمرار العقوبات ، ومن ثم يمكن فهم دوافع العراق لاختيار هذا التوقيت بالذات كى يثير الأزمات فى ضوء هذه التباينات التى بدا أنها قد تسمح نسبياً بالمناورة ، وهو الأمر الذى قاد إلى تصاعد المواجهة بين العراق والولايات المتحدة مرة أخرى ، وإلى اتخاذ المواجهة مناحٍ جديدة مغايرة لأشكال التناقضات السابقة ، من حيث شكل وتوقيت التصعيد ، ومن حيث البعد العسكرى فى التعامل مع المشكلات ، وأيضاً من حيث مستوى تباين مواقف الدول الكبرى ، وكذلك المواقف العربية .

ثالثاً : أزمة عدم السماح للمفتشين الأمريكيين بدخول العراق ( أكتوبر 1997م ) .

بدأت الأزمة بإعلان العراق عدم السماح للمفتشين الدوليين بدخول المواقع الخاضعة للتفتيش ، واشتراطه تحديد جدول زمنى لإنهاء مهام اللجنة ، ثم حدث تطور آخر عندما أعلن العراق أنه لن يسمح للمفتشين الأمريكيين بدخول العراق مع السماح لبقية المفتشين بمباشرة مهامهم.

و ترتب على هذا القرار تصاعد حدة التصريحات الأمريكية ضد العراق ، وإعلان الولايات المتحدة عدم قبول أية شروط من جانب العراق تستهدف عدد أو أنشطة أو جنسية أعضاء اللجنة الدولية المكلفة بمباشرة التفتيش والرقابة على أسلحة الدمار الشامل العراقية .

1- رد الفعل الأمريكى تجاه القرار العراقى .

خلال مباحثاته مع الملك حسين قال الرئيس الأمريكى بل كلنتون “ العقوبات المفروضة على العراق ستستمر ما دام صـدام حسين قائماً على الحكم فى العراق ..” واتهم كلنتون العراق بافتعال الأزمة دونما مبررٍ مقبول ، و حذر كلنتون من التهاون مع نظام صدام ، و قال “ ..إن الولايات المتحدة ستحتفظ بقوةٍ عسكرية فى الخليج ، وذلك لتأكيد قـــدرتها على القيام بأى عمل عسكرى عراقى محتمل([5]) …”.

وللمرة الثانية ، أصدر كلنتون أوامره إلى حاملة الطائرات العملاقة ” جــــورج واشنطون ” بالانضمام إلى ألقوة العسكرية العاملة فى الخليج ، مُنضمةٌ بذلك إلى نظيرتها ” نــــيمتز ” استعداداً لشن هجوم محتمل على العراق ، كما صرح كلنتون بأن الولايات المتحدة ستسعى خلال الأيام القادمة بشكل مكثف مع حلفائها لإقناع العراق بالإمتثال لإرادة المجتمع الدولى ([6])  وخلال المؤتمر الصحفى الذى عُقد فى الأردن أكد كلنتون على أن أهـــم أولوياته هى تركيع صدام حسين([7]) . وأكد أيضا على ضرورة اتحاد زعماء العالم معه من أجل محاربة ودرأ الخطر الذى يشكله صدام حسين([8])، مع الإشارة إلى أن كافة الطرق السلمية سوف يتم إستكشافها .

2 الموقف العراقى.

استمر النظام العراقى فى الإدلاء بالتصريحات التى تنم عن إصراره على مواصلة التصعيد ، وفى تصريحٍ له قال محمد سعيد الصحاف وزير الخارجية العراقى ([9]):”….إن عدداً من المواطنين العراقيين يتمركزون الآن فى عددٍ من المصانع كدروع بشرية ، و ذلك تحسباً لإقدام الولايات المتحدة على تنفيذ الضربة العسكرية التى تهدد بها …”.

فى نفس الوقت حذرت الصحف العراقية من مغبة أى عدوان أمريكى على العراق ، و قالت إن مثل هذه الخطوة لن تكون فى صالح الولايات المتحدة نظراً لاختلاف ظروف المنطقة عما كانت عليه أوائل التسعينيات ، فالدول العربية تصطف الآن إلى جانب العراق وشعبه ، وأى اعتداء على العراق ، سوف يعرض مصالح أمريكا وحلفائها ـ فى الــوطن الـــعربى ـ لأضرارٍ بالغة ” صحيفة الجمهورية العراقية فى عددها الصادر فى 15/11/1997 م ” وفيما يتعلق بتصريحات المسؤلين الأمريكيين ، والتى تربط بين وجود نظام صدام حسين فى السلطة وبين الضربة العسكرية المزمعة ، شككت صحيفة الجمهورية فى جدوى أى عمل عسكرى “..حيث ان التضحيات التى سيتحملها الشعب العراقى من جراء الضربة العسكرية لن تفوق الأضرار الناجمة عن العقوبات ـ خاصةً الحصار الاقتصادى ـ لمدة شهر أو شهرين ([10])..” . صحيفة ” بـــابل ” العراقية دعت العرب إلى شن هجمات فدائية ضد الأهداف الأمريكية والبريطانية فى المنطقة العربية ، كما دعت أيضاً إلى أن يقوم العرب بمقاطعة هذين البلدين تجارياً .

3  الموقف العربى .

خلال زيارةٍ للكويت قام بها د . عصمت عبد المجيد الأمين العام لجامعة الدول العربية أشار عبدالمجيد إلى أن توقيت الزيارة حاسمٌ ومهم ، نظراً لأهمية توحيد الجهود العربية فى هذا الوقت بالذات ، وأن مشاوراتٍ مستمرة تجرى بين القيادات العربية سعيا لإيجاد حلاً سلمياً للموقف المتأزم فى العراق ، لكنه أشار إلى أنه “.. خلال لقاءاته بالمسئولين الكويتيين ، لم يتم التطرق لأفكار كويتية جديدة لتنقية الأجواء مع العراق ([11])..” .

و فى تصريحٍ للشيخ صباح الأحمد الصباح قال فيه : “  إننا لم نؤيد أى إجراء عسكرى ضد العراق ، لكننا نتساءل : من المسئول عن الوضع فى العراق …” ، وحول التسهيلات التى يمكن أن يقدمها الكويت للقوات الأمريكية لتنفيذ العمليات العسكرية ضد العراق ، قال الـصبــــاح : “….إن الولايات المتحدة الأمريكية ليست فى حاجة إلى أى تسهيلات من الكويت أو غيرها كى توجه ضربتها إلى العراق ، فلديها تشكيلات عسكرية كاملة فى مياه الخليج وهى لن تنتظر الإذن من أحد ..” ، وحول الإصرار العربى المطلوب كى يُترك قرار الضربة العسكرية ـ كخيار أخير ـ لمجلس الأمن ، قال الصبـــاح : “..إن الولايات المتحدة أطلقت صواريخ توما هوك على العراق منذ ثلاث سنوات دون قرار من مجلس الأمن ، ولم يحدث شىء ، ويمكنها الآن توجيه ضربة عسكرية إلى العراق دون استصدار قرار من المجلس ([12])..” .

4  إنتهاء الأزمة .

بينما كان التصعيد يجرى بين العراق والولايات المتحدة على هذا النحو ، كانت روسيا تقوم بجهودٍ دؤوبة من أجل إقناع العراق بتهدئة التوتر والسماح للمفتشين الأمريكيين بدخول العراق ، تفادياً للتعرض لأعمال عسكرية محتملة ، وقد استطاعت روسيا إقناع العراق ، وأعلن العراق موافقته على السماح للجنة الدولية ـ بما فيها الأعضاء الأمريكيين ـ بالدخول إلى العراق واستئناف عملها([13]) ، ورغم أن التصريحات التصعيدية بين الطرفين قد توقفت ، إلا أن حسابات المنتصر والمهزوم ظلت تنذر باحتمال تجدد الأزمة بين العراق والولايات المتحدة .

ففي الولايات المتحدة الأمريكية انقسمت الآراء حول تقييم الموقف ، إذ بينما يرى المسئولون أن العراق قد تراجع عن كافة شروطه خاضعاُ للإصرار الأمريكى ، فإن الكثيرين فى الأوساط الأكاديمية الأمريكية كانوا يرون أن الولايات المتحدة قدمت تنازلات لصدام حسين لإنهاء الأزمة . وفى العراق ، كان النظام العراقي يحتفل بانتصاره السياسي على الولايات المتحدة ، و إجبارها على القبول بالشروط العراقية .

ما جرى بين العراق وروسيا أثناء الوساطة الروسية ليس واضحاً بالضبط ، لكن المؤكد أن العراق قد تنازل عن شروطه المتعلقة بتكوين اللجنة الدولية ، دون أن يحصل على أية تعهداتٍ ،لا من الأمم المتحدة ، ولا من الولايات المتحدة الأمريكية .

نحن إذاً أمام دورةٌ مكتملةٌ لأزمةٍ دوليةٍ ، هي على المستوى الرسمي بين العراق والأمم المتحدة  ، لكنها على المستوى الفعلي كانت بين العراق والولايات المتحدة الأمريكية ، وبتحليل الأحداث التي جرت خلال الأزمة يُمكن استخلاص النتائـج الآتية :

1ـ طوال المرحلة التي استغرقتها أحداث الأزمة ، كان الرئيس الأمريكى بيل كلنتون يُعطى لنفسه حق الحديث والتصرف باسم الأمم المتحدة ، وكانت هناك أهداف غير معلنة تسعى الولايات المتحدة إلى تحقيقها من وراء سلوكها العسكرى “ العصبى “ فى المنطقة .

2ـ ، أصبحت التعبئة العسكرية الأمريكية فى الخليج عمليةٌ تتلازم مع أية بادرةٍ للخلاف مع العراق ، وبصورةٍ لاتتناسب على الإطلاق والطبيعة السياسية للخلافات “المتوقعة ” بين العراق الذى يعانى بشدة من عقوبات متعددة الأبعاد ، ومن حصارٍ يكاد أن يقضى عليه كدولة ، وبين هيئةٍ دوليةٍ مشكوكٌ فى استقلاليتها ونزاهة آلياتها

2ـ الوجود العسكرى الأمريكى فى الخليج ، والذى بدأ بسلسلة من اتفاقات ثنائية للدفاع المشترك بين الولايات المتحدة  ـ كطرف ـ وبين كل دولة عربية خليجية منفردة من جهة أخرى ـ [14]هذا الوجود قد أصبح واقعاً مستقلاً ، يملك القدرة الكاملة على الحركة خارج أى إطار قانونى يحكمه ، وفوق إرادة الأطراف العربية التي خلقته.

3 ـ إن الأزمة التي نشأت بين العراق والولايات المتحدة جاءت فى وقتٍ له دلالةٍ خاصة ـ بالنسبة للوطن العربى ـ بحيث يمكن القول أن السلوك الرسمي العربى المتوقع كان فى غير صالح الإرادة الأمريكية ، فمن ناحية أولى ، كانت عملية السلام تمر بأزمة حادة ألقت بظلالٍ من الشك على مصداقية الولايات المتحدة ، ومن ناحية ثانية ، فإن موقف الولايات المتحدة من قضية لو كربى وسلوكها تجاه السودان أثار علامات استفهام حول ما تريده الولايات المتحدة للأطراف العربية .

4 ـ الاستجابة العربية لأوضاعٍ مختلفة ، خاصةً الموقف العربى من مؤتمر الدوحة  ( حول التعاون الاقتصادى فى الشرق الأوسط وشمال إفريقيا )، لا شك وأنه مثَّل معنىً كان حاضراً فى أذهان المسئولين العراقيين ، حينما أقدموا على خيار تصعيد المواجهة مع الولايات المتحدة ، ويؤكد هذا المعنى قراءة الموقف غير الرسمي ممثلا فى الإعلام العراقى ( و هو إعلامٌ وثيق الصلة بالمسئولين ) .

5 ـ بالإضافة إلى الموقف العربى ، وبالنظر إلى مواقف دول كبرى مثل روسيا والصين وفرنسا ، وكلها مواقف ترفض أى عمل عسكري ضد العراق ، بل وتتعاطف مع اتجاه رفع العقوبات عنه ، كان العراق يسعى إلى إثارة قضيته وطرحها أمام المجتمع الدولى ، من خلال استغلال الأزمة فى حشد الموقف العربى وتعبئة الرأى العام العالمى ضد استمرار العقوبات المفروضة عليه .

( الجزء الثانى )

أزمــة تفتيش المواقع الرئاسية و الحساسة

التحدى المتبادل وتصاعد التهديد باستخدام القوة العسكرية خلال الفترة  من : 26/11/1997م  و حتى : 24/2/1998م .

يتناول هذا الجزء أحداث الأزمة التى نشبت بين العراق و مجلس الأمن ، و التى ساهمت الولايات المتحدة الأمريكية فى إثارتها بدرجةٍ كبيرة ، بتفصيل يغطى أحداثها التى استمرت أربعة شهور ، و ذلك التفصيل تستدعيه العوامل الآتية :

1-أن العراق خلال هذه الأزمة امتلك مبررات قوية ساعدته فى حشد الكثيرين فى العالم إلى جانب مطالبه، و هو الأمر الذى يُعتبر نقطة تحول فى مسيرة العراق مع العقوبات الدولية تستحق الرصد.

2-أن التصعيد السياسى و العسكرى من جانب الولايات المتحدة خلال الأزمة كانت له دلالات تتجاوز الحرص على إجبار العراق على القبول دون شروط بقرارات مجلس الأمن ، إلى اعتبارات استراتيجية تمس دوائر أخرى ، دولية و إقليمية ،  وهو ما استدعى الإحاطة بها .

3-أن مواقف الدول الأخرى ، خاصةً الأعضاء الدائمين فى مجلس الأمن ، تعارضت مع الأهداف الأمريكية ، الأمر الذى جعل من الأزمة مختبراً جاداً لحدود الحركة المحتملة للولايات المتحدة سياسياً وعسكرياً .

4-أن الأزمة قد ألقت إلى الساحة السياسية العربية اختباراً جديداً ، فمع نُذر الحرب ضد العراق ، كان على العرب أن يستعيدوا وعيهم بحقيقة الأوضاع ، و أن يتعاملوا بحذر مع الحلول التى تُطرح لمعالجة مشكلات المنطقة ، و من هنا استدعى الأمر تتبع المواقف العربية خلال الأزمة . و سوف نتناول هذه الأزمة عبر أربعة زوايا على التوالى :

1-تقديم سيناريو للأزمة نرصد خلالها توالى الأحداث فى تصاعدها خلال الفترة المحددة.

2-تحليل الأزمة للوقوف على ملامح سياسات الأطراف الرئيسيين للأزمة ، ونعنى بذلك السياسات العراقية و السياسات الأمريكية ، باعتبار أن الولايات المتحدة قائد عمليات مراقبة و تنفيذ قرارات مجلس الأمن فى العراق .

3-التعرض بالتحليل و الدراسة لمواقف القوى الدولية المهتمة بما يدور فى العراق.

4-كيفية انتهاء الأزمة و ردود الفعل الدولية تجاه الاتفاق .

أولاً : سيناريو الأزمة

(1) ـ التصعيد السياسي للأزمة :

انتهت الأزمة السابقة فى العراق ، و بدأت ستة فرق دولية عمليات التفتيش برئاسة بتلر ، أما فى الولايات المتحدة الأمريكية ، فقد تصاعدت حدة الاتهامات ضد النظام العراقى ، ووِّجهت الانتقاد الحادة ضد إدارة كلنتون ، من جانب الصحف الأمريكية ، حيث اتهم بتقديم تنازلات لصدام حسين .

وفى هذا الوقت أعرب المفتشون الدوليون عن اعتقادهم بأن آلات التصوير المثبتة فى مناطق التفتيش فى العراق ، قد جرى التلاعب فيها ، و أنهم يشكون فى أنهم كانوا على وشك اكتشافٍ جديد وهام ، يتعلق بالأسلحة البيولوجية ـ الجرثومية ـ قبيل افتعال صدام حسين للأزمة الأخيرة .وأكد ” هيلموت هينج ” عضو اللجنة الدولية أنه يشتبه فى أن العراق يُخفى أسلحة جرثومية يمتلكها بالفعل([15]) .

وبناءً على هذا الاتهام أعلن الرئيس الأمريكى بل كلنتون مطالبته العراق بفتح القصور الرئاسية العراقية أمام لجنة التفتيش الدولية ، كما رفض كلنتون وصف العراق لهذه المواقع بأنها “حساسة” ،واتهم النظام العراقى بالتضليل قائلاً : ” إنها قصور يمتلكها صدام حسين ، تبلغ مساحة الواحد منها مساحة واشنطون العاصمة “([16]).

أما وزيرة الخارجية الأمريكية مــادلين أولبرايت فقد استشعرت ما فى تصريحات كلنتون من تجاوز ، لذا سارعت بالقول :   ” إن قرار دخول المفتشين الدوليين إلى المواقع الرئاسية العراقية هو قرارٌ يعود بالأساس إلى اللجنة ذاتها ، وأن ذلك يتحدد فى ضوء الوضع القائم أمام اللجنة فى العراق ..” . وحول التعزيزات العسكرية الأمريكية المزمع إرسالها إلى الخليج قال وليم كوهين وزير الدفاع الأمريكى : ” نحن فى إنتظار القرار النهائى للجنة برئاسة بتلر حول ما إذا كان هناك تلاعب فى آلات التصوير أم لا ” ([17]).

و فى مجلس الأمن  لم يتمكن المجلس من أن يتوصل إلى إتفاق بشأن تقرير اللجنة الدولية وذلك بسبب المعارضة الشديدة من جانب روسيا ، التى ترفض إتخاذ المزيد من قرارات الإدانة ضد العراق ، وتطالب بضرورة تخفيف العقوبات وليس زيادتها ، حيث عبَّر عن هذا الموقف وزير الخارجية الروسى فى مجلس الأمن بقوله : “ ..إنه من الخطورة عدم إعطاء العراق أملاً فى رفع العقوبات المفروضة عليه ، إذ سيؤدى إستمرار هذا الوضع إلى نتائج عكسية ..”([18]) .

وفى فرنسا صرح جــازو سكريه ، المتحدث الرسمى باسم الخارجية الفرنسية ، بأنه من الضرورى التفاهم بين بتلر  والرئيس صدام حسين ، و قال :” لقد شجعنا بتلر على التوجه إلى بغداد للقاء السلطات العراقية ، حتى يمكن التوصل إلى إتفاق معهم حول دخول المواقع الحساسة  والرئاسية ..([19])” .

وعقب عودة بتلر إلى العراق ، أكد على ضرورة أن يستجيب العراق للقرارات الدولية بشكل كامل ، و أن يفتح كافة المواقع أمام لجنة التفتيش .

وفى العراق و خلال انعقاد اجتماعٍ لمجلس الوزراء العراقى ، أعلن الرئيس صدام حسين رفض العراق السماح بانتهاك سيادة العراق ، و المتمثلة فى رموزه الوطنية  ومنها القصور الرئاسية والأماكن الحساسة وقال : ” إننا قادرون على الانتصار فىهذه الأزمة ، إن الولايات المتحدة ليست الآن فى مثل الوضع الذى كانت عليه منذ سنتين ..([20])“.

وأكد الفريق عامر محمد رشيد وزير النفط العراقى أن بلاده لن تسمح لمفتشى الأمم المتحدة بدخول المواقع الحساسة فى العراق ، لاسيما القصور الرئاسية ، وأكد محمد سعيد الصحاف ، وزير الخارجية العراقية ، أن بلاده ترفض تصدير النفط قبل موافقة الأمم المتحدة على خطة العراق لتوزيع المواد الإنسانية ([21]) .

فى لندن ، و خلال مؤتمر صحفى عقده روبن كوك ، وزير الخارجية البريطانية ، وريتشارد بتلر رئيس اللجنة الدولية فى 11/12/1997م ، رفض بتلر تحديد جدول زمنى لانتهاء أعمال اللجنة فى العراق ، وقال إن هذا الموعد يعتمد على العراق نفسه ، وأكد على أنه يحظى بدعم من الأمم المتحدة ومجلس الأمن الدولى ، وأن القرارات الدولية تدعو العراق إلى السماح لأعضاء اللجنة الدولية بدخول جميع المواقع التى تحددها اللجنة ،        ووصف النظام العراقى بأنه يماطل فيما يتعلق بالأسلحة البيولوجية ([22]) .كما جاءت لهجة روبن كوك متشددة تجاه موقف العراق حيث قال : ” يجب على العراق أن ينصاع لكافة القرارات الدولية ، و أن يفى بالتزاماته ويسمح لأعضاء اللجنة بدخول كافة المواقع ..”.

والجدير بالذكر ، أنه فى هذه الأثناء صدر من اللجنة الخاصة بحقوق الإنسان ، والتابعة لهيئة الأمم المتحدة ، بيان يدين العراق و يتهمه بممارسة انتهاكاتٍ واسعة النطاق لحقوق الإنسان فى العراق ([23]) .

فى نفس الوقت ،شن العراق هجوماً شديداً على بتلر ، واتهمته الصحف العراقية بالتجسس لصالح الولايات المتحدة ،       ووصفته بـ “ الكلب المسعور “، مؤكدة رفض العراق لانتهاك سيادته ([24]) .

وفى مجلس الأمن ، أصدر المجلس بيـاناً يطالب العراق بالسماح فوراً لمفتشى الأمم المتحدة بدخول كافة المواقع دون قيدٍ أو شرط ، وقد لقى هذا البيان انتقاداً حاداً من جانب العراق ، كما نددت به الصحف العراقية وطالبت حكومتها بالتمسك بموقفها الرافض لدخول المفتشين إلى هذه المواقع ، و قالت الصحف العراقية : “يجب أن يكون هناك خطاً أحمر لا يتخطاه مفتشو الأمم المتحدة  ([25]) “.

(2) : التصعيد العسكرى للأزمة:

هذا التصعيد تولت قيادته وإدارته الولايات المتحدة الأمريكية ، ففى حديثٍ أدلى به بل ريتشارد سون ، مندوب الولايات المتحدة الدائم لدى الأمم المتحدة ، لشبكة التلفزيون البريطانية B B C فى 10/1/1998م ، قال فيه : ” إن العراق الآن أكثر عزلة من أى وقت مضى ، وبالإضافة لضرورة السماح بتفتيش جميع المواقع هناك عدة قرارات تتعلق بحرب الخليج الثانية وقضية أسرى الحرب الكويتيين وقضية حقوق الإنسان ، وأمام العراق طريقٌ طويلٌ قبل التفكير فى رفع العقوبات عنه ([26]) “ ، وأكد مجدداً اتهام العراق بعدم التعاون مع اللجنة الدولية و عرقلة العمل الدولى فى العراق ، وقال : ” إن الوجود العسكرى فى الخليج يخدم المساعى الدبلوماسية لحل الأزمة ..” .     وأن رفض السماح بتفتيش المواقع العراقية يمثل تحدياً للمجتمع الدولى ، وأن واشنطون لا تستبعد أى خيار .

وفى حديث لشبكة C N N  الإخبارية فى 15/1/1998م ، رحب كلنتون ببيان الإدانة الذى أصدره مجلس الأمن ضد العراق ، وقال : ” إنه من الواضح أن صدام حسين يرتكب نفس الخطأ ،إلا أن واشنطن مصممة على مواصلة عمليات التفتيش على أسلحة الدمار الشامل العراقية ، وأن صدام لن يكون الشخص الذى يحدد متى أو من يقوم بهذا العمل ([27]) “. ونقلت صحيفة الواشنطون بوست عن كلنتون قوله : ” إنه من المرجح توجيه ضربة عسكرية إلى العراق فى غضون أسابيع قليلة إذا لم يتوقف صدام حسين عن التدخل فى عمل مفتشى اللجنة الدولية ([28])..” .

وخلال المؤتمر الصحفى الذى عُقد فى واشنطون بين مادلين أولبرايت وروبن كوك فى 30/1/1998م ، أعلنت أولبرايت أن الضربة العسكرية ضد العراق إذا لم يسمح للمفتشين بدخول جميع المواقع ستكون “موجعة” وأن الولايات المتحدة وبريطانيا يسعيان لاستصدار قرار من مجلس الأمن يدين العراق ويدعوه للانصياع للقرارات الدولية . كما أعلن روبن كوك عن أمل بلاده فى صدور هذا القرار وقال : ” يجب أن يكون قراراً قوياً ..”. وقالت أولبرايت أن موقفها من التسوية الدبلوماسية لم يتغير ” لكن وقت الدبلوماسية ينفد وأنا متشككة ، ولذلك فالخيارات كلها مفتوحة وعلى صدام أن يتوقف عن تعريض أمن المنطقة واستقرارها للخطر بامتلاكه أسلحة الدمار الشامل  “([29]).

و منذ بداية الأزمة قامت الولايات المتحدة بعمليات حشد عسكرية واسعة النطاق فى منطقة الخليج استعدادا للضربة المزمعة ضد العراق ، ففضلاً عن حاملات الطائرات العملاقة ” نيمتـز ـ وجـورج واشنطون ” واللتان أرسلتهما خلال الأزمة الأولى ، فقد قامت أيضاً بإرسال تعزيزاتٍ من القوات المعاونة ، وفى هذا السياق وصلت إلى القاعدة العسكرية الأمريكية فى البحرين يوم 25/11/1997م ، 30 مقاتلة أمريكية من طرازى ” إف 15 ” و ” إف 16 ” ، و قاذفات من طراز “بى ـ 1 ” ، و طائرات تموين فى الجو ، ليصل إجمالى القوات الأمريكية العاملة فى الخليج إلى : 43 الف جندى ، و 430 طائرة مقاتلة وقاذفة ، و50 سفينة حربية ، وسبع سفن قادرة على إطلاق الصواريخ ، وبالإضافة إلى ذلك ، فقد انضمت القوات البريطانية العاملة فى الخليج إلى القوات الأمريكية للمعاونة عند توجيه الضربة العسكرية للعراق ([30]).

فى بريطانيا: أكد تونى بلير مجدداً التزام بلاده بدعم أى عمل عسكرى ” لازم ” ضد العراق ، وقال : ” إننا لن نتردد فى إنتهاج الخيار العسكرى لفرض إرادة الأمم المتحدة” ، كما وصف الرئيس العراقى بأنه” ديكتاتور شرير” ([31]).

فى العراق . أقام العراق احتفاله السنوى الثامن لحرب الخليج الثانية يوم 17/1/1998م ، وخلال الاحتفال ، أكد الرئيس صدام حسين أن العراق ، شعباً وقيادةً ، مصممٌ على ” الجهاد الأكبر ” لرفع الحصار المفروض عليه … وإذا لم يتخذ مجلس الأمن قراراً يفى بالتزاماته  المنصوص عليها فى أصل قراراته الجائرة المعروفة والتى اتخذها بنفسه من غير مشاركة العراق ، فإن العراق مصممٌ على أن يقف الموقف المنسجم مع ” توصيات ممثلى الشعب ” فى المجلس الوطنى ، ويتحمل مسؤلية موقفه “… ولا سبيل ولا بديل بعد ذلك عن هذا الموقف ..”([32]). ومما قاله ايضاً خلال الاحتفال أن لجنة التفتيش أمامها 6 أشهر تنهى خلالها كافة المسائل المتعلقة بمهمتها . ورداً على ذلك صرح مسئول بالبيت الأبيض بأن العراق لم يفى بالتزاماته وواجباته التى نصت عليها قرارات الأمم المتحدة كى يطالب مجلس الأمن بأى التزام ، هذا ولم يرد المتحدث مباشرةً على التهديد العراقى بإعطاء مهلة 6 أشهر لإنهاء أعمال اللجنة الدولية .

و فى سياق التصعيد العراقى ، قرر الرئيس العراقى بدأ حملة لحشد المواطنين العراقيين ، وفُتِحت مكاتب لاستقبال المتطوعين فى إطار تحضير البلاد لمواجهة عسكرية محتملة مع القوات الأمريكية . و اقترح صدام حسين فى وثيقة وطنية أقرتها القيادة القطرية لحزب البعث العراقى ، حشد قوى أساسية للتدريب فى عمليةٍ تشمل كل أنحاء العراق ويشترك فيها المواطنون العراقيون طواعية تحت قيادة الحزب ([33]).

و فى الوقت الذى صعدت فيه كلاً من الولايات المتحدة والعراق من حدة التصريحات العدائية المتبادلة كانت التصريحات الفنية الصادرة عن أعضاء اللجنة الدولية الخاصة ـ وبالذات ريتشارد بتلر ـ تغذِّى هذا التصعيد وترفع من درجة حدته ، و فى هذا السياق فقد أدلى ريتشارد بتلر ، رئيس اللجنة الدولية ، بحديثٍ خاص لمجلة التايم الأمريكية حول أسلحة الدمار الشامل العراقية يوم 27/1/1998م قال فيه : ” إن العراق لديه صواريخ تحمل رؤوساً جرثومية ، وهذه الصواريخ كفيلة بتدمير تل أبيب .([34]) ” . وبالنظر إلى ما يمثله اللوبى الصهيونى فى الولايات المتحدة الأمريكية من ثقل ، فإن مثل هذا التصريح قد لقى استنكاراً واسع النطاق ، خاصة من الدول العربية ، و قد أكد العراق على أن مثل هذا التصريح لا يقصد به بتلر إلا تبرير إشراك إسرائيل فى المخطط الأمريكى للعدوان على شعب العراق . وحينما طالب مجلس الأمن ريتشـــارد بتلر بتقديم إيضاح مقنع حول ما كان يقصده من وراء هذا التصريح ، نفى بتلر أن يكون قد قصد ذلك المعنى ، و قال إنه قصد أن صواريخ العراق يصل مداها إلى أى مكان فى المنطقة ، و أن المجلة قد نشرت تصريحه بصورةٍ أدت إلى هذا الفهم الخاطىء ([35]) .

(3) : البدائل المتاحة و موقف الولايات المتحدة منها:

ذكرت وكالة الأنباء العراقية فى 20/1/1998م أن رئيس اللجنة الخاصة ريتشارد بتلر ونائب الرئيس العراقى طارق عزيز ، قد توصلا إلى اتفاقٍ على عقد اجتماع لخبراء من الدول الخمس دائمة العضوية فى مجلس الأمن ، بهدف تقويم عملية نزع الأسلحة فى العراق ، وذلك فى أول فبراير 1998م ([36]) .

 

وذكرت شبكة التلفزيون الأمريكية CNN أن مصادر عراقية قد أكدت موافقة العراق على فتح ثمانية مواقع رئاسية أمام 117 خبير دولى من غير العاملين فى اللجنة الدولية الحالية ، وأن ذلك سيكون لمدة شهر ([37]) .

و كانت أولبرايت قد  أعلنت  رفض الولايات المتحدة المطلق لأية شروط عراقية ، و قالت إن واشنطون لن تسمح للجهود السلمية بأكثر من أسابيعٍ أخرى تُعطى الفرصة خلالها لوساطةٍ عربيةٍ من خلال جامعة الدول العربية ([38])

وذكرت وكالة الأنباء الفرنسية أن البيت الأبيض قد رفض الإقتراح العراقى السابق  باعتباره لا يُمثل أية خطوة على طريق التسوية السلمية ، كما صرح بيل ريتشاردسون ، المندوب الأمريكى الدائم فى مجلس الأمن ، بأن الولايات المتحدة لن تقبل بالحلول الوسط مع العراق ، وأن “السماح للمفتشين الدوليين بدخول جميع المواقع العراقية ، بدون قيدٍ أو شرط ، هو الحد الأدنى المقبول لإعفاء العراق من توجيه الضربة العسكرية ..”([39]) .

و أمام هذا الموقف ، اتهم طـه يس رمضان ، نائب الرئيس العراقى ، الولايات المتحدة الأمريكية بالسعى لتدمير حكومة الرئيس صدام حسين ، من خلال الهجوم العسكرى الذى تخطط له ، وقال فى حديثٍ أجرته معه شبكة التلفزيون الأمريكية CNN أن الشعب العراقى  ” متمسك ” بحكومته وبرئيسه ، وأن النظام العراقى  “ لن ينهار بسبب تدمير الجسور والمصانع ..”([40]).

و خلال مناقشة هذه البدائل ، كانت غالبية وكالات الأنباء العالمية تؤكد حتمية الضربة العسكرية المزمع توجيهها للعراق ، وتركز الحديث حول شدتها وأهدافها . ونُقل عن محمد سعيد الصحاف وزير الخارجية العراقى قوله : ” إن الولايات المتحدة لا تريد حلاً سلمياً للأزمة ، رغم موافقة العراق على تفتيش القصور الرئاسية ، وهدف الرفض الأمريكى هو توجيه الضربة العسكرية المزمعة ضد العراق..”([41]) .

ورداً على الاستعراض العسكرى الأمريكى ـ البريطانى فى الخليج ، أعلن الفريق أول ســلطان هـــاشم احمد ، وزير الدفاع العراقى ، أن القوات العراقية أصبحت جاهزة لمواجهة هجوم امريكى ـ بريطانى وشيك ، وأن العراق واثقٌ من إحراز النصر ([42]). و أعرب وزير الثقافة والإرشاد العراقى عن أسفه لموقف رئيس الوزراء البريطانى تـــونى بلير وتصريحاته الأخيرة حول إعداد الرأى العام البريطانى للعمل العسكرى المتوقع ضد العراق ، واتهم بريطانيا بالحقد على العراق منذ العشرينيات ([43]).

ثانياً : ملامح سياسات الأطراف الرئيسية خلال الأزمة .

[1] ـ الولايات المتحدة الأمريكية.

منذ بداية المراحل الأولى للخلافات بين العراق واللجنة الدولية ، بدا واضحاً أن الولايات المتحدة تميل بشدة إلى استخدام القوة العسكرية ، وبأسرع ما يُمكن ، حتى إنَّ السلوك الأمريكى على المسرح الدولى بدا فاقداً للاتزان ، وقد اجتهد الأكاديميون و الكتاب فى محاولةٍ لاستنتاج عوامل هذا الموقف ، فجاءت كالتالى :

1 ـ الموقف الأمريكى استند إلى تقرير خطير عُرض عن طريق مجلس رئاسة الاتحاد الأوروبى على مجلس العموم البريطانى ، فى ذات الوقت الذى قام فيه البيت الأبيض بتوزيعه على الصحفيين ، خلال المؤتمر الصحفى الذى عقده الرئيس الأمريكى بل كلنتون  ورئيس الوزراء البريطانى تونى بلير فى واشنطون ، ويستعرض التقرير كميات وأنواع الأسلحة والمواد ذات القدرة على إحداث الدمار الشامل العراقية ، وما تم تدميره منها حتى ذلك الوقت ، هذا التقرير يوضح أن العراق يمتلك كميات هائلة من هذه الأسلحة ، خاصة البيولوجية .

إن هذا التقرير يستند إلى معلوماتٍ قدمها حسين كامل وقت هروبه من العراق ، ولذلك فإن تقارير اللجنة الدولية حول أسلحة العراق ، قبل هروب كامل ، كانت تشير إلى أن غالبية الأسلحة العراقية تم تدميرها ، وبعد هروبه أصبحت تشير دائماً إلى امتلاك العراق لأسلحة الدمار الشامل بكميات كبيرة .

فإذا كانت لدى العراق هذه القدرة على إخفاء أسلحته ، رغم اللجنة الدولية الموجودة فى العراق منذ سبع سنوات ، ورغم تكنولوجيا التجسس فائقة القدرة المثبَّتة فى أقمار التجسس الأمريكية ، فإن رد الفعل الأمريكى تجاه نظام صدام ” المراوغ ” تُصبح حينئذِ مُبررة .

2ـ أن الولايات المتحدة الأمريكية ، وخلال الفترة التالية لحرب الخليج الثانية ، قامت بتطوير تقنياتها العسكرية بشكل كبير ، خاصة : القنابل الذكية ، التى تصل إلى أهدافها من خلال ذاكرة الكترونية داخلها ، و الصواريخ ذات القدرة على اختراق طبقات الأرض ، والتى لا تنفجر إلا فى الطبقة الأرضية الموجود بها مخزون الأسلحة المراد تدميرها ، وكذلك المواد المطوِّقة ، التى تعمل على امتصاص وحصار المواد الكيماوية والبيولوجية الناجمة عن الانفجار الكيماوى أو البيولوجى ، وهى قدرات تكنولوجية كانت مُفتقدة خلال حرب الخليج الثانية ، وتمثل العملية العسكرية فى العراق فرصة ذهبية لإجراء الإختبارات الحية عليها .

3ـ المصالح الأمريكية فى منطقة الخليج والتى تحتاج إلى وجود عسكرى كثيف ، خاصة فى ظل وجود مصادر تهديد ـ كالنظام الإيرانى ـ لديها قوة عسكرية متطورة ، وهذا يفسر سرعة وكثافة القوات الأمريكية التى عُبِّأت فى الخليج منذ بداية الأزمة ، فضلاً عن القوات الغربية العاملة فى منطقة الخليج فى إطار الاتفاقات الأمنية الموقعة مع دول الخليج ، أو القوات التى تم حشدها فى أزمات سابقة بصرف النظر عن الضربة العسكرية ضد العراق أو إلغائها .

4ـ أن الأزمة التى يمر بها نظام كلنتون ، إثر الفضائح الجنسية المتتالية للرئيس كلنتون والتى شهدتها الولايات المتحدة على المستوى الداخلى ، قد أثرت على ” مزاج ” عملية اتخاذ القرار فى الولايات المتحدة الأمريكية .

و أياً ما كانت الدوافع الأمريكية من ذلك كله ، فإنها أرادت أن تقوم بعملية عسكرية ضد العراق ، وهى بالتأكيد كانت تعلم أن هناك مواقف دولية مبدئية سترفض قبول هذه الإرادة ، لكنها اعتبرت هذه العملية هدفاً ، وفى سبيل تحقيق ذلك الهدف ، كانت تسير فى ثلاثة اتجاهات فى وقت واحد ، وذلك على النحو التالى :

أـ حشد قواتها العسكرية فى الخليج بشكلٍ مكثف ، وبمستوىً أثار الشكوك حول الأهداف الحقيقية لوجود القوات الأمريكية فى الخليج على ذلك النحو المتطرف . مع العمل فى ذات الوقت على تعبئة الرأى العام الأمريكى ضد العراق بدرجة تسمح للنظام فى الولايات المتحدة بتنفيذ مخططاته العسكرية .

ب- السعى المستمر إلى كسب التأييد الدولى ـ خاصة حكومات الدول الكبرى ـ إلى جانب الخيار العسكرى ، وفى سبيل ذلك كان هناك ، بشكلٍ دائم ، رحلات خارجية يقوم بها اثنين من الوزراء الأمريكيين :

مادلين أولبرايت وزيرة الخارجية : ومهمتها تأكيد عدم صلاحية الدبلوماسية كأدةٍ للتسوية مع عقلية على شاكلة صدام حسين ، والسعى إلى إقناع القيادات السياسية الدولية ـ من خلال الاجتماعات ـ بهذا المعنى ، وتعبئة الرأى العام العالمى ، من خلال المؤتمرات الصحفية التى تعقدها فى الدول التى تزورها ، ضد العراق ، لتهيئته المجتمع الدولى لتقبل فكرة استخدام الأداة العسكرية نظراً لفشل الأداة الدبلوماسية .

وليم كوهين وزير الدفاع : ومهمته تأكيد قدرة القوات العسكرية الأمريكية الموجودة فى الخليج على تنفيذ الضربة العسكرية ضد العراق بشكلٍ منفرد ، والمطلوب هو اقتناع الدول الأعضاء الدائمين فى مجلس الأمن بضرورة استخدام القوة ، وعدم عرقلة اتخاذ المجلس قراراً يسمح للولايات المتحدة باستخدام القوة العسكرية ضد العراق ، وإقناع الدول الأخرى بعدم الضغط أو إبداء المعارضة ، مع تقديم الإغراءات اللازمة لتحقق هذا الإقتناع ، أو التلويح بالعقوبات ـ إذا لزم الأمر ـ لتحقيق نفس الهدف ، و قد قام كوهين بجولات عديدة شملت دول الخليج الست ودولاً عربية أخرى ، والصين وروسيا واليابان وعدداً من الدول الأوربية من بينها ألمانيا وفرنسا .

3ـ كانت كافة التصريحات الفنية الصادرة عن أعضاء اللجنة الدولية للتفتيش عن الأسلحة فى العراق ، خاصةً تصريحات بتلر ( حول تهديد الأسلحة العراقية لأمن إسرائيل ) و تصريحات هينج ( حول امتلاك العراق لأسلحة بيولوجية متطورة )  تخدم المساعى الأمريكية الرامية إلى تصوير العراق على أنه خطر يُهدد استقرار المنطقة ، بما يمتلك من أسلحةٍ للدمار الشامل ، وحين تشكك الكثير من الدوائر الأكاديمية ـ العارفة بمستوى القدرات العسكرية العراقية ـ فى صدقية المعلومات المتضمنة فى تلك التصريحات ، فإن بوادر الشك فى طبيعة العلاقة التى تربط الولايات المتحدة بأعضاء اللجنة الخاصة ،  تكون مبررة ، ويجوز أن نقرر أن الولايات المتحدة الأمريكية كانت تدفع أعضاء اللجنة إلى القول بمثل تلك التصريحات ، وذلك فى إطار تنفيذ سياستها السابقة .

[2] ـ العـراق :

أقدم العراق على انتهاج مسلك التصعيد فىهذه المرحلة بالذات لأسبابٍ عديدةٍ ومتنوعة ، فمن ناحيةٍ أولى : وصلت الأوضــــاع الداخلية فى العراق إلى أقصى درجات السوء ، وأصبح الوضـــع المعيشى والصحى للشعب العراقى يُنذر بوقوع كارثة ، لدرجة أن ضرب العراق عسكرياً يتساوى مع استمرار الحصار ، وفق ما قالته الصحف العراقية . ومن هنا رأت القيادة العراقية أنه يجب تحريك القضية العراقية فى أذهان العالم.

و من ناحية ثانية : فقد بدا أن هناك موقف عربي يرفض المسلك الأمريكى العام تجاه المنطقة العربية وقضاياها ، هــذا الموقف الذى أوجدته ظروف عملية السلام المتأزمة ، صدر عن قياداتٍ عربيةٍ عُرف عنها التوافق مع التوجهات الأمريكية فيما مضى ، وهى على هذا النحو ـ فى تقدير القيادة العراقية ـ سيكون موقفها محسوباً لصالح الموقف العراقى ، فضلاً عن الإدراك الواضح لمدى التعاطف الشعبى العربى مع الشعب العراقى فى محنته ، وهى أمور مثَّلت قيوداً على خيار استخدام القوة العسكرية .

و أخيراً : فإن العلاقات السياسية والاتصالات الدبلوماسية القائمة بين العراق ودول كبرى مثل روسيا و فرنسا ، لا شك أنها قد أسهمت فى صياغة شكلٍ من أشكال المصالح المشتركة المبنية على أساس رفع العقوبات عن العراق .

وعلى ذلك ، فقد جاءت السياسات العراقية خلال الأزمة فى نفس هذه الإتجاهات :ـ

(أ) على الصعيد الداخلى: قام العراق بإعلان التعبئة الجماهيرية لتحقيق عدة أغراض :

1ـ لكى تبدو المعركة فى عيون العالم بين الولايات المتحدة ذات القوات العسكرية الجبارة ، وبين جماهير الشعب العراقى المغلوب على أمره ، من خلال إبراز حجم المعاناة الإنسانية التى يعيشها الشعب العراقى ، بهدف كسب تعاطف المجتمع الدولى ، شعوباً وحكومات ، وتصوير الولايات المتحدة على أنها تسعى لتحقيق أغراض أُخرى باسم الأمم المتحدة .

2ـ من خلال الشحن المعنوى للجماهير ، وإبراز الضغوط الواقعة عليها ، تُغطِّى عملية التعبئة العامة المعلنة فى العراق ، على الطبيعة الفعلية لعلاقة النظام العراقى بجماهيره ، أى إستغلال الأزمة فى صالح استقرار النظام .

3ـ تعويض الافتقار إلى قدرة الردع الاستراتيجى ، أو وسائل الدفاع القادرة على مواجهة الضربة العسكرية المتوقعة ، وإفشال نتائجها ، باستخدام الأٌسلوب النفسى الإنسانى : محاولة إظهار التفاف جماهيرى مصطنع ، أُطلق عليه ” الدروع البشرية “. كرسالة للغرب بعدم جدوى الضربة العسكرية .

(ب) على الصعيد السياسى الخارجى :

1ـ تكثيف الاتصالات مع القيادات العربية من خلال الزيارات المتتالية التى قام بها عدد من المسؤولين العراقيين ، وعلى رأسهم محمد سعيد الصحاف وزير الخارجية العراقى ، بهدف ضمان المساندة السياسية العربية للعراق فى موقفه .

2 ـ استثمار المواقف الدولية الرافضة لاستخدام الأسلوب العسكرى ، خاصة روسيا وفرنسا ، وقد بدا ذلك واضحاً من خلال الأسلوب العراقى الذى يعتمد أسلوب التصعيد ضد الولايات المتحدة ، عبر التصريحات العدائية وإعلانات الحشد العسكرى الداخلى فى العراق ، بينما يستجيب للوساطة الروسية والفرنسية بتقديم أشكالٍ من البدائل التى يعلم النظام العراقى أن الولايات المتحدة سترفضها ، وبذلك يبدو العراق على أنه الطرف الأكثر مرونة ، بينما تبدو الولايات المتحدة هى الطرف المتعنت ، و الوضع العام فى ـ حدوده هذه ـ يخدم مصلحة العراق أكثر ، على الأقل تظل القضية مطروحة ، ويتأكد كل يوم أن أطرافاً دولية عديدة ترغب فى إنهاء الحصار ، وأطرافاً أخرى لا ترغب فى استخدام الحل العسكرى . بينما تظل قضية تفتيش القصور مُجمَّدةً ، لإتاحة الفرصة لدراسة الملفات الخاصة بالإنجازات التى تمت فى مجال الأسلحة العراقية ، والوصول إلى تحديد أُفق زمنى لإنهاء أعمال التفتيش ، وهذا هو الهدف الأكبر للعراق .

(ج) على الصعيد العسكرى : لجأ العراق إلى تسريب وحدات فرعية من صواريخ أرض/جو إلى منطقة الحظر الجنوبية ، بهدف نصب كمائن مؤقتة لمفاجأة الطائرات المغيرة أثناء توجيه الضربة العسكرية . و لذلك أُعطيت لعناصر الدفاع الجوى العراقية حرية كاملة فى التعامل مع الأهداف ، دون الرجوع إلى القيادات الأعلى ، تحسباً للشلل الإلكترونى الذى ستحدثه الضربة الموجهة إلى الرادارات ووسائل الاتصال اللاسلكية العراقية .

[3] موقف هيئة الأمم المتحدة:

فى الحدود القانونية للقرارات الدولية التى صدرت عن مجلس الأمن الدولى عقب نهاية حرب الخليج الثانية ، ليس للولايات المتحدة الأمريكية دور الطرف الرئيسى فى النزاع القائم بين العراق واللجنة الدولية للتفتيش على أسلحة الدمار الشامل العراقية.

أما فى الحدود السياسية لتوازنات القوى فى النظام العالمى ، وفى حدود العلاقة المالية بين الولايات المتحدة وهيئة الأمم المتحدة ـ صاحبة النصيب الأكبر فى مواردها المالية ـ فقد أصبحت الولايات المتحدة الأمريكية وكيلاً عن المنظمة الدولية .

وكشخصية دولية قائمة ، عبرت هيئة الأمم المتحدة عن موقفها من خلال كوفى عنان الأمين العام للمنظمة ، وذلك بالتأكيد على أمرين : أولاهما هو ضرورة أن يستجيب العراق لكافة القرارات الدولية ، ومنها أن يفتح جميع المواقع أمام لجنة التفتيش الدولية ، والثانى : ألا تقدم الولايات المتحدة على الخيار العسكرى قبل استنفاد كافة الوسائل الدبلوماسية . ولعل أبلغ تعبير عن الحرج الذى تقع فيه الأمم المتحدة من جراء الاتجاهات العامة لأزمة العراق هو قول أمينها العام كوفى عنان ، خلال تصريحٍ أدلى به لهيئة الإذاعة البريطانية BBC فى 31/1/1998م : “ إن زعماء العراق قد وضعوا أنفسهم فى ورطة ، نحن جميعاً فى حاجة للعمل معهم لإخراجهم منها ، ولكننى أعتقد أنه لا ينبغى الإصرار على إذلالهم.([44])..”.

ثالثاً :  الموقف الدولى من الأزمة:

لم تكن الدوائر الدولية المختلفة ، العربية والإقليمية والعالمية ، بمعزل عما يجرى من تصعيد للأحداث بين الولايات المتحدة والعراق ، فقد كانت هذه الدوائر فى قلب الأحداث بوصفها المخاطب من جانب سياسات الطرفين الرئيسيين . وسنتناول مواقف الأطراف الدولية فى هذه الدوائر ، وفق ترتيبٍ يراعى مستوى التأثير فى اتجاهات الأزمة .

[1] ـ القوى الكبرى فى النظام الدولى

1ـ روســــيا

منذ بداية الأزمة ، كانت الدبلوماسية الروسية تنشط فى كافة الاتجاهات المضادة لتوجهات الولايات المتحدة ، وذلك فى إطار الجهود الروسية الرامية إلى تأكيد الطابع الدولى للقضية ، ومنع الولايات المتحدة من ممارسة دور القوة الوحيدة المهيمنة فى النظام الدولى . ومن ناحية أخرى ، فإن روسيا ترتبط مع العراق بتاريخ طويل من العلاقات الإقتصادية والعسكرية ، وهى الآن فى حاجة ماسة لاستثمار هذه العلاقة ، والأمر يتوقف على انتهاء العقوبات الدولية المفروضة على العراق . وقد ظل الدور الروسى يعبر عن نفسه خلال مراحل الأزمة بكثافةٍ وعلى أكثر من مستوى :

(أ)  فى مجلس الأمن ، وقفت روسيا دائماً ضد إمكانية استصدار الولايات المتحدة لأية قرارات يمكن أن تخول لها حق التحرك العسكرى ضد العراق  كما عملت روسيا على تعطيل إصدار بيانات إدانة للعراق ، والمطالبة الدائمة برفع العقوبات عن العراق ـ أو تخفيفها ـ على الأقل من خلال تحديد جدول زمنى لانتهاء أعمال لجنة التفتيش . وقد أٌعلن موقف روسيا هذا منذ البداية ، وذلك فى اجتماعات مجلس الأمن فى 25/11/1997م ، حيث أصَّر بريماكوف وزير خارجية روسيا على رفض استخدام القوة ضد العراق ، مطالباً بتخفيف العقوبات عنها .

(ب) قامت روسيا بدور الوسيط ، وقد عينت فيكتور يوسافاليوك ليقوم بمهمة المبعوث الخاص إلى العراق ، وكان يوسافاليوك يكثِّف معدلات لقاءاته بالقيادة العراقية كلما ارتفعت حدة التصعيد خلال الأزمة .

(ج) على الصعيد الدولى ، نشطت الخارجية الروسية فى العمل على طرح وجهة نظر روسيا الخاصة بعدم استخدام القوة ضد العراق ، وفى هذا الصدد قام بريماكوف وزير الخارجية الروسية بالعديد من الجولات الخارجية ، زار خلالها عدداً من الدول الأوربية والآسيوية ، بهدف كسب المجتمع الدولى لصالح خيار التسوية السلمية للأزمة ، وتوضيح أن العراق أبدى تعاوناً مع لجنة التفتيش وأوفى بالعديد من الالتزامات الدولية المفروضة عليه ، مما يستدعى تخفيف العقوبات وليس زيادتها .

(د) التعامل المباشر مع الموقف الأمريكى المتعنت ، حيث أوضحت روسيا منذ البداية أن السلوك الأمريكى تجاه العراق على هذا النحو يخرج عن إطار الشرعية الدولية ، ويفتقد عناصر الكياسة السياسية والسلوك الدولى المتحضر ، بدت هذه المعانى واضحة من خلال تصريحات الرئيس الروسى بوريس يلتسين ، والتى وصلت إلى أقصى درجات التعنيف والنقد للسلوك الأمريكى ولشخص الرئيس كلنتون .

ففى حديثٍ لصحيفة “ توريدى ديلا سيرا “ الإيطالية ، قال يلتسين : “ ..إن العالم شهد تطورات كبيرة خلال السنوات الأخيرة ، ومن الخطأ العودة إلى الأفكار القديمة من خلال السياسة الأمريكية التى تحاول بكل الطرق السيطرة والتحكم فى دول العالم عن طريق القوة من جديد ([45])..”.

وفى موسكو شن يلتسن هجوماً شديد اللهجة ضد الولايات المتحدة لسلوكها المتغطرس تجاه العراق ، واتهم الرئيس كلنتون “ “بالصياح ” لتصعيد الأزمة ([46]). وحذره من أن التحركات الأمريكية تجاه العراق : ” يمكن أن تؤدى إلى حرب عالمية ” .

وفى طهران ، انتقد السفير الروسى فى إيران موقف الولايات المتحدة وميولها العسكرية المتطرفة ووصف الضربة العسكرية الأمريكية المزمعة بأنها ” حماقــــة “([47]) . و مع تأكيد بريماكوف على عدم قبول العمل العسكرى الأمريكى لأن ” القيام بعملية عسكرية ضد العراق أمرٌ غاية فى الخطورة ، فالوضع الآن ليس كما كان عليه فى 1991م ” ، إلا انه ، وفى محاولة لتفادى الصدام المباشر مع الولايات المتحدة الأمريكية ، قال :” إن معارضتنا لتوجيه ضربةٍ عسكريةٍ ضد العراق ، لا تعنى بالضرورة أننا نعارض الولايات المتحدة .([48])

(هـ) وانطلاقا من المواقف السابقة ، فإن الدبلوماسية الروسية اهتمت بالتسوية السلمية وسبلها ، فخلال مؤتمر صحفي عٌقد فى واشنطون عقب اجتماعٍ بين أولبرايت وبريماكوف ، وبينما قالت أولبرايت أن الجهود الدبلوماسية قد انتهى دورها ، قال بريماكوف “…إن الوضع خطير إلى حدٍ ما ، و بلادى ستواصل جهودها الدبلوماسية بحثاً عن تسوية سلمية للأزمة من خلال التفاوض ، كما أن الجهود التى تضطلع بها روسيا ما زالت فى بدايتها وتحتاج إلى أن تستمر ([49])..”.

و فى إطار الجهود الدبلوماسية التى تضطلع بها روسيا لحل الأزمة ، وفى جوٍ من الإنذارات المتعاقبة من جانب الولايات المتحدة و بريطانيا ، كثف المبعوث الروسى الخاص إلى العراق فيكتور يوسوفاليوك اجتماعاته مع القيادات العراقية ، بهدف التوصل إلى تسوية سلمية للأزمة ، فما هى المقترحات التى تراها القيادة الروسية مناسبة لمثل تلك التسوية . ؟؟

أولاً : أن تتم التسوية من خلال هيئة الأمم المتحدة : خلال مشاورات مجلس الأمن ، والتى عقدت فى بداية الأزمة ، أعلن بريماكوف وزير خارجية روسيا ، أن موقف بلاده الثابت هو رفض اللجوء إلى القوة العسكرية ضد العراق ، قبل أن يقوم الأمين العام لمنظمة الأمم المتحدة بزيارة بغداد ، و معاينة الوضع على الطبيعة ، ثم العودة إلى الأمم المتحدة لإطلاع المسؤلين على النتيجة التى وصل إليها …([50])” .

و عقب اجتماعه ووليم كوهين فى موسكو 13/2/1998م ، صرح بريماكوف بأن الوضع وصل إلى درجة غاية فى الخطورة ، تتطلب سفر عنان إلى بغداد .. وحرصاً على تمكين كوفى عنان من السفر إلى العراق ، و فى حديثٍ له مع محطة التلفزيون RTR ، قال بريماكوف : “..لدينا معلومات مؤكدة على أن العراق مستعدٌ للقبول بكافة شروط الأمم المتحدة ، والرضوخ لمطالب الأُسرة الدولية ، لتفادى الضربة العسكرية المزمعة ([51]) . فى نفس الوقت أعلن الرئيس الروسى بوريس يلتسن إصرار روسيا على سفر عنان إلى بغداد ، وقال : “..إن سفر عنان إلى العراق أمرٌ بالغ الأهمية ([52]).” وتأكيداً لهذا الإعلان ، صرح بريماكوف خلال زيارته للنمسا بأن الظروف أصبحت مواتية للتوصل لتسوية سلمية للأزمة .

ثانياً : إبداء الاستعداد للمشاركة فى عمليات نزع الأسلحة فوق التقليدية العراقية : فبالنظر إلى استمرار شكوى العراق الدائمة من عدم نزاهة لجنة التفتيش الدولية ، وأنه

يشكك فى علاقة الولايات المتحدة بأعضاء اللجنة ، وفى مصير المعلومات التى تُنقل من العراق عبر أجهزة الاستطلاع والرقابة الأمريكية ، لذلك فقد قدمت روسيا عرضين للمشاركة فى عمليات التفتيش : العرض الأول : تزويد اللجنة الخاصة بطائرةٍ للاستطلاع بدلاً من الطائرة الأمريكية “ U2 “ التى تتهمها بغداد بالتجسس ([53])، والعرض الثانى : الصيغة الروسية التى قدمها المبعوث الروسى الخاص يوسيفالوك إلى العراق لإقناعه بقبول التسوية السلمية ، ومؤداها : أن يفتح العراق ثمانية مواقع رئاسية للتفتيش الدولى مقابل إجراء تعديلات فى تشكيل فرق التفتيش ، خاصة اقتراح تعيين نائب روسى لرئيس اللجنة الدولية الأمريكى ريتشارد بتلر .

وفى حين وافق العراق على كلا العرضين الروسيين ، فإن الولايات المتحدة الأمريكية قد رفضتهما ، مُبررةً هذا الموقف بأنها ترفض أية شروطٍ عراقية ، ولا تقبل إلا إذعان العراق الكامل ، وغير المشروط ، لإرادة المجتمع الدولى .

ثالثاً : التهديد بمخالفة القرارات الدولية المتعلقة بالعراق : حذر الرئيس يلتسين من خطورة الوضع فى المنطقة إذا ما أقدمت الولايات المتحدة على الأسلوب العسكرى ضد العراق ،  ووجه العديد من النداءات و الانتقادات إلى الحكومة الأمريكية ، وأمام الإصرار الأمريكى وعدم المرونة فى التعامل مع المقترحات السلمية ، طالب الرئيس يلتسين ـ علانية ـ مجلس النواب الروسى بعدم التزام روسيا بالعقوبات الدولية المفروضة على العراق ، إذا ما تعرض العراق لهجوم عسكرى أمريكى ([54]) .

2 ـ المـوقف الفرنسى:

بدا الموقف الفرنسى منذ بداية الأزمة رافضاَ للخيار العسكرى ، و بذلت الخارجية الفرنسية جهوداَ كبيرة فى محاولةٍ لتفادى الضربة العسكرية . ففى البداية أوضحت فرنسا رغبتها فى تهدئة التصعيد الذى بدا بين العراق والولايات المتحدة ، من ذلك إعلان جازو سكريه ـ المتحدث الرسمى باسم الخارجية الفرنسية ـ عن أمله فى تطويق الأزمة فى حدود التنظيم الدولى القائم “.. لقد شجعنا بتلر على التوجه إلى بغداد ، للقاء السلطات العراقية ، حتى يمكن التوصل إلى إتفاق حول دخول المواقع الرئاسية ..([55]) ” .

وقد تعرضت السياسة العسكرية الأمريكية لانتقادات حادة من جانب العديد من الأوساط الفرنسية ، الرسمية وغير الرسمية ، من ذلك تصريحات جان بيار شوفمان ـ وزير الداخلية الفرنسية ـ التى انتقد فيها بشدة السياسة الأمريكية تجاه العراق ، وأكد أن واشنطون “ ..أسيرة سياسة حمقاء .” وأنها تعمل على تصوير العراق “..كشيطان ” ، و أكد أن العراق بالفعل لم يعد يُشكل أى تهديد لأية دولة فى المنطقة ، و طالب شوفمان برفع الحظر المفروض على العراق ، ووصف العمل العسكرى المزمع بالوحشية ، كما وصف تصريحات بتلر حول أسلحة العراق بأنها “..مضحـــكة .” ([56]) ، جديرٌ بالذكر هنا ، أن بيير شوفمان خلال حرب الخليج الثانية ، كان يشغل منصب وزير الدفاع فى فرنسا ، وقد إستقال احتجاجاً على اللجوء إلى الخيار العسكرى لتحرير الكويت ، وعلى الكيفية التى تم توظيف الضربات العسكرية ضد الأهداف العراقية .

و يمكن القول أن المواقف الفرنسية من اتجاهات الأزمة العراقية جاءت علىالنحو السابق للأسباب التالية :

(أ) ـ المصالح الاقتصادية لفرنسا فى العراق : لا شك أن الحسابات الأوربية ، خاصة الفرنسية ، تجاه الحليف الأمريكى قد اختلفت عما كانت عليه فى الماضى ، والاعتبارات الاقتصادية هى الأساس الذى يعكس الخلاف بين الطرفين فيما يتعلق بالدور السياسى لكلٍ من الطرفين . والعراق يمثل ـ مستقبلاً ـ علامةٌ على هذا الطريق فى السياسات الاقتصادية الأوروبية  .

(ب) ـ الضغط الذى يمارسه الرأى العام الفرنسى على قيادته : وإذا كان رفض الهيمنة الأمريكية ، والتطلع إلى القيام بدورٍ مستقل ، يبدو لدى الشعب الفرنسى بدرجة أكبر مما يبدو عليه فى السياسة الفرنسية ، فإن الموقف الإنسانى الذى اتخذه المواطنون الفرنسيون ـ بسبب النشاط الواضح لجمعيات حقوق الإنسان الفرنسية ، والمتعاطف مع الشعب العراقى ، يمثل دافعاً آخر للتوجهات الفرنسية خلال الأزمة

فقد شهدت فرنسا جهوداً كبيرة من جانب منظمات حقوق الإنسان ، والتى استطاعت أن تحقق نجاحاً هائلاً فى تعبئة الرأى العام الفرنسى لصالح التعاطف مع الشعب العراقى في معاناته من الحظر المفروض عليه ، و من ثم لقيت فكرة ضرب العراق عسكرياً رفضاً وإستنكاراً كاملين فى فرنسا.

و فى مؤتمر صحفى عقد فى بغداد يوم 19/12/1997م ،  كان ميشال آلان ـ رئيس منظمة ” إيكيليبر ” الفرنسية لحقوق الإنسان ـ يُعبر عن الإدراك الفرنسى للوضع فى العراق حين قال : “..إن عملية الحظر المفروضة على العراق منذ سبع سنوات هى عملية إبادة جماعية ، والحظر هو السلاح الأكثر جبناً فى العالم . إن نتائج هذا الحظر معروفة من قبل كل مراكز القرار فى العالم ، وهى إبادة منظمة ([57])..”

و مع اشتداد لهجة التهديد الأمريكى ـ البريطانى بضرب العراق ، وتراجع احتمالات التسوية السلمية ، بدأت المنظمات الخيرية الفرنسية فى الإعداد لحملات ـ على المستوى القومى ـ لجمع الأموال والمساعدات الإنسانية العينية للشعب العراقى ([58]) ، فى صورةٍ  مكثَّفةٍ ، انفرد بها الشعب الفرنسى .

الضغط الذى شكله الرأى العام على الموقف السياسى الفرنسى من الأزمة ، يبدو واضحاً فى التصريح الذى أدلى به الرئيس الفرنسي جاك شيراك ، خلال زيارته للنمسا فى 13/2/1998م ، و الذى قال فيه “..من الضرورى أن يحترم العراق القرارات الدولية ، لكن إذا أمكن تحقيق ذلك بدون قتل الأطفال ، فهو أفضل ..([59]).”

و قد تلخصت البدائل الفرنسية للتعامل مع الأزمة العراقية كالتالى :

1 ـ التمسك بدور الأمم المتحدة ومجلس الأمن فى تسوية الأزمة : فى إشارةٍ إلى تمسك فرنسا بالإطار القانونى فى التعامل مع الأزمة ، قال آلان ديجاميه ، مندوب فرنسا الدائم فى مجلس الأمن ، ورئيس المجلس فى ذلك الوقت: ” إن الدول الخمسة عشرة الأعضاء فى مجلس الأمن سيواصلون مشاوراتهم لتبنى رد فعل بالإجماع ، يهدف إلى تطبيق القرارات الدولية .([60])” وذكرت وكالة الأنباء الفرنسية ” أن فرنسا تراهن على الأمين العام للأمم المتحدة لإيجاد حل سلمى للأزمة العراقية ، و ترغب فى أن يُعطى مجلس الأمن تفويضاً مرناً بما فيه الكفاية للأمين العام للقيام بهذه المهمة ([61])..”

3ـ مـــــوقف الصـــــين :

اتخذت الصين منذ البداية موقفاً رافضاَ للعمل العسكرى ضد العراق ، وزاد الرفض الصينى كلما تزايدت التصعيدات العسكرية الأمريكية ضد العراق ، و قد بذلت الولايات المتحدة جهوداً دبلوماسية كبيرة لإقناع الصين بالعدول عن موقفها ، وذلك من خلال الزيارات المكثفة التى قام بها المسئولون الأمريكيون إلى الصين .

إلا أن المسؤولين الصينيين قد أكدوا رفضهم للعمل العسكرى ، وزاد معدل الزيارات المتبادلة بين الصين وروسيا بهدف التنسيق بين البلدين فى هذا الصدد . ويمكن استنتاج دوافع الموقف الصينى الرافض للحل العسكرى ، والبديل الذى تراه مناسباً لإنهاء الأزمة بشكلٍ سلمى ، من خلال المسلك الصينى فى اتجاهاتٍ ثلاث :

الأول :هو أن الصين ترغب فى أن تُسوى مشكلة العراق من خلال الأمم المتحدة ، دون أن يكون لأى طرف أخر حق العمل بالنيابة عنها ، من ذلك تصريحات الخارجية الصينية ـ كما عبر عنها مندوب الصين الدائم فى مجلس الأمن ـ بقوله “..إن الصين تعارض بشدة استخدام القوة العسكرية ، وترى أن القوة لن تؤدى إلى تعاون العراق مع اللجنة الدولية ([62]) “.

 

ورداً على ما كان قد ألمح به المسئولون الأمريكيون ، من أن الصين التزمت بعدم استخدام الفيتو ضد قرار مجلس الأمن بضرب العراق ، نفت الخارجية الصينية أن تكون الصين قد التزمت بذلك لأى طرف ، وأكدت رفض الصين المطلق لاستخدام القوة ضد العراق ([63]) .

الثانى : أن الصين تخشى أن عواقب استخدام القوة ضد العراق فى هذا الوقت غير مضمونة ، وفى نيو يورك ، حذر المندوب الدائم للصين فى مجلس الأمن من عواقب استخدام القوة ضد العراق وأكد على رفض الصين لاستخدام هذا الأسلوب و  قال “.. إن هذه الخطوة سوف تفجر صراعات و نزاعات أشد خطورة فى المنطقة ([64]) .” .

أخيراً : أيدت الصين الاقتراح الروسى ـ العراقى ، والذى يتضمن إحداث تغيير فى تشكيل لجان التفتيش ، كما أعلنت الصين فى أكثر من مناسبة تأييدها للمطلب العراقى الخاص بتحديد جدول زمنى لانتهاء أعمال التفتيش ورفع الحظر المفروض على العراق .

تباينت مواقف الدول الكبرى فيما يتعلق بدرجة رفضها للعمل العسكرى ضد العراق ، وفيما عدا بريطانيا التى اتخذت موقفاً متطابقاً مع التوجهات الأمريكية بشكلٍ مطلق ، فإن كافة الدول ذات الوزن الثقيل فى النظام الدولى قد اتخذت موقفاً عاماً بالرفض ، وقد عرضنا فيما سبق لمواقف الدول الأعضاء الدائمين فى مجلس الأمن ، و التى حالت مواقفهم دون حصول الولايات المتحدة و بريطانيا على قرار من المجلس من شأنه أن يصبغ الشرعية على العملية العسكرية التى استهدفت العراق ، وفيما يلى نستعرض مواقف الدول الكبرى الأخرى من الأزمة (ألمانيا ـ اليابان ) .

 

4ـ مـــوقف ألمانـــيا :

أعربت ألمانيا دوماً عن أملها فى أن يتم تسوية الأزمة العراقية بشكل سلمى ، وأن يُجنَّب شعب العراق مخاطر الضربة العسكرية التى تُعِد لها الولايات المتحدة وبريطانيا ، وأكدت على عدم الإقدام على أى عمل عسكرى ، ما لم يتأكد استنفاذ السبل الدبلوماسية . فعقب اجتماعٍ مع ريتشارد بتلر ، رئيس اللجنة الدولية للتفتيش على أسلحة العراق ، صرح كلاوس كينكل وزير الخارجية الألمانية بالقول :”..إن بلاده لا تمانع فى توجيه ضربة عسكرية إلى العراق ، بشرط استنفاد كافة السبل السلمية ([65]). وفى تصريحٍ له ـ وبعد اتصالاتٍ أمريكيةٍ مكثفةٍ ـ أعلن هلموت كول أن ألمانيا لا تمانع فى توجيه ضربة عسكرية للعراق “.. إذا أصر النظام العراقى على موقفه من مسألة القصور الرئاسية ” ، إلا أن فولفجانج شوسل ـ نائب المستشار النمساوى ، ووزير خارجية النمسا ـ علق على تصريح كول قائلاً ” إن إعلان كول هو مجرد ” تصريح بلاغى ” وذلك نظراً ” لأن الولايات المتحدة و بريطانيا لديهما من القوات فى الخليج ما يكفى لشن الهجمة دون مساعدةٍ من أحد “([66]) .

5 ـ  مــوقف اليـابان :

استبعدت اليابان تماماً إمكانية أن تشارك فى أى عمل عسكرى ضد العراق ، جاء ذلك فى تصريح أدلى به المتحدث الرسمى باسم الخارجية اليابانية ، وفى بيان مشترك ، أُعلن عقب إجتماع بين كيزو أوكوتشى وزير خارجية اليابان ، وبيل ريتشاردسون مندوب الولايات المتحدة الأمريكية الدائم فى مجلس الأمن ،أن “..كل الخيارات مفتوحة للتعامل مع الأزمة ” ، إلا أن البيان شدد على “ضرورة مواصلة الجهود الدبلوماسية حتى النهاية “([67]) .

[2] ـ المـــوقف العـــــربى

بالطبع الحديث ليس عن موقفٍ لـ” نظامٍ عربىٍ ” ، و إنما نحن بصدد الحديث عن” مواقفٍ ” لدولٍ ” عربيــةٍ ” تتعامل مع أزمةٍ تتعلقُ بمجال مصالحها وفق إدراكٍ منفرد لدرجة الأزمة و حدودها وقد تتطابق مواقف دولتين أو أكثر ، لكن ذلك التوافـق ليس فى إطارٍ جامع لنظامٍ عـربىّ  حـى.

وجديرٌ أن يُذكر الظرف التاريخى الذى توازت فيه حاجة الولايات المتحدة إلى دعم حليفاتها العربيات ، مع سقوط مصداقيتها على بساط عملية السلام المختنقة ، دون أن تُشيد أحلامٌ على ردود أفعالٍ ، هى بالمنطق واجبةٌ ، ولكنها فى الواقع غائبةٌ …

نعم ، هناك بالفعل موقف عربى شعبى يتعاطف مع الشعب العراقى فى مأساته التاريخية ، و” يتمنى ” رفع الحصار المفروض عليه ، و يرفض أى عدوان جديد يأتى على بقيته ، لكن أنماط المشاركة السياسية فى البلدان العربية ، تبقى هذا الموقف حبيس المشاعر الطيبة ..

1ـ مجلس التعاون الخليجى:

تعرضت معظم دول الخليج للتهديد المباشر عندما أقدم العراق على احتلال دولة الكويت ، واختارت المظلة الغربية بديلاً للأمن العربى ، الذى ثبت ـ بالتجربة ـ فشله كآلية فى النظام العربى ، فى مواجهة قوة دولة عربية ” خطرة ” . هذه المظلة أصبح وجودها القانونى واقعٌ ذاتى الإرادة . فى ضوء هذا الوضع ، جاءت مواقف دول مجلس التعاون الخليجى متوافقة فى أمور ، ومتباينة فى أخرى:

أولاً : فيما يتعلق بالضربة العسكرية ضد العراق : اتفقت كل المواقف على أن دول الخليج لا ترغب فى توجيه أية عمليات عسكرية ضد العراق ، وقد أعلن هذا الموقف جميع القيادات السياسية فى الدول الخليجية الست .

ثانياً : فيما يتعلق باحتمال أن تقوم هذه الدول بمعارضة الولايات المتحدة وبريطانيا فيما ينويانه عسكرياً ضد العراق ، أجمعت القيادات الخليجية أيضاً على أنه لاطاقة لدول الخليج بمثل تلك المعارضة ، وأن القوات الغربية فى الخليج ليست فى حاجة إلى المعاونة ، وبالتالى فهى لن تحتاج إلى تصريح من أية طرف فى الخليج أو غيره.

ثالثاً : فيما يتعلق بالموقف السياسى للقيادات الخليجية من أزمة الشعب العراقى ، و فى بيانٍ مشترك أعلنه مجلس التعاون الخليجى ، أكد البيان أن العراق يتحمل المسئولية كاملةً فى هذه الأزمة ” وما يترتب عليها من عواقب وخيمة ” ، وأن حكومة بغداد لابد وأن ”  تتخلى عن شروطها  ” وتتوقف عن عرقلة أعمال فرق التفتيش .

رابعاً : و حول مسألة رفع العقوبات عن العراق : تباينت مواقف الحكومات العربية فى الخليج فيما يتعلق بهذه النقطة ، و بدا أن هناك انفصال واضح بين ما تريده الجماهير العربية فى الخليج وبين ما تقوله قياداتها : ففى السعودية ، أعرب المسؤلون عن أملهم فى رفع المعاناة عن الشعب العراقى ” الشقيق ” ، وأن يتم التوصل إلى معادلةٍ مقبولة يتم بمقتضاها تحقق كافة الالتزامات المفروضة على النظام العراقى ، بمقتضى القرارات الدولية ، وبالتالى يتخلص العراق من الحصار المفروض عليه .

و فى عمان ، صرح يوسف بن علوى وزير الخارجية العمانية ، بأن بلاده تأمل فى تسوية الأزمة بالوسائل السلمية ، ومن خلال الأمم المتحدة ، وأن يكون هناك دليل واضح على أن لهذا الحصار نهاية ، وقال : ” إن مسألة العراق قضية ذات أبعاد دولية ، وليست مشكلة بين بلدين ، والوصول إلى حل يجب أن يكون باتفاق كل الأطراف الدولية .([68])

وفى الكويت : استبعد وزير الإعلام الكويتى الشيخ سعود الصباح  المصالحة مع العراق ، وقال أن رفع العقوبات عن العراق ليس من مسؤلية الكويت ، وإنما يتعلق بقرارات مجلس الأمن ، وأعرب عن مخاوفه من أن يؤدى رفع العقوبات عن العراق ، قبل تنفيذ الالتزامات المفروضة عليه ، إلى عودته لتهديد جيرانه مرةً أخرى ([69]) .

و كانت قيادات الإمارات أكثر وضوحاً فى المطالبة برفع العقوبات ، خاصةً ولى عهد دبى .

على الصعيد الخليجى ـ غير الرسمى ـ كان الموقف شديد الاختلاف ، فالموقف العام يرفض العدوان الأمريكى على العراق ، ويطالب بإنهاء الحصار المفروض عليه ، وأن يكون هناك عمل عربى منظم فى مواجهة الموقف المتأزم فى العراق :

صحيفة ” الخــــليج ” الإماراتية فى عددها الصادر فى 1/2/1998م ، دعت الدول العربية إلى عقد اجتماع على مستوى وزراء خارجية الدول العربية ، أو دول إعلان دمشق ، أو الدول العربية التى شاركت فى حرب تحرير الكويت ، على أن يكون البند الوحيد على جدول الأعمال هو : صياغة خطاب عربى ، فى المسألة العراقية ، موجهاً إلى هيئة الأمم المتحدة والولايات المتحدة الأمريكية والعراق ، يتضمن : وضع جدول زمنى لإنتهاء أعمال لجان التفتيش ، من خلال إغلاق الملفات التى انتهت ( ملف الأسلحة النووية وملف الأسلحة الكيماوية و ملف الصواريخ ) ووضع إطار عمل ـ واضح ومفصل ومؤقت ـ لملف الأسلحة البيولوجية ، على أن يتولى وضع هذا الإطار خبراء يحددهم مجلس الأمن وليس ريتشارد بتلر ([70]).

صحيفة ” الرايــــة ” القطرية فى عددها الصادر فى 27/1/1998م ، ذكرت أن جميع الشعوب العربية أعلنت رفضها لاستخدام القوة العسكرية من جانب الولايات المتحدة و بريطانيا ضد العراق ، و قالت : ” إن هذا العمل عدوان لا مبرر له على الإطلاق” ([71]) .

2ـ موقف الدول العربية غير الخليجية :

الأردن : أعلنت الأردن أنها ترفض أى عمليات عسكرية تُنفذ ضد العراق ، وفى تصريحٍ للخارجية الأردنية جاء فيه : ” أن الأردن لن تسمح باستخدام مجالها الجوى أمام أى طائرات تهاجم العراق ([72]) ..” .ســوريا : أكدت سوريا رفضها التام لضرب العراق عسكرياً ، وأن الوقت قد حان لمراجعة الموقف الدولى من العراق ورفع العقوبات المفروضة عليه ، أكد ذلك عبد السلام قدومى رئيس الوزراء السورى خلال زيارته وفاروق الشرع وزير الخارجية لمصر فى17/2/1998م ، وحول تقييم سوريا للموقف الأمريكى المتعنت ، صرح الشرع بأن الولايات المتحدة تفتقد إلى أى غطاء شرعى للقيام بالعمل العسكرى المزمع ، وقال : ” إن أى إجراء عسكرى ضد العراق يحتاج إلى قرار جديد من مجلس الأمن ، وهو غير موجود حالياً ([73]) ” .

مصـــــر : أعلنت مصر رفضها لتوجيه ضربة عسكرية ضد العراق ، وصرح الرئيس مبارك بأنه لايرى أن القوة العسكرية هى الحل للمشكلة القائمة ، وخلال مؤتمر صحفى عُقد فى القاهرة قال الرئيس مبارك : ” ..مصر ليس لديها أى استعداد للمشاركة فى عمل عسكرى ضد العراق ” ، ورداً على سؤال حول ما إذا كانت مصر ستوافق على الضربة إذا أصر العراق على موقفه ، قال مبارك : ” ..إننا نطالب العراقيين بتنفيذ قرارات مجلس الأمن ، لأن هذا مهم للغاية ، و إلا فإن الوضع سيكون خطيراً .” ([74])

وبينما كانت هناك تكهناتٍ حول قيام مصر بالدعوة إلى انعقاد مؤتمر قمة عربية ـ بوصفها رئيساً للدورة الحالية لجامعة الدول العربية فى ذلك الوقت ـ لمواجهة الموقف ، و خلال مؤتمر صحفى عُقد فى القاهرة ، أثناء زيارة الوفد السورى برئاسة عبد السلام قدومى ، نفى الرئيس مبارك أن يكون هناك نيِّةٌ للدعوة لمثل هذه القمة ، و حول مضمون اللقاء الذى تم بينه وبين سعيد الصحاف وزير الخارجية العراقى ، قال مبارك :” لقد أبلغتهم بخطورة الموقف ، والقرارُ قرارهم ([75]) ” .

فى فلسطين :حركة حماس الفلسطينية قامت بتنظيم العديد من المظاهرات احتجاجاً على الموقف الأمريكى ، أعلن الفلسطينيون من خلالها رفضهم لضرب العراق ، وتعاطفهم مع الشعب العراقى فى محنته ، وتأييدهم للنظام العراقى فى موقفه ” العادل ” والرافض لاستمرار الحصار .

كتائب ” عز الدين قسّام ” ، الجناح العسكرى لحركة حماس ، هددت بتوجيه هجمات فدائية ضد إسرائيل ، إذا نفذت الولايات المتحدة تهديدها للعراق ، وفى بيان أصدره الجناح قال فيه : ” ..نعلن للعالم بوضوح : أننا لن نقف مكتوفى الأيدى إذا تعرض الشعب العراقى وأطفاله ، أوأى شعب عربى ومسلم أخر ، للعدوان ، و سنرد على العدوان بطريقتنا الخاصة فى ضرب العمق الصهيونى ([76])

3 ـ جـــامعة الدول العربية :

بوصفه رئيساً للقمة العربية فىذلك الوقت ، كلف الرئيس المصرى مجمد حسنى مبارك السيد/ عصمت عبد المجيد ، الأمين العام لجامــعة الدول العــربية ، بالسفر إلى بغداد . و تتلخص أهداف هذه الرحلة فى فتح باب الحوار العربى مع العراق من خلال الجامعة العربية ، و لدى عودته ، صرح عبد المجيد  بأن اللقاءات التى أجراها مع القيادات العربية قد ” مكنتنا من استعراض الموقف بكل أبعاده وخطورته ” ، وأن هناك مشاورات تجرى فى مجلس الأمن ، تسعى خلالها روسيا وفرنسا للتوصل إلى مشروع قرار لحل الأزمة ([77]) . وكانت الأنباء قد ترددت حول وساطة الجامعة العربية من خلال اتصال عصمت عبد المجيد بالسفير الأمريكى بالقاهرة ، إلا أن الرئيس مبارك نفى هذه الأنباء مؤكداً أنه “.. ليس لدينا أى إقتراحات فى هذا الصدد ، وهذه الأخبار إشاعة ([78]) .” .

الموقف العربى فى المنظور الأمريكى :قامت السيدة / مادلين أولبرايت وزيرة الخارجية الأمريكية بجولةٍ فى المنطقة العربية أوائل شهر فبراير 1998م . التقت خلالها بالقيادات العربية لست دول ، وهى الكويت والسعودية والإمارات العربية المتحدة وعمان ومصر وسوريا ، كان الهدف من هذه الجولة هو إقناع قيادات هذه الدول بالموقف الأمريكى من” المراوغة العراقية ” .

وفق التصريحات السياسية العربية ، فإن مهمة السيدة الأمريكية كانت فاشلة ولكن فى رحلة العودة ـ و خلال هبوط طائرتها للتزود بالوقود فى القاعدة الأمريكية بأيرلندا ـ قالت أولبرايت فى ردها على أسئلة الصحفيين : إنها ستبلغ الرئيس كلنتون أن أحداً من القيادات العربية الست ” لم يحملنى رسالة إليه يطلب فيها عدم استخدام القوة ضد العراق ” ، كما أنهم ” يشاركوننا التشاؤم إزاء نجاح الجهود الدبلوماسية ” ، وأن العديد من الزعماء العرب قد ” أبدوا استعدادهم لتفديم الدعم العسكرى فى حالة ضرب العراق .” وفى نفس المقام ، صرحت  أولبرايت بأن الزعماء العرب أبلغوها بأهمية ” مراعاة موقف الرأى العام الداخلى عند ضرب العراق ..” وأضافت قائلةً : ”  ولكلٍ منهم أُسلوبه فى التعبير عن هذا الموقف ..”  وأعربت عن اعتقادها بأن الولايات المتحدة لديها الآن ” كل التعاون الذى تحتاج إليه بوجهٍ عام …” ([79]) .

يبدو أن إدراك الولايات المتحدة الأمريكية لموقف القيادات العربية قد انبنى على مصادرٌ تختلف عن مجرد تصريحات تلك القيادات كمصدرٍ نعتمد عليه فى بناء إدراكنا لمواقفهم . وإلا فمن أين جاءت أولبرايت بهذه التصريحات ، التى ينبغى ألا تكون إدعاءات .

[3] ـ موقف الدول الإسلامية غير العربية فى منظمة المؤتمر الإسلامى: خلال زيارته للقاهرة فى9/2/1998م ، أكد عز الدين العراقى الأمين العام لمنظمة المؤتمر الإسلامى ، أن المنظمة ” .إذ  تؤكد على ضرورة أن يمتثل العراق للقرارات الدولية الصادرة عن مجلس الأمن ، فإنها تسعى جاهدة للحيلولة دون تعرض العراق لضربة عسكرية ([80]).

إيــــران : أعلنت الحكومة الإيرانية منذ بداية الأزمة رفض إيران لضرب العراق . وقال كمال خرَّازى ، وزير الخارجية الإيرانى ، أن بلاده ” تطالب العراق بالالتزام بالقرارات الدولية ، ولكننا نعارض بشدة أى عمل عسكرى ضد العراق ([81]) ” .فى نفس الوقت ، صرح مصطفى سرمد ، نائب وزير الخارجية ، بأن إيران تناشد العراق أن يلتزم بالقرارات الدولية ” حتى لا تتخذها الولايات المتحدة ذريعة لضرب العراق ” ، وحذر سرمد من أن الولايات المتحدة ” تتخذ من قرارات مجلس الأمن الدولى ذريعة لتحقيق أهداف غير معلنة ([82]) .” .

وفى إطار الجهود الدبلوماسية التى بذلتها الخارجية الإيرانية فى هذا الصدد ، ذكرت وكالة الأنباء الروسية ( إيتار تاس ) أن :  ” اتصالات هاتفية مستمرة تجرى بين بريماكوف وزير الخارجية الروسي ونظيره الإيرانى كمال خرَّازى ، فى إطار الجهود المكثفة للتنسيق بين البلدين بهدف الحيلولة دون استخدام القوة العسكرية ضد العراق([83])” .

فى باكستان : أعلنت الحكومة رفضها لتوجيه ضربة عسكرية للعراق ، وفى تصريح له قال نواز شريف رئيس الوزراء الباكستانى : ” إنه من الضرورى إيجاد حل دبلوماسي للأزمة ” وأن بلاده ” تؤيد الجهود الروسية التى تسعى إلى الوصول لتسوية سلمية ([84]) .

[3] ـ إســرائيل والأزمة العراقية .

المعروف أن اللجنة الدولية المكلفة بنزع أسلحة الدمار الشامل فى العراق ، تعتمد فى مصادر معلوماتها ، على أقمار التجسس الإسرائيلية ، و قد كانت إسرائيل حاضرة فى قلب الأحداث منذ الدقائق الأُولى من عمر الأزمة ، فما إن أعلنت الولايات المتحدة الأمريكية عن أنها ستلجأ إلى الخيار العسكرى ضد العراق ، حتى بدأت إسرائيل فى التهويل من شأن القدرات العسكرية العراقية ، وفى خطاب ألقاه إسحاق موردخاى وزير الدفاع الإسرائيلى أمام الطلاب والأكاديميين فى جامعة ” بار إيلان ” ، قال فيها : ” ولا يوجد أدنى شكٍ لدينا فى أن العراق يمتلك كميات كبيرة من أسلحة الدمار الشامل لكن أحداً لا يعلم كم، أو أين.([85])” .

وكانت إسرائيل تعملُ على الإيحاء بأن تحالفاً يضم العراق وإيران وسوريا سوف يظهر فى هذا الوقت ، و فى هذا السياق تُعلن إسرائيل عن ” تطوعها ” بتوفير معلومات أقمار التجسس الاسرائيلية للأتراك ، وتتعهد ” بحماية أنقرة من التهديدات المحتملة من إيران وسوريا والعراق([86]).

فى نفس الوقت ، كانت إسرائيل تنسق مع الولايات المتحدة الأمريكية ، كافة المسائل العسكرية المرتبطة بالضربة العسكرية المزمعة ضد العراق وفى صورة مكشوفةٍ بشكلٍ فج . فى هذا السياق ، وعقب اجتماعٍ دار بين وليم كوهين وزير الدفاع الأمريكى و إسحق موردخاى وزير الدفاع الإسرائيلى ، صرح موردخاى بالقول : ” إن إسرائيل تحتفظ بحق الرد إذا تعرضت لهجوم عراقى ” ، و فى رسالةٍ لطمأنة الإسرائيليين ، قال : ” إن إحتمال تعرض إسرائيل لمثل هذا الهجوم ضئيل ، موضحاً أن إسرائيل والولايات المتحدة ” يُنسقان خُطواتهما بشكلٍ كامل” وأن الجيش الإسرائيلى ” يتخذ الاجراءات المناسبة ، و يتابع الموقف وما يستجد من تطورات ” .([87])

إن أبلغ دليلٍ على عمق الرابطة بين الولايات المتحدة وإسرائيل ، أن يصل الأمر إلى حد التنسيق الثنائى بينهما فيما يتعلقُ بمصير دولةٍ هو مطروحٌ أمام ضمير ” المجتمع الدولى ” وفى الوقت الذى يستنكر العالم فيه موقف الولايات المتحدة ، يُصرح كوهين فى إسرائيل بقوله ” أن الولايات المتحدة ستحيط إسرائيل علماً بموعد الضربة العسكرية  ([88])” . ويُبلغ موردخاى كوهين بـ ” رغبة إسرائيل فى أن تؤجل الولايات المتحدة موعد الضربة العسكرية ضد العراق ، حتى تُتم إسرائيل إستعداداتها .” ؟!!.

فى العاصمة الأردنية عمّان ، ذكر دبلوماسيون غربيون أن العراق قد بعث برسالة إلى إسرائيل عبر موسكو بتاريخ 9/2/1998م ، التزم فيها بعدم التعرض لدولة إسرائيل بعملٍ عسكرىٍ ، مؤكداً أن ” العراق ليس لديه الرغبة أو الإمكانات للقيام ، بمهاجمة إسرائيل ([89]) ” . ويبدو أن هذا النبأ صحيح ، ذلك لأن المعلومات الإسرائيلية “المؤكَّدة ” حول امتلاك العراق لأسلحة الدمار الشامل ، والتى تهدد إسرائيل ، قد أصابها تغيير جذرى عقب هذا الخبر . ففى تصريحٍ له خلال جولته الأوربية ، وصف رئيس الوزراء الإسرائيلى بنيامين نتانياهو التقارير التى تتحدث عن أسلحة العراق وتحالفاته التى تهدد إسرائيل بأنها : ” تقاريرٌ مبالغٌ فيها كثيراً ([90])

بالطبع يمكن تفهم الموقفين الإسرئيلى والعراقى من خلال علاقتهما بروسيا ، فالعراق يحتاج أن يستمر الدعم السياسى الروسى له ، ولا مانع من الاستجابة لمطلب روسى بطمأنة إسرائيل لإخراجها ـ نسبياً ـ من حيز الذرائع الأمريكية .

على الجانب الآخر ، إسرائيل مُصابةٌ بالذعر الشديد من تنامى القوة العسكرية الإيرانية ، خاصةُ ما يتعلق بالأسلحة النووية والصواريخ الباليستية ، وهى تُجرى اتصالاتٍ وتمارس ضغوطاً على الحكومة الروسية منذ فترة طويلة ، بهدف وقف التعاون الروسي / الإيرانى فى هذا المجال .

رابعاً : إنتهاء الأزمة : نجاح بوساطة كوفى عنان

(1) ـ حول الاتفاق : النص ومدلولاته .

أمام إصرار القوى الدولية ـ خاصة روسيا و فرنسا و الصين ـ على رفض توجيه ضربة عسكرية ضد العراق ، ومع تزايد مطالب المجتمع الدولى بدور للأمم المتحدة فى تسوية الأزمة ، قام الأمين العام للأمم المتحدة ، كوفى عنان ، بزيارة للعراق ، وبعد اجتماعات عديدة له مع القيادات العراقية ، تم التوصل إلى إتفاق بين الأمم المتحدة والعراق ، يُنهى الأزمة التى استمرت منذ 26/11/1997م وحتى 24/2/1998م. حمل الإتفاق اسم ” مذكرة التفاهم بين الأمم المتحدة و جمهورية العراق ” ، و مما جاء فى هذا الإتفاق ([91]) ، الذى ينقسم إلى سبعة بنود رئيسية :

أ ـ تؤكد حكومة العراق من جديد موافقتها على جميع قرارات مجلس الأمن الدولى ذات الصلة ، وتؤكد حكومة العراق مجدداً إلتزامها بالتعاون الكامل مع لجنة الأمم المتحدة الخاصة “يونسكوم ” ومع الوكالة الدولية للطاقة الذرية .

ب ـ تؤكد الأمم المتحدة من جديد إلتزام كل الدول الأعضاء فيها باحترام سيادة العراق ووحدة أراضيه .

ج ـ تتعهد حكومة العراق بالسماح بدخول لجنة يونسكوم والوكالة الدولية للطاقة الذرية ـ فوراً وبحرية ومن دون شروط أو قيود ـ طبقاً للقرارين الواردين فى الفقرة الأولى .. و تتعهد ” يونسكوم ” ، فى إطار تنفيذ الولاية الموكلة إليها بموجب قرارات مجلس الأمن ، باحترام حرص العراق الشرعى على أمنه القومى وسيادته وكرامته .

د ـ تتفق الأمم المتحدة والعراق على أن تطبق إجراءات خاصة ، معينة فى الاتفاق ، على مهمة الدخول الأولى ، و ما يليها من مهمات ، فى المواقع الرئاسية الثمانية فى العراق والمحددة فى ملف هذه المذكرة

ه ـ تتفق الأمم المتحدة و حكومة العراق على خضوع كل المناطق والمنشآت والتجهيزات والملفات ووسائل النقل الأخرى للإجراءات المتبعة حتى الآن من جانب “يونسكوم”

و ـ نظراً إلى التقدم الذى أحرزته  يونسكوم فى جوانب مختلفة من نزع السلاح فى العراق ، والحاجة إلى تكثيف الجهود لإنجاز مهمتها ، تتفق الأمم المتحدة و حكومة العراق على تحسين التعاون وفعالية العمل وشفافيته ، للسماح برفع تقرير سريع إلى مجلس الأمن الدولى بموجب الفقرة 22 من القرار (687) لسنة 1991م ، ولتحقيق هذا الهدف ، تطبق حكومة العراق و” يونسكوم ” التوصيات الواردة فى تقرير الجلسة الطارئة لـ “يونسكوم ” فى 21/11/1997م .

ح ـ من الواضح أن رفع العقوبات يُشكل أهمية قصوى لشعب العراق وحكومته ، ويتعهد الأمين العام للأمم المتحدة بأن يلفت  الانتباه الكامل لأعضاء مجلس الأمن الدولى إلى هذه المسألة .

(2) ردود الفعل الدولية حول الإتفاق :

رأى الكثيرون من المراقبين والمحللين السياسيين أن هذا الاتفاق قد أدى إلى كسر العزلة الدولية المفروضة على الرئيس العراقى صدام حسين ، لكنه فى ذات الوقت ، أفقد النظام العراقى قدرته على المناورة السياسية فيما يتعلق بقضية التفتيش على أسلحة الدمار الشامل العراقية ، لأن عدم التزام العراق بتنفيذ الاتفاق سيؤدى مباشرة إلى تعرضه لضربة عسكرية توافر لها الآن الغطاء الشرعى الذى كانت تفتقده الولايات المتحدة قبل إبرام هذا الإتفاق .

أ ـ الولايات المتحدة الأمريكية :

قبيل إنتهاء الأزمة ، كانت الإدارة الأمريكية واقعةٌ فى حرجٍ شديد ، ذلك لأنها تشعر أن سياساتها الخارجية قد فشلت فشلاً ذريعاً فى حشد التأييد اللازم لتوجيه ضربة عسكرية للعراق ، فى الوقت الذى بدا وكأن الولايات المتحدة تقوم بدور الشرير إزاء الشعب العراقى ، فضلاً عن القيود التى تحكم سلوكها العسكرى تجاه العراق ، فمشاركة الجنود الأمريكيين فى حرب ، فضلاً عن التكلفة الاقتصادية لمثل تلك الحرب ، كلها أمور تقع فى صلب اهتمامات الرأى العام الأمريكى ، لذلك يمكن القول أن الولايات المتحدة حققت العديد من المكاسب عبر هذا الإتفاق :([92])

تستطيع الولايات المتحدة أن تقول إن القصور فتحت للتفتيش ، وكانت تطالب بذلك ، و تستطيع أن تقول إن هذه أول مرة يتحقق فيها تفتيش شامل فى العراق . كما أن الولايات المتحدة تفادت مخاطر التورط فى عمل عسكرى مكلف لها على المستويين الداخلى والخارجى ، إذ لم يكن لديها تأييد داخلى عام ، و كانت تلقى معارضة شديدة على المستوى الخارجى . و حققت الولايات المتحدة ما أرادته من إعادة تأكيد التزام العراق بقرارات مجلس الأمن الدولية .

لذلك ، فى الولايات المتحدة ، وعلى المستوى الرسمى ، قُوبل الاتفاق بقبول المُرغَمُ الحذر : فقد رحب الرئيس الأمريكى بل كلنتون بالاتفاقية ، لكنه حذر العراق من مغبة عدم الالتزام بما جاء فيها . و أشار كلينتون إلى أهمية استمرار الحشود العسكرية الأمريكية فى منطقة الخليج ، من أجل التحقق من أن العراق سيلتزم بتعهداته ، وقال : ” ..إن عدم التزام العراق سيمنح الولايات المتحدة الحق فى القيام منفردة بالرد عليه فى الزمان والمكان والطريقة التى تختارها ([93]) ..” . وعملت الإدارة الأمريكية على تأكيد هذا المعنى من خلال القرار الذى أصدره مجلس الأمن بعد ذلك.

وقد أبدى عدد من أعضاء الكونجرس الأمريكى قلقهم إزاء ما وصفوه بـ ” ..غموض بعض جوانب الصفقة التى أبرمها عنان مع بغداد ..” ، و قال السيناتور جيمس هيلمز ، رئيس لجنة العلاقات الخارجية فى مجلس الشيوخ ، :  ” إن الإتفاقية قد وضعت الولايات المتحدة فى موقف حرج ، فإما أن تقبل الاتفاقية ، أو توصف بأنها الجانب الشرير الذى يرفض السلام ويفضل الحرب .” ([94]) .

ب ـ العــــراق :

فى بغداد ، أكد طارق عزيز نائب رئيس الوزراء العراقى ، أن الإتفاق مكسبٌ كبير للعراق ، ويمكن أن يؤدى إلى رفع العقوبات المفروضة عليه ، و أشار إلى أن ” بغداد لم تقع تحت ضغط الحشود العسكرية الأمريكية .”([95]) والواقع أن العراق حقق بالفعل العديد من المكاسب من خلال هذا الإتفاق ، و ذلك لأن :

1ـ العراق تفادى مواجهة عسكرية مع الحشود الأمريكية الضخمة فى الخليج ، وهو ما لم يكن قادراً على مواجهته أو تحمل نتائجه .

2ـ النظام العراقى نجح فى أن ينقل خلافاته من مستوى اللجنة الخاصة إلى مستوىً أعلى ، بأن يكون تفاهمه مباشرةً مع الأمين العام للأمم المتحدة . كما أن تشكيل اللجنة ، بمقتضى الاتفاقية ، أصبح يشمل دبلوماسيين ، وهو ما لم يكن متاحاً من قبل .

3ـ صحيحٌ أن النظام العراقى قد سلَّم بالتفتيش على كافة المناطق ، محل النزاع ، دون قيودٍ أو شروط ، و لكن ذلك قد تم وفق إجراءات معينة تراعى كرامة العراق وسيادته الوطنية ، فضلاً عن تعهد الأمين العام بأن يولى مسألة رفع العقوبات عن العراق أهميةً خاصة .

ج ـ رد الفعل العربى :

جاءت ردود الفعل العربية مُرحبةً بالاتفاقية ، وأعلنت كافة الحكومات ارتياحها لتسوية الأزمة على هذا النحو ، ووجهت نداءاتٍ وتحذيرات إلى النظام العراقى ، طالبته من خلالها بالالتزام بما جاء فى الإتفاق .

د ـ القوى الدولية المهتمة بالأزمة :

رحبت الدول دائمة العضوية فى مجلس الأمن ، فرنسا وروسيا وبريطانيا والصين ، بالاتفاق الموقع بين العراق والأمم المتحدة ، كما أيدوا مشروع القرار الذى تقدمت به الولايات المتحدة إلى مجلس الأمن ، والذى يُطالب العراق بتنفيذ الاتفاق و يُحذره من مغبة عدم الالتزام بتعهداته .

و قد أقر مجلس الأمن ذلك الاتفاق ولكن تبقى علامات استفهام تتعلق بتفصيلاتٍ دقيقةٍ لكنها هامة وردت أو غابت عن نصوص الاتفاقية مثل : ما هى القواعد الخاصة التى ستُتبع عند تفتيش القصور ؟ ومن الذى سيضع تلك القواعد ؟ ولماذا تختلف عن قواعد التفتيش فى المواقع العادية ؟ وهل ستشمل أى تحديد زمنى ، أو تحديد لعدد مرات زيارتها ؟ وكلها أسئلة لا يُجيب عليها الإتفاق .

حول الموقف الروسى :

خلال الأزمة التى نشبت بين العراق والولايات المتحدة ، والتى استمرت من أكتوبر 1997م وحتى نهاية فبراير 1998م ، كانت روسيا هى الرصيد الأكثر فعالية بالنسبة لنشاطات الدبلوماسية العراقية ، وظل الموقف الروسى هو الأكثر قوةً وثباتاً على مساندة العراق ، وعبرت تصريحات المسئولين الروس عن عمق الإحساس الروسى بخطورة الأسلوب الأمريكى فى التعامل مع العراق ، وفيما يتعلق بالعراق ، تطابقت جميع المواقف فى روسيا : الحكومة والمعارضة والرأى العام.

إن الذى حرك موسكو هو المصالح المادية بالأساس ، دون إغفال الاعتبارات الاستراتيجية ، كما أن هذا الموقف لا يزال يمثل أمل العراق مستقبلاً فى موازنة الموقف الأمريكى ، لكن السؤال هو : إلى أى مدى يمكن أن يقدم العراق عناصر جذب للمساندة الروسية باعتباره مصلحةً تهم روسيا ؟ و إلى أى مدى يمكن لروسيا أن تقدم هذه المساندة؟.

إن العراق مدين لروسيا بما قيمته ( 6,8 مليار دولار ) ، و لأن روسيا لا تعتقد أنها ستسترد هذا الدين فى الوقت الراهن ، فإن الأهم لديها هـو سعيها إلى تنفيذ عقود     ( وقِّعت بالفعل ) مع بغداد قيمتها الإجمالية ( 10,2 مليار دولار ) ، وهى عقود ينتظر تنفيذها قرار من مجلس الأمن بإلغاء العقوبات الاقتصادية المفروضة على العراق ([96]) . و لإدراك مدى ما تمثله هذه التعاقدات النفطية من إغراء للاقتصاد الروسى ، يكفى ذكر اتفاق استثمار حقل بترول ” غرب القرنة ـ 2 ” وهى الاتفاقية الأولى ، والوحيدة من نوعها التى يعقدها أى بلد بترولى على أساس ” اقتسام الإنتاج ” . وهناك بالفعل ثلاث شركات روسية بدأت فى شراء النفط العراقى بموجب القرار 986 ، فإذا أضفنا تلك العقود التى أبرمتها الحكومة العراقية مع روسيا ( قبيل الأزمة الماضية ) ، سنجد أن عدد شركات النفط الروسية الكبرى المتعاملة مع العراق قد ارتفع إلى عشر شركات من مختلف المناطق الروسية ([97]).

وإلى جانب علاقاتها مع بغداد ، تسعى روسيا إلى توثيق علاقاتها مع البلدان الخليجية ، التى أخذ موقف أغلبها فى التحول إلى الدعوة لرفع الحصار عن العراق ، ورفض ضربها عسكرياً .

بذلك يمكن تفهم حالة الوفاق التى سادت المواقف الداخلية فى روسيا ، بالنسبة لموقف روسيا من أزمة العراق والتى تمثل بدورها نجاحاً ليلتسين فى توظيف ورقة العراق النفطية فى سياساته الداخلية ، حيث تمكن من الحصول على إجماع داخلى حول المخاطر التى تهدد المصالح الروسية إذا ما أقدمت الولايات المتحدة على ضرب العراق عسكرياً . وإذا كان الموقف الروسى مركزه مصالح اقتصادية ، إلا أن اعتبارات استراتيجية أخرى كانت حاضرة  ، و يمكن قراءتها من المواقف التالية :

1ـ القومى المتطرف ” فلاديمير جيرنيوفسكى ” طالب بمجابهة مع الولايات المتحدة ، وبإرسال سفن عسكرية روسية إلى مياه الخليج ، وتحدث عن مخططات أمريكية هدفها ” وصول أمريكا إلى القوقاز الإسلامى ودفع تركيا إلى احتلال آسيا الوسطى ، وتشكيل دولة طورانية تضم 120 مليون ناطق بالتركية ” ([98]) .

2-اعتمد الشيوعيون الروس خطاباً مماثلاً ، لكن أقل حدة ، وعاودوا الحديث عن الامبريالية و الاستعمار ، وهاجموا الموقف الأمريكى من الشعب العراقى ، لكنهم امتنعوا عن الدعم المطلق للنظام العراقى ، بعد أن انتقدهم شيوعيو العراق المعادون للنظام العراقى .

3-العسكريون الروس لهم دور مهم فى صياغة المواقف الروسية ، وهم يرون أن الوجود العسكرى الأمريكى فى الخليج ، خطر يهدد روسيا ، ويتزايد تهديده بفعل التحالف العسكرى التركى / الإسرائيلى ، باعتباره رأس حربة موجهة نحو ” الخاصرة الجنوبية الضعيفة لروسيا فى منطقة القوقاز ” وينادى العسكريون الروس بإيجاد مرتكزات جديدة فى المنطقة تُعيد إلى روسيا جزءاً من مواقعها المُضاعة ، ومن هذا المنطلق فإنهم يرون فى العراق شريكاً مستقبلياً لهم .

4-قرأ الكرملين جيداً الموقف الغربى من روسيا ، وسادت لديه قناعة بما لروسيا من مصالح فى العراق ، فبارك جهود الحكومة ، خاصة وزير الخارجية بريماكوف ، فى التعامل مع الأزمة العراقية.

وإذا كانت الاعتبارات السابقة تفسر الموقف الروسى المساند لشعب العراق إلا أنه يوجد للعملة وجهها الآخر ، فقد عملت روسيا على تسويق الحل الدبلوماسى الذى توصل إليه عنان مع العراق ، على أنه اقتراح روسى وُضع له غطاء دولى بهدف عدم إحراج واشنطون ، التى ترفض أن تكون موسكو طرفاً وسيطاً فى الأزمة ، ولكن الموقف الروسى من العراق كان له بعداً آخر ، حيث تحرص روسيا على استمرار النظام العراقى القائم ، وقد صرح مسئول روسى كبير قائلاً :”لا أحد يضمن لنا تنفيذ العقود المبرمة، أو عقد صفقات جديدة، فى حال تغيّر الحكم فى بغداد([99]).

على الجانب الآخر ، ورغم قوة المصالح والاعتبارات التى تدفع روسيا لمساندة العراق ، إلا أن روسيا أيضاً لا تريد أن تخسر واشنطون ، فرغم المشكلات التى تواجه روسيا فيما يتعلق بالمساعدات الغربية ، إلا أن الدعم الغربى ، خاصة الأمريكى ، يبقى عاملاً حاسماً فى الحسابات التنموية الروسية ، خاصة فى ظل تداعيات الأزمة السياسية التى تشهدها روسيا منذ أوائل صيف عام 1998م . من هنا تقف روسيا موقفاً متوازناً إزاء الأزمة فى العراق والعلاقات العراقية الأمريكية ، فترفض باتزان ، و تتدخل وإحدى عينيها تراقب الوجه الأمريكى .

و لكن : فى ظل الأزمات السياسية والاقتصادية التى تشهدها روسيا ، مع قيام العراق بتصعيد التوتر فى علاقاته بمجلس الأمن ، ما هى حدود قوة المساندة الروسية للعراق ؟ ، خاصةً وأن الأزمة نتجت عن التمديد المستمر للعقوبات ، وعدم الاستجابة لمطالب العراق بالنظر فى شكوكه فى نزاهة أعضاء لجنة التفتيش .

لقد وافق صندوق النقد الدولى ، بضغط من الولايات المتحدة ، على منح روسيا قرضاً قيمته 14 مليار دولار ، وتسلمت روسيا بالفعل جزءاً منه قيمته 3,8 مليار دولار ([100]) ، فهل كان ذلك ثمناً قدمته الولايات المتحدة مقابل عدم معارضة روسيا لقرارات تمديد العقوبات التى اتخذها مجلس الأمن ضد العراق لاحقاً ؟ ، هذا ما سيتضح من خلال مستوى المساندة الروسية للعراق خلال الأزمة التالية ، بالمقارنة بموقفها السابق .

( الجزء الثالث )

العراق و العقوبات الدولية :

ما بعد توقيع الاتفاق

أزمة القرار العراقى بوقف التعاون مع اللجنة الدولية أغسطس 1998م

مسلسل الأزمات التى نشبت بين العراق من جهة، ومجلس الأمن والولايات المتحدة من جهة أخرى، والتى استمرت أربعة أشهر، إنتهى بتوقيع إتفاق بين العراق والأمم المتحدة فى 25 فبراير 1998م، ثم حوله مجلس الأمن إلى قرار دولى جـديد ( رقم 1154 )، وذلك بإجماع الآراء، ودون تدخل الفيتو الأمريكى، والذى حال دونه ذات العوامل التى منعت عن العراق ضربةٌ عسكرية أمريكية وهى :

1-الضغط المكثف من قبل القطاعات غير الرسمية فى المجتمع الدولى .

2-ضغوط القوى الكبرى وإصرارها على عدم استخدام القوة العسكرية ضد العراق .

3-المناورات السياسية الناجحة، والمرونة الدبلوماسية، التى أبدتها العراق تجاوباً مع القوى الكبرى المساندة لموقفها والرافضة للخيار العسكرى .

4-عدم قدرة الولايات المتحدة على تنفيذ عملية ” رعد الصحراء ” بالمستوى الذى كانت ترجوه، وذلك فى ضوء الاعتبارات السابقة، وكذلك فى ضوء تبلور معارضة عربية قوية وواضحة ضد توجيه عمل عسكرى إلى العراق، وقد تفاوتت الآراء حول تقييم وزن هذه المعارضة العربية، بالمقارنة بالعوامل الأخرى التى حالت دون توجيه الضربة العسكرية .

وبالرغم من مناخ الارتياح الذى صاحب الإعلان عن توقيع مذكرة التفاهم، إلا أن قابليات التوتر ظلت كامنة فى سياق العلاقة بين العراق والأمم المتحدة، فمن ناحية أولى : استمر التهديد باستخدام القوة، ورغم صدور القرار 1154، وتوقف تيار التصعيد ونزع فتيل الأزمة، إلا أن الولايات المتحدة احتفظت لنفسها بحق التحرك العسكرى ضد العراق، فخلال انعقاد مجلس الأمن، دار خلاف بين أعضائه حول تعبيرات ثلاث : أنه فى حالة عدم التزام العراق بالاتفاق، فسوف يلقى ” عواقب وخيمة ” أم ” عواقب وخيمة جداً ” أم ” أوخم العواقب “، وانتهى المجلس إلى اعتماد التعبير الأخير، والذى اعتبرته الولايات المتحدة تخويلاً لها باستخدام القوة العسكرية، وأيدتها بريطانيا فى هذا التفسير ([101])  . أما روسيا والصين وفرنسا، فقد اعترضوا على هذا التفسير، وأكدوا على حق مجلس الأمن فى مناقشة ما يستجد من أمور، خصوصاً تلك التى تستدعى استخدام القوة . وقد أعلن المتحدث باسم البيت الأبيض موافقة الولايات المتحدة على التشاور مع أعضاء مجلس الأمن قبل توجيه ضربة عسكرية إلى العراق، وعبرت تصريحات الأمين العام للأمم المتحدة عن انحيازه للتفسير الأمريكى بقوله ” إذا حدث هذا الموقف فلن يكون هناك فرصةٌ أخرى لجولة دبلوماسية ” .

ومن ناحية أخرى: فإن قرار مجلس الأمن جاء غامضاً، فلقد حدد القرار رقم 1154 مجموعة من ” الخطوط الحمراء “، التى تتعلق بأعمال التفتيش ومصادر المعلومات وأدوار الهيئات المعنية بالقضية العراقية، غير أن القرار لم يحدد جهة الاختصاص فى الفصل بين الأطراف عند تجاوز تلك الخطوط، ومن ثم يبقى القرار محملاً بالغموض العمدى، فالتجربة تؤكد أن الاتفاقات والقرارات ذات الصبغة القانونية تكون فى الغالب مصاغة فى شكل مفصل يغطى كافة الجزئيات، أما تلك القرارات التى تنطوى على غموض، فإنما يُراد بها تغطية تراجع محتمل، أو ترك مساحة تسمح للأطراف بالحوار، أو إخفاء النيات ، وهو ما أثار جملة من التساؤلات :

ما الذى ستكشف عنه الشهور التالية لصدور القرار ؟ . كيف سيتم اختبار مواقف القوى الكبرى والنظام العراقى، من حيث الأهداف و التعامل مع الاتفاق ؟ . ما هو مستقبل الشعب العراقى فى ظل المناورات القائمة بين النظام العراقى من جهة، والولايات المتحدة ومجلس الأمن من جهة أخرى ؟ نحاول التعرف على إجابة لتلك التساؤلات من خلال واقع خبرة التعامل بين العراق واللجنة الدولية الخاصة، والتى تتم فى إطار الاتفاق الذى وقعه كوفى عنان مع العراق، وتنقسم إلى مرحلتين :

المرحلة الأولى : وهى الفترة ما بين تاريخ توقيع الاتفاق واستئناف اللجنة أعمالها فى أول مارس 1998م، حتى قرار العراق بتجميد تعاونه مع اللجنة الخاصة فى 5 أغسطس من نفس العام .

المرحلة الثانية : حالة التوتر بين العراق والأمم المتحدة، وتوقف أعمال التفتيش ابتداءً من 7 أغسطس 1998م حتى انتهاء الأزمة فى 12/11/1998م .

و نتعرض لهاتين المرحلتين بتتبع مواقف الأطراف المختلفة على مستويين :

أولاً :مستوى العلاقة بين العراق ومجلس الأمن، حيث نتتبع تقارير اللجنة الخاصة، و تأثيرها على قرارات مجلس الأمن بشأن ملفات الأسلحة غير التقليدية ومن ثم الموقف من قضية رفع العقوبات عن العراق .

ثانياً : العلاقات العراقية ـ الأمريكية والدور الذى تقوم به الولايات المتحدة وبريطانيا من خلال مجلس الأمن، أو من خلال الجهود السياسية الرامية إلى الإبقاء على العقوبات المفروضة على العراق .

و المناورات السياسية والدبلوماسية التى يقوم بها النظام العراقى بهدف حشد المجتمع الدولى لصالح رفع العقوبات، ومدى نجاح هذه المناورات على المستويين الإقليمى والدولى .

و أخيراً نتعرض للشكل الذى آلت إليه الأوضاع الداخلية فى العراق، حالة الشعب العراقى فى ظل الحصار الاقتصادى الطويل، ومدى تأثير اتفاق النفط مقابل الغذاء فى تخفيف حدة الكارثة، و مواقف القوى والمؤسسات غير الرسمية فى العالم من هذا الوضع .

أولاً :المرحلة الأولى :

اختبار الاتفاق واستمرار أعمال اللجنة الدولية 24/2/1998م ـ 7/8/1998م

حصل العراق على وعود من الأمين العام للأمم المتحدة بحسم قضية التفتيش والنظر فى مسألة رفع العقوبات، وذلك فى إطار الاتفاق الذى جرى فى فبراير الماضى، ومن جانبه، فتح العراق جميع المواقع التى أصرت لجنة التفتيش على دخولها، ومع اقتراب موعد المراجعة نصف السنوية، سعى العراق إلى حشد القوى المساندة لموقفه، من أجل الضغط واستصدار قرار من مجلس الأمن، لرفع العقوبات الاقتصادية المفروضة عليه، باعتبار أنه أوفى بالتزاماته . فقبيل موعد المراجعة، وفى اجتماع لمجلس قيادة الثورة وحزب البعث، برئاسة صدام حسين فى 16 أبريل 1998م، أصدر المجلس بياناً طالب فيه مجلس الأمن أن يبحث فى اجتماعه المقبل رفع الحصار عن العراق، وأكد البيان وفاء العراق بكل التزاماته ([102]) .

إلا أن الأمر برمته كان يتوقف على تقارير اللجنة الخاصة و الوكالة الدولية للطاقة الذرية، وهذه التقارير تتوقف بدورها على حكم أعضائها على مصداقية المعلومات التى يقدمها العراق حول أسلحته و برامجه، وهذه المعلومات كانت دائماً المدخل الذى يستغله بتلر وأعضاء لجنته لإنكار تعاون العراق من خلال التشكيك فى صحتها، ومن ثم لا يقرر مجلس الأمن رفع العقوبات عن العراق، وهلم جراً .

فى الولايات المتحدة : صرح مارتن إنديك مساعد وزير الخارجية بأن العراق لم يغير سياساته منذ حرب الخليج الثانية، وأنها لاتزال تمتلك أسلحة دمار شامل، كما أكد بل ريتشارد سون، مندوب الولايات المتحدة الدائم فى مجلس الأمن، أنه لن يتم رفع العقوبات عن العراق لأن تقرير اللجنة الدولية لا يسمح بذلك ([103]) . كما صرح السير جون وستون، مندوب بريطانيا الدائم فى مجلس الأمن، بأن تقرير اللجنة الدولية هو المحرك الفعلى لقرارات المجلس، وأن التقرير لا يساعد على مناقشة قضية رفع العقوبات، وأنه ” لن يتم المساس بالعقوبات الدولية المفروضة على العراق ” ([104]) .

وإذا كان إغلاق الملف النووى العراقى يمثل الحد الأدنى الذى يطالب به العراق، و كثيرٌ من قوى المجتمع الدولى، باعتباره خطوة أولى لإنهاء الأزمة العراقية، فإنه وقبيل اجتماع المراجعة نصف السنوية، تقدمت روسيا بمشروع قرار ليناقشه مجلس الأمن بشأن الملف النووى العراقى، ويدعو مشروع القرار، فى ضوء عمل الوكالة الدولية للطاقة الذرية، إلى تنفيذ الفقرتين 12 و 13 من قرار مجلس الأمن رقم 687، والذى يُرتب على إتمام عملية نزع أسلحة الدمار الشامل العراقية، إنهاء أعمال التفتيش المتعلقة بالأسلحة النووية، و الانتقال إلى مستوى الرقابة طويلة الأمد ” مع إدراك أن النشاطات النووية للعراق سوف تستمر موضوعاً للرصد والتحقيق المستمرين وفقاً للقرار715  ” ([105]) .

و رغم أن العراق لم يقتنع بالمشروع الروسى، واعتبره غير كافي، إلا أن الولايات المتحدة وبريطانيا، ومع تسليمهما بأن العراق حقق بعض التقدم فيما يتعلق بالملف النووى، إلا أنهما رأيا أن هناك المزيد من التقدم المطلوب فى نواحٍ تتعلق بالتصميمات و الصادرات النووية وتخصيب اليورانيوم، حيث لا تزال هناك أشياء يخفيها العراق ([106]) . وقد أكدت مصادر دبلوماسية مطلعة أن خلافاً دار بين كلٍ من الولايات المتحدة و بريطانيا من جهة، وبين روسيا والصين وفرنسا من جهة أخرى، حول تقرير اللجنة الدولية، خاصة فيما يتعلق بالتعاون العراقى فى مجال نزع أسلحته النووية ([107]) .

(1) ـ تقرير اللجنة الدولية .

و قرار مجلس الأمن تمديد العقوبات الدولية المفروضة على العراق .

أكد التقرير الذى رفعه ريتشارد بتلر، رئيس اللجنة الخاصة، إلى مجلس الأمن أنه نتيجة للأزمة التى نشبت بين العراق والأمم المتحدة، والتى استمرت أربعة أشهر، فإنه لم يتم عملياً التحقق من نزع أسلحة العراق، كما أن العراق يُخفى معلومات مطلوبة حول برامجه للأسلحة الكيماوية والبيولوجية . وبناءاً على هذا التقرير، أصدر مجلس الأمن فى اجتماعه يوم الإثنين 27 أبريل 1998م، قراراً بتمديد العقوبات المفروضة على العراق، استناداً إلى ما أفاده تقرير اللجنة من أن العراق ” لم يتعاون وأخفى المعلومات المطلوبة حول ما فى حوزته من أسلحة ومعدات وبرامج نووية وكيماوية وبيولوجية ” ([108]) .

و قد جاءت ردود فعل الكثيرين فى العالم لتعبر عن غضب شديد واستنكار حول التقرير وقرار مجلس الأمن، و تعرض ريتشارد بتلر وأعضاء لجنته لحملة انتقادات واسعة، ففى العراق انتقد طارق عزيز، نائب رئيس مجلس الوزراء، ريتشارد بتلر و العاملين معه، و قال إنهم لم يتوخوا الإنصاف فى تقريرهم، ووصف التقرير بأنه سياسى الطابع، وأنه يتضمن أكاذيب أملتها واشنطون  .

و فى القاهرة، انتقدت جامعة الدول العربية ريتشارد بتلر والتقرير الذى رفعه إلى مجلس الأمن، وأكدت الجامعة أن العراق التزم باتفاقه مع الأمم المتحدة، ووصف نبيل نجم، مندوب العراق الدائم لدى الجامعة العربية أن ما تقوم به اللجنة الدولية إنما هو أعمال مخابراتية لصالح الولايات المتحدة ([109]) .

(2) ـ تقارير اللجنة الدولية مايو-إلى أغسطس 1998م :بين الرأى الفنى و شبهة الإنحياز السياسى

(أ) تقرير اللجنة الدولية مايو 1998م :

بعد إنهاء زيارته إلى العراق، رفع ريتشارد بتلر تقريراً إلى مجلس الأمن أكد فيه من جديد أن العراق يُخفى أسرار برامجه العسكرية، وأنه لا يعطى المعلومات الصادقة التى تطلبها اللجنة الدولية الخاصة .

وقد وصف بل ريتشاردسون هذا التقرير بأنه يمثل ” ضربة ساحقة لمصداقية العراق ” وأن الوثائق التى قدمها بتلر تؤكد وجود ثغرات فيما أعلنه العراق بشأن أسلحته . فى نفس الوقت، انتقدت روسيا بشدة التقرير الذى قدمه بتلر، واتهمت بتلر بأنه يعطى أراء سياسية أكثر منها فنية فيما يقدمه من تقارير حول أسلحة العراق ([110]) .

( ب) تقرير اللجنة الدولية و الوكالة الدولية للطاقة الذرية يونية 1998م :

فى فيينا، أصدرت الوكالة الدولية للطاقة الذرية  تقريراً يوم 16/6/1998م، أكدت فيه مصداقية البيانات التى تقدمت بها السلطات العراقية حول برنامجها النووى، و خلو هذا البرنامج من الأنشطة العسكرية، وأفاد التقرير أن الوكالة تمكنت من تكوين صورة متكاملة عن البرنامج النووى العراقى تتطابق تماماً مع البيانات التى قدمها العراق فى سبتمبر 1995م  ([111]) .

و خلال زيارته للعراق أوائل يونية، صرح بتلر بقوله :” إننا أدركنا شعاعاً من نور فى نهاية النفق المظلم لأول مرة منذ عام 1991م ” و قال إنه لاحظ وجود ” روح جديدة من التعاون لدى المسئولين فى العراق ” وأدت هذه التصريحات إلى إشاعة روح التفاؤل التى بدت على المسئولين ووسائل الإعلام العراقية، كما اتفق بتلر وعزيز على برنامج عمل مدته شهرين، تقوم خلالهما العراق بكافة التسهيلات وتقدم كافة المعلومات التى تطلبها اللجنة، مقابل أن ترفع اللجنة تقريراً إلى مجلس الأمن فى نهاية البرنامج يفيد بالتعاون الكامل من جانب العراق، حتى يتسنى لمجلس الأمن مناقشة مسألة العقوبات ([112]) .

إلا أن الهجوم الأمريكى على لسان المتحدثين باسم البيت الأبيض والخارجية، الذين هاجما بتلر وشككا فى كلامه جعل بتلر يغير أقواله، فخلال وجوده فى استراليا، قال بتلر إن تصريحاته أسىء فهمها، و أن العراق غير متعاون، وليس صحيحاً أن مسألة رفع العقوبات سوف يُنظر فيها قريباً، وقال إن هناك خلافات بينه وبين طارق عزيز حول مطالب للجنة لا يريد العراق الوفاء بها ([113]) .وبنهاية شهر يونية، رفع بتلر تقريراً إلى مجلس الأمن، أكد خلاله أن العراق يمتلك رؤوساً حربية من صواريخ ” سكود ” محملةً بغاز الأعصاب ” فى إكس “، وهو غاز قاتل ومدمر، ويشكل تهديداً لأمن المنطقة ([114]) .

(3)  الملف الكيماوى و البيولوجى : محور الأزمة الجديدة :

فى فيينا، وفى حديثٍ أدلى به إلى صحيفة ” ستاندرد ” النمساوية، صرح الفريق عامر السعدى، مستشار الرئيس العراقى ورئيس فريق الخبراء العراقيين، بأن العراق أخفى برنامجه البيولوجى والكيماوى حتى عام 1995م، لكنه أكد أن جميع المواد اللازمة لانتاج الأسلحة الكيماوية و البيولوجية مثل ” الإنثراكس ” و” الإفلاتوكسيد ” قد تم تدميرها وإفناؤها عقب نهاية الحرب، و لكن العراق لم يتمكن من تقديم الدلائل الكافية على ذلك  ([115]) . وكانت مصادر الأمم المتحدة فى فيينا قد أعربت عن عدم قبولها للمعلومات التى أدلى بها فريق الخبراء العراقى عن البرنامج البيولوجى العراقى، ووصفوا تلك المعلومات بأنها مضللة، والجدير بالذكر أن فريق خبراء الأمم المتحدة الذى رفض المعلومات التى قدمها العراق فى ذلك الوقت، هو فريق محايد بالنظر إلى تكوينه من خبراء من 15 دولة بينهم ثلاثة دول أعضاء فى لجنة التفتيش .

و فى التقرير الذى رفعه بتلر إلى مجلس الأمن فى نهاية أبريل 1998م، ذكر فيه أن العراق ما يزال يُخفى معلومات تتعلق ببرنامجه للأسلحة الجرثومية . وفى التقرير الذى رفعه بتلر إلى مجلس الأمن فى 27/6/1998م، اتهم العراق بحيازة غاز الأعصاب ” فى إكس “، كما أن طارق عزيز رفض طلب اللجنة الدولية من العراق تسليمها وثيقة تعتقد اللجنة أنها تتضمن إحصاء دقيق للأسلحة الكيماوية والبيولوجية، باعتبار أن هذه الوثيقة ” تمس الأمن القومى العراقى” .

(المرحلة الثانية)

أزمة القرار العراقى وقف التعاون مع اللجنة الدولية:

7/8/1998م ـ 15/11/1998م

(1) السياق و ردود الأفعال :

جاء تراجع بتلر عن تصريحاته فى يونية الماضى استجابةً للضغوط الأمريكية، ثم التقرير الذى قدمه إلى مجلس الأمن متهماً العراق بحيازة غاز الأعصاب، ثم تصريحات تشارلز دولفر، مساعد رئيس اللجنة، بأن برنامج العمل المتفق عليه بين بتلر وعزيز لم يُسفر عن النتائج المرجوة، وأن العراق لم يُزود اللجنة بالوثائق المطلوبة، جاءت هذه العوامل لتكون بمثابة سحابة قلق وتوتر وتحفز، خيَّمت على روح العلاقات بين المسئولين العراقيين وأعضاء اللجنة الدولية .

وخلال المباحثات التى أجراها بتلر مع طارق عزيز فى يوليو، أثار بتلر مرة أخرى مسألة الوثيقة التى تعتقد اللجنة أنها تساعد فى تكوين صورة دقيقة حول برنامج العراق البيولوجى والكيماوى، ومرة أخرى جدد عزيز رفض العراق لهذا الطلب، وعقب المباحثات، اتهم عزيز فريق الأمم المتحدة بأن تصرفات أعضائه ” غير شريفة وبطيئة جداً “، وأن سياسة بتلر و فريقه ” لا تخدم إلا المصالح الأمريكية “، كما تصاعدت حدة انتقادات الإعلام العراقى لبتلر  ([116]) .

ثم رفض بتلر أن يفى باتفاقه الخاص بتقديم تقرير إلى مجلس الأمن يفيد بوفاء العراق بالتزاماته، وأصر على تمديد البرنامج خمسة أسابيع أخرى، وأمام إصرار الطرفين كلٍ على موقفه، قام ريتشارد بتلر بقطع زيارته للعراق، وفى 5 أغسطس  1998م أعلن الرئيس العراقى صدام حسين قرار العراق تجميد تعاونه مع اللجنة الدولية الخاصة  ([117]) .

و قد توالت ردود الأفعال حول القرار العراقى على النحو التالى :

فى العراق : استمر عمل اللجنة الدولية، رغم قرار التجميد أيام 5، 6، 7 أغسطس، إلا أنها توقفت بعد ذلك، واستمرت موجة الاتهامات العراقية لأعضاء فريق التفتيش، حيث اتهمتهم الصحف العراقية بالسقوط المهنى والأخلاقى، وأكدت على أهمية وجود موقف عربى صلب وواضح لرفع ما يقع على العراق من ظلم، ودعا العراقُ مجلس الأمن إلى أن يتحمل مسئولياته بأمانة، وقال أكرم الوترى، المستشار القانونى لوزير الخارجية العراقى، إن حرص مجلس الأمن على تقييد التسلح العراقى لا يستلزم بالضرورة قانوناً يُبقى على الحصار المفروض على العراق، ودعا المجلسَ إلى الفصل بين الأمرين، كما أكد الوترى حق العراق فى طلب تغيير بعض المفتشين الدوليين، إذا كان من بينهم عضو من دولة غير صديقة، وأشار إلى أن الولايات المتحدة أظهرت عداءها للشعب والحكومة العراقيين  ([118]) .

وفى الأمم المتحدة، أعلن ريتشارد بتلر أنه يعتقد أن العراق يعمل على عرقلة عمل الخبراء لأنهم على وشك اكتشاف شىء جديد يتعلق بأسلحة العراق البيولوجية المحظورة  ([119]) .

كما اعتبر مجلس الأمن أن قرار العراق بتجميد تعاونه مع اللجنة يفتقد الشرعية، وأن هذا السلوك يرفضه المجلس، ودعا العراق إلى التراجع عنه ([120]) . ولاحظ المسئولون فى الولايات المتحدة أن الرسائل التى بعث بها دانيال تورك، رئيس مجلس الأمن، إلى جهاز يونسكوم والوكالة الدولية للطاقة الذرية، ركزت على دعم عمل أجهزة التفتيش، وتفادت الصياغة أى تهديد باستخدام تعبير ” أوخم العواقب “، ولدى سؤال تورك لماذا : لم يمنح المجلس مهلة للعراق للتراجع عن قراره ؟ قال : إن الوقت ليس مناسباً لمثل هذه الرسالة القوية، وأن المجلس لم يصل بعد إلى المرحلة الحرجة التى يتبنى فيها إجراءات مشددة ضد العراق ([121]) .

وعقب رفض مجلس الأمن لهذا القرار، صرح كوفى عنان، الأمين العام للأمم المتحدة، بأن العراق قد يكون له بعض الحق فى شكواه من اللجنة الدولية، واقترح أن يوجه مجلس الأمن الدعوة إلى مسئولين كبار فى العراق بهدف الاجتماع بهم، والقيام بمراجعة شاملة تمهيداً لرفع العقوبات التى دامت ثماني سنوات  ([122]) .

وأضاف عنان ” إن العراقيين يشعرون بأنهم مهما فعلوا فإن اللجنة الخاصة لا تقّدر تعاونهم، وهذا الأمر أدى إلى شعورهم بالإحباط واليأس من أن يتم رفع العقوبات على الإطلاق “، ولكن رفض عنان أن يكون للعراق الحق فى اتخاذ قرار تجميد التعاون، كما نفى أن يكون للعراق الحق فى طلب تغيير أعضاء اللجنة الدولية، وقال : ” ليس من سلطة دولة عضو فى الأمم المتحدة ان تقول للمنظمة كيف تقوم بعملها  ” ([123]) .

وفى محاولة لتسوية الأزمة، بعث كوفى عنان براكاش شاه، مبعوثاً خاصاً إلى العراق، بهدف إقناع القيادة العراقية بالعدول عن قرار تجميد التعاون، إلا أنه أعلن فشله فى تحقيق الهدف من مهمته، وذلك بعد قيامه بالعديد من الزيارات واللقاءات مع المسئولين فى النظام العراقى، كما أعلن نزار حمدون، مندوب العراق الدائم فى الأمم المتحدة، أن العراق لن يسمح لأعضاء اللجنة بمواصلة مهامهم، ما لم يتغير شكل اللجنة التى تُشرفُ عليهم، وما لم يتم الاعتراف بالتقدم الذى حققه العراق فى تعاونه مع الأمم المتحدة  ([124]) .

فى الولايات المتحدة وبريطانيا : تصاعدت حدة الموقف من العراق بسبب قرار التجميد، فالكونجرس الأمريكى طالب بضرورة تأديب العراق، وتقديم صدام حسين للمحاكمة ( ولو غيابياً ) باعتباره مجرم حرب ([125])، و صرح متحدث باسم البيت الأبيض بأن ” جميع الخيارات مفتوحة، بما فيها الخيار العسكرى، لإخضاع العراق  ” ([126]) . كما أعلنت مادلين ألبرايت أن بلادها لن توافق مطلقاً على رفع العقوبات عن العراق، ما لم تتعاون بغداد تماماً مع مفتشى الأسلحة، وأكدت على احتفاظ الولايات المتحدة بحقها فى استخدام القوة العسكرية ضد العراق ([127]) .

فى روسيا : انتقد المسئولون الروس بشدة ريتشارد بتلر، واعتبروه المسئول عن إثارة الأزمة القائمة بين العراق والأمم المتحدة، وأكد المندوب الروسى لدى مجلس الأمن، أن ريتشارد بتلر اتخذ قرار قطع مهمته فى بغداد، دون إستشارة الأمين العام للأمم المتحدة أو مجلس الأمن، وفى نفس الوقت طالبت العراق بعدم تنفيذ قرار التجميد ([128]) .

وفى فرنسا : اعتبرت فرنسا أن العراق نفَّذ كل ما هو مطلوب منه، وأعلنت تأييدها للمطلب العراقى بالنظر فى العقوبات المفروضة عليه، إلا أنها أعلنت رفض القرار العراقى بتجميد التعاون، ودعت العراق إلى العدول عن موقفه هذا .

(2) ـ تداعيات القرار العراقى : سيناريو تصعيد الأزمة على المستويات المختلفة:

جاءت القراءة العراقية لتصرفات ريتشارد بتلر، خلال المرحلة التالية لتوقيع الاتفاق العراقى مع الأمين العام للأمم المتحدة، مماثلة لما كانت تراه العراق بشأن هذا الرجل فى المرحلة السابقة على الإتفاق، وأصبح واضحاً للرؤية العراقية ـ ومن وجهة نظرها ـ أن بتلر يسوِّف، ولا يلتزم بوعد، وأنه يتبع سياسة هدفها الإبقاء على العراق راضخةً تحت العقوبات الدولية، وجاء موقف ريتشارد بتلر، الذى رفض أن يلتزم بالبرنامج المحدد بشهرين، والذى كان قد أبرمه مع طارق عزيز قبل شهرين من هذا القرار، وإصراره على تمديد البرنامج خمسة أسابيع أخرى، مع اتهام العراق بحيازة غاز الأعصاب ” فى إكس “، وقيامه بقطع مهمته فى العراق، دون الرجوع إلى واستشارة الأمين العام للأمم المتحدة، لتمثل دليلاً قوياً على هذه القراءة العراقية .

و على ذلك فقد أصدر الرئيس العراقى قراراً بتجميد التعاون مع الخبراء العاملين فى اللجنة الدولية الخاصة بنزع أسلحة الدمار الشامل العراقية،  وطالب العراقُ بإقالة بتلر من رئاسة اللجنة الدولية، وأن يُغيّر تشكيل المشرفين على عمليات التفتيش، بما يضمن للعراق قدراً من الثقة فى اللجنة، كما طالب العراق بأن يقوم مجلس الأمن بمراجعة شاملة يتم خلالها تقييم إيجابي لمستوى التعاون العراقى، ثم رفع العقوبات المفروضة على العراق .

و جاءت ردود الفعل الدولية، سواءً من جانب القوى المساندة للعراق أو المعادية له، رافضةً لقرار التجميد، ومع إعرابها عن الاعتقاد بأن للعراق بعض الحق فى مطالبه، فقد دعت مختلف الأطراف العراق إلى التراجع عن هذا القرار، لكن الموقف العراقى ظل ثابتاً على قرار التجميد، مطالباً بإقالة بتلر والنظر فى مسألة رفع العقوبات، ويمكن عرض التطورات التى ترتبت على هذا الوضع فى المستويات الثلاث الآتية :

أ ـ العراق و مجلس الأمن : التصعيد المتبادل للأزمة:

خلال الاجتماع الذى عقده مجلس الأمن يوم 20 أغسطس، قرر المجلس تمديد العقوبات المفروضة على العراق ([129])، وطالب العراق بالتراجع عن قرار التجميد، رافضاً الاستجابة إلى أىٍ من المطالب التى ينادى بها النظام العراقى، ثم ومع اعتراف براكاش شاه، المبعوث الخاص للأمين العام، بفشله فى إقناع القيادة العراقية باستئناف أعمال المفتشين، أصدر مجلس الأمن يوم 10 سبتمبر القرار رقم 1194، والذى يقضى بوقف المراجعة الدورية التى يجريها المجلس على أعمال التفتيش، وذلك ما لم يتراجع العراق عن قرار التجميد بدون شرط ([130]) .

ورداً على هذا القرار من جانب مجلس الأمن، قام العراق بإصدار قرار بالوقف الكامل والفورى للتعاون مع اللجنة الدولية  ( واستثنى العراق الوكالة الدولية للطاقة الذرية من هذا القرار )، وذلك عقب التوصية التى أصدرها المجلس الوطنى العراقى وحزب البعث الحاكم، والتى جاء فيها ” أن قرارات مجلس الأمن بتمديد العقوبات ووقف المراجعة لا تقدم ولا تؤخر بالنسبة للوضع فى العراق، وأنه مهما فعل العراق، فالنتيجة هى استمرار الحظر” ([131]) .

و فى التقرير الذى رفعه ريتشارد بتلر إلى مجلس الأمن والذى يتضمن تقييم أعمال اللجنة الدولية فى العراق خلال الستة أشهر الماضية، جاء فيه ([132]):

أولاً : أن اللجنة الدولية المكلفة بنزع أسلحة العراق أوشكت على الانتهاء من نزع أسلحة العراق فيما يتعلق بالصواريخ الباليستية والأسلحة النووية، وليس كذلك فيما يتعلق بالأسلحة الكيماوية والبيولوجية .

ثانياً : أن العراق يسمح بممارسة عمل الرصد الذى تضطلع به اللجنة الدولية ولكن بمستوى غير مرضى، ومع ذلك، فإن تعاونه التام مع فريق الخبراء أمر حيوى بالنسبة للمستقبل .

ثالثاً: أن الإعلان الكامل من جانب العراق، عن جميع المواد والمعلومات الضرورية، لا يزال يمثل عنصراً جوهرياً لكلٍ من إنهاء عملية نزع السلاح والرصد المستقبلى.

واستناداً إلى هذا التقرير، ومع استمرار تمسك العراق بموقفه ومطالبه، وفشل مساعى الوساطة التى يقوم بها الأمين العام للأمم المتحدة من خلال مباحثاته مع طارق عزيز، أصدر مجلس الأمن بياناً أخر فى 31 أكتوبر 1998م يطالب العراق بضرورة إلغاء قرار وقف التعاون مع مفتشى الأسلحة، وأن يوافق على استئناف عمل المفتشين الدوليين، دون قيدٍ أو شرط، و إلا فسوف يتعرض لأوخم العواقب، وكان هذا القرار مقدمة للتصعيد العسكرى فى الفترة التالية لصدوره .

و فى اجتماع لمجلس الأمن يوم 6/11/1998م، أصدر المجلس القرار (205)، وهو اقتراح بريطانى يُدين القرار العراقى، و يطالب العراق بالامتثال للقرارات الدولية، واستئناف العلاقة مع اللجنة الدولية . وكان الاقتراح البريطانى يتضمن فقرة تعتبر العراق خطراً يهدد السلم و الأمن الدوليين، إلا أن المجلس وافق على حذف هذه الفقرة بناءاً على طلب من الصين . وقد حرص سيرجى لافروف، مندوب روسيا الدائم فى مجلس الأمن، على التأكيد على أن قرارمجلس الأمن لا يتضمن تفويضاً باستخدام القوة، إلا أن جيرنى جرينستوك، مندوب بريطانيا الدائم لدى مجلس الأمن أكد أن الولايات المتحدة وبريطانيا بإمكانهما إحياء التفويض الذى صدر عن المجلس عام 1991م، والعمل بموجبه ([133]) .

قام ريتشارد بتلر بإصدار أمر إلى خبراء اللجنة الدولية بمغادرة العراق، وذلك دون الرجوع إلى مجلس الأمن ( الذى تتولى الولايات المتحدة رئاسة دورته الحالية ) أو الأمين العام للأمم المتحدة، وقد أثار ذلك دهشة كل من روسـيا و الصين وفرنسا ، ثم قام بتلر بمراسلة تلك الدول لتوضيح أن هذا القرار جاء نتيجة تزايد احتمالات المواجهة العسكرية فى العراق  .

الأمين العام للأمم المتحدة، وبعد فشل محاولاته لإقناع القيادة العراقية بالعدول عن قرارها، رفض أن يُسافر إلى العراق، إلا أنه استجاب للمطالب الفرنسية والروسية، والدولية عامةً، فقام بمعاودة الاتصال بالرئيس العراقى، من خلال رسالة لم يتم الإفصاح عن مضمونها، وذلك يوم الجمعة 13/11/1998م ([134]) .

(ب ) الولايات المتحدة والقرار العراقى :من التحركات السياسية إلى التصعيد العسكرى :

1 ـ التحركات السياسية :

عملت الولايات المتحدة الأمريكية على تخفيض حجم قواتها العسكرية العاملة فى الخليج، وذلك فى أعقاب انتهاء الأزمة السابقة بتوقيع الاتفاق بين العراق والأمين العام للأمم المتحدة، وأعلن وليم كوهين وزير الدفاع الأمريكى أن هذا الإجراء لا يعنى تخلى الولايات المتحدة عن الخيار العسكرى ضد العراق إذا لم ينفذ الإتفاق، وإنما يأتى هذا الإجراء فى إطار سياسة عسكرية أمريكية هدفها تقليل حجم القوات وزيادة فعاليتها .

وعندما أعلن العراق قراره بتجميد التعاون مع مفتشى الأمم المتحدة فى 5 أغسطس 1998م، ثم قرار وقف التعاون بشكل كامل وذلك فى 15 سبتمبر من نفس العام، جاء رد الفعل الأمريكى فى الحدود السياسية والدبلوماسية، وتناقض موقفها من الأزمة الراهنة مع موقفها فى الأزمة السابقة، إذ لم تتخذ الولايات المتحدة أى إجراء لتعزيز وضعها العسكرى فى الخليج، واقتصر الأمر على بعض التصريحات من جانب المسئولين فى الحكومة الأمريكية والتى تشير إلى أن الولايات المتحدة تعتبر أن كل الخيارات مفتوحة، بما فى ذلك الخيار العسكرى، ومنذ بداية الأزمة فى 5 أغسطس وحتى أوائل سـبتمبر 1998م، اقتصر رد الفعل الأمريكى على تحركات سياسية، نستعرض بعضاً منها على النحو الآتي :

أولاً : التأكيد على استمرار بقاء الخيار العسكرى: ففي حديث أدلت به مادلين أولبرايت إلى صحيفة  نيويورك تايمز فى 17/8/1998م، قالت فيه : إن واشنطون لن تستبعد أى شىء، بما فى ذلك استخدام القوة، لإجبار العراق على الالتزام ببرامج الأمم المتحدة الخاصة بنزع السلاح العراقى، وأن الولايات المتحدة ستقرر ” كيف ومتى سيكون الرد على الأعمال العراقية، بناءاً على الخطر الذى تشكله هذه الأعمال على جيران العراق والأمن الإقليمى ومصالح أمريكا الحيوية ” [135] .

ثانياُ : فى إطار إدراك الولايات المتحدة لحجم المعارضة الدولية لاستخدام القوة العسكرية ضد العراق، وذلك من واقع خبرة الأزمة السابقة، ونظراً لرغبة الأمم المتحدة وبعض الدول دائمة العضوية فى مجلس الأمن، روسيا وفرنسا والصين، فى ترك فرصة لمساعى التسوية السلمية من خلال الحوار بين العراق والأمين العام للأمم المتحدة، أعلن المتحدث باسم البنتاجون الأمريكى، كينيث بيكون، بأن ” الأزمة القائمة الآن ليست بين العراق والولايات المتحدة، وإنما هى بين العراق و مجلس الأمن” ([136]) .كما صرح مارتن إنديك مساعد وزير الخارجية الأمريكية أمام لجنة العلاقات الخارجية بالكونجرس الأمريكى، بأن الإدارة الأمريكية ” لم تستبعد استخدام القوة العسكرية من جانب واحد، ولكن لا يوجد تأييد دولى لاستخدام القوة لإجبار العراق على عودة المفتشين الدوليين” ([137]) .

ثالثاً : العمل على حشد موقف موحد من أجل استصدار قرارات شديدة اللهجة من مجلس الأمن ضد العراق، وفى هذا السياق : صرح مارتن إنديك مساعد وزير الخارجية فى اجتماع مع لجنة العلاقات الخارجية بالكونجرس، بأن الإدارة الأمريكية تتحرك حالياً لتشديد الضغط على العراق لإلغاء قراره واستئناف التعاون مع مفتشى الأمم المتحدة ([138]) . كما أعلن جيمس روبن، المتحدث باسم الخارجية الأمريكية، أنه رداً على القرار العراقى بوقف التعاون مع مفتشى الأمم المتحدة، تقوم مادلين أولبرايت وزيرة الخارجية الأمريكية بتكثيف الاتصالات مع وزراء خارجية الدول الكبرى دائمة العضوية فى مجلس الأمن ومع الأمين العام للأمم المتحدة من أجل التشاور حول اتخاذ المزيد من الإجراءات المتشددة فى مجلس الأمن ضد العراق، باعتبار أن قرار العراق يمثل تحدياً سافراً لسلطة مجلس الأمن وإرادة المجتمع الدولى ([139])

رابعاً : كثفت الولايات المتحدة من نشاطها الهادف إلى إسقاط النظام العراقى، وقد تزامن تحقيقها لبعض النجاحات فى هذا الصدد مع تطور الأزمة الأخيرة بين العراق ومجلس الأمن، فقد استطاعت الولايات المتحدة أن تخلق نوعاً من الوفاق بين فصائل المعارضة فى العراق، إذ تمكنت من إنجاح جهود الوساطة بين حزبىّ : الاتحاد الوطنى الكردستانى، والحزب الديمقراطى الكردستانى، من خلال اجتماعات عُقدت فى واشنطن، سبتمبر 1998م، بين جلال طالبانى ومسعود برازانى والمسئولين فى وزارتى الخارجية والدفاع الأمريكتيين، وبالتنسيق مع بريطانيا، أقنعت منظمة المؤتمر الوطنى العراقى الذى يتخذ من لندن مقراً له برئاسة أحمد شلبى، أقنعته بالانتقال إلى شمال العراق والتعاون مع المعارضة الكردية بعد منحه أسلحة ومعدات تبلغ قيمتها الإجمالية 97 مليون دولار ([140]) .

وبطبيعة الحال، فإن العراق يدرك أبعاد التحركات الأمريكية، وهو يتهم الولايات المتحدة دائماً بالسعى إلى استمرار العقوبات المفروضة على العراق، سواءً من خلال علاقتها بأعضاء اللجنة الدولية، خاصةً ريتشارد بتلر، أو من خلال مواقفها فى مجلس الأمن وضغوطها على أعضائه، أو من خلال اتصالها بالدول العربية خاصةً دول الخليج، ويأتى دور الولايات المتحدة الأمريكية فى تجنيد المعارضة واثارتها ضد النظام العراقى والسعى إلى إسقاطه، لتمثل أشد نقاط العداء فى العلاقات الأمريكية العراقية، وقد اتهم طارق عزيز الولايات المتحدة بالسعى إلى منع التوصل إلى اتفاق مع الأمم المتحدة حول تطبيق المراجعة الشاملة بشأن العراق، وقال ان مجلس الأمن ليس مستعداً بعد لبدء مراجعة شاملة لامتثال العراق للفقرة 22 من قرار مجلس الأمن رقم 687، بسبب المواقف الأمريكية، و انتقد العراق العلاقة المشبوهة بين الولايات المتحدة و المعارضة العراقية، و حذرت الأكراد وجماعات المعارضة الأخرى من مغبة الانخراط فى هذه ” المؤامرة المشبوهة ” ([141]) .

2 ـ التصعيد العسكرى :

طوال الأشهر الثلاث التالية لقرار العراق تجميد تعاونه مع اللجنة الدولية، عملت الولايات المتحدة على التمهيد لخيار استخدام القوة ضد العراق، وذلك من خلال المناورات السياسية السابق ذكرها، والتى بدا منها أن العراق لا يستجيب لإرادة المجتمع الدولى بأساليب الحوار والضغوط الدبلوماسية، فى الوقت الذى كانت تحارب ضد أى قبول بالمطالب العراقية باعتبار أن ذلك يُعد رضوخاً لشروط العراق يمكن أن يصيب أجهزة الأمم المتحدة بالشلل .

وعندما أصدر مجلس الأمن قراراً فى 31 أكتوبر يؤكد فيه رفض المجتمع الدولى للشروط العراقية، ويطالب العراق بإلغاء قراره بوقف التعاون مع مفتشى الأسلحة، و ذلك فى صياغةٍ استخدمت فيها، لأول مرة منذ بداية الأزمة، تعبير ” وإلا فإن العراق سيتعرض لأوخم العواقب “، قام وليم كوهين بقطع زيارته لدول شرق آسيا، وقام بجولة فى المنطقة العربية، زار خلالها ستة دول، السعودية و الكويت والإمارات العربية وعمان ومصر والأردن، وكان الهدف من الزيارة هو إقناع الدول العربية بالقبول بتوجيه ضربة عسكرية ضد العراق، ورغم أن الموقف المعلن للدول العربية كان رفض العمل العسكرى، أو على الأقل، رفض استخدام أراضيها لأى عمل عسكرى ضد العراق، إلا أن الرئيس بل كلنتون صرح بالقول إن الخيار العسكرى ضد العراق قائم، وأعرب عن أنه ” لدى الولايات المتحدة كل التأييد اللازم لهذا الخيار “، كما أشار إلى أن الولايات المتحدة ليست فى حاجة إلى قرار جديد من مجلس الأمن للقيام بهذا العمل فالولايات المتحدة ” تملك الحق فى التعامل مع العراق بموجب قرارات مجلس الأمن السابقة ” ([142]) .

و خلال الزيارة التى قام بها إلى المقبرة العسكرية بواشنطون فى 10/11/1998م، صرح الرئيس كلنتون بالقول، إنه لا خيار أمام القيادة العسكرية سوى الموافقة على استئناف التعاون مع اللجنة الولية وأن ” صدام حسين لا يمكنه الحصول على كل شىء : رفع العقوبات، والاحتفاظ بأسلحة الدمار الشامل، كما أعلن وليم كوهين موافقة الإدارة الأمريكية على إرسال سفينة برمائية، وحاملة الطائرات “إنتربرايز ” إلى الخليج ([143]) .

(ج ) الموقف الدولى من تصاعد الأزمة :

1 ـ موقف القوى الكبرى :

فى بريطانيا : أعلن روبن كوك وزير الخارجية البريطانية، أن حكومة بلاده تعطى اولوية الآن لمنع تهريب النفط العراقى عبر الخليج وتركيا والأردن، وقال إن على الدول التى ترفض العمل العسكرى أن تدرك أن البديل هو زيادة مستوى العقوبات المفروضة على العراق ([144]) . ثم كثفت بريطانيا من ضغوطها على القيادات العربية الخليجية، من خلال الزيارات المتعاقبة إلى المنطقة، والتى قام بها وزير الدفاع البريطانى، وروبن كوك وزير الخارجية فى نوفمبر 1998م . وأعلنت الحكومة البريطانية تأييدها الكامل لأى إجراء عسكرى تتخذه الولايات المتحدة ضد العراق .

الموقف الروسى : خلال الأشهر التالية لتوقيع الاتفاق، استمر الموقف الروسى الداعم للعراق، وكانت أبرز معالم ذلك الموقف تتمثل فى الانتقادات الروسية الحادة للتقارير التى يرفعها ريتشارد بتلر إلى مجلس الأمن، ثم ومع تصاعد الأزمة، أعلنت روسيا، معارضتها الشديدة لأى عمل عسكرى ضد العراق، وعملت مع كلٍ من فرنسا والصين، على منع صدور تفويض مباشر من مجلس الأمن بالعمل العسكرى ضد العراق، مع الضغط باستمرار على القيادة العراقية من أجل إلغاء قرارها تفادياً لمثل ذلك العمل.

2 ـ موقف الدول العربية:

(أ) منطقة الخليج :

الموقف الخليجى، ومنذ فترة طويلة، يرفض الإجراءات العسكرية الأمريكية خاصةً تلك التى ترتب أعباءً اقتصادية عليها، وقد رفضت دول الخليج مؤخراً  مساعى الولايات المتحدة لإقامة حائط صواريخ فى الخليج بحجة حماية تلك الدول من التهديدات العراقية والإيرانية، وهو المشروع الذى روج له وليم كوهين خلال زيارته لدول الخليج في نوفمبر 1998م، والذى تبلغ تكلفته 50 مليار دولار ويستغرق بناؤه 10 سنوات، وقد عبرت صحيفة ” الوطن ” القطرية عن الموقف العام فى الخليج من هذا المشروع بقولها : ” إن كوهين يلوح بالتهديدات العراقية من أجل الحصول على أموال الخليج ” وانتقدت الصحيفة جولة كوهين، وقالت ” إن دول الخليج تعى تماماً أن أياً من العراق أو إيران لم يعد لديها نوايا عدوانية ” [145] . وإذا كانت دول الخليج لم تعبر صراحةً عن هذا المعنى، على المستوى الرسمى، فإن رفضها يحمل العديد من الدلالات .

فى لقاء مع هيئة الإذاعة البريطانية يوم 5/11/1998م، جاءت تصريحات يوسف بن علوى، وزير الخارجية العمانى، لتؤكد اتساق مواقف جميع دول الخليج مع الموقف الأمريكى، حيث قال : ” دول الخليج الست لديها موقف واحد هو : ضرورة امتثال العراق لقرارات الأمم المتحدة، وأن يقدم كل العون المطلوب منه لتنفيذ برامج الأمم المتحدة لنزع أسلحة العراق “، وأشار إلى رغبة دول الخليج فى أن يتم رفع العقوبات عن الشعب العراقى لكنه أضاف ” أن رفع العقوبات لا يمكن أن يتم من خلال قرار وقف التعاون، لأن ذلك إما أن يعنى المواجهة العسكرية، وإما أن يعنى أن تصاب أجهزة الأمم المتحدة بالشلل، وهذا ما لن يقبله المجتمع الدولى ” ([146]) .

وخلال جولة كوهين التى قام بها فى المنطقة بهدف الترويج لضرب العراق أوائل نوفمبر 1998م، أعلن وزير الخارجية الكويتى بأن الكويت لا شأن لها بما يجرى بين العراق والأمم المتحدة، كما رفضت السعودية أن تُستخدم أراضيها للقيام بتوجيه ضربة عسكرية للعراق، إلا أن الأمير سعود الفيصل، وزير الخارجية السعودى، صرح عقب لقائه بالرئيس مبارك فى القاهرة أوائل نوفمبر، بأن كلاً من مصر والسعودية لا تحبذ العمل العسكرى، وقال إن هذه الأزمة، وما يترتب عليها من نتائج، المسئول عنها هو النظام العراقى ” الذى يتخذ قرارات لا يستطيع تحمل مسئولياتها ” ([147]) . و قال إنه من المؤسف أن يتخذ العراق هذا القرار فى الوقت الذى اتفق فيه مجلس الأمن على إجراء مراجعة شاملة للعقوبات المفروضة على العراق .

فى الدوحة :خلال اجتماع ممثلى دول إعلان دمشق يوم 10/11/1998م، صرح وزير خارجية قطر بالقول : إن دول إعلان دمشق تدعو العراق إلى التراجع عن قرار وقف التعاون، وليس هناك بديل إذا أراد النظام العراقى تجنيب شعبه مخاطر الحرب .

و فى أبو ظبى، و خلال اجتماع وزراء خارجية دول مجلس التعاون الخليجى فى 14/11/1998م، صرح راشد بن عبد الله، وزير خارجية الإمارات بالقول إن الوضع يزداد تعقيداً ” وليس أمام العراق شىء سوى التراجع عن قراره، فلا مبادرة ولا حل سلمى سوى القبول العراقى الكامل بقرارات مجلس الأمن ” .

فى الكويت أعلنت الحكومة الكويتية حالة التأهب فى الجيش الكويتى، وصرح العقيد أحمد الرحمانى، بأن الكويت لن تكون طرفاً فى الأزمة، ولكن هذه إجراءات إحترازية، وقال إن ” هناك تنسيق كامل بين الكويت و قوات الحلفاء “، تحسباً لأية أخطار ([148]) .

( ب) الدول العربية غير الخليجية:

مصر : منذ بداية الأزمة، كثفت مصر جهودها السياسية الرامية إلى منع توجيه ضربة عسكرية ضد العراق، وفى هذا السياق، سعى الرئيس مبارك إلى إقناع القيادة العراقية بالتراجع عن قرارها بوقف التعاون ) [149])، كما أجرى الرئيس مبارك مباحثات حول الأزمة فى العراق، وذلك خلال اجتماعاته مع وزيرىِ الدفاع والخارجية السعوديين، فى نفس الوقت، أعلن عمرو موسى وزير الخارجية، أن العراق له الحق فى أن يرى دليلاً على قرب انتهاء العقوبات المفروضة عليه، ودعا الأمين العام للأمم المتحدة لكى يتدخل لإنهاء هذه الأزمة، من خلال إجراء مراجعة شاملة، من شأنها إغلاق الملفات التى انتهى العمل فيها . لكن و من ناحيةٍ أخرى، فإن الرئيس مبارك أوضح أن قرار الضرب ليس بأيدينا ولا يمكن وقفه إذا تقرر.

فى الأردن: أعلن الأمير حسن، ولى العهد ( السابق )، عقب زيارة وليم كوهين، أن الأردن يعارض توجيه أى عمل عسكرى ضد العراق .

و فى سوريا : أعلن فاروق الشرع، وزير الخارجية السورى، أن العراق أوفى بكل ماهو مطلوب منه، ومن حقه أن يرى نهاية للمأساة التى يتعرض لها شعبه منذ ثمان سنوات، وطالب الشرع أن يتم تسوية الخلافات بين العراق والأمم المتحدة بعيداً عن التهديدات العسكرية

فى فلسطين : أصدرت القيادة الفلسطينية بياناً، بمناسبة وصول دينيس روس منسق عملية السلام، قالت فيه إن أى عدوان على الشعب العراقى  ـ مهما كانت دوافعه ـ سيكون صفعة أخرى تتعرض لها عملية السلام .

بالنسبة للموقف العربى خلال هذه الأزمة، يمكن القول أنه كان موقفاً يستعصى على الفهم، فبمراجعة مجمل تصريحات المسئولين العرب، نجد أنها تركزت على أمرين فى ذات الوقت، الأول هو ضرورة امتثال العراق الكامل لقرارات مجلس الأمن، وبالتالى تطالب العراق بالعدول عن قرار وقف التعاون مع اللجنة الدولية، أما الأمر الثانى فهو إعلان التعاطف مع المطالب العراقية، والتأكيد على أن العراق له الحق سواءً فى شكوكه المتعلقة بأعضاء اللجنة الدولية، وبالتالى له الحق فى طلب تغيير بعض أعضاء اللجنة، أو طلبه الخاص بإغلاق الملف النووى ومراجعة العقوبات .

و مع ذلك فإن الدول العربية لم تتخذ أى إجراء من شأنه التأثير على مجلس الأمن كى ينصف هذه المطالب، كما عجزت عن استيعاب النظام العراقى، حتى فى ظل ظروفه القائمة، وبدا أن العراق يتم   التعامل معه خارج نطاقه الإقليمى وإطاره القومى .

وفيما يتعلق بالمعارضة العربية للعمل العسكرى ضد العراق، فلم يكن هناك دليل على أنها ساهمت فى تأخيرها، أو احتمال منعها، بل كانت هناك أدلة تثبت عكس ذلك :

أولاً : تصريح الرئيس كلنتون الذى يُعلن فيه ضمان التأييد الكامل للعمل الأمريكى ضد العراق، خاصةً وأنه قال ذلك فى معرض الإجابة على سؤال حول التصريحات العربية الرافضة للخيار العسكرى . والذى أكده كوهين لدى عودته من المنطقة العربية .

ثانياً : كون أن السعودية قد رفضت استخدام أراضيها للعمليات العسكرية الموجهة ضد العراق، أو أن الدول العربية الأخرى رفضت المشاركة فى أى عمل عسكرى ضد العراق، هو أمر غير ذى معنى، إذ أن التخطيط الأمريكى يقوم على أساس عدم تعريض الأمريكيين للخطر من خلال الحرب البرية، وذلك لاعتبارات تتعلق بالرأى العام الأمريكى، وعلى ذلك، فإن أى سيناريو لضرب العراق، سيكون مبنياً على أساس استخدام صواريخ توما هوك الموجهة، من خلال السفن العسكرية الرابضة فى مياه الخليج، ومما يؤكد ذلك، أن الزيادة الرئيسية التى طرأت على القوات الأمريكية العاملة فى الخليج، كانت فى السفن الحربية ذات القدرة على إطلاق الصواريخ، إذ تم رفع عددها من 7 إلى 9 سفن، فضلاً عن استخدام القاذفات المحمولة على حاملة الطائرات ” آيزنهاور ” التى تحمل على متنها 50 طائرة من أصل 174 طائرة مقاتلة والقاذفات ” بى 52 ” ألتى تُطلق صواريخ ” كروز “، وذلك بخلاف السفن الحربية التى يعمل بها 23 ألف جندى أمريكى، فلا حاجة إذن لأن تستخدم الولايات المتحدة أراضى دولة أخرى، ويؤكد ذلك أيضاً تصريح وزير الخارجية السعودى، الذى أكد فى القاهرة أن السعودية لم تتلق أية طلبات أمريكية تتعلق بالعمل العسكرى ضد العراق .

ثالثاً : أنه حتى بعد إنتهاء الأزمة، كان العراق مهدداً بتوجيه ضربة عسكرية دون سابق إنذار، فضلاً عن السابقة الخطيرة التى أوجدتها الولايات المتحدة فى المنطقة، وهى الحديث عن تغيير نظام الحكم فى العراق، وتوجيه دعوة إلى نظم الحكم فى الدول المجاورة للمعاونة فى إتمام هذه العملية .

إنفراج مؤقت للأزمة :

تصاعدت حدة التهديدات العسكرية، الأمريكية والبريطانية، وطلبت معظم الدول الغربية من رعاياها مغادرة العراق والكويت، تحسباً لعمل عسكرى بات وشيكاً، وعقد مجلس الأمن القومى الأمريكى اجتماعاً دائماً، وفى هذه الأثناء، أجاب الرئيس العراقى على رسالة الأمين العام للأمم المتحدة، وكانت إجابته بالموافقة على استئناف التعاون مع اليونسكوم، إلا أن الولايات المتحدة الأمريكية رفضت قبول الرسالة العراقية، وأعلن الرئيس كلنتون أن الرسالة غامضة و تحتوى على شروط، وبالتالى فإن العمل العسكرى ضد العراق بات وشيكاً .

و كان مجلس الأمن قد عقد جتماع طارئ يوم السبت 14/11/1998م، وذلك لبحث الموقف من العراق فى ضوء الرسالة التى تسلمها الأمين العام من القيادة العراقية، وخلال هذا الاجتماع دارت خلافات شديدة بين الأعضاء حول تقييم مضمون الرسالة، الأمر الذى أدى إلى انتهاء يوم السبت دون الوصول إلى قرار، وعاود المجلس اجتماعاته فى اليوم التالى، وفى هذا اليوم، الأحد 15/11/1998م، أرسلت القيادة العراقية برسالتين إلى مجلس الأمن، أكد فيهما العراق تراجعه عن قرار وقف التعاون دون شروط .

وفى الولايات المتحدة الأمريكية، أعلن الرئيس كلنتون قبول الولايات المتحدة الأمريكية للصيغة الجديدة التى جاءت فى رسالتيها إلى مجلس الأمن، والتى تفيد بأن العراق قد تراجع فى مواجهته مع الأمم المتحدة دون قيدٍ أو شرط، وقال الرئيس الأمريكى إن ذلك ليس كافياً، وإن هناك شروط إذا التزم بها العراق فإن تراجعه سيعتبر جدياً وهى  ([150]) :

1ـ أن يسِّوى العراق كل المسائل المعلقة مع لجنة ” يونسكوم ” والوكالة الدولية للطاقة الذرية .

2ـ السماح لجميع المفتشين الدوليين بدخول كافة المواقع التى يرغبون فى إجراء التفتيش عليها

3ـ أن يقوم العراق بتقديم كافة الوثائق المتعلقة بأسلحة الدمار العراقية، والتى تطلبها اللجنة .

4ـ قبول العراق الكامل بكافة القرارات الدولية، المتعلقة بأسلحة الدمار الشامل العراقية .

5ـ أن يمتنع العراق عن التدخل فى عمل الخبراء الدوليين .

وقد أعلن كلنتون أنه تحدث مع الأمين العام للأمم المتحدة، وأنه اتفق معه على أن تبقى القوات الأمريكية العاملة فى الخليج، ويبقى التهديد باستخدام القوة ضد العراق، دون إنذار سابق، إذا لم يلتزم العراق بما تم الإتفاق عليه .

وفى تصريحاته وصف كلنتون صدام حسين بأنه يُمثل عقبة فى سبيل رفاهية شعبه، وأنه أكبر خطر على المنطقة والعالم، وقال إن الولايات المتحدة ستواصل العمل مع القوى العراقية الساعية إلى التغيير، بهدف الإطاحة بالنظام العراقى الحالى .

تفجر الموقف(51):

منذ أن أعلن العراق موافقته على استنئاف تعاونه مع اللجنة الدولية، وتسليمه الكامل بالشروط الأمريكية، الأمر الذي أدى إلى وقف العمل العسكري الذي كان مزمعاً قبل 15/11/1998م، أعلنت الولايات المتحدة وبريطانيا أنهما سيوجهان ضربة عسكرية ضد العراق دون سابق إنذار، وذلك إذا ما أبدى العراق عدم تعاون مع اللجنة الدولية.

وطوال الفترة من 15/11/1998من وحتى 18/12/1998م، ظلت الأجواء متوترة بين العراق واللجنة الدولية، واستمرت التهديدات الأمريكية /البريطانية ضد العراق، ورغم أن العراق قدم كافة التسهيلات التي يطلبها أعضاء اللجنة، أن اللجنة الدولية كانت، خلال هذه الفترة، تعمل على تعقيد الأمور بمطالبتها بالتفتيش على مواقع معينة بشكل متجدد، مثل موقفها الأخير بشأن تفتيش مقر حزب البعث، كما أنها تغالي في مطالباتها بوثائق معينة، مثل الوثائق الدالة على استخدام العراق لأسلحة بيولجية في حربه مع إيران 1980-1988م .

ثم جاء تقرير ريتشارد بتلر الذي رفعه إلى مجلس الأمن 15/12/1998م، والذي أفاد بأن العراق يعرقل سير عمليات التفتيش، ولا يقدم التعاون اللازم بل وجاء أيضاّ قرار سحب المفتشين الدوليين من العراق دون قرار من مجلس الأمن وذلك قبل يوم من بداية الأعمال العسكرية ضد العراق واستناداً إلى هذا التقرير، قامت الولايات المتحدة وبريطانيا بتوجيه ضربات عسكرية جوية بالصواريخ على العراق على مدى أربعة أيام، 19/12/1998-23/12/1998م، وبالنظر إلى تلك العمليات العسكرية يمكن القول :

  • قامت الولايات المتحدة وبريطانيا بعمل عسكري ضد دولة، دون اللجوء إلى مجلس الأمن، تنفيذاً للمواثيق الدولية، وبالتالي فقد كانت تلك العمليات عدواناً يفتقد أية شرعية . ولا يمكن وصفه سوى بالتجاوز في حق النظام الدولي ومؤسساته .
  • هذا العمل العسكري لم يكن له برنامج معروف يحدد الغرض منه، وطبيعته، وميعاد نهايته، وكل ذلك كان فقط في علم الإدارة الأمريكية، الأمر الذي جعل النوايا الحقيقية محل شك، وزادت التكهنات حوله .
  • بالرغم من ذلك جاءت هذه العملية بمثابة لحظة كاشفة ربما ستعمل على تغيير الكثير من التصورات الخاصة بالنظام الدولي الجديد، وطبيعة التوازنات بداخله، ومدى قوة الإطار القانوني الذي يحوي تفاعلاته بل ومدى إحساس القوى الكبرى فيه بالمسئولية الأخلاقية والتاريخية فإذا كانت روسيا قد عبرت عن رفضها بعصبية، وجاء رد فعلها عنيفاً، إى أن أياماً قلائل مرت، لتكشف أن الوزن النسبي لروسيا يتضاءل، فسحب السفراء كان عملاً مؤقتاً، وعدم حضور اجتماع حلف الناتو وقرار عدم التوقيع على المرحلة الثانية من اتفاقية ستارت، بدا أنها ليست قرارات، كما أن محور روسيا – الصين – الهند، لا يعني عودة الأحلاف في ظل العلاقات الغربية مع كل دولة من هذا المحور، وأن غرض روسيا من هذا التحرك هو دفع الغرب إلى إعادة تثمينها، كما أن ثمن استرضاء روسيا بدا بسيطاً في ظل تطورات الأوضاع في كوسوفا.

الصين استنكرت العمل العسكري ضد العراق، واعتبرت أن ذلك العدوان يتهدد مستقبل التنظيم الدولي، إلا أن موقف الصين لم يكن له أي صدى في مسرح العمليات بالعراق .

فرنسا بدا موقفها سلبياً لدرجة تتناقض مع كل المواقف المسبقة، بحيث بدا أن هناك انقطاعا كاملاً بين فرنسا قبل العدوان وخلاله، من حيث الموقف من العمل العسكري .

  • جاء رد الفعل على المستوى الإقليمي ليعبر عن غياب كامل، وباستثناء التصريحات ذات الغرض الإعلامي، فإن الدائرتين العربية والإسلامية، لم يكن لها على المستوى الرسمي أي رد فعل وبالرغم من أن النظام الإقليمي، بمستوييه العربي والإسلامي، قد تعرض لواحدة من أقسى الضربات التي استهدفت هيبته الدولية، من جراء هذا العدوان الذي عبر عن تدني غير مسبوق في مستويات الحصانة الأمنية والسياسية له، إلا أن ردود الفعل كشفت عن تضاؤل احتمالات استجابة طاقاته الكامنة لعوامل الاستنفار المحتملة، وإذا كان ذلك الوضع قد جسدته الدوائر الرسمية سواء كانت نظماً قطرية أو مؤسسات جامعة، فإن ردود الفعل غير الرسمية، خاصة الشارع العربي، قد عبرت عن تآلف الجماهير مع مثل تلك الانتهاكات .

وقد أعلنت الإدارة الأمريكية توقف الضربات العسكرية بعد اليوم الرابع لها، إلا أن الأعمال العسكرية استمرت بعد ذلك، في ضوء موقف العراق، الذي أعلن وقف تعاونه مع اللجنة الدولية، وإنهاء الحظر المفروض على النطاقين الجنوبي والشمالي، لتدخل أزمة العراق في منعطف جديد، وفي مرحلة انتقل فيها العمل الدولي إلى مستوى جديد هو مستوى الإدارة الأمريكية وليس الأمم المتحدة.

حصاد نظام صدَّام :

حالة العراق فى ظل العقوبات الدولية :إذلال شعب، وإنتهاك سيادة دولة :

خلال عام 1998م تعقدت العلاقات بين العراق من جهة والأمم المتحدة من جهة أخرى، وذلك بسبب تقييم كل من الطرفين لمستوى التعاون العراقى مع الهيئة فيما يتعلق بنزع أسلحة الدمار الشامل العراقية، ثم ما يترتب على ذلك التقييم من نظر إلى مسألة العقوبات الدولية المفروضة على العراق، وعلى ذلك مرت السنة بين تأزمٍ فى أغلبها ووفاقٍ فى قليلٍ منها .

إلا أن تقارير اللجنة الدولية حول التعاون العراقى، والنتائج التى يرتبها مجلس الأمن على تلك التقارير ليست هى كل المشكلة، وإن كانت هى الصوت الأعلى فى وسائل الإعلام من بين هموم العراق، فهناك أثرين للوضع المتردى الذى بلغه العراق، شعباً ودولة، فى ظل المسار الذى تتخذه العقوبات الدولية عليه، فأولاً : بالنسبة للشعب العراقى، هناك كارثةً إنسانية على أى مقياسٍ وُضعت، وثانياً : بالنسبة للعراق الدولة، هناك انتهاكات صريحة للأعراف والقوانين الدوليين فى جميع ما يتصل بسيادة دولة على أراضيها، وهناك أخطار تتهدد مستقبل وحدة العراق، وفيما يلى تغطية لهاتين النقطتين .

أولاً : الشعب العراقى : حاجاته ومدى كفاية برنامج النفط مقابل الغذاء:

على مدى ثمانية أعوام، تتزايد حدة معاناة المواطنين فى العراق، و ذلك من جراء الحصار الاقتصادى المفروض على العراق ضمن العقوبات الدولية ضده، ويتعرض الناس هناك لعوامل فقر قاسية فى مواردهم من الغذاء والدواء، فضلاً عن تآكل بنية المرافق الحيوية والعامة، نتيجة تردى مستوى الصيانة وغياب قطع الغيار اللازمة لها .

إن هذا الوضع على وجه الخصوص هو الذى استثار الرأى العام العالمى، وحرك الجهات غير الرسمية، وخاصةً منظمات حقوق الإنسان، للضغط من أجل رفع المعاناة عن هذا الشعب، مما أدى إلى إيجاد صيغة توفيقية بين المطالب الإنسانية لإنقاذ شعب، وبين مقتضيات سياسية تفرض عقوبات ضد نظام . وعلى ذلك وُلدت اتفاقية النفط مقابل الغذاء، التى أُبرمت بين العراق والأمم المتحدة منذ سنتين، بعد مفاوضات ممتدة عكست التصادم بين إرادة النظام العراقى وبين إرادة المنظمة الدولية حول بنود الإتفاق، و كيفية تنفيذه، وشروط هذا التنفيذ، وتقضى بالسماح للعراق ببيع جزء من نفطه يتم شراء غذاء ودواء بثمنه، على أن يتم بيع البترول وشراء المواد اللازمة وإتمام عملية توزيعها تحت إشراف الأمم المتحدة من خلال لجنة دولية ( لجنة المقاطعة ) خاصة بهذه المهمة .

وبعد انقضاء أربعة مراحل كاملة من هذا البرنامج، فإن الثابت من خلال الوضع البائس فى العراق، وبشهادة كافة المنظمات المهتمة فى العالم، خاصة فى الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا، أن الكميات المسموح بها تصديراً واستيراداً، لا تغطى الحد الأدنى اللازم لبقاء المواطنين العراقيين أحياء، وقد أعلن المسئولون فى العراق دائماً عن شكوى العراق من عدم كفاية هذه الكميات، وعن قيام لجنة المقاطعة بعرقلة العديد من الاتفاقات المبرمة فى إطار البرنامج لأسباب واهية ([151]) .

كما تقوم الصحف العراقية و بشكل دائم بشن حملات ضد الولايات المتحدة وبريطانيا لقيامهما بدور مزدوج فى تكريس المأساة العراقية : من خلال الضغط على مجلس الأمن بحيث تستمر العقوبات، وأيضاً من خلال استغلال عضويتهما فى لجنة المقاطعة بحيث تعيقا تنفيذ الكثير من العقود التى يبرمها العراق لبيع البترول وشراء المواد اللازمة ([152]) .

أما من ناحية المجتمع الدولى غير الرسمى، فإن هناك إجماع على خطورة الوضع المأساوى فى العراق، وإجماع على ضرورة رفع العقوبات عن الشعب العراقى، بقطع النظر عن شكل نظامه الحاكم أو مستوى عمليات نزع السلاح، وفيما يلى نماذج لتلك المواقف :

فى الولايات المتحدة :ـ أعلن جى سميث رئيس منظمة الإغاثة الخاصة ” أميربكيرز ” أن هناك معارضة شديدة لاتجاه مجلس الأمن إلى تمديد العقوبات على العراق فى اجتماعه يوم 27/4/1998م، وأن المنظمة سوف تقوم بإرسال ما يزيد على 75 الف رطل من الأدوية وإمدادات المستشفيات إلى بغداد فى نفس توقيت اجتماع المجلس ([153])

ـ أعلن رامزى كلارك المدعى العام الأمريكى فى إدارة “جونسون “، أن المؤسسة تعتزم تأسيس ائتلاف مع مؤسسات أمريكية وبريطانية كبرى يُسمى ” تحدى عقوبات العراق “، كما تعتزم المؤسسة إرسال متطوعين وإمدادات طبية إلى العراق، وكذلك تنظيم أسبوع من الاحتجاجات فى الولايات المتحدة ( 6 ـ 13 مايو ) ضد قرار مجلس الأمن تمديد العقوبات المفروضة على العراق فى المراجعة نصف السنوية 27/4/1998م .وقد بدأ هذا الائتلاف نشاطه بتوزيع منشور يوضح أن أكثر من 1,5 مليون عراقى ـ أكثرهم من الأطفال ـ قد ماتوا بسبب الحصار المفروض على العراق منذ ثمان سنوات ([154]) .

ـ رداً على الشكوى الدائمة من العراق، كان بل ريتشاردسون المندوب الأمريكى الدائم فى مجلس الأمن، قد نفى أن تكون هناك مشكلات فى برنامج النفط مقابل الغذاء، ووصف شكوى العراق بأنها ” حملات دعاية مبالِغة ” ([155])، لكن وخلال زيارة وفد ” المجلس الوطنى للكنائس الأمريكية ” إلى العراق فى أبريل من نفس العام، أعلن القس “رودنى باجى ” رئيس الوفد أنه صُدم بآلام الشعب العراقى الخاضع للعقوبات الدولية، وقال إن المجلس يعمل دائماً على لفت انتباه الشعب الأمريكى إلى ما يعانيه العراقيون ([156]) .

ـ صحيفة “كريستيان ساينس مونيتور ” الأمريكية، وفى معرض تعليقها على اتفاقية النفط مقابل الغذاء، ذكرت أن العقوبات كلفت العراق 100 مليار دولار، و ان الوضع فى العراق هو مأساة تتطلب حل فورى، حده الأدنى زيادة الكميات المسموح بتصديرها من البترول، وقالت أنه ” يتعين على الضمير العالمى أن يستيقظ بعد طول ثُبات ” ([157])

ـ عندما بدأت بوادر الأزمة الجديدة بإعلان العراق تجميد تعاونه مع اللجنة الدولية، ثم عاودت الولايات المتحدة وبريطانيا الحديث عن الخيار العسكرى، قام وفد منظمة صوت البرية ( منظمة بريطانية غير حكومية ) بتنظيم اعتصام أمام ” مركز بغداد للرقابة والتحقيق ” التابع للجنة الدولية الخاصة،خلال الفترة من 10 إلى 14 أغسطس 1998م، وذلك احتجاجاً على موقف اللجنة الدولية ورئيسها ريتشارد بتلر، الذى يعمل على عرقلة مساعى رفع العقوبات عن العراق، وإعراباً عن التضامن مع شعب العراق فيما يُعانيه من جراء الحظر المفروض عليه، وأعلن ” ميلان راى ” رئيس المنظمة، أنه فى نفس الفترة التى يجرى فيها هذا الاعتصام فى بغداد، تنظم المنظمة مظاهرات احتجاج واعتصامات أمام مقر مجلس الأمن فى نيويورك، وأمام مقر الحكومة البريطانية فى لندن، بهدف إعلان التضامن مع الشعب العراقى فى مواجهة الحصار المفروض عليه ([158]) .

ـ مع تطور الأزمة الأخيرة، وسعى الولايات المتحدة إلى الترويج للخيار العسكرى، عقب فشل محادثات طارق عزيز والأمين العام للأمم المتحدة، انضم عدد من أعضاء الكونجرس الأمريكى ( 2 من مجلس الشيوخ و 44 من اعضاء مجلس النواب ) إلى عدد من أعضاء منظمات حقوق الإنسان و دينيس هاليداى، منسق الأمم المتحدة لبرنامج النفط مقابل الغذاء، فى الوقوف ضد الحكومة الأمريكية و مجلس الأمن، وطالبوا بتخفيف العقوبات الاقتصادية المفروضة على العراق، وذلك فى رسالة بعثوا بها إلى الرئيس الأمريكى بل كلنتون، حيث أشاروا فيها إلى التدهور الخطير للوضع الإنسانى فى العراق، وطالبوا بضرورة الفصل بين العقوبات العسكرية والعقوبات الاقتصادية ([159]) .

هذه نماذج من المواقف التى تعبر عن الجوهر الحقيقى لإرادة المجتمع الدولى، وغيرها الكثير من النماذج فى مختلف دول العالم، والتى تطالب بالفصل بين مسار التعامل مع النظام العراقى وأسلحته، وبين المسار الذى يحتوى فقط على إنسان يطلب الخبز والدواء .

ثانياً : سيادة العراق بين ميثاق الأمم المتحدة  وممارسات غير مشروعة:

قدم العراق العديد من الشكاوى إلى مجلس الأمن والأمين العام للأمم المتحدة، يُطالب فيها باتخاذ إجراءات من شأنها حماية وحدة العراق وأمنه القومى ضد بعض الممارسات من جانب أطراف معينة، على رأسها الولايات المتحدة، التى تقوم بأعمال عسكرية تستهدف عمق الأراضى العراقية، والتى بلغت ذروتها بالقصف الجوى لمواقع رادارات عراقية فى منطقة الحظر الجنوبية فى يونية 1998م . ثم تركيا وقواتها التى تباشر عملياتها العسكرية بحرية تامة، وذلك بحجة مطاردة حزب العمال الكردستانى فى شمال العراق .

وقد بعث محمد سعيد الصحاف برسالة إلى مجلس الأمن طالب فيها بوقف الأعمال العدوانية التى تقوم بها الولايات المتحدة ضد أراضى العراق ([160])، وفى رسالة أخرى بعث بها الصحاف إلى رئيس مجلس الأمن، طالب فيها المجلس باتخاذ الخطوات الكفيلة لضمان سيادة العراق ووحدة أراضيه واستقلاله السياسى، والتصدى لسياسة التآمر والتحريض التى تنتهجها واشنطون ضد أمن العراق، وذلك فى إشارة واضحة إلى ما نشرته صحيفة ” وول ستريت جورنال ” بشأن مخططات أمريكية ضد النظام العراقى ([161]) ،وهى المخططات التى كشفت صحيفة ” واشنطون بوست ” الأمريكية تفاصيلها بعد ذلك ([162])، والخاصة بتأليب المعارضة ضد نظام صدام حسين وإسقاطه بالتنسيق مع بريطانيا، وهو المخطط الذى تم ترجمته عملياً فى صورة تنسيق وتعاون بين حزبى الاتحاد الوطنى الكردستانى والحزب الديمقراطى الكردستانى المتحاربين، من خلال الاتفاق الذى وقّع بين جلال طالبانى ومسعود برازانى بوساطة أمريكية فى واشنطون خلال شهر سبتمبر من هذا العام ([163])، ثم تسليح منظمة ” المؤتمر الوطنى ” العراقية المعارضة، والمقàمة فى لندن، وإرسالها إلى شمc7ل العرـ’c7ق للتعاون مع المعارضة الكردية ([164]).

و احتج العراق أيضاً لدى مجلس الأمن ولدى جامعة الدول العربية على الاتصال المباشر بين الولايات المتحدة والأكراد العراقيين، وذلك بمناسبة دخول وفد أمريكى _رئاسة ديفيد ويلش مساعد وزير الخارجية الأمريكى، إلى العراق فى منطقة الحظر الشمالية  واجتماعه بالأكراد ([165]).

كما قدم العراق احتجاجا لدى مجلس الأمن يطالب فيه بالتدخل لدى الحكومة الكويتية وذلك فى واقعتين، الأولى تتعلق بقيام الكويت ببيع خمسة ناقلات بترول عراقية، و قد ردت الكويت بأن هذه السفن مصنفة على أساس أنها غنائم حرب ([166])، والثانية تتعلق بشكوى العراق بان الحكومة الكويتية أصدرت تصريحات من جانب واحد، تتناول ترسيم الحدود العراقية ـ الكويتية بشكل يهدد أمن وسيادة العراق ([167]) .

أما تركيا، فلديها قوات عسكرية مقيمة بشكل شبه دائم فى شمال العراق، وفى أكثر من مرة قامت قوات عسكرية تركية، يتراوح أعدادها بين خمسة عشرة إلى خمسٍة وعشرين ألفاً، بالدخول إلى عمق الأراضى العراقية، الواقعة فى منطقة الحظر الشمالية، ورغم شكوى العراق، ورغم تأكيدات الأمم المتحدة ومجلس الأمن، وكافة المنظمات الدولية والإقليمية الأخرى، على تأمين حدود العراق والحفاظ على وحدة أراضيه، إلا أن الانتهاكات التركية لا تزال قائمة، كما أن الولايات المتحدة الأمريكية تستخدم الأراضى التركية كمعبر للاتصال بالأكراد العراقيين.

خاتمة :

شهدت الفترة مابين 14/10/1997م إلى 12/11/1998م، ثلاث حلقات من التوتر الذى يصل إلى حد الأزمة، بين العراق ومجلس الأمن، الحلقة الأولى فى أكتوبر 1997م، والتى بدأت عندما رفض العراق السماح للمفتشين الأمريكيين بدخول العراق، اعتراضاً على مواقف وتصريحات هؤلاء المفتشين، التى تعبر عن انحياز مبدئي لاستمرار فرض العقوبات على العراق، وعلاقاتهم الثابتة بإسرائيل، وانتهت تلك الأزمة بتراجع العراق عن موقفه، أما الحلقة الثانية، فقد بدأت فى 26/11/1997م، وذلك عندما أعلن العراق رفضه السماح للمفتشين الدوليين بدخول بعض المواقع و تفتيشها، باعتبارها إما قصور رئاسية تتعلق بسيادة الدولة، كرمز للنظام، أو مواقع حساسة، باعتبارها تتعلق بالأمن القومى العراقى، واتسمت هذه الحلقة بطول الفترة الزمنية التى استغرقتها ( أربعة شهور )، وباتساع نطاق الأصعدة السياسية التى تحرك عليها أطراف الأزمة، سعياً للحصول على التأييد الدولى، وبارتفاع حدة التصعيد العسكرى وتزايد الحشود العسكرية، الأمريكية والبريطانية فى منطقة الخليج، وانتهت تلك الأزمة فى 23/2/1998م، بتوصل الأمين العام للأمم المتحدة، كوفى عنان، إلى صيغة اتفاق يقضى بقبول العراق غير المشروط بتفتيش كافة المواقع سابقة الذكر، مقابل وعود من الأمين العام بالعمل على سرعة إنهاء مهام التفتيش، وأن يقوم مجلس الأمن بعد ذلك بإجراء مراجعة شاملة للعقوبات المفروضة فى ضوء تقييم المجلس لمستوى التعاون العراقى مع اللجنة الدولية .

الحلقة الثالثة : بدأت فى 5/8/1998م، عندما أعلن العراق قرار تجميد تعاونه مع اللجنة الدولية، ثم قراراً آخر يقضى بوقف كافة أشكال التعاون مع الأمم المتحدة باستثناء الوكالة الدولية للطاقة الذرية، واشترط العراق أن تقوم الأمم المتحدة بتغيير ريتشارد بتلر وبعض أعضاء اللجنة الدولية، الذين يتهمهم العراق بالعمل كجواسيس لصالح الولايات المتحدة وإسرائيل، واشترط أيضاً أن يقوم مجلس الأمن بمراجعة العقوبات الدولية المفروضة على العراق، والقيام بإغلاق الملفات التى تم الانتهاء منها، وعلى رأسها الملف النووى، وبطبيعة الحال رفض مجلس الأمن الشروط العراقية، كما أن العراق افتقد المساندة الدولية والإقليمية، والتى ظن النظام العراقى أنها مازالت قائمة شأن الأزمة السابقة، و مع مرور الوقت، تزايدت إحتمالات، قيام الولايات المتحدة وبريطانيا بتوجيه ضربة عسكرية ضد العراق، وللمرة الثالثة، أعلن العراق فى اللحظات الأخيرة  تراجعه عن قرار تجميد تعاونه مع اللجنة الدولية، وقبوله الكامل بمعاودة  التعاون مع اللجنة وفق القرارات الدولية دون قيدٍ أو شرط، وأضافت الولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا شرطاً جديداً يقضى بتوجيه ضربة عسكرية إلى العراق، دون سابق إنذار، فى حالة قيام العراق بإثارة أية أزمات جديدة ، وبدا أن الأزمة قد انفرجت، وذلك فى 12/11/1998م .

و بتحليل مسلسل الأزمات السابق ذكره، يمكن القول أن هناك بعض الحقائق الجوهرية، التى تثير الأزمات وتعمل على القابلية المستمرة للتوتر بين العراق ومجلس الأمن :

أولى هذه الحقائق أن الفترة التى خضع العراق خلالها لعمليات التفتيش، وفق القرارات الدولية لمجلس الأمن وهى ثمانية أعوام، هى فترة طويلة جداً، كما أن الآليات التى أتيحت للجنة الدولية بهدف تسهيل القيام بمهامها، هى آليات عالية التقنية سواء كانت أقمار صناعية أمريكية أو إسرائيلية، مخصصة لأعمال التجسس، أو أجهزة الرصد والتحقق التى زُوِّد بها أعضاء اللجنة، البالغ عددهم 120 خبير يعملون فى حرية تامة، فضلاً عن المعلومات التى يتطوع بتقديمها إلى اللجنة الدولية الدول التى كان لها مساهمة فى بناء القدرات العراقية غير التقليدية، كل ذلك يجعل من مقولة أن هناك مزيداً من القدرات العراقية مثاراً للشك فى الأهداف الحقيقية لأعضاء اللجنة، الأمر الذى تدعمه تصريحات وسلوكيات هؤلاء الخبراء، و يترتب على ذلك أن العراق يجد المبررات التى تشجعه على إثارة الأزمات، كما أن كثيراً من القوى الدولية ترى أن العراق محق فى كثيرٍ من شكواه .

ثانى هذه الحقائق هى أن الذى يتعرض للعقاب والتأديب ليس النظام العراقى، وإنما الشعب العراقى، وإذا كان النظام العراقى يستغل بشاعة الوضع الإنسانى فى العراق، كورقة يحاول أن يكسب بها مزيداً من مبيعات النفط، أو التعاطف الدولى، فإن الحقيقة القائمة هى أن أجيالاً لم تصنع ذلك النظام و لا تملك تغييره، تتعرض للتجويع والإذلال والقتل، الأمر الذى يمثل عنصراً داعياً للتشكيك فى مجمل عمليات الأمم المتحدة فى العراق، كما يمثل منطقة تعاطف محتمل، يغذى القرارات العراقية التى تثير الأزمات .

أخيراً، فإنه من الثابت أن أعضاء اللجنة الدولية يقومون من خلال التقارير التى يرفعونها إلى مجلس الأمن، بالعمل فعلياً على استمرار العقوبات، و إذا كان سلوك هؤلاء الخبراء ليس فوق الشبهات، وإذا كانت الأمم المتحدة ليس لديها استعداد للتحقيق فى الشكاوى العراقية ضدهم، فى الوقت الذى تقف فيه الولايات المتحدة للعراق خصماً وحكماً، فلن يبقى أمام العراق سوى أن يدفع العلاقات بينه والأمم المتحدة إلى التوتر، والحد الأدنى الذى ينتظر أن يحصل عليه هو الإبقاء على المسألة العراقية فى بؤرة الأجندة السياسية.

إن الأزمات التى أثارها العراق خلال هذا العام، والتى كانت وسائل الإعلام تستخدم مفهوم ” الأزمة العراقية ” لوصفها، هذه الأزمات وضعت كل التاريخ العراقى المعاصر فى بؤرة التحليل، سواء تعلق الأمر بالشئون الداخلية فى العراق، أو بالنسبة للأُطر الإقليمية التى يتحرك العراق داخلها، أو النظام الدولى الذى تحدث القضية العراقية فى ظل توازناته وقواعده و آلياته، وفق هذه الرؤية، فإن الأزمة العراقية ليست فقط أزمة العراق، وإنما هى أزمةٌٌ شاركت فى صنعها ثلاثة مستويات، كلاً منها ساهم فى الأزمة إما إيجاباً بالحضور الفاعل، أو سلباً بالغياب الكامل :

المستوى الأول : العراق، باعتباره المسئول الأول عن الكثير من الكوارث التى لحقت بالمنطقة فى التاريخ المعاصر، بداية من الحرب العراقية الإيرانية، والتى دامت ثمانية سنوات، استنزفت خلالها أرقاماً فلكية من الطاقات البشرية والاقتصادية والعسكرية التى خُصمت من مقدرات الدول العربية وإيران، تلا ذلك قيام العراق باحتلال الكويت، وما ترتب عليه من استنزافٍ لبقية الموارد العربية إقتصادياً وعسكرياً، بل ومحو العراق نفسه من على خريطة الفاعلين فى المنطقة، وإذا كان النظام العراقى مسئول عن القرارات الهوجاء التى اتخذها فى الحالتين، فإن الشعب العراقى مسئول بعجزه عن إيجاد صيغة سياسية صحيحة، تمكنه من ممارسة نوع من الضبط والرقابة على أجهزة صنع القرار فى النظام السياسى .

المستوى الثانى : و هو المستوى الإقليمى، فرغم تعدد الأطر التنظيمية الموجودة  فى المنطقة : جامعة الدول العربية ومنظمة المؤتمر الإسلامى ومجلس التعاون الخليجى، إلا أن هذه التنظيمات الشكلية عجزت عن إيجاد آليات تحول دون وقوع الحروب والمشكلات، التى كثيراً ما تثور فى المنطقة، وفى حالة العراق، فإن تلك المنظمات فشلت فى احتواء الأزمات إبتداءً، ومن ثم عجزت عن القيام بأى دور بعد ذلك فى منع وقوع  المشكلات، من هنا فرضت الأطراف الخارجية آلياتها الخاصة، والتى تتغلب فيها المصالح الذاتية على أى اعتبارٍ آخر .

المستوى الأخير ويتعلق بالنظام الدولى، سواءٌ كان سلوك القوى الكبرى الرئيسية فيه، أو تنظيمه الدولى ممثلاً فى هيئة الأمم المتحدة  وألياتها المختلفة، فالولايات المتحدة  الأمريكية، باعتبارها القوة الرئيسية فى النظام الدولى المعاصر، تتبنى القرارات الدولية التى يصدرها مجلس الأمن ضد العراق، وهى فى نفس الوقت لها مصالحها الأكيدة فى منطقة الخليج ( و كان لها الكثير من المكاسب التى جنتها مباشرة من حربى الخليج الأولى و الثانية )، ولها من الأسباب السياسية والاقتصادية ما يجعل لها تأثير ظاهر على الأمم المتحدة  بهيئاتها المختلفة، وفى ضوء علاقة الولايات المتحدة  بالأمم المتحدة على هذا النحو، تأتى اللجنة الدولية المكلفة بنزع أسلحة العراق، لتمثل أحد مناطق التقاطع بين الدولة والمنظمة، و بهذا المنطق، فمن الطبيعى أن يذهب فريق الخبراء الدولى إلى العراق، بتكليف من مجلس الأمن و بناءً على قرار دولى، ثم يصدر رئيس الفريق، ريتشارد بتلر، قراراً بسحب المفتشين الدوليين من العراق بتكليف من الولايات المتحدة الأمريكية، فى الأولى يتم للولايات المتحدة  طابع الشرعية الدولية على أعمال التفتيش، وفى الثانية يتم للولايات المتحدة  الالتفاف على المعارضة المحتملة فى مجلس الأمن، وفى النهاية فإن انتهاء الأزمات بين العراق والأمم المتحدة كان دائماً أمراً مرهوناً بقبول الولايات المتحدة للصيغة التى تنتهى بها الأزمة، وعلى الأمين العام أن يتقدم إلى الولايات المتحدة  بشرح و تبرير لأسباب قبول الأمم المتحدة  لصيغة التراجع العراقى.

___________________

إشراف: أ.د. نادية مصطفى

الهوامش

([1]) أنظر : د. نادية محمود مصطفى ، خبرة عملية تدمير القدرات العراقية  فى مجال أسلحة الدمار الشامل ، سلسلة بحوث سياسية ، العدد (67) ، يوليو 1993م ، مركز البحوث و الدراسات السياسية ، كلية الإقتصاد و العلوم السياسية .

([2]) الحياة   16/10/1997م .

([3]) الأهرام  18/10/1997م .

([4]) الأهرام 18/10/1997م .

5 الحياة 16/11/1997م .

6 الأهرام 17/11/1997م .

7 الوفد 16/11/1997م .

8 الأهرام 17/11/1997م .

9 الحياة 17/11/1997م .

10 الأخبار 19/11/1997م .

11 الجمهورية 22/11/1997م.

  1. الأخبار 19/11/1997م .
  2. الجمهورية 22/11/1997م .
  3. الأهرام  23/11/1997م .
  4. الأهرام  23/11/1997م .
  5. الوفد 26/11/1997م .
  6. الوفد 26/11/1997مم .
  7. الأهرام 10/12/1997م .
  8. الأهرام 10/12/1997م .
  9. الوفد 10/12/1997م .
  10. الأهرام 12/12/1997م .
  11. الوفد 14/12/1997م .
  12. الحياة 14/12/1997م .
  13. الأهرام 25/12/1997م .
  14. الأهرام 1/1/1998م .
  15. الحياة 16/1/1998م .
  16. الأهرام 25/1/1998م .
  17. الأهرام 1/2/1998م .
  18. الأخبار 26/11/1997م .
  19. الأهرام 1/2/1997م .
  20. الأهرام 18/1/1998م .
  21. الوفد 19/1/1998م .
  22. الجمهورية  28/1/1998م .
  23. الأهرام 1/2/1998م .
  24. الأهرام 21/1/1998م .
  25. الأخبار 19/1/1998م .
  26. الحياة 17/1/1998م .
  27. الأهرام 12/2/1998م .
  28. الحياة 15/2/1998م .
  29. الأخبار 12/2/1998م .
  30. الأهرام 1/2/1998م .
  31. الأهرام  1/2/1998م .
  32. الحياة 9/2/1998م .
  33. الأهرام 9/2/1998م .
  34. الأهرام 5/2/1998م .
  35. الحياة 7/2/1998م .
  36. الأخبار 10/2/1998م
  37. الأهرام 31/1/1998م .
  38. الحياة 17/2/1998م
  39. الأهرام 18/2/1998م .
  40. الوفد 26/11/1997م.
  41. الأهرام 19/2/1998م.
  42. الأهرام 18/1/1998م .
  43. الأهرام 19/2/1998م .
  44. الأهرام 10/2/1998م .
  45. الأهرام  2/2/1998م .
  46. الأهرام   20/12/1998م .
  47. الحياة   15/2/1998م .
  48. الأخبار 14/2/1998م .
  49. الأهرام   25/1/1998م .
  50. الجمهورية 14/2/1998م .
  51. الأهرام   17/2/1998م .
  52. الأهرام 17/2/1998م .
  53. الحياة    31/1/1998م .
  54. الأهرام  11/2/1998م .
  55. الأخبار 14/2/1998م .
  56. الجمهورية 14/2/1998م .
  57. الوفد 22/12/1997م .
  58. الوفد 22/12/1997م .
  59. الأهرام 28/1/1998م .
  60. الأهرام  3/2/1998م .
  61. الأهرام  5/2/1998م
  62. الأهرام   12/2/1998م
  63. الأخبار 9/2/1998م .
  64. الأهرام  12/2/1998م .
  65. الأخبار  18/2/1998م .
  66. الأخبار 18/2/1998م .
  67. الحياة 1/2/1998م .
  68. الحياة 2/2/1998م .
  69. الأهرام 3/2/1998م .
  70. الأهرام 14/2/1998م .
  71. الأهرام 2/2/1998م .
  72. الوفد 10/12/1997م .
  73. الأهرام   2/2/1998م .
  74. الوفد  10/12/1997م .
  75. الأهرام  2/2/1998م .
  76. الأخبار   10/2/1998م .
  77. الأهرام   11/2/1998م .
  78. الأهرام   11/2/1998م .
  79. الأهرام 14/2/1998م .
  80. نقلاً عن : الأهرام  25/2/1998م .
  81. الأهرام   28/2/1998م .
  82. الأهرام   25/2/1998م .
  83. الأخبار  26/2/1998م .
  84. الأهرام   26/2/1998م .
  85. الحياة .  .  . 1/3/1998م .
  86. الأهرام .  .  .  25/1/1998م .
  87. الحياة . .  .  .  22/1/1998م .
  88. الحياة . .  .  .  1/3/1998م .
  • لأهرام . . .  .  18/8/1998م .
  • الحياة . .  .  . 1/3/1998م .
  • الأهرام . . .  . 17/4/1998م .
  • الأهرام . . .  26/4/1998م .
  • الأهرام . . .  28/4/1998م .
  • الحياة . .  26/4/1998م .
  • الأهرام . . 28/4/1998م
  • الأهرام . . . 25/4/ 1998م.
  • الحياة . . .  .28/4/1998م .
  • الأهرام . .   30/4/1998م .
  • الأهرام . .  .   5/6/1998م .
  • الأهرام . .  .    20/6/1998م .
  • الحياة . .  . .   8/6/ 1998م .
  • الأهرام . .  .  20/6/1998م .
  • الأهرام . .  .  4/7/1998م .
  • الحياة . . .  .  10/4/1998م .
  • الوفد . .  .   .  3/8/1998م .
  • الأهرام . . .  .  6/8/1998م .
  • الوفد . . .  12/8/1998م .
  • الأهرام . .  .  11/8/1998م .
  • الأخبار . . .   8/8/1998م .
  • الأهرام . . .  18/8/1998م .
  • الأخبار . . .   8/8/1998م .
  • الحياة . . .  .  8/8/1998م .
  • الأهرام . . .  .  19/8/1998م .
  • هذا فى الوقت الذى ضغط فيه الكونجرس على الإدارة الأمريكية، لحملها على معارضة مشروع إنشاء محكمة دولية لمجرمى الحرب، باعتبار أن شروط الوقوع تحت طائلتها، تنسحب على بعض كبار المسئولين فى إسرائيل .
  • الأخبار . .  .   8/8/1998م .
  • الحياة . .  .  .  11/8/1998م
  • الأسبوع . .  . 10/8/1998م .
  • الأهرام . .  .  .  21/8/1998م .
  • الأهرام . .  .  .  15/9/1998م .
  • الأهرام . .  .  .  15/9/1998م .
  • الحياة . . .  .  .  8/10/1998م .
  • الوفد .  .  .  7/11/1998م .
  • B B C . .  14/11/1998م .
  • الحياة . . .   19/8/1998م .
  • الأهرام . . .  .  20/8/1998م .
  • الأهرام . .  . .  17/9/1998م .
  • الأهرام . . .  .  17/9/1998م .
  • الأهرام . .  .  .  16/10/1998م .
  • الحياة . . . .  .  17/10/1998م .
  • الأهرام . .  .  .  8/10/1998م .
  • حصاد اليوم الإخبارى، القسم العربى، هيئة الإذاعة البريطانية، 5/11/1998م .
  • الوفد . . .  .  .   11/11/1998م .
  • حصاد اليوم الإخبارى، القسم العربى، هيئة الإذاعة البريطانية، 5/11/1998م .
  • الأهرام . . . . 13/10/1998م .
  • هيئة الإذاعة البريطانية، 5/11/1998م .
  • الأخبار . .  .  .  .  9/11/1998م .
  • B B C . . .14/11/1998م .
  • الجمهورية . .   .  5/11/1998م.
  • B B C ‍15/11/1998م .
  • وقع العدوان الأمريكي-البريطاني على العراق في الوقت الذي بدأ فيه إعداد التقرير في صورته النهائية للطباعة . ومن ثم كانت ضرورة تسجيل بعض الملاحظات عن مدلولات هذا العدوان وإن كان هذا لا ينفي أن هذا الحدث في حاجة لتحليل أكثر تفصيلاً

[151]  منها : تصريحات وزير التجارة و التموين العراقى   : الحياة  .  .  .  25/4/1998م .

و كذلك تصريحات أوميد مبارك وزير الصحة العراقى : الوفد  .  .  .  12/8/1998م .

[152] الأهرام  .  .  .  25/4/1998م .

[153] الحياة .  .  .  .  25/4/1998م .

[154] الحياة .  .  .  .  25/4/1998م

[155] الأهرام  .  .  .  28/4/1998م .

[156]  الحياة  .  .  . .   12/4/1998م .

[157] الأهرام .  .  .  .  12/4/1998م .

[158] الأهرام   .  . .  11/8/1998م .

[159] الحياة .  .  .  .  8/10/1998م .

[160] الأخبار .  .  .  4/7/1998م .

[161] الحياة .  . .  .1/6/1998م .

[162] الوفد  .  .  . 3/8/1998م

[163] الأهرام .  .  . 15/9/1998م .

[164]trch الأهرام .  . .  .  17/10/1998م .

[165] الوفد .  . .  .  12/8/1998م .

[166] الحياة .  .  .  .  11/7/1998م .

[167] الأخبار .  . .  .  4/7/1998م .

 

  • نُشرت هذه الدراسة ضمن: د. نادية مصطفى، د. سيف الدين عبد الفتاح (إشراف عام)، أمتي في العالم: الأمة والعولمة (القاهرة: مركز الحضارة للدراسات السياسية،1999).

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى