العدوان على غزة: خرائط الأرض – الناس – الإمكانات – التحديات

مقدمة:

مثَّلت عملية “طوفان الأقصى” التي قادتها حركة المقاومة الإسلامية حماس فى7 أكتوبر 2023، مفاجأةً لم تتوقف تأثيراتها عند حدود القضية الفلسطينية وما تتضمنه من صراعٍ ممتد بين الكيان الصهيوني والفلسطينيين حول الأرض والتاريخ والمقدسات، بل تجاوزته لتُربك الحسابات الإقليمية وتضع التقديرات الدولية للصراع الفلسطيني – الإسرائيلي في دائرة التقييم على المستويين الرسمي والشعبي وخاصةً في الدول الداعمة للحقوق الفلسطينية، كاشفةً عن خلل في المنظومة الأمنية والعسكرية الإسرائيلية، وسوء تقدير لقدرات حماس والفصائل الفلسطينية، مما أدى إلى فقدان إسرائيل لقوة الردع.

وفي طريقها لاستعادة قوة الردع، انتهكت إسرائيل كل الأعراف والمواثيق القانونية الدولية في العدوان على قطاع غزة تحت ذريعة القضاء على حركة حماس، مخلفةً الآلاف من الضحايا، في ظل دعم أمريكي وغربي كبيرين، وبعيدًا عن الانشغال بمسارات الحرب ومناحيها الاستراتيجية، وهو ما ستُعنى به تقارير أخرى ضمن هذا العدد، فإن الورقة الحالية تتركز بشكلٍ خاص على خرائط الأرض والناس، العمران والحرب، متتبعة أزمة قطاع غزة منذ 2006، بشكلٍ موجز، وصولا إلى تأثيرات الحرب الحالية على المساحات الإنسانية ومقومات الحياة داخل القطاع المنهك، ثم التوقف أمام سياسات التهجير القسري أمام آلة الحرب الصهيونية، وردود الفعل للأطراف المعنية تجاهها، وأخيرًا، المواقف الدولية من عملية التهجير وسؤال “اليوم التالي” أو مستقبل غزة ما بعد الحرب في الرؤى المختلفة.

أولًا- السياسة، المكان، الناس… “خرائط متشابكة”:

1- الناس:

يُعد قطاع غزة واحدًا من أكثر المناطق اكتظاظًا في العالم، حيث يضم 2.3 مليون نسمة في منطقة جغرافية لا تتجاوز 365 كيلومتر مربع، أي ما يعادل كيلو متر مربع لكل 6.019 فرد، في ظل اعتداءات الكيان الصهيوني المتكررة على القطاع وسياسة الموت البطيء المتعمدة ضد السكان، والتي تكرست من خلال الحصار الجوي والبري والبحري منذ أكثر من 16 عامًا، خاض الكيان الصهيوني خلالها خمسة حروب معلنة ضد القطاع (2008-2009، 2012، 2014، 2018، 2021)، قُتل وجُرح خلالها عشرات الآلاف، كما هُجِّر الآلاف عن بيوتهم داخل القطاع، كما دُمرت البنية التحتية ومنشآت الرعاية الصحية والمساكن، إضافةً إلى العديد من الهجمات المتفرقة ضد مسيرات العودة (2018-2019)، وضد الصيادين والمزارعين الفلسطينيين[1]. ما حوّل القطاع إلى “أكبر سجن في العالم”[2]؛ حيث منع الكيان الصهيوني خروج السكان منه والدخول إليه، كما مَارسَ القيود المُشددة على دخول السلع والبضائع ومواد البناء لعقود، الأمر الذي أثّر في عملية إعادة الإعمار، رغم مساعٍ دولية لاحتواء الوضع المأزوم، وقد أعلنت الأمم المتحدة أن قطاع غزة “غير قابل للحياة” بحلول عام 2020، وهو ما تحقق بشكلٍ كامل الآن. حيث يتعامل الكيان الصهيوني مع القطاع كــ “مختبر” لأسلحته وتقنياته العسكرية والأمنية، ونتيجةً لتلك السياسة الإجرامية فقد تفاقم سوء الوضع الاقتصادي والاجتماعي؛ إذ يصل معدل البطالة إلى نحو 50٪ في حين يعيش نحو 83٪ من السكان تحت خط الفقر، وتُشير الأمم المتحدة إلى أن 80٪ من السكان يعتمدون بشكلٍ أساسي على المساعدات الإنسانية والتي يتحكم فيها الكيان الصهيوني، بينما يُعاني القطاع انعدام الأمن المائي، نتيجة الحصار المفروض والحروب المتكررة[3].

وبالنظر إلى سياسات التهجير القسري، نجد أن الكيان الصهيوني يتبع أسلوب إجرامي ممنهج عبر سلسلة من المواقف، ففي 13 أكتوبر، أي بعد أسبوع واحد من بدء الحرب، طالب الكيان الصهيوني الأمم المتحدة بنقل ما يقرب من مليون فلسطيني من شمال قطاع غزة إلى الجنوب خلال 24 ساعة، وفي الوقت نفسه ألقى الطيران الصهيوني منشورات على السكان تدعوهم إلى الرحيل، وأطلق تهديدات بالقتل في حال بقائهم، هذا في ظل استمرار القصف المستخدم فيه كميات مهولة من الأسلحة بما فيها الأسلحة المحرمة دوليًا مثل الفسفور الأبيض على بعض المناطق، ما يُصنف على أنه جريمة حرب، الأمر الذي دعا عددًا من الخبراء الدوليين إلى تصنيف الجرائم الصهيونية بأنها عملية إبادة جماعية Genocide، في ظل تحذيرات من الأمم المتحدة والعديد من الدول العربية من مخططات تهجير الفلسطينيين داخل القطاع وخارجه باتجاه مصر وبلدانٍ أخرى، وأصبحت قضية التهجير موضع نقاشٍ جديّ وتصريحات متكررة من الحكومة المصرية[4].

وبالنظر إلى السياق الذي تجري فيه عملية التهجير، فإنه يمكننا القول بأن عملية التطهير العرقي الجارية في فلسطين بصفةٍ عامة، وغزة بصفةٍ خاصة، منذ النكبة وإلى اليوم، تعتبر واحدةً من أبرز ركائز المشروع الصهيوني، تلك حقيقة أكدتها تصريحات القادة الصهاينة وسياساتهم الفعلية على السواء، وذلك خلال كل حرب يخوضونها ضد الفلسطينيين، فخلال الحرب الجارية، صرح الرئيس الإسرائيلي يتسحاك هرتسوغ قائلا: “هناك أمة كاملة تتحمل المسؤولية (…) ليس صحيحًا القول بأن المدنيين غير واعين للأمر”. بينما صرح غسان عليان، منسق أعمال الحكومة الصهيونية في الضفة الغربية، خلال كلمته (باللغة العربية) الموجهة لأهل غزة: “حماس تحولت لـ “داعش”، سكان غزة بدلا من أن يصدمهم الأمر(أي عملية طوفان الأقصى) يحتفلون؛ ومع وحوش بشرية كهذه سوف نتعامل بما يلزم”، مصرحًا أن اسرائيل فرضت حصارًا كاملا على غزة ولن يكون لديكم مياه ولا كهرباء، فقط دمار “أردتم جهنم وسوف تحصلون على جهنم”، بينما طالب عضو الكنيست عن حزب الليكود، أرييل كالنر، بإلحاق نكبة ثانية بالفلسطينيين في غزة[5]. وهو ما تحقق عبر القصف الوحشيّ خلال الأشهر الماضية، وعبرت عنه المُقررة الخاصة بالأمم المتحدة في الأراضي الفلسطينية المحتلة: “هناك خطر جسيم بأن ما نشهده اليوم يُشَّكل تكرارًا لنكبة 1948 ونكسة 1967، ولكن على نطاقٍ أوسع… فقد نفذت إسرائيل في الواقع تطهيرًا عرقيًا جماعيًا للفلسطينيين بحجة الحرب، وهي تسعى، باسم الدفاع عن النفس، إلى تبرير ما يرقى إلى مستوى التطهير العرقي”[6].

لتكتمل سلسلة التهجير؛ فيوجد اليوم نحو 5.9 مليون لاجئً فلسطينيًا موزعين بين دول العالم، إضافةً إلى 742 ألف نازح (مهجرين داخليًا) في الضفة الغربية وقطاع غزة، نتيجة لسياسات الاحتلال والفصل العنصري، وقدرت الأونروا عدد النازحين خلال الحرب الحالية بأكثر من 1.7 مليون (أكثر من 80٪ من سكان غزة) داخل الأراضي المحتلة، وقد جاء هذا التهجير متزامنًا مع تصريحات الكيان الصهيوني بالاجتياح البري لقطاع غزة، بدءً من يوم 13 أكتوبر 2023، من خلال توجيه رسالة إلى ممثلي الأمم المتحدة في القطاع بضرورة إخلاء منطقة شمال وادي غزة والتوجه نحو الجنوب، كما وُجهت تلك الدعوات لسكان شمال قطاع غزة على لسان الناطق باسم الجيش الإسرائيلي دانييل هاغاري. ما يعني أن الكيان الصهيوني أزمع الأمر خلال تلك الحرب على تغيير قطاع غزة سكانيًا وماديًا، وذلك من خلال تركيز السكان في مناطق الجنوب وإفراغ الشمال تمهيدًا للاجتياح البري العسكري، كما يهدف إلى زيادة الضغط على السكان بتركيزهم في مناطق مزدحمة سكانيًا مفتقرة إلى الخدمات لتضطرهم إلى ترك غزة واللجوء إلى سيناء، حيث تعاني منطقة جنوب وادي غزة (دير البلح، خان يونس، رفح) من ارتفاع معدلات البطالة والفقر[7].

2- الأرض:

وفق تصريح لممثل الاتحاد الأوروبي للشؤون الخارجية والسياسة الأمنية جوزيب بوريل، فإن مستويات الدمار التي لحقت بغزة تُعد مقاربة لما حدث بالمدن الألمانية خلال الحرب العالمية الثانية (1939-1945)، فقد دمر الاحتلال خلال العدوان الأخير 117 مسجدًا كليًا ونحو 208 جزئيًا، ويُقِّدر مكتب الإعلام الحكومي في غزة عدد الوحدات السكنية المدمرة بنحو 355 ألف وحدة مدمرة جزئيًا أو كليًا منذ السابع من أكتوبر حتى نهاية ديسمبر 2023[8].

ويُوضح التقرير الذي نشرته صحيفة “وول ستريت جورنال” الأمريكية عن أثر الدمار الذي خلّفه العدوان الإسرائيلي على غزة، يُوضح أن العدوان خلّف دمارًا يُماثل أكثر الحملات تدميرًا في التاريخ الحديث. وأشارت الصحيفة إلى أن إسرائيل قد أسقطت 29 ألف قنبلة، دمرت من خلالها ما يُقارب 70٪ من المنازل بالقطاع، ملحقةً  أضرارًا بكنائس بيزنطية ومساجد تاريخية ومصانع ومراكز تجارية وفنادق فاخرة ومسارح ومدارس، وأكد التقرير أن جزءًا كبيرًا من البنية التحتية للمياه والكهرباء والاتصالات والرعاية الصحية الخاصة بقطاع غزة قد أصبح غير قابل للإصلاح. هذا كما أن معظم مستشفيات القطاع، البالغ عددها 36 مستشفى، مغلقة، ولا يُقبل العلاج إلا في 8 مستشفيات فقط، بالإضافة إلى أن الاحتلال دمر بساتين الزيتون وأشجار الحمضيات والصوبات الزراعية، وهو ما يعني أن نصف المباني في غزة تقريبًا تعرضت للتلف أو الدمار.

وبحسب تقرير البنك الدولي، فإن العدوان حتى 12 ديسمبر 2023، كان قد دمر 77٪ من المرافق الصحية، و72٪ من الخدمات البلدية مثل الحدائق والمحاكم والمكتبات، و68٪ من بنية الاتصالات، و76٪ من المواقع التجارية، بما في ذلك تدمير شبه كامل للمنطقة الصناعية في الشمال. ووفقًا للأمم المتحدة، تضرر ما يُقارب 342 مدرسة، وقد تضررت أكثر من نصف الطرق؛ وفقًا للبنك الدولي. وقال روبرت بيب، وهو عالم سياسي في جامعة شيكاغو وكاتب في تاريخ القصف الجوي؛ “سيظل مصطلح “غزة” في التاريخ بجانب “دريسدن” ومدن أخرى شهيرة تعرضت للقصف، فما تشاهده غزة يُعتبر ضمن أعلى 25٪ من حملات العقوبة الكثيفة في التاريخ”[9].

ووفقًا لتحليل البيانات الفضائية من قبل خبراء الاستشعار عن بعد في جامعة نيويورك وجامعة ولاية أوريغون، فإن 80٪ تقريبًا من المباني في شمال غزة، حيث القصف أكثر حدة، قد تضررت أو دُمرت. وبحسب إيال وايزمان (مهندس معماري إسرائيلي-بريطاني يدرس نهج إسرائيل تجاه البيئة في الأراضي الفلسطينية، فإن غزة “لم تعد مدينة صالحة للعيش بعد الآن، فإن أي عملية لإعادة الإعمار ستتطلب “نظامًا كاملا جديدًا من البنية التحتية تحت الأرض، لأنه عندما تُهاجم التربة الفوقية، يتم تمزيق كل شيء يمر عبر الأرض؛ المياه، والغاز، والصرف الصحي. وتوصل تحليل منظمة Shelter Cluster The، التي تضم مجموعة من الجمعيات الإغاثية بقيادة المجلس النرويجي للاجئين، إلى أنه بعد انتهاء الحرب الحالية، سيستغرق الأمر على الأقل عامًا لتنظيف الركام فقط، وهي مهمة تعقدت بسبب ضرورة إزالة الألغام غير المنفجرة بشكلٍ آمن، وقالت المجموعة إن إعادة بناء المساكن ستستغرق من 7 إلى 10 سنوات، إذا كان التمويل متاحًا، مقدرةً التكلفة بحوالي 3.5 مليارات دولار، بدون احتساب تكلفة توفير أماكن للإقامة المؤقتة[10].

وهذا ما تؤكده متابعة حالة المدن في غزة منذ بدء العدوان من حيث خرائط الأرض، فمنطقتي “جباليا” و”حي الشيخ رضوان” شمالي غزة، وحي الرمال وسط غزة، قد أصابهم تدمير شبه كلي، إضافةً إلى مدينتي دير البلح وخان يونس، في وسط المدينة، وقد دُمرتا بالكلية أيضًا، ومازال التدمير يلحق بهما إلى الآن، انتهاءً برفح جنوب غزة[11].

وتوضيحًا لما لحق مدن القطاع من تفاصيل تبدو مهمة في هذا السياق، فإنه بحسب الجهاز المركزي الفلسطيني للإحصاء، هناك أكثر من ٣٥٥ ألف وحدة سكنية دُمرت كليًا أو جزئيًا منذ بدء العدوان؛ وفي مسح إلكتروني استخدم فيه موقع «المصري اليوم» أداة مطورة من خرائط جوجل لتقدير حجم الأضرار في غزة، عبر صور من القمر الصناعي «Sentinel-1»، فقد أوضح أن نحو ٩٢٪ من المباني في بيت حانون دُمرت، حيث تضرر ما يقرب من ٣٣٠٠ مبنى، ونحو ٦٣ ألفًا من سكان البلدة، منذ 7 أكتوبر، كما قام جيش الاحتلال الإسرائيلي بتدمير 64٪ من المباني في مدينة بيت لاهيا شمال قطاع غزة، حيث تضرر ما يقرب من 2300 مبنى، كما دمر جيش الاحتلال ما يقرب من 100٪ من مخيم الشاطئ وتل الهوا، حيث تضرر نحو 7200 من المباني، نتيجة قصف الاحتلال الإسرائيلي، وقد تكررت المشاهد في مخيم جباليا حيث قام جيش الاحتلال الإسرائيلي بقصف جوى عنيف على المناطق الشرقية من المخيم، تزامنًا مع اشتباكات عنيفة مع المقاومة الفلسطينية فيه، مخلفًا دمارًا يُقارب 81٪ من المخيم، حيث تضرر ما يقرب من 780 من المباني.

وفيما يتعلق بمدينة غزة شمال القطاع، فقد قام جيش الاحتلال بتدمير ما يقرب من 93٪ من المدينة، حيث تضرر ما يُقارب 20 ألفًا من المباني، في حين شهد مخيم النصيرات وسط غزة إطلاق النار بشكلٍ مكثف من قبل طائرات «كواد كابتر» التابعة لجيش الاحتلال مخلفةً تدمير ما يقرب من 74٪ من المخيم، حيث تضرر نحو 4300 من المباني، كما قامت الطائرات الإسرائيلية بتنفيذ سلسلة غارات عنيفة على منازل شرقي دير البلح وسط قطاع غزة، وحدثت اشتباكات عنيفة بين المقاومة والاحتلال قرب مفترق دير البلح على عدة مراحل منذ بدء العدوان، دمر جيش الاحتلال خلالها ما يقرب من 57٪ من المدينة، حيث تضرر نحو 3300 من المباني.

وفي حين قامت كتائب القسام بتدمير احتشاد لقوات الاحتلال المتوغلة في مخيم البريج بقذائف الهاون، قام جيش الاحتلال الإسرائيلي بتدمير ما يقرب من 76٪ من المخيم ردًا على المقاومة، حيث تضرر نحو 4500 من المباني، في حين دمر جيش الاحتلال الإسرائيلي ما يقرب من 40٪ من مدينة خان يونس، حيث تضرر نحو 12 ألف مبنى. وفي مخيم المغازي، نفذت قوات الاحتلال قصفًا مدفعيًا عنيفًا قرب عيادة وكالة الأونروا في المخيم، في الوقت الذي دمر جيش الاحتلال الإسرائيلي ما يقرب من 54٪ من المخيم، حيث تضرر نحو 1400 مبنى. وفيما يخص مدينة رفح، آخر ملاذ لسكان غزة، قامت زوارق الاحتلال بشن قصف عنيف على شاطئ مدينة رفح جنوب القطاع، وقام جيش الاحتلال بتدمير ما يقرب من 43٪ من المدينة[12].

ولم يزل التدمير مستمرًا حتى الآن (منتصف مارس 2024)، فخلال شهر مارس، كثف طيران الاحتلال الإسرائيلي قصفه على عدة مواقع في جنوب قطاع غزة ووسطه، شملت برج المصري المكون من 12 طابقًا وهو البرج الأكبر في مدينة رفح جنوبي قطاع غزة، وحي الزيتون جنوب شرقي مدينة غزة، ما يعني مزيدًا من التدمير للأرض بقصد إحداث تغيير لديموغرافية القطاع بأكمله[13].

في حين لم تنجُ المعالم الأثرية في غزة من التدمير الكلي أو الجزئي، فالعدوان الإسرائيلي لم يتجنب المواقع التاريخية، حيث دمر جامع العمري الكبير الذي يتجاوز عمره 1500 عامًا، وقصفت إسرائيل كنيسة القديس بورفيريوس في أكتوبر 2023، التي تعود إلى القرن الخامس الميلادي، وهو ما أسفر عن استشهاد ما لا يقل عن 16 فلسطينيًا كانوا يحتمون بها. فإنه خلال 60 يومًا من العدوان دمر “القصف المستمر على غزة قرابة 144 موقعًا تاريخيًا، إذ اُستُهدفت جميع مناطق القطاع بما في ذلك المتاحف والمناطق الأثرية والبلدة القديمة في مدينة غزة”، حسب وزير الثقافة الفلسطيني[14]. فقد بات قطاع غزة في عام 2024 خاليًا من نحو 200 مَعلمًا أثريًا وتراثيًا من أصل 325 موقعًا، إذ إن إسرائيل تتعمد تدمير المعالم الأثرية الفلسطينية بهدف طمس وتغيير هوية غزة، حيث دمرت خلال العدوان الجاري عشرات التلال والمتاحف التاريخية وأقدم المساجد وثالث أقدم كنيسة بالعالم، فضلا عن تضرر 146 بيتًا قديمًا وعشرات المكتبات والمراكز الثقافية، وهو أمر يُخالف اتفاقية لاهاي 1954 الدولية التي تستوجب حماية الملكية الثقافية في الحروب والنزاعات المسلحة[15].

وفيما يخص وضع التعليم، قال جوناثان كريك، المتحدث باسم «اليونيسيف» في القدس، لصحيفة «الجارديان» البريطانية: لا يوجد أي شكل من أشكال التعليم أو الدراسة في قطاع غزة في الوقت الحالي، ما يقرب من 625 ألف طالب في سن الدراسة في قطاع غزة قبل الحرب، ولا يذهب أي منهم إلى المدارس الآن، إن مستوى العنف والأعمال العدائية المستمرة، والقصف المكثف الذي يحدث، لا يسمح بالتعليم، ووفقًا لأرقام صادرة عن الأمم المتحدة، فإنه بحلول منتصف ديسمبر 2023، قُتل ما لا يقل عن 200 معلمًا بقطاع غزة، وأُصيب أكثر من 500، وتضرر 352 مبنى مدرسيًا، أي أكثر من 70٪ من البنية التحتية التعليمية في القطاع، فقد تحولت أكثر المدارس التي لا تزال قائمة إلى ملاجئ، بما في ذلك أكثر من 150 مدرسة تابعة لوكالة (الأونروا) ونحو 130 مدرسة تديرها السلطات المحلية، وفي هذه المدارس، يستخدم اللاجئون اليائسون الكراسي والمقاعد الخشبية الخاصة بالطلاب لإشعال النار للطهي، بسبب عدم توفر الغاز، مما يُنذر بأزمة في المعدات المدرسية أيضًا بعد انتهاء الحرب[16].

ثانيًا- العدوان على غزة وسياسة التهجير الإسرائيلية (خرائط العمران):

ويُمكن القول بأن سياسة التهجير الإسرائيلية مرت بمرحلتين منذ السابع من أكتوبر 2023 إلى الآن، الأولى منذ بداية العدوان وحتى فبراير 2024، حيث تبدأ بعدها مرحلة جديدة بعدوانٍ كثيفٍ على رفح:

1-منذ بدء العدوان حتى بداية فبراير:

كان العدوان ضد القطاع منذ 7 أكتوبر 2023 هو الأعنف من حيث الكثافة وحجم الأسلحة المستخدمة ونوعيتها، وطول الأمد، والآثار المدمرة على خرائط العمران (الأرض والناس) داخل القطاع، وهو ما تستكشفه الورقة الراهنة[17]. فعقب بدء عملية “طوفان الأقصى” باتجاه “مستوطنات” مدن غلاف غزة؛ أعلن الكيان الصهيوني حالة الحرب والاستنفار العام وشن ضربات صاروخية شديدة العنف على القطاع، كما قررت الحكومة الإسرائيلية فرض “حصار” كامل على القطاع، وهو ما يعني تحول غزة من سجن يدخله الطعام والكهرباء والعلاج بصعوبة إلى صندوق مغلق تمامًا، بداخله 2.3 مليون إنسان تحت القصف المتواصل والعشوائي، مع عدم وجود ملاجئ آمنة ما أُعتُبر سياسة إبادة جماعية، حيث إن العرض الأمريكي حول ما أسمته الخارجية الأمريكية “ممر آمن” استهدف بشكلٍ أساسي خروج الفلسطينيين من غزة إلى رفح المصرية لتلقي الرعاية الصحية بدلا من دخول المساعدات من مصر إلى غزة، وهو ما رفضته مصر والفلسطينيين على السواء، لأنه يعني تفريغ القضية الفلسطينية بالتهجير الممنهج[18].

وقد قُدِر، وفق مراقبين، أن ما أُلقي على القطاع من القذائف خلال أقل من أسبوع من انطلاق عملية “طوفان الأقصى” (حتى 16 أكتوبر) يُعادل ما ألقته الولايات المتحدة على أفغانستان خلال سنةٍ كاملة، وقدرت حينها وكالة الأونروا، أن هناك نحو 1.7 مليون من سكان قطاع غزة البالغ عددهم 2.3 مليون نسمة (أي ما يعادل 80٪ من سكان غزة) فرُّوا من منازلهم ونزحوا داخل القطاع (حتى 24 فبراير 2024)، ويقول «مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية» إن قرابة مليون منهم يحتمون في مبانٍ تديرها (الأونروا) وعدد تلك الملاجئ 156 على الأقل. والملاجئ مكتظة للغاية بما يفوق طاقتها بأكثر من 4 أضعاف، بعد أن فرَّ عشرات الآلاف من المدنيين إلى جنوب القطاع هربًا من وطأة القصف الإسرائيلي في الآونة الأخيرة، لكن الجنوب أيضًا تعرض لضربات جوية إسرائيلية شرسة قتلت وأصابت مدنيين. وينام أغلب الرجال والشبان والأطفال من النازحين في العراء قرب الجدران الخارجية للملاجئ. وقال «مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية» إن بعض الأسر نصبت خيامًا خارج ملجأ في خان يونس[19].

وفيما يتعلق بالوضع الإنساني للنازحين، والذين عانى أكثرهم من قلة المساعدات الإنسانية وهددهم خطر المجاعة، فقد نشرت الأونروا تقريرًا يُفيد بأن خطر المجاعة في شمال قطاع غزة يتفاقم، في ظل قلة المساعدات، وحذرت من توقف عملياتها بحلول نهاية فبراير، وأضافت الوكالة أن الاحتياجات الإنسانية الهائلة لأكثر من مليوني شخص في غزة تواجه خطر التفاقم، خاصة بعد قرار 16 دولة تعليق دعمها، بسبب زعم إسرائيل ضلوع بعض العاملين بها في المقاومة، وأضافت الأونروا، في بيانها لاحقًا، أنه من الصعب نجاة سكان غزة من الأزمة دون مساعدة الأونروا[20].

فإن التحرك العسكري الإسرائيلي لتهجير أكثر من نصف سكان القطاع خلال 24 ساعة بمثابة جريمة حرب بالنقل القسري Forcible Transfer، حيث جاء التحرك الصهيوني ضد رغبة السكان ومن غير ضمانات لسلامة المهجرين وممتلكاتهم وضمان عودتهم، حيث ارتكب الجيش الاسرائيلي مجزرة في15 أكتوبر 2023، بحق ثلاث قوافل للنازحين الفارين سيرًا على الأقدام، بعد أمر الإخلاء، في شارعيّ صلاح الدين والرشيد شمال غزة، ما خلف 70 شهيدًا و200 جريحًا جُلّهم من الأطفال والنساء، ما يعني ترجمة عملية لتصريحات رئيس الوزراء الإسرائيلي، بينيامين نتنياهو، منذ بداية الحرب، حيث قال: “أقول لسكان غزة، أُخرجوا من هنا الآن، لأننا سنضرب في كل مكان بكل قوتنا”، بحيث لا يوجد مكان آمن في قطاع غزة، بما يعني أن هناك محاولات لإعادة رسم حدود قطاع غزة، بدفع الثقل السكاني نحو الجنوب، وتوفير المساعدات والخدمات للجنوب دون الشمال، لكي يُشكل الجنوب بيئةً جاذبة للانتقال إليه، دون التنبؤ بنجاح تلك المخططات نظرًا لضعف البنية التحتية والمرافق الحيوية في الجنوب نتاج ارتفاع نسبة الفقر ومعدلات البطالة فيه[21].

وفي تلك الأثناء، يشهد القطاع الصحي في غزة حالة انهيار شاملة جراء القصف البنيوي الناتج عن سياسة الحصار، حيث تشكل نسبة عجز الإمكانات في الأرصدة الدوائية أكثر من 47٪، بينما لا يكفي عدد المستشفيات داخل القطاع البالغ عددها 36 مستشفى، ولا عدد الأطباء ولا كادر التمريض احتياجات القطاع قبل الحرب، فكيف بعد اندلاعها!، حيث لم تعد تعمل أي مستشفى في شمال قطاع غزة بشكلٍ طبيعي، بسبب شدة القصف ونقص الوقود، ويقول «مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية» إن 8 من أصل 11 منشأة طبية في الجنوب ما زالت تعمل، وواحدة فقط منها متاح فيها إجراء عمليات جراحية معقدة، فقد تم الإخلاء لـ 23 مستشفى في شمال غزة بسعة 2000سرير، وغالبًا ما تم الإخلاء في ظل قصف مباشر على المستشفيات كما في حالة “المستشفى المعمداني” التي أودت بحياة 500 من المرضى والجرحى والطواقم الطبية، كما تعرضت المنشآت الطبية لاستهداف مباشر من قبل قوات الاحتلال، حيث وثّقت منظمة الصحة العالمية وقوع 115 هجوم على دور الرعاية الصحية في الفترة من 7-17 أكتوبر 2023 فقط بما أودى بحياة 15 من العاملين وإصابة 27 شخص وتدمير 24 منشأة صحية، كما خرجت أربعة من مستشفيات قطاع غزة عن العمل بشكلٍ كامل[22].

وفقًا لمكتب تنسيق الشؤون الإنسانية التابع للأمم المتحدة، قُتل العديد من أفراد الطواقم الطبية أثناء عملهم داخل مستشفى العودة المحاصر في منطقة جباليا، خلال اشتباكات بين القوات الإسرائيلية والمقاومة الفلسطينية الباسلة. ويوم السبت 10 ديسمبر2023، وصلت قافلة بمساعدة منظمة الصحة العالمية وجمعية الهلال الأحمر الفلسطيني تحمل إمدادات طبية إلى المستشفى الأهلي العربي في مدينة غزة، كما قامت بإجلاء 19 مريضًا مصابين بجروح خطيرة، وقال مكتب تنسيق الشؤون الإنسانية إن القافلة “أخرتها القوات الإسرائيلية عند نقطة تفتيش في وادي غزة” لإجراء “فحوصات موسعة”، وأن أحد المرضى الذين تم إجلاؤهم تُوفي أثناء الرحلة جنوبًا بينما تم احتجاز مسعف لمدة أربع ساعات تم خلالها استجوابه، ويقال إنه تعرض للضرب والترهيب.

كما استهدفت قوات الاحتلال العديد من سيارات الإسعاف في خان يونس وغيرها جنوب القطاع، في ظل قصف وتدمير عدد من المنشآت الصحية والمدنية والموافق العامة، وفي خان يونس جنوب قطاع غزة، أفادت تقارير بتعرض سيارة إسعاف بالقرب من المستشفى الأوروبي لإطلاق نار من قبل القوات الإسرائيلية، مما أدى إلى إصابة اثنين من المسعفين. ونقلا عن السلطات الصحية في غزة، قال مكتب تنسيق الشؤون الإنسانية إنه منذ 7 أكتوبر وحتى ديسمبر 2023، قُتل ما لا يقل عن 286 عاملا في المجال الصحي وأصيبت وتضررت 57 سيارة إسعاف[23].

في حين يُعاني سكان القطاع من نقص المياه والكهرباء قبل الحرب نتيجة سياسة الحصار الإسرائيلي، فإن الأمر ازداد سوءًا بعد الحرب، فقد قطعت إسرائيل الكهرباء عن قطاع غزة وعطلت محطة توليد الكهرباء الوحيدة داخل القطاع ومنعت دخول الوقود، كذلك عزز انقطاع الكهرباء والوقود من أزمة المياه، حيث أوقفت عمل محطات تحلية المياه والصرف الصحي والتي أصبحت تزيد من تلوث مياه البحر والحوض المائي الذي يمد القطاع، حيث يوجد مصدران أساسيان للمياه في غزة: الأول المياه الجوفية الساحلية، والثاني مستمد من شركة المياه الإسرائيلية “ميكروت”. وقد دمّرت قوات الاحتلال 6 آبار مياه، و3 محطات ضخ مياه، وخزان مياه، ومحطة تحلية تخدم 1100000 شخص[24].

وفقًا لمنظمة الصحة العالمية، قد فُتح معبر رفح بين قطاع غزة ومصر، وكان السماح بدخول مساعدات محدودة منذ 21 أكتوبر، بينما ظلَّت بقية المعابر مع قطاع غزة مغلقة، وفي الهدنة المؤقتة التي عُقدت في نوفمبر 2023 صرحت السلطات المصرية أن 130 ألف لترًا من الوقود وأربع شاحنات غاز تدخل قطاع غزة يوميًا مع بدء الهدنة، وكذلك 200 شاحنة مساعدات، ما سمح بإيصال الوقود وإعادة تشغيل بعض آبار المياه ومحطات الضخ في جنوب قطاع غزة. لكن «مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية» يقول إن هناك مخاوف شديدة من الجفاف في شمال القطاع، حيث لا تعمل محطة تحلية المياه ولا خط المياه من إسرائيل، وأضاف أن محطات معالجة مياه الصرف لم تعد تعمل بكامل طاقتها بسبب أضرار لحقت بها ونقص الوقود، وتنتشر مياه الصرف في الشوارع قرب رفح، وتوزع «الأونروا» الوقود لدعم توزيع الأغذية وتشغيل مولدات المستشفيات ومحطات المياه والصرف والملاجئ والخدمات الضرورية الأخرى[25].

2- منذ بداية فبراير حتى أول مارس:

شَكَّلت مدينة رفح جنوب قطاع غزة، الملاذ الأخير للمدنيين الهاربين من القصف الإسرائيلي المستمر من الشمال، وتشير الأرقام إلى وجود نحو 1.4 مليون مواطنًا فلسطينيًا في رفح (نصف سكان قطاع غزة تقريبًا حسب تقديرات الأمم المتحدة) بعد أن أجبرهم جيش الاحتلال الإسرائيلي خلال اجتياحه البري لشمال قطاع غزة على النزوح إلى الجنوب، وقد نزح بعض هؤلاء نحو 6 مرات هروبًا من القصف الإسرائيلي، وبذلك يكون عدد سكان رفح قد تضاعف 5 مرات مع فرار الناس من القصف (كان عدد سكان رفح قبل الحرب 280 ألف فلسطينيًا). ويعيش هؤلاء النازحون في ظروف مزرية في مراكز إيواء مكتظة كالمدارس أو في الشوارع، أو في أي رقعة أرض محاطين بالسياج على الحدود المصرية والإسرائيلية والبحر الأبيض المتوسط، فضلًا عن القصف الإسرائيلي المتواصل، ويُكافح الأطباء وعُمَّال الإغاثة لتوفير المساعدات الأساسية، ووقف انتشار الأمراض بين النازحين. وتقول وكالات الإغاثة الإنسانية التابعة للأمم المتحدة، أنها لا تستطيع نقل الناس إلى مناطق أكثر أمنًا، لأن القوات الإسرائيلية متمركزة في الشمال، وإنّ المساعدات المسموح بدخولها إلى القطاع محدودة للغاية. وقد شُيدت الآلاف من الخيام في رفح منذ بداية ديسمبر 2023 بالقرب من الحدود المصرية، حيث تغطي الخيم الجديدة مساحة تقدر بحوالي 3.5 كيلومتر مربع[26].

وفي حين شكلت رفح الملاذ الأخير للنازحين من الشمال، فإن المدينة تشهد غارات إسرائيلية عنيفة تتركز في وسط المدينة، وعلى حدودها المتاخمة لمنطقة خان يونس التي اجتاحها جيش الاحتلال خلال المعارك الضارية سابقًا، وطالت تلك الغارات منازل مأهولة بالسكان قبالة مقر جمعية الهلال الأحمر، واستشهد أكثر من 100 فلسطينيًا في غارات جوية إسرائيلية على رفح خلال أول الغارات الإسرائيلية مطلع فبراير 2024، وتأتي الغارات التي يشنها جيش الاحتلال الإسرائيلي على رفح، بالرغم من تحذيرات عربية ودولية وأممية، والتي أُعْتُبِرتْ بمثابة محاولات للتهجير القسري للفلسطينيين، بينما يُصر الكيان الصهيوني على لسان رئيس وزرائه، بنيامين نتانياهو، في مقابلة أُذيعت، 11 فبراير 2024، أن المُضي قدمًا في اجتياح رفح أمر لابد منه مع ضمان ما أسماه بـ” المرور الآمن” للسكان المدنيين، حتى يتمكنوا من المغادرة، وهو أمر مستحيل واقعيًا. فعندما بدأت إسرائيل اجتياحها شمال غزة خلال أكتوبر 2023، نظم جيش الاحتلال ما أسماه بـ”الممرات الآمنة” للمدنيين للابتعاد عن القصف والمعارك البرية في الشمال، وهو ما لم يكن كما أُشير[27].

ويصر الكيان الصهيوني ورئيس وزرائه، على تدمير رفح، متذرعًا بأنه سيكون “من المستحيل” تحقيق هدف تدمير حماس إذا تركت إسرائيل أربع كتائب تابعة للحركة في رفح، وذلك في استرضاء لائتلافه اليميني المتطرف في الداخل، وبالتعاون مع الحليف الأمريكي؛ علمًا أن إسرائيل تواجه ضغوطًا متزايدة بشأن ارتفاع عدد القتلى في غزة، حيث اُستُشهد أكثر من قتل أكثر من 30800 شهيدًا، غالبيتهم من الأطفال والنساء، و72298 إصابة[28]. وقد حذر الرئيس الأمريكي جو بايدن إسرائيل من المضي قدمًا في توغل أوسع في رفح دون خطة لحماية المدنيين، ووصف رد إسرائيل على هجمات عملية “طوفان الأقصى” بأنه “مبالغ فيه”، مطالبًا الجيش الإسرائيلي إعداد خطة لإجلاء المدنيين، لكن ذلك لم يمنع سياسة التماهي التي تفرضها الولايات المتحدة وتُمرر بها مجازر الكيان المحتل[29].

ويمكننا تحديد مطلع شهر فبراير 2024، بشكلٍ تقريبي، بداية لاجتياح جيش الاحتلال لرفح، حيث بدأ الجيش الإسرائيلي شن غارات عنيفة على مدينة رفح أقصى جنوب قطاع غزة، ليل الأحد – الاثنين 11-12 فبراير، وسط سماع دوي انفجارات هائلة في مختلف مناطق المدينة. وأكدت وكالة الأنباء الفلسطينية (وفا)، ارتفاع عدد القتلى في القصف الإسرائيلي المكثف على رفح إلى أكثر من 100 شهيدًا وإصابة المئات كحصيلة العدوان الأول على رفح، وقد تركزت الغارات على غرب المدينة وفي المناطق المتاخمة لمدينة خان يونس، التي أحكم الجيش الإسرائيلي السيطرة عليها، كما استهدفت الغارات منطقة الشريط الحدودي الفاصل بين قطاع غزة ومصر والمعروف بـ “محور فيلادلفيا”[30]، في حين أعلنت هيئة البث الإسرائيلية، أن الجيش الإسرائيلي صدّق، يوم الأحد 11فبراير، على “خطة عملياتية” لشن عملية برية في رفح، التي يعيش فيها مليون و400 ألف فلسطيني معظمهم نازحون من مناطق أخرى في القطاع مثّلت رفح آخر ملاذ لهم[31].

“مجزرة الطحين” ومآل المدنيين العزل

وبينما الجنوب، وتحديدًا رفح، التي تعجّ بالنازحين المهددين بالموت إما من خطر المجاعة أو القصف الإسرائيلي، عانى ما تبقى في الشمال من انعدام شبه كامل، للغذاء والدواء، وفاقت مأساتهم كل التوقعات عند قصف جيش الاحتلال لمدنيين أثناء تجمعهم للحصول على المساعدات الإنسانية، فاستشهد جراء هذا العدوان الغادر أكثر من 100 شهيد وأُصيب نحو 800 فيما عُرف بـ “مجزرة الطحين” في شمال غزة، وتحديدًا دوار النابلس[32].

وبالعودة، مرة أخرى، إلى الجنوب، فإن الوضع يزداد سوءا يومًا بعد آخر، بينما تُضَّيق حكومة الاحتلال إدخال المساعدات وتنسب تلك العرقلة إلى أطرافٍ أخرى، ووفقا لـ”فيليب لازاريني” المفوض العام لوكالة (الأونروا)، فإنه لا يزال من الممكن تجنب المجاعة في غزة إذا سمحت إسرائيل للوكالات الإنسانية بإدخال المزيد من المساعدات، فخطر المجاعة يُهدد الغالبية العظمى من سكان قطاع غزة، والذين تتركز أغلبيتهم في رفح .

فقبل الحرب، كانت تدخل إلى قطاع غزة حوالى 500 شاحنة محملة ببضائع مختلفة يوميًا، ولكن منذ 7 أكتوبر، نادرًا ما يتجاوز هذا العدد 200 شاحنة، رغم الاحتياجات الهائلة الأكثر إلحاحًا إبان الحرب، بعد أن دمرت آلة الحرب الإسرائيلية الاقتصاد والإنتاج الزراعي في أرجاء القطاع كله، والوضع أكثر صعوبة في الشمال، الذي يشهد مزيدًا من التدمير جراء القصف الإسرائيلي بحسب برنامج الأغذية العالمي، الذي علق في 20 فبراير 2024، توزيع مساعداته هناك بسبب القتال المستمر. بينما صرحت هيئة وزارة الدفاع الإسرائيلية، التي تُنسق الأنشطة المدنية في الأراضي الفلسطينية (كوغات)، أنه تم “تفتيش ونقل” 245 شاحنة مساعدات إلى غزة. وأكدت “كوغات”، التي تفرض رقابة مشددة على كل شاحنة تدخل القطاع، أنه “لا يوجد حد لكمية المساعدات الإنسانية التي يمكن أن تدخل إلى غزة للسكان المدنيين”. لكن الواقع أن إجراءات التفتيش والترخيص المسبق، تؤخر وصول المساعدات إلى غزة، وهو ما نددت به منظمات إنسانية عدَّة[33].

وقال” مارتن غريفيث” وكيل الأمين العام للأمم المتحدة للشؤون الإنسانية ومنسق الإغاثة، إن نصف مليون شخصًا في غزة على حافة المجاعة، وشدد على أنه تم محو أحياءٍ بأكملها في قطاع غزة، وناشد أعضاء “مجموعة الـ20” بمناسبة انعقاد اجتماعهم في البرازيل، أن يستخدموا مناصبهم السياسية ونفوذهم للمساعدة في وقف هذه الحرب وإنقاذ سكان غزة، مؤكدًا أن هؤلاء الأعضاء لديهم القدرة على إحداث فرق[34].

وفي “بيان رؤساء اللجنة الدائمة المشتركة بين الوكالات” أعلنت منظمة الصحة العالمية أن المدنيين في غزة يواجهون خطرًا شديدًا بينما العالم يشاهد، موضحة أن النظام الصحي في غزة منذ فبراير، يشهد تدهورًا متفاقمًا تترتب عنه عواقب كارثية، فحتى 19 فبراير، استمر في العمل جزئيًا 12 مستشفى فقط من أصل 36 من المستشفيات التي لديها قدرة استيعابية للمرضى الداخليين، وقد تعرضت مرافق الرعاية الصحية في غزة لأكثر من 370 هجومًا منذ 7 أكتوبر[35]. وقد خرج مجمع ناصر الطبي، في قطاع غزة من الخدمة، بعد حصار دام أسبوعًا تبعته مداهمات إسرائيلية أودت بخدماته نهائيًا، ومعه انكسر العمود الفقري للقطاع الطبي بأكمله كآخر المؤسسات الصحية القادرة على استقبال المرضى، مُختتمة خروج 100٪ من المستشفيات الكُبرى بغزة من الخدمة، في حين قصفت قوات الاحتلال محيط المستشفى الأوروبي في خان يونس جنوب قطاع غزة يوم 17 أكتوبر وبلغ التضييق أشده في 7 فبراير 2024، خلال تلك الفترة عانت المستشفى نقصًا كبيرًا في المستلزمات الطبية والأدوية، ومنع الاحتلال طواقم الإسعاف من الوصول إلى المستشفى وفق تصريح مدير المستشفى، كما احترق مستشفى أصدقاء المريض بالنيران الإسرائيلية في 10 ‏فبراير، ما أدى لأضرارٍ جسيمة خلفت مئات الشهداء، وكانت استهدفت قوات الاحتلال محيط المستشفى ذاته في 10 نوفمبر 2023 لتلحق ببقية المستشفيات الكبرى في القطاع كالمستشفى التركي، التي خرجت عن الخدمة جراء قصف إسرائيلي في نوفمبر 2023، كما أُجبر نحو 8 آلاف نازح على مغادرة مستشفى الأمل بالقوة بعد تهديدات الجيش الإسرائيلي، واحتراق طابقين كاملين في 20 فبراير، مع إطلاق النار مباشرةً في ساحة المستشفى واقتحامه لمدة 10 ساعات وهو المستشفى الوحيد الذى يحتوى على قسم تأهيل طبي[36].

وقد شكل الارتفاع الحاد في معدلات سوء التغذية بين الأطفال والنساء الحوامل والمرضعات في قطاع غزة تهديدات خطيرة لصحتهم، وفقًا لنائب المديرة التنفيذية لليونيسف في المجال الإنساني وعمليات الإمداد، تيد شيبان: “إن قطاع غزة على وشك أن يشهد انفجارًا في حالات الوفاة للأطفال التي يمكن تجنبها، الأمر الذي من شأنه أن يؤدي إلى تفاقم مستوى وفيات الأطفال لذي يصعب تحمله بالفعل في غزة.. حذرنا منذ أسابيع من أن قطاع غزة على شفا أزمة تغذية”. يواجه 90٪ من الأطفال دون سن الثانية و95٪ من النساء الحوامل والمرضعات فقرًا غذائيًا حادًا، بينما قلّلت 95٪ من الأسر الفلسطينية في غزة عدد الوجبات وحجمها، حيث تتناول 64٪ من الأسر وجبة واحدة فقط في اليوم، في حين أن 90٪ من الأطفال دون سن الخامسة مصابون بمرض معدٍ واحد أو أكثر[37].

في حين أكد مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية أن الخيار الأمريكي بالإنزال الجوي للمساعدات، بالتضافر مع الأردن والإمارات ومصر وقطر وفرنسا، لم يعد ناجعًا، فوفقًا للمسؤولين الأمريكيين فإن عمليات إسقاط المساعدات جوًا كان لها تأثير محدود. ووفقا للأونروا فإن شهر فبراير 2024 شهد انخفاضًا بنسبة 50٪ في المساعدات التي تدخل غزة مقارنةً بشهر يناير[38].

ثالثًا- المواقف الدولية من التهجير وسيناريوهات “اليوم التالي” (سؤال الأرض والحكم):

وبالنظر إلى ردود الفعل العربية والدولية تجاه عملية التهجير[39]، والتي كانت منذ بداية العدوان، أحد الخطط الصهيونية لمزيد من التشريد والضياع للحق الفلسطيني في الأرض والوطن، فإن تلك الردود جاءت رافضة لهذه المحاولات القسرية تحت نيران آلة الحرب الإسرائيلية، فقد أدانت جامعة الدول العربية، على لسان أمينها العام أحمد أبو الغيط، محاولات التهجير، وعبّرت منظمة التعاون الإسلامي عن “الرفض القاطع لاستهداف المدنيين تحت أي ذريعة كانت، أو تهجيرهم من منازلهم، أو تجويعهم وتعطيشهم وحرمانهم من النفاد الآمن للمساعدات الإنسانية بما يتعارض مع كافة الأعراف والقوانين الدولية، ومع أبسط المبادئ والقيم الإنسانية”، وهو ما رفضته وزارات الخارجية لكلٍ من السعودية والكويت وقطر والعراق، بينما أكّد الملك عبد الله الثاني أن “الأردن سيحمي حدوده وسيدعم صمود الشعب الفلسطيني على أرضه بكل إمكانياته، ولن نسمح بموجات لجوءٍ جديدة”[40].

بينما كان الموقف الأبرز من الجانب المصري الذي شدد على التأكيد بأن مصر لن تسمح بتهجير الفلسطينيين من غزة إلى سيناء، وأن مصر لن تسمح بمساس أمنها القومي، ولكن المعارضة والرفض قد انصب حول فكرة التهجير للأراضي المصرية، مقترحًا أنه “إذا كانت هناك فكرة للتهجير، توجد صحراء النقب في داخل إسرائيل، من الممكن نقل الفلسطينيين إليها حتى تنتهي إسرائيل من مهمتها المعلنة في تصفية المقاومة أو الجماعات المسلحة في القطاع..” في المقابل، أكد النظام المصري أنه على استعداد لتقديم المساعدات الإنسانية إلى القطاع بالرغم من إغلاق معبر رفح بالجدران الإسمنتية، حيث اشترطت مصر وصول المساعدات الإغاثية إلى غزة مقابل السماح للأجانب الموجودين في القطاع المحاصر بالخروج منه عبر معبر رفح. وعطفًا على مسألة إدخال المساعدات، فإن ردت على إدعاء إسرائيل بإغلاق مصر لمعبر رفح في وجه المساعدات، أن مصر لم تُغلق المعبر مع غزة، بل إن القصف الإسرائيلي للجانب الفلسطيني من معبر رفح حال دون عمله بشكلٍ منتظم، حيث تكدست عربات المساعدات لأيامٍ خلال بداية الحرب، موضحةً أن إسرائيل هي التي ترفض دخول المساعدات إلى القطاع، ولم تُعطِ الضوء الأخضر لمصر لإدخالها، وهو ما استمر طيلة الخمسة أشهر الماضية، بما اضطر بعض الدول لإنزال المساعدات جوًا[41].

في حين شكّل سؤال “ما بعد الحرب” أهمية بارزة لدى الأطراف، والمؤسسات الغربية والأوساط البحثية المعنية، رغم استمرار آلة الحرب الوحشية الإسرائيلية على القطاع، ومع ظهور تلك السيناريوهات المتعددة اكتسبت زخمًا مسألة النهاية والمآلات المتحملة، ومسارات التسوية السياسية، ويهمنا في تلك الرؤى المتعددة موقف الأرض والناس، وهو ما يُثير بدوره حالةً من الجدل بشأن تلك السيناريوهات، وما تقدمه من تصورات لا تتوافر لديها ممكنات التطبيق لتناقضها في جوهرها مع معطيات الواقع الراهن، وما تُثيره من إشكاليات وتناقضات عديدة لتعدد حسابات الأطراف داخليًا وخارجيًا.

وتجدر الإشارة إلى أن انتقال الغرب مبكرًا للحديث حول طرح سيناريوهات لما بعد الحرب، والتي بدأت منذ الأسبوع الأول لنشوب الحرب، خاصةً من الجانب الأمريكي، يعود بالضرورة إلى محاولة تخفيف ضغوط الرأي العام العالمي بسبب الدعم اللامحدود للعمليات العسكرية الإسرائيلية ضد قطاع غزة في ظل اتساع حركة الاحتجاج العالمي ضد الانتهاكات الإسرائيلية. وبشكلٍ مختصر، سنعرض للرؤى المتعددة والسيناريوهات المطروحة من قبل الفاعلين:

1-الرؤية الأمريكية: وتقوم تلك الرؤية على ما طرحه معهد واشنطن لسياسات الشرق الأدنى تحت عنوان” أهداف الحرب الإسرائيلية ومبادئ الإدارة في غزة في مرحلة ما بعد حماس”، وقد انطلق من افتراضٍ مُسبق بأن إسرائيل ستنجح في القضاء على حركة حماس، عبر ارتكاز يقوم على شقين: الأول تشكيل “إدارة مؤقتة” في غزة، والثاني، يقوم على إصلاح السلطة الفلسطينية وتمكينها من إدارة القطاع لاحقًا، من خلال خطوات: تشكيل إدارة مدنية، وتشكيل جهاز للسلامة العامة لإنفاذ القانون، ثم تحالف دولي لإعادة الإعمار والتنمية، وقد تولى مسؤلو الإدارة الأمريكية الترويج لهذا التصور من خلال الجولات العديدة التي أجراها وزير الخارجية الأمريكي أنطوني بلينكن منذ بداية أكتوبر 2023.

2- الرؤية الأوروبية: وقد عبرت عنها الدول الرئيسة في الاتحاد الأوروبي، ألمانيا وفرنسا، بطرح خيار “تدويل الإدارة الأمنية للقطاع”، وضمان القضاء على حماس من خلال عدة خطوات: أولًا، تشكيل تحالف دولي لتأمين غزة بعد الحرب، حيث عرضت ألمانيا من خلال وثيقة وزعتها على عددٍ من الدول الأوروبية، تولي تحالف دولي لتأمين غزة بعد الحرب وتفكيك أنظمة الأنفاق وتجفيف منابع الدعم المالي والسياسي لحماس. ثانيًا، التأكيد على خيار حل الدولتين، عبر التأسيس لسلطة فلسطينية واحدة ودولة فلسطينية واحدة، وتكون غزة أساسًا فيها، مع تقلص الوجود الأمني الإسرائيلي في القطاع، بالإضافة إلى رفض فكرة التهجير القسري للفلسطينيين من غزة، ورفض سياسة الحصار المستمر على القطاع مع ضمان توفر المقومات الاقتصادية لدولة فلسطينية واحدة، مستقبليًا، قادرة على البقاء.

3 الرؤية الإسرائيلية (المحرك الرئيس لإعادة تشكيل خرائط الأرض والناس): لم تكن إسرائيل تملك رؤية محددة بشأن اليوم التالي للحرب، وهو ما كان محل لانتقاد الحلفاء الغربيين، ورغم أنه لم تصدر رؤية رسمية بشأن مستقبل غزة، فإن التصريحات الرسمية كافية لمعرفة الرؤية الإسرائيلية والتي تقوم بشكلٍ واضح على ضرورة إعادة احتلال القطاع وفقًا لنموذج حكم المنطقة “ب” من الضفة الغربية، مع استبدال السلطة الفلسطينية بإدارة مدينة عربية، أو إدارة مدنية محلية من بلديات القطاع وعشائره في ظل سيطرة أمنية إسرائيلية كاملة، وذلك عبر عدة إجراءات: القضاء على حماس بشكلٍ كامل، السيطرة الأمنية الشاملة على القطاع عقب الحرب وإعادة احتلاله، تنفيذ مخططات النزوح والتهجير القسري لمواطني القطاع إلى دول الجوار. وكانت تلك النقطة الأخيرة هي الركيزة الأهم في الطرح الإسرائيلي، فوفقًا لوثيقة الاستخبارات الإسرائيلية، والتي تم تسريبها في 13 أكتوبر 2023، فإن الهدف الأساسي هو إعادة احتلال غزة وإرجاعه لوضع ما قبل 2005، وضرورة نقل السكان المدنيين من غزة إلى مدن من الخيام في شمال سيناء ثم بناء مدن دائمة بالإضافة إلى إنشاء منطقة أمنية لمنع عودة الفلسطينيين إلى القطاع مرةً أخرى. ووفقًا للمخطط، فقد تم تحديد وجهات أخرى للنازحين الفلسطينيين، مثل: تركيا وقطر والمملكة السعودية والإمارات، أو دول تسمح باستقبال السكان المهجرين كلاجئين مثل: كندا، ورفضت الوثيقة بشكلٍ قاطع خيار إعادة السلطة الفلسطينية إلى غزة أو دعم النظام المحلي.

وبالرغم من تقليل مكتب رئيس الوزراء من أهمية الوثيقة باعتبارها “ورقة مفاهيمية”، إلا أن هناك عددًا من التقارير الغربية أكدت قيام إسرائيل ـسرًا بحشد الدعم الدولي لإعادة توطين مئات الآلاف من سكان قطاع غزة في بعض الوجهات المشار إليها سابقًا. وذلك رغم التعارض الظاهر بين الرؤى الغربية والرؤية الإسرائيلية بشكلٍ واضح، كذلك الانقسام الداخلي في إسرائيل حول تلك الرؤى -بحسب نتائج استطلاع الرأي العام الإسرائيلي الذي أجراه معهد “لازار للأبحاث” لصالح صحيفة (معاريف) الإسرائيلية- حيث إن أغلبية قدرها 44٪ من المستطلعين يُريدون أن تظل إسرائيل مسيطرة على القطاع بعد الحرب، بينما ذهب 41٪ آخرين إلى تأييد الخروج من القطاع بعد الحرب ونقل السلطة إلى إطار دولي، بينما أيد القليل منهم نقل السيطرة على القطاع إلى السلطة الفلسطينية[42].

ويمكننا الإشارة أخيرًا إلى الرفض المصري والأردني، الطرفان الأقرب للأزمة، للرؤية الإسرائيلية المتعلقة بدفع سكان غزة للنزوح والتهجير القسري إلى دول الجوار الجغرافي، وهو الموقف الذي لقي دعمًا عربيًا عبّر عنه البيان الختامي للقمة العربية – الإسلامية في 11 نوفمبر 2023، كما انسحب موقف الرفض العربي إلى بند “الإدارة العربية” أو تشكيل قوة أمنية عربية لقطاع غزة ضمن الرؤية الإسرائيلية، حتى لا يُنظر إليها على أنها “قوة احتلال” وهو ما يرفضه الفلسطينيون قطعًا، حيث صرح رئيس الوزراء الأردني، بشر الخصاونة، أن “الأردن لن يُرسل أي قوات عسكرية لغزة، ولن يقبل أن يُستبدل الجندي الإسرائيلي بجندي أردني”. في حين أكدت السلطة الفلسطينية عدم قبول السيطرة على الحكم في قطاع غزة، إلا في إطار تسوية سياسية شاملة تشمل كلًا من الضفة الغربية وقطاع غزة والقدس الشرقية، وفق تصريحات الرئيس الفلسطيني محمود عباس[43].

ومع استمرار الحرب لأزيد من خمسة أشهر، وفي ظل القصف الذي تُمطر به إسرائيل المدنيين في غزة وتعدد محاولات التهجير من الشمال إلى الجنوب، ثم استهداف رفح، الملاذ الأخير للمدنيين، منذ فبراير 2024، والتحولات المحتملة في المعركة الدائرة، وكذلك التحولات الحادثة على المستويين الإقليمي والدولي، قد يفضي كل هذا إلى واقع مختلف بمعطياتٍ جديدة قد لا تكون هذه السيناريوهات المطروحة صالحةً له.

خاتمة: كيف سيغدو الوضع بعد الحرب؟

تجيء الحروب لتُغير مسارات الحياة وواقع الناس، وتُعيد تَشّكُل خرائط الأرض والبشر “العمران”، وهو ما حدث (وما زال يحدث) بالفعل في غزة خلال الحرب الإسرائيلية السادسة عليها، لتستمر سلسلة من السياسات الإسرائيلية الهادفة إلى الإبادة الجماعية أو التهجير والتشريد على الأقل؛ وفي ظل فرض الحصار والتجويع وانعدام للأمن تعمل آلة الحرب الإسرائيلية فوق رؤوس المدنيين بلا رحمة وفي وسط خرس دولي عن المأساة، فخلال ما يربو على الـ 5 أشهر الماضية، وتحديدًا 155يوم من العدوان (حتى 9 مارس)، قُتل أكثر من 30800 شهيدًا، غالبيتهم من الأطفال والنساء، و72298 إصابة، بينهم أكثر من 9 آلاف امرأة، وشكّلت النساء والأطفال ما نسبته 70٪ من المفقودين البالغ عددهم 7000 شخصًا[44]، ومازالت الدعوات الصهيونية متكررة لإبادة سكان غزة[45]، وهنا لا يمكننا التطلع إلى إبداء توقعات بشأن حرب هي الأطول أمدًا على غزة منذ ما يقارب العقدين، فلا يمكن التنبؤ إلا بمزيدٍ من التدمير وإزهاق الأرواح وتدمير العمران لينتهي الأمر في الأخير، حسب ظني وأرجو أن يخيب، إلى مزيدٍ من السيطرة الإسرائيلية على الأرض. وربما ينتهي المطاف إلى انقضاء الحرب بضمان تسلم السلطة الفلسطينية “شكليًا” لقطاع غزة، بينما السيطرة الفعلية تكون للمحتل.

______________

هوامش

[1] حول سيرة الحروب القاسية على غزة والوضع المتأزم لسكانها طيلة أكثر من عقدين، راجع:

– هِلغى باومغرتن، لا سلام لفلسطين: الحرب الطويلة ضد غزة، ترجمة: محمد أبو زيد، (الدوحة، المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، 2023)، ص ص 33-157.

– فيتوريو أريغوني، غزة: حافظوا على إنسانيتكم، ترجمة: مالك ونوس، (الدوحة، المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، 2012)، ص ص 89-133.

[2] حول السياسة العمرانية وواقع الأرض والناس في فلسطين طيلة السنوات الماضية، راجع: إيال وايزمان، أرض جوفاء الهندسة المعمارية للاحتلال الإسرائيلي، ترجمة: باسل وطفه، (القاهرة، مدارات للأبحاث والنشر، 2017).

[3] آيات حمدان، “غزة حفرة من الجحيم” التطهير العرقي والتهجير في قطاع غزة، المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، 24 سبتمبر 2023، ص1، متاح عبر الرابط التالي: https://2u.pw/7UEGPIa

[4] المرجع السابق، ص2

[5] استخدم الكيان الصهيوني سرديات عدة حول الحرب مستغلا المساحة الرحبة له في نطاق الإعلام الدولي، لمزيد من التفاصيل حول تلك الادعاءات، راجع: عبير ياسين، السردية الإسرائيلية حول حرب غزة الخامسة، محاولة تفكيك، (في): طوفان الأقصى.. والحرب على غزة، المقدمات والتداعيات، مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية، ديسمبر 2023م، ص ص 22-40.

[6] “UN Expert Warns of New Instance of Mass Ethnic Cleansing of Palestinians، Calls for Immediate Ceasefire،” UNCHR، 14/10/2023، available at: https://bit.ly/3QtbtIS .

[7] آيات حمدان، غزة حفرة من الجحيم، مرجع سابق، ص ص 7-8

[8] بالأرقام.. أبرز انتهاكات الاحتلال بفلسطين خلال 2023، الجزيرة نت، 31ديسمبر 2023، متاح عبر الرابط التالي: https://2u.pw/mwMNNxX

[9] تقرير: دمار غزة يماثل أكثر الحملات تدميرا بالتاريخ الحديث، الجزيرة نت، 30 ديسمبر 2023، متاح عبر الرابط التالي: https://2u.pw/JBqCKcs

[10] المرجع السابق.

[11] الاحتلال الإسرائيلي يقصف أحياء في خان يونس ودير البلح، الأهرام المصرية، 11مارس 2024، متاح عبر الرابط التالي: https://2u.pw/v2Kn1EI

[12] خريطة الدمار.. «المصري اليوم» تقتفي أثر الحرب في مدن غزة عبر الأقمار الصناعية (ملف خاص)، المصري اليوم، 4 فبراير 2024، متاح عبر الرابط التالي: https://2u.pw/taBb8M8

[13] الاحتلال يكثف قصف خان يونس ورفح ويطلق النار على منتظري المساعدات، الجزيرة نت، 9 مارس 2024، متاح عبر الرابط التالي: https://2u.pw/9W1SHvZ

[14] كيف أدت الحرب المستمرة في غزة إلى تدمير كثير من مواقعها التاريخية؟، موقع بي بي سي عربي، 1 يناير 2024، متاح عبر الرابط التالي: https://2u.pw/iRHR7HM

[15]حول التعرف على أبرز تلك المعالم الأثرية المدمرة كليا أو جزئيا، والتي تضم مساجد وكنائس وحمامات ومعالم أخرى، راجع: غزة في 2024 بلا 200 معلم أثري.. هل تتعمد إسرائيل طمس الهوية؟، سكاي نيوز عربي، 4 يناير 2024، متاح عبر الرابط التالي: https://2u.pw/9BlGFTc

[16] التعليم في غزة… مأساة أخرى تفاقم خسائر الحرب، الشرق الأوسط، 18ديسمبر 2023م، متاح عبر الرابط التالي: https://2u.pw/wHPRZdR

[17] مثلت عدة تحركات وتغيرات في السياسة الاسرائيلية استفزازا لتلك الحرب، منها على سبيل المثال، تشكل الحكومة الاسرائيلية المتطرفة نهاية 2022م والتي ستعلن تنفيذ الخطة التي قدمها سيموتريتش منذ 2017 والتي دعت ل ضرورة البدء في إنهاء القضية الفلسطينية والتخلص من الفلسطينيين عبر الترحيل أو التهجير أو القتل، أو القبول بالعيش في ظل الكيان المحتل. عبدالعليم محمد، الطريق إلى طوفان الأقصى، (في): طوفان الأقصى.. والحرب على غزة، مرجع سابق، ص 9-11.

[18] أمل مختار، حصار غزة والتداعيات الإنسانية: جريمة حرب مكتملة الأركان،(في): طوفان الأقصى.. والحرب على غزة، المقدمات والتداعيات، مرجع سابق، ص 48-50.

[19] كيف يبدو الوضع الإنساني في قطاع غزة المحاصر؟، الشرق الاوسط، 24 نوفمبر 2023م، متاح عبر الرابط التالي: https://2u.pw/VlA37CG

[20] الأونروا تحذر من خطر المجاعة بشمال غزة وتوقف عملياتها، الجزيرة نت، 1 فبراير 2024، متاح عبر الرابط التالي: https://2u.pw/poisiIK

[21] آيات حمدان، غزة حفرة من الجحيم، مرجع سابق، ص ص 11-12

[22] المرجع السابق، ص4.

[23] الأزمة الإنسانية في غزة تتفاقم مع احتدام القتال في جميع أنحاء القطاع، 11 ديسمبر 2023م، متاح عبر الرابط التالي: https://2u.pw/CfMXkPw

[24] المرجع السابق، ص 6.

[25] كيف يبدو الوضع الإنساني في قطاع غزة المحاصر؟، الشرق الاوسط، 24 نوفمبر 2023م، متاح عبر الرابط التالي: https://2u.pw/VlA37CG

[26] ماذا نعرف عن مدينة رفح التي تهدد إسرائيل باجتياحها عسكريًا؟، شبكة بي بي سي، 11 فبراير، 2024م، متاح عبر الرابط التالي: https://2u.pw/90Rs4CY

[27] رفح.. الملجأ الأخير للمدنيين تحت القصف، الجزيرة نت،12 فبراير 2024، متاح عبر الرابط التالي: https://2u.pw/XeRxgg0

[28] في اليوم الـ155 من العدوان: عشرات الشهداء والجرحى في قصف الاحتلال المتواصل على قطاع غزة، وكالة الأنباء والمعلومات الفلسطينية (وفا)، 9مارس 2024، متاح عبر الرابط التالي: https://2u.pw/nGhKUVq

[29] بلومبيرغ: لماذا تثير رفح المخاوف في حرب إسرائيل على غزة؟، الجزيرة نت، 12 فبراير 2024، متاح عبر الرابط التالي: https://2u.pw/NEkywJw

[30] فيديو.. غارات مباغتة وقصف إسرائيلي عنيف على رفح، سكاي نيوز، 12 فبراير 2024م، متاح عبر الرابط التالي: https://2u.pw/3r0Y4Cv

[31] القصف يتصاعد على رفح وتنديد دولي بالاجتياح الإسرائيلي الوشيك، الجزيرة نت، 13 فبراير2024، متاح عبر الرابط التالي: https://2u.pw/9qlPABV

[32] هآرتس: “مجزرة الطحين” ستغير مسار الحرب، الجزيرة نت، 2 مارس 2024، متاح عبر الرابط التالي: https://2u.pw/Ap0yjZe

[33] الأونروا: لا يزال من الممكن “تجنب” المجاعة في غزة، سكاي نيوز عربي، 25 فبراير 2024، متاح عبر الرابط التالي: https://2u.pw/E6psHAtX

[34] أبرز تطورات اليوم الـ138 من الحرب على غزة، موقع الجزيرة نت، 21 فبراير 2024م، متاح عبر الرابط التالي: https://2u.pw/5npXzz6

[35] بيان رؤساء اللجنة الدائمة المشتركة بين الوكالات، موقف منظمة الصحة العالمية، 21 فبراير 2024م، متاح عبر الرابط التالي: https://2u.pw/yP97N9B

[36] القطاع الصحي في غزة «مات إكلينيكيًا» والمستشفيات بالكامل خارج الخدمة (ملف خاص)، المصري اليوم، 1 مارس 2024م، متاح عبر الرابط التالي: https://2u.pw/oIzJfzs

[37] حياة الأطفال مهددة بسبب ارتفاع معدلات سوء التغذية في قطاع غزة، موقع منظمة الصحة العالمية، 19 فبراير 2024م، متاح عبر الرابط التالي: https://2u.pw/ECBDptA

[38] الجوع والأوبئة.. سلاحان يلاحقان أهالي قطاع غزة، سكاي نيوز، 29 فبراير 2024م، متاح عبر الرابط التالي: https://2u.pw/P1mreRX

[39] تعاملت بعض القوى الدولة مع الأزمة من منطق سياسي برغماتي، فبينما ساندت الولايات المتحدة الكيان الصهيوني بكل قوتها للعلاقة الاستراتيجية التي تربطهما، فكان لحساب القواعد العسكرية الأمريكية في كل من العراق وسورية مكانة في المعادلة الأمريكية، وازدادت أهمية الحرب بالنسبة إلى الولايات المتحدة بتدخل الحوثيين في اليمن على الخط، وذلك للتهديدات داخل البحر الأحمر، بينما تعاملت روسيا مع الحرب باستدعاء ورقة الحرب الروسية الأوكرانية، وفي حين أخذت اليابان دور التابع للولايات المتحدة بدبلوماسيتها النشطة، فإن الصين أبدت موقفا وسطًا. راجع: المواقف الدولية من طوفان الأقصى والحرب على غزة، تقارير متعددة، (في): طوفان الأقصى.. والحرب على غزة، مرجع سابق، ص 92-100.

[40] آيات حمدان، غزة حفرة من الجحيم، مرجع سابق، ص 12.

[41] المرجع السابق، ص 13.

[42] السيناريوهات الغربية والإسرائيلية لليوم التالي لحرب غزة، التناقضات وعدم الواقعية، (في): طوفان الأقصى ..والحرب على غزة: المقومات والتداعيات، مرجع سابق، ص 135-138.

[43] المرجع السابق، ص 141-142

[44] في اليوم الـ155 من العدوان: عشرات الشهداء والجرحى في قصف الاحتلال المتواصل على قطاع غزة، وكالة الأنباء والمعلومات الفلسطنية (وفا)، 9 مارس 2024، متاح عبر الرابط التالي: https://2u.pw/nGhKUVq

[45] دعا الحاخام “إلياهو مالي” مدير المدرسة الدينية في مدينة يافا وسط إسرائيل، والتي يخدم طلابها في الجيش اٌسرائيلي، إلى “إبادة كل سكان قطاع غزة، بمن في ذلك الأطفال والنساء والمسنين”، قائلا إنه “يجب اتباع مبدأ (لا تدع نفسا على قيد الحياة) و(إذا لم تقتلهم سيقتلونك(.حاخام إسرائيلي: يجب إبادة كل سكان غزة حتى الأطفال والنساء، سكاي نيوز، 8 مارس 2024، متاح عبر الرابط التالي: https://2u.pw/tdXqy7j

  • نُشر التقرير في فصلية قضايا ونظرات- العدد الثالث والثلاثون- أبريل 2024

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى