الأمة بين المحنة والمنحة.. أول غيث الإصلاح المقاومة

خاتمة العدد السابع من حولية أمتي في العالم 1426-1427 هـ / 2005-2006م

من رحم محنة الأمة يجب أن تولد مِنَحُها، ومن علامات فاعلية الأمة أو بيّنات فاعلياتها أن تحوّل المحن إلى منح ضمن وعي وسعى يحقق ذلك ويتحقق منه.

وإذا كانت محنة الأمة وأزمتها قد دفعت قطاعاتٍ كثيرةً من الأمة إلى أن ترفع شعار الإصلاح؛ فكان ذلك أول المنح لمحنة الأمة وأزمتها، فإن المقاومة مثلت منحة أخرى، خرجت من رحم دعوة الإصلاح: }إِنْ أُرِيدُ إِلاَّ الإِصْلاَحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلاَّ بِاللّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ{.

 

 

فكانت المقاومة في حقيقتها (إرادة وعُدّة) ومحاولة للخروج من حال أزمة الأمة ومحنتها: }وَلَوْ أَرَادُواْ الْخُرُوجَ لأَعَدُّواْ لَهُ عُدَّةً{، لتشكل أو نقطة انطلاق أو إقلاع ضمن عملية الإصلاح الكلية والشاملة، وكأن المقاومة قد أوحت بتأويل مهم وجديد يصل قضية الإصلاح بالمقاومة ضمن سنة التغيير: }إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ{.

القوم والقيام والقائم والمقاومة والقيّم والقوّام والقيِّم وهي من جذر لغُوي واحد، تعبر عن منظومة التغيير ومتطلباتها وعملية التغيير وفاعلياتها.لا قوم إلا بقيام ونشاط وفاعلية، ولا قيام إلا بقائم وقيِّم كعنوان لفاعل لا يرضى عن الفاعلية بديلاً، ولا يقنع إلا بامتلاك إرادته وزمام قضاياه مسارًا وتسييرًا، في سياق الوعي “بنظام قيم” يحرك كل بواعث القيام بالحق والمدافعة المطلوبة المستندة إلى معاني “المقاومة” باعتبارها استجابة حضارية فاعلة وشاملة ومتكاملة، فتصير عملية التغيير ومنظومتها متعلقة بمعنى الفاعلية المشير إلى تغيير ما بالقوم وتغيير ما بالأنفس؛ لتشكل حركة فردية وجماعية، وفردية جماعية تتراكم لتأصيل معاني الفاعلية والتمكين والقوّامية. بكل معاني القِوَام والعدل الحق والأسس التي تنبني عليها حال التغيير ومقامه.

منحة الإصلاح تصلنا -ومن أقصر طريق- بمنحة المقاومة والعزة والتمكين، طريق الكرامة والتكريم؛ لتشكل بذلك أولى روافع الإصلاح، المقاومة في مواجهة كل عدو وعدوان، وكأن اجتماع استبداد الداخل واستبداد الخارج بالشعوب يعني -ومن كل طريق- ضرورة اجتماع معاني المقاومة لاستبداد الداخل والمقاومة استبداد الخارج، المقاومة الحضارية الحافزة للكيان، الحافظة لقواه وفاعلياته الحضارية. المقاومة في هذا السياق معنى ومغزى، حالة وعملية، أداة ومسئولية، مقام مكين وتأسيس قويم.

منحة الإصلاح والمقاومة غير “مؤتمر المانحين” الذي يعقد عقب كل أزمة ومشكلة. مؤتمرات المانحين ليست إلا محنة في جوهرها (ظاهرها الرحمة وباطنها من قبله العذاب)؛ لأنها المنحة حينما لا تكون إلا محنة، فتؤصل معاني العبودية والخنوع والتبعية. أما المنحة التي هي طريق العزة والكرامة والتمكين فهي منحة تولد من رحم المحنة، فتقوي   الكيان وتحفظ عافيته. منحة الإصلاح هي التي تتحرك صوب كل استبداد وفساد، ومنحة المقاومة هي التي تجابه كل عدوان واعتداء. إنها ثقافة المقاومة التي تختص كرامة الإنسان والإنسانية.

وفي هذا المقام؛ فإن هذا العدد حول “الإصلاح” والذي قصدنا منه أن نحرر معناه ومبناه ومبتغاه، ليس فقط في إطار عالم الأفكار، وإنما كذلك في عالم الأحداث والحركة والممارسة، إنما مثّل فاتحة للعدد القادم حول “المقاومة” لنحرر معناها ومبناها وجوهرها الشامل وتأسيسها الحضاري، ونؤصل مقاصدها ومبتغاها في الكرامة والعزة والفاعلية والتمكين. }وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ{بين الوعي والسعي بالسنن تتوالى المحن والمنح، ويمكَّن لمنظومة التغيير والإصلاح أن تتبدى } إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ {.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى