الزراعة المصرية بين الاشتراكية والرأسمالية: معالم التحولات الكبرى منذ عام 1952

مقدمة:
يحظى قطاع الزراعة بأهمية كبرى في كل بلاد العالم على اختلاف توجهاتها الفكرية ونظمها الاقتصادية والسياسية، وذلك باعتباره قطاعًا حيويًا لا يمكن لأي اقتصاد أن يقوم دونه، إذ تخرج منه مادة الحياة من طعام وشراب وغذاء ودواء لمليارات البشر، كما تخرج منه مادة الصناعة والتجارة وتترتب عليه سائر التفاعلات الاقتصادية التقليدية والمستحدثة. وتجتهد دول العالم كافة في دعم مزارعيها بشتى الطرق سواء على مستوى الإنقاق المالي المخصص للزراعة والموارد المائية، أو على مستوى تحسين ظروف الفلاحين المعيشية والصحية والخدمية بوجه عام، وصولا إلى الدفاع عن مصالحهم في حالات المنافسة التجارية مع دول العالم الأخرى، كما في حالة اتفاقيات التجارة الحرة الموقعة بين الاتحاد الأوربي وكندا عام 2016 والتي أخذت في اعتبارها مخاوف المزارعين البلجيكيين من منافسة المنتجات الزراعية الكندية( )، وكذلك اتفاقية التجارة الحرة التي توصل إليها الاتحاد الأوربي مع دول أمريكا الجنوبية في يونيو 2019 ولكنها لم تدخل حيز النفاذ بعد، بسبب مخاوف المزارعين الفرنسيين وضغطهم على حكومة بلادهم (حتى منذ ما قبل عقد الاتفاق)( ).
ومن المفارقات الدالة في هذا السياق، أن مسألة الدعم الحكومي لقطاع الزراعة لا تقتصر على النظم اليسارية أو الشيوعية كما هو شائع، بل تمتد إلى النظم الرأسمالية التي تتبنى مقولات حرية السوق وعدم تدخل الدولة في النشاط الاقتصادي، فرغم أن أمريكا وأوربا هما معقل المذهب الليبرالي والنظام الرأسمالي إلا أن قطاع الزراعة لديهم لا يخضع لمعادلات العرض والطلب والسوق الحر منذ عقود، ومازالت هذه الدول تدعم قطاع الزراعة والفلاحين بمليارات الدولارت سنويًا( )، لك أن تتخيل أن ثلث ميزانية الاتحاد الأوربي تذهب إلى دعم المزارعين الأوربيين وذلك بما يقارب 50 مليار يورو سنويًا( ).
يعني هذا في نهاية المطاف أن النقاش حول الدعم الحكومي للمزارعين في الدول الرأسمالية لا يتأسس على الأفكار الجامدة بل على ميزان من المصالح الحيوية التي تبدو وسائل تحقيقها متناقضة مع المقولات الأساسية للنظام الرأسمالي، حيث فمازالت الحكومات حاضرة وبقوة في دعم هذا القطاع محليًا والدفاع عن مصالحه دوليًا( ). ورغم أن قطاع الزراعة ليس حرًا في هذه الدول –كما أشرنا– بل يُدار تحت عين وإشراف وإنفاق الحكومات الغربية إلا أنها مازالت تضغط على الدول النامية والفقيرة لرفع يدها عن قطاعها الزراعي وفلاحيها، متذرعة بمقولات حرية السوق وخلافه بل وتعتبر ذلك أحد الشروط اللازمة للحصول على المنح والقروض الدولية.
وتختلف حكومات دول العام النامي في درجة الاستجابة إلى هذه الضغوط وفقا لاعتبارات كثيرة محلية ودولية، وتبدو مصر من الدول التي استجابت لهذه الضغوط بداية من النصف الثانى من سبعينيات القرن الماضي حيث أطلق الرئيس السادات ما عرف بـ”سياسة الانفتاح الاقتصادي” تزامنًا مع الدخول في مفاوضات السلام مع إسرائيل والتوجه نحو إقامة تحالفات واسعة مع أمريكا وأوربا على حساب الاتحاد السوفيتي، وصولا إلى حقبة الرئيس مبارك التي امتدت منذ أوائل الثمانينيات وحتى عام 2011 (ثلاثة عقود تقريبًا)، والتي استكمل فيها نهج السادات وتوسع فيه على مستوى أغلب القطاعات الاقتصادية وعلى رأسها قطاع الزراعة الذي تعرض لسلسة من السياسات المضادة تمامًا لإصلاحات الحقبة الناصرية في خمسينيات وستينيات القرن الماضي.
وتسعى هذه الورقة إلى رصد ملامح السياسات الزراعية في مصر الاشتراكية (عبد الناصر) والرأسمالية (السادات ومبارك) وآثارها الاقتصادية والاجتماعية، بهدف تكوين صورة متكاملة عن حالة القطاع وما مر به من تحولات على مدار ستة عقود مضت منذ إعلان الجمهورية وحتى قيام ثورة يناير 2011. ومن ثم، فقد تم تقسيم الورقة إلى محورين: الأول تناول فترة الرئيس عبد الناصر، بينما دمج المحور الثانى بين حقبتي الرئيسين السادات ومبارك باعتبارهما يعبران عن توجه اقتصادي واحد يختلف تمامًا إلى حد الضد مع توجه الحقبة الناصرية، هذا مع عدم إغفال الفروق بين فترة السادات القصيرة (إحدى عشر سنة تقريبًا) استغرقت أغلبها في حرب الاستنزاف وحرب اكتوبر وتوابعها وتبعاتها، وبين حقبة مبارك الممتدة على مدار ثلاثة عقود وتعد أطول فترة حكم في تاريخ مصر الحديث بعد محمد علي.
المحور الأول: معالم فترة الرئيس عبد الناصر (مصر الاشتراكية)
تميزت الحقبة الناصرية بثلاثة معالم أساسية في مجال الزراعة، المعلم الأول يتعلق بما أطلق عليه آنذاك قانون الإصلاح الزراعي الذي هدف إلى توسيع قاعدة المالكين للأرض، وكسر احتكار فئة كبار الملاك والعائلات لملكيتها من خلال مصادرة أراضيهم بوصفهم “إقطاعيين”، وإعادة توزيعها على صغار الفلاحين والمعدمين بوصفهم ضحايا عوملوا كعبيد خلال الفترات الملكية السابقة. أما المعلم الثاني، فيختص بقانون تحديد علاقات الإيجار (للأراضي والعقارات) والذي استهدف إعادة ترتيب العلاقة بين الملاك والمستأجرين بطريقة أخرى مكملة للإصلاح الزراعي تميل لصالح المستأجرين من الفلاحين والمزارعين، ويعتبر الأمر مرتبطًا بعملية الإصلاح الزراعي. وبالنسبة إلى المعلم الأخير، فيتعلق بمشروع بناء السد العالي وهو أكبر مشروع مائي في تاريخ مصر الحديث، واستهدف تنظيم حركة المياه على مستوى القطر من خلال الاستفادة من تخرين مياه الفيضان المهدرة وإعادة استغلالها في التوسع الزراعي واستصلاح الأراضي، إضافة إلى استغلالها في توليد الكهرباء (نصف احتياجات مصر تقريبًا وفقا للتقديرات آنذاك).
ويمكن بلورة ما سبق في السياسات التالية: الإصلاح الزراعي وأثاره، مشروع السد العالي، استصلاح الأراضي.
1. الإصلاح الزراعي وآثاره:
اتخذ نظام الحكم العسكري الصاعد في مصر بعد انقلاب 1952 مسارًا مشابها في الإصلاح الزراعي لما سلكته أغلب الدول الاشتراكية وقتها في شرق أوربا وآسيا وأمريكا اللاتينية، إلا أن تطبيقه لهذا النمط الإصلاحي لم يكن حادًا بالصورة التي شاعت عنه، كما لم يؤد في النهاية إلى تحولات جذرية شاملة كما رُوج له، فقد تم تطبيق الإصلاح الزراعي على ثلاث مراحل تدريجية على مدار سبعة عشر عامًا عبر ثلاثة قوانين مكملة: الأول في 7 سبتمبر عام 1952 وحدد سقف الملكية بـ200 فدان للفرد، والثاني في عام 1961 وحددها بـ100 فدان، والأخير في 1969 وحددها بـ50 فدان للفرد و200 فدان للأسرة.
ويبدو أن الأثر السياسي للقانون الأول كان مقصودًا لذاته أكثر بكثير من الآثار الأخرى التي جاءت متواضعة على مستوى المجالين الاقتصادي والاجتماعي( )، وتمثل هذا الهدف السياسى في توجيه ضربة -محسوبة العواقب- لطبقة كبار ملاك الأراضي الزراعية التي سيطرت على مراكز السلطة في العصر الملكي ويُخشى من نفوذها ومقاومتها للنظام الوليد الذي تقوده مجموعة من صغار الضباط. ويؤكد ذلك التخوف الضجة السياسية التي وقعت بعد صدور القانون بيومين، حيث استقالت وزارة علي ماهر( )، كما أعلن كثير من السياسيين والشخصيات القيادية في الأحزاب العلنية الموجودة على الساحة معارضتهم للقانون، بل إن أحدهم تجاوز مرحلة المعارضة إلى التمرد المسلح ضده؛ فقد تصدى “عدلي لملوم” أحد كبار الملاك ومن ورائه عائلته ذات النفوذ في محافظة “المنيا” جنوب مصر، ومعه مئات من الرجال المسلحين، للسلطة الجديدة، وأعلن أنه لن يترك هذا القانون يمر واستمرت المناوشات بينه وبين قوات الشرطة أسابيع إلى أن تم القبض عليه ومحاكمته بالسجن( ).
ويبدو تحسب الطبقة العسكرية الصاعدة واضحًا في طريقة صياغتهم للقانون الأول الصادر بعد الانقلاب بنحو 45 يوم تقريبًا (7 سبتمبر 1952)، حيث اشتمل علي مواد خفيفة الأثر بالنسبة للملاك مقارنةً بالقوانين المكملة التي جاءت بعد سنوات، فقد سمح ذلك القانون للملاك ببيع أراضيهم الزائدة عن الحد الأقصى لمن يريدون، كما أعطى لهم الحق في تجنب أراضي الآخرين المبيعة وكذلك سمح لهم أن يهبوا أولادهم مائة فدان زائدة عن الحد الأقصى. أيضًا قرر القانون صرف تعويضات للملاك بقيمة عشرة أمثال قيمتها الإيجارية عن المساحة المنزوعة إضافة إلى تعويضهم عن المنشآت الثابتة وغير الثابتة القائمة على الأرض بقيم عالية (مثل: الأشجار والآلات وغيرها)، ونظم القانون صرف التعويضات في شكل سندات على الحكومة تسدد على مدى ثلاثين عامًا بفائدة سنوية قدرها 3%( ).
وفي هذا السياق قرر القانون توزيع الأراضي الزائدة على صغار الفلاحين بواقع (2 إلى 5 أفدنة) على أن يسددوا ثمن هذه الأراضي على أقساط لمدة ثلاثين عامًا وبفائدة 3% سنويًا، يضاف إليها 1.5% من الثمن الكلي للأرض؛ نظير الموجودات التي كانت عليها (الأشجار والآلات وغيرها). وقد بلغ مجموع الأراضي التي تم نزع ملكيتها في ظل قانون الإصلاح الزراعي ما يربو على نصف مليون فدان (653ألف فدان تقريبًا)، أي ما يقرب من 8.4% من إجمالي المساحة المنزرعة في مصر في ذلك الوقت والبالغة 5.5 مليون فدان تقريبًا. وقد جرى توزيع هذه الأراضي وفقًا لنظام معين أُعطيت فيه الأولوية لمن كان يزرع الأرض فعلا مستأجرًا أو مزارعًا، ثم لمن هو أكبر عائلة من أهل القرية، ثم لمن هو أقل مالا منهم، ثم لغير أهل القرية.
وقد جاءت النسخ الأحدث من قوانين الإصلاح الزراعي أقل مرونة مع الملاك من القانون الأول تزامنًا مع استقرار نظام الحكم العسكرى الجديد، ففي عام 1961 صدر القانون رقم 127، وأطلق عليه قانون الإصلاح الزراعي الثاني، وأهم ما في هذا القانون هو جعل الحد الأقصى لملكية الفرد 100 فدان، يُضاف إليها50 فدانا لبقية الأسرة (الأولاد) للانتفاع فقط، وتحريم أي مبيعات للأرض من المالك لأبنائه، كما ألغى القانون الاستثناءات الخاصة بالأراضي قليلة الخصوبة، كما خفض التعويض المقدر للملاك المنزوع أراضيهم إلى ربع السعر المقدر في القانون الأول، وتقدر الأراضي التي آلت إلى الإصلاح الزراعي نتيجة هذا القانون بـ214 ألف فدان، أما القانون الثالث فحمل رقم 50 لسنة 1969 وأطلق عليه قانون الإصلاح الزراعي الثالث، والذي جعل الحد الأقصى لملكية الفرد 50 فدانا.
وتشير الإحصائيات الرسمية إلى أن مجموع ما تم توزيعه من أراضي خلال الفترة من 1952 إلى 1970 بلغ 980 ألف فدان تقريبًا بما يمثل 15% على الأكثر من حجم الأراضى المزروعة آنذاك( )، منها 775 ألف فدان تم الاستيلاء عليها وفقا لقوانين الإصلاح الزراعي، ونحو 184 ألف فدان كانت تتبع العائلة المالكة، أما الباقي وقدره 29 ألف فدان فقد كانت حصيلة أراضي طرحها النيل على جانبيه إضافة إلى 105 ألف فدان تتبع الأوقاف، ووفقا لنفس هذه الإحصائيات الرسمية فقد وزعت تلك الأراضي على 325 ألف أسرة تضم 1.7 مليون فرد أي 9% من سكان الريف المصري عام1970( ).
اختلف الباحثون في تقييم آثار هذه القوانين، كما اختلفوا سابقا في وصفها بالاشتراكية أم الليبرالية، خاصة وأن فكرتها لم تكن جديدة بل نوقشت في عهد الملك فاورق وثار بشأنها جدل في البرلمان آنذاك( )، كما صنفها البنك الدولي ساعتها باعتبارها قوانين ليبراليًة متناغمة جاءت موافقة للنمط الأمريكي في الإصلاح الزراعي، علمًا أنه قد دعمتها كلا من حكومات بريطانيا وأمريكا آنذاك، بشكل لا يخلو من الأبعاد السياسية في ظل حالة الصراع الأمريكي الدائر مع الاتحاد السوفيتي ومحاولة الطرفان جذب واستمالة الطبقات الحاكمة في الدول الصاعدة.
ويرى بعض الباحثين أن قوانين الإصلاح الزراعي لم تنجع في زيادة الرقعة الزراعية بشكل ملحوظ نتيجة انحصار تفكير النظام الجديد على مسألة الحيازات وإعادة توزيع الأراضي، كما يرون أن هذه القوانين لم تحل مشكلة المعدمين الزراعيين، الذين بلغت نسبتهم قبل الثورة نحو 44 بالمائة، وفي عام 1965 انخفضت إلى 40 بالمائة، ثم ارتفعت عام 1972 إلى 45 بالمائة، ووصلت في نهاية الثمانينيات إلى 60 بالمائة من جملة سكان الريف، كما لم ينجح الإصلاح الزراعي في تحسين وتطوير قوى وعلاقات الإنتاج في الريف المصري إلى الحد الذي كان متصورًا.
بينما يقول مؤيدون إن هذه القوانين نجحت في إضعاف سلطة ونفوذ ملاك الأراضي وخففت التوزيع غير المتساوي للأرض الزراعية بشكلٍ أو بآخر، كما منحت الحماية لمستأجري الأرض عبر تثبيت نظام إيجار الأرض الزراعية عند مستويات منخفضة ووضع قواعد ثابتة لتحديد الإيجار النقدي ونظام المشاركة في المحصول، حيث يتم من خلالها إعادة توزيع حقوق الانتفاع بالأرض بين الملاك والمستأجرين، كما جعلت هذه العقود قابلة للتوريث بما اختزل دور الملاك إلى مجرد محصلين لإيجارات منخفضة لا تتغير على مدى سنوات وعقود، وهو ما جعل المستأجرون شركاء في ملكية الأراضي الزراعية، بل إذا أراد الملاك أن يبيعوا ممتلكاتهم، كان عليهم أن يحصلوا على موافقة المستأجرين الذين كانوا يأخذون 50% من إيراد البيع في مقابل إخلاء الأرض، كما ألغت هذه القوانين مسألة الاقتراض بضمان الأرض واستبدلته بالمحصول إضافة إلى التوسع في السلف النقدية والعينية من خلال الجمعيات التعاونية إضافة إلى سن بعض التشريعات لصالح فئة عمال التراحيل -أفقر الطبقات في الريف المصري- وحمايتهم من استغلال مقاولي الأنفار( ).
2. مشروع السد العالي وآثاره:
أما بالنسبة لمشروع السد العالي، فقد اختلطت فيه الأبعاد الفنية بالسياسية، خاصة بعد رفض البنك الدولي تمويله، ورفض الرئيس عبد الناصر للاشتراطات الأمريكية والبريطانية آنذاك، فتحول المشروع من كونه مشروعًا مائيًا محليًا يخضع لمعايير فنية مركبة إلى كونه مشروعا تحرريًا يعبر عن الاستقلال الوطني ومقاومة التبعية والاستعمار وهو ما دفع باتجاه الإصرار على تنفيذه مهما كانت العقبات والعراقيل والمحاذير( )، وربما كان ذلك سببًا في اختفاء الأصوات المتخوفة من الآثار السلبية للمشروع على المدى الطويل والتي تحولت إلى ظواهر محسوسة خلال السنوات الأخيرة وصارت محل ملاحظة ونقد المختصين في علوم الزراعة والنبات والمياه.
تركزت أهداف مشروع السد العالي في أربعة أهداف أساسية: الأول: يتعلق بالتحكم في مياه الفيضان المهدرة وإعادة استغلالها في مواسم الجفاف بما يحسن من حركة الري الدائم في مصر. الهدف الثاني: يتعلق باستصلاح 100 ألف فدان زراعي جديد في الصحراء من فائض المياه المخزنة. أما الهدف الثالث: يتعلق باستغلال المياه المخزنة التي كانت تصب في البحر قبل ذلك في إنشاء مشاريع قومية كبرى كالاستزراع السمكي بهدف تلبية احتياجات المواطنين من الأسماك وتصدير الفائض. الهدف الأخير: توليد الكهرباء بتقديرات تصل إلى 53% من احتياجات السكان البالغ عددهم آنذاك من 18 إلى 20 مليون نسمة.
ركزت دراسات السد على الآثار الايجابية -كما ذكرناها أعلاه- لكنها لم تهتم بالقدر الكاف بالآثار الجانبية المتوقعة من تشييده، ولم تقترح سياسات مكملة للتعامل معها. وتشير دراسة للبنك الدولي آنذاك إلى مخاطر محتملة على الزراعة المصرية تتمثل في تراجع خصوبة التربة في حالة انحسار الطمي خلف السد في بحيرة ناصر بما سينعكس في النهاية على تراجع إنتاجية الفدان. وكان الفيضان في السابق يجدد تربة الدلتا باستمرار –رغم مخاطره- عبر ما يحمله من كميات طمي متراكمة تتسرب إلى الأراضي الزراعية كل عام( ).
كما توقعت الدراسة أن يؤدي انخفاض خصوبة التربة إلى لجوء المزراعين للاستخدام المكثف للأسمدة الكيميائية والمبيدات الحشرية الكثيفة ما سيجعل الزراعة أقل جودة من ناحية، ومن ناحية أخرى سيتسبب في تراجع بيع الغذاء المصري عالميًا، وحذرت الدراسة من انخفاض الأراضي المزروعة في دلتا النيل، وارتفاع نسبة الملوحة في البحيرات الداخلية بما سيؤدي إلى تراجع الاستزراع السمكي عمومًا في مصر، ويحيلها إلى دولة مستوردة( ). ولا تبدو مخاوف العلماء المصريين بعيدة عن تلك التي ذهب إليها الأجانب، فقد ذكر عالم الجغرافيا المصري الشهير د.جمال حمدان في “مذكراته الخاصة” عدة آثار سلبية لمشروع السد العالي أبرزها تسببه في توقف نمو أرض مصر أفقيًا ورأسيًا، وتعريضها للتآكل البحري والصحراوي لأول مرة في تاريخها على حد وصفه، كما تسبب السد في جعل أرض مصر “مغلقة بيولوجيا” بلا صرف ولا مصرف بعد أن توقفت مياهها وتربتها عن التجدد السنوي الذي كان يأتي مع فيضان كل عام. وحذر حمدان من احتمالية تحول مصر إلى بيئة نموذجية حاضنة لكل أشكال التلوث إذا استمرت هذه الحالة في التصاعد بما قد يصل بمصر إلى حالة “الموت البيولوجي”. إذ تتعرض مصر إلى أكبر عملية تلويث كيميائي وتآكل ميكانيكي بما قد يهدد استمرار مقومات حياة الإنسان والنبات والحيوان، وهو ما يعني أن جسم مصر كله مهدد بالانقراض الكلي.
كما حذر حمدان من أخطار تتصل بالمستقبل المائي لمصر في ظل فقدانها سيادتها على النيل وظهور منافسين جدد من دول حوض النيل إضافة إلى إسرائيل، علاوة على مشروع السد ذاته وآثاره والنمو السكاني المتسارع والموارد الأرضية المحدودة، الأمر الذي دفعه للتعبير عن تخوفاته قائلا “إن أيام الغرق قد ولت وبدأت أيام الشرق” بفتح الراء، كما حذر من نمط جديد من الجفاف يمكن أن تتعرض له البلاد أسماه “الجفاف المستديم” في مقابل “الري المستديم”. كما عبر حمدان عن خشيته الوصول إلى وقت تطرد فيه الزراعة تمامًا من أرض مصر في ظل تسارع معدلات نمو السكان وتعرض الموارد الأرضية والمائية الثابتة إلى الانكماش والنقصان بسبب تزايد ضغوط التوسع العمراني عليها (الرسمي والعشوائي)، الأمر الذى قد يحول الوادي والدلتا إلى مكان سكن دون زراعة أو مقبرة بحجم دولة -وفقًا لتعبيره( ).
افتتح السد العالي في يناير 1971 وكانت له منافع مباشرة سواءً في الحماية من أخطار الفيضانات والجفاف أو في توليد الطاقة الكهربائية، إلا أن بعض الآثار الجانبية أخذت في الظهور والتراكم لتتحول إلى ظواهر متضخمة صارت محل نظر ونقد المختصين في علوم الهندسة والمياه والزراعة. أولى هذه الآثار الجانبية حجز السد العالي كميات طمي ضخمة أمامه تقدر بحوالي 200 مليون متر مكعب سنويًا (وصل حجمها المتراكم في بحيرة ناصر إلى 6 مليار متر مكعب في عام 2013)( ). ثاني هذه الآثار يتمثل في فقدان كمية كبيرة من الماء لا تقل عن 10 مليارات متر مكعب سنويًا نتيجة عمليات التبخر الناجمة عن تكون مسطح مائي مكشوف (بحيرة ناصر) يصل إلى 6000 كم2 ممتدة بين مصر والسودان مع مناخ حار رطب يساعد على كثافة عملية البخر، وفقًا لما شرحه د.هيثم ممدوح عوض (استشاري دراسات تقييم التأثير البيئي وأستاذ الهيدروليكا بجامعة الإسكندرية)( ).
كما تراكمت مجموعة أخرى من الظواهر خلال الثلاثة عقود الماضية يجري الحديث عنها بشكل منفصل عن السد أحيانًا ومتصل في أحيانٍ أخرى، لعل أبرزها تراجع الاستزراع السمكي وتراجع عدد الصيادين في مصر وتفاقم مشكلاتهم الاجتماعية والاقتصادية، كما ارتفعت نسب المواد الكيماوية في الاستخدامات الزراعية حتى تحولت بحيرة قارون من عذبة إلى مالحة، بما أدى إلى اختلال التنوع البيولوجي السمكي وانقراض أنواع الأسماك بها حتى بلغت ثلاثة أنواع فقط بسبب الصرف الزراعي المثقل بالأسمدة الصناعية ومياه الصرف الصحي، كذلك انخفضت كميات الصيد المستخرجة من 13 طن يوميًا عام 1977، إلى 6 طن يوميًا عام 1991، ثم إلى 5 طن سنويًا عام 2019. وتمتد الحالة نفسها إلى بحيرة المنزلة شمالي مصر حيث ارتفعت المواد الكيميائية المتسربة من الصرف الزراعي والصحي والصناعي عبر مصرف بحر البقر الممتد من القاهرة حتى البحيرة( ).
كما أدى انخفاض منسوب المياه في الترع والمصارف إلى ارتفاع تسرب المواد السمية إلى الطبقات القريبة من السطح في دلتا النيل، من خلال الصرف الصحي والمبيدات والأسمدة لترتفع معه العديد من الأمراض، نظرًا لاعتماد المياه الجوفية كمصدر للشرب في أغلب محافظات الدلتا، وكان لفيضان النيل فيما سبق دورًا مهمًا في تخفيف وطأة تلوث المياه الجوفية القريبة من السطح. وأظهرت دراسة مشتركة بين الولايات المتحدة ومصر عام 1981، وجود علاقة بين انتشار البلهارسيا وبين السد العالي، حيث تسبب نظام الري وانخفاض تيارات المياه في انتشار مرض البلهارسيا في ربوع القطر المصري، والذي كلف الدولة إنفاقًا إضافيًا لمواجهته، كما أودى بآلاف الأرواح.
وتسبب السد في انخفاض المعادن في التربة، مع عدم تجدد التربة بالطمي المحمل بالعناصر الغنية، ما اضطر المزارعين للإفراط في استخدام المواد الكيميائية التي تسربت بدورها إلى المياه الجوفية وصولا إلى النبات والأسماك، فصار مشرب المصريين ومأكلهم معرضا على الدوام للمواد الضارة، ولعل ذلك يفسر ارتفاع نسب أمراض السرطانات وأمراض الدم في القطر المصري.
كما كان للسد أثر على مشكلة العمران في مصر، لأن عدم وجود الفيضانات مع النمو السكاني جعل التمدد السكاني باتجاه الوسط، كالدهون التي تحاصر القلب، بدلا من اللجوء للأطراف خوفًا من فيضان النيل، مع إمكانية التوصل للمياه الجوفية في الأطراف، من خلال الفيضان وتغذيته للخزان في تلك المناطق، انحصرت المياه من الوسط، متيحة للناس تدمير الدلتا والزحف العمراني إلى وسطها.
وتشير بعض المخاوف الأخرى إلى آثار جانبية تتعلق بتزايد احتمالات تعرض جنوب مصر لتهديدات الزلازل بسبب الحمل الثقيل الذي يسببه السد في بحيرة ناصر، نتيجة كميات الطمي المتراكمة أو من كميات المياه الضخمة التي وصلت في بعض الأحيان إلى 148 مليار متر مكعب من المياه، كل ذلك يؤدي إلى اختلال توازن القشرة الأرضية ويجعلها عرضة للاستجابة لأي هزات عنيفة تضرب الجنوب.
وتتصل بتلك الآثار الجانبية مخاوف أخرى من امتداد تأثيرات ظاهرة الاحتباس الحراري إلى دلتا مصر باعتبارها قريبة من البحر الذي يتوقع ارتفاع منسوبه بسبب ذوبان الجليد في القطبين. ويحذر خبراء من تعرض الدلتا للغرق وخصوصًا رشيد، وقد كان طمي فيضانات النيل سابقًا، يلقي بحمولته في البحر مكونا حائط صد مقاوم لعمليات النحر والتآكل التي تحدث بسبب المد والجزر، ناهيك عن أهميته في تخفيف حدة ارتفاع منسوب مياه البحر، أما الآن فقد زادت ملوحة المياه الجوفية في الشمال بسبب تآكل تلك السواحل خلال الـعقود الماضية، كما أصحبت دلتا النيل معرضة دائما لهجمات من الرياح تؤدي إلى تعرية التربة بسبب عدم وجود الطمي بشكل دائم( .(
أما على مستوى توليد الكهرباء، فقد اقترب السد من “الخروج النهائي”( ) من مجال توليد الطاقة الكهربائية، ولم يعد إنتاجه يمثل إلا 9% تقريبًا من إجمالي إنتاج الكهرباء في مصر وذلك بعد 48 عامًا من افتتاحه تاركًا ورائه تركة ثقيلة من الآثار الجانبية على مستوى الزراعة والمياه والعمران وكذلك حياة المصريين وصحتهم بل وأمنهم القومي، إذ يرى البعض في السد تهديدًا عسكريُا للبلاد يصعب تخيل نتائج استهدافه من قبل أي دولة معادية (إسرائيل على سبيل المثال) خاصة في ظل التطورات التكنولوجية الهائلة في مجال الصناعات الحربية الجوية، الأمر الذي يعرض كافة المدن المصرية الواقعة على مسار النهر إلى طوفان وجودي.
3. مشروعات استصلاح الأراضي الجديدة: البدايات ونتائجها:
أطلق الرئيس عبد الناصر عام 1954 مشروع” مديرية التحرير” بالظهير الصحرواي لمحافظة البحيرة واعتبر حينها أول مشروع استصلاح للأراضي الصحراوية بمساحة مستهدفة 60 ألف فدان، ثم أعلن عن خطة استصلاح ضخمة في الخطة الخمسية الأولى الصادرة عام 1959 والتي تتضمن إطلاق مشروع الوادي الجديد في الصحراء الغربية واستصلاح ما بين نصف مليون إلى 3 ملايين فدان تكون موطنًا لأربعة ملايين نسمة. وتُظهر الإحصائيات الرسمية المتاحة عن الفترة الناصرية جهدًا ملحوظًا في مجال استصلاح الأراضي الجديدة وصلت إلى 831 ألف فدان تقريبًا خلال 18 عام، بمتوسط سنوي 46 ألف فدان تقريبًا.
وتشير “نشرة استصلاح الأراضي” الصادرة من الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء عام 1965 إلى أن مجموع ما تم استصلاحه منذ عام 1952 وحتى عام 1960 بلغ 79 ألف فدان بمعدل عشرة آلاف فدان سنويًا، ثم ارتفع هذا المعدل بشكل ضخم إلى 107 ألف فدان خلال سنوات الخطة الخمسية الأولى من (1959-1965) إذ بلغت جملة المساحة المستصلحة خلال تلك الفترة 536 ألف فدان ثم ارتفعت إلى 831 مليون فدان بنهاية الخطة الخمسية التالية عام 1970. وتشير تلك النشرة أيضًا إلى أن حجم الأراضي المستصلحة خلال العشرين عامًا السابقة على عام 1952 لم تتخط 45 ألف فدان بمعدل 2500 فدان سنويًا فقط( )، بينما تشير دراسة حكومية أخرى صادرة عام 1992 إلى أن حجم ما استصلح في مصر منذ التعلية الثانية لسد أسوان عام 1932 وحتى عام 1952 بلغ 200 ألف فدان بمعدل عشرة آلاف فدان سنويًا( ).
من خلال ما سبق يمكن تلخيص أهم معالم السياسة الزراعية فى فترة الرئيس عبد الناصر، فى ثلاثة معالم رئيسية: أولها: الاهتمام بصغار الفلاحين والمزارعين على حساب طبقة كبار الملاك مع ملاحظة أن الضربات التي وُجهت إلى تلك الفئة لم تكن جذرية شاملة كما هو شائع عنها، بل كانت ضربات محسوبة العواقب، إذ لم تمنعهم من التملك مطلقًا بل وضعت سقفًا ليس بالقليل يترواح بين 100 إلى 200 فدان للأسرة، إضافة إلى تعويضات نقدية عن الأراضي المصادرة. المعلم الثاني: يتعلق بتنفيذ أكبر مشروع مائي في تاريخ مصر الحديثة (السد العالي) والدخول في عملية تحدي واسعة للقوى الاستعمارية الكبرى وقتها لإنجازه، مع ملاحظة الآثار الجانبية للسد التي لم تستحوذ على الاهتمام المناسب وقتها وتحولت فيما بعد إلى ظواهر محل نظر ونقد المختصين فى علوم العمران بشكل عام والزراعة والمياه على وجه الخصوص. أما المعلم الأخير: فيتعلق باطلاق مشروعات استصلاح الأراضى الجديدة في الصحراء لتوسعة الرقعة الزراعية بمساحة بلغت 831 ألف فدان خلال عشرين عاما تقريبًا مع ملاحظة تعرض مصر خلال تلك الفترة لثلاثة حروب؛ العدوان الثلاثي عام 1956، وهزيمة يونيو 1967، حرب الاستنزاف التي بدأت منذ الهزيمة واستمرت حتى عام 1973.
المحور الثاني: معالم فترة السادات ومبارك (التحول المضاد)
1. تفريغ الإصلاح الزراعي: سياسات الالتفاف
سلك الرئيس السادات نهجًا اقتصاديًا مختلفًا تمامًا عما أسسه سلفه جمال عبد الناصر يعتمد على الانفتاح على الغرب وتقليص دور الدولة في الداخل، ذلك وفق ما عُرف بسياسة الانفتاح والتحرير الاقتصادي أو سياسة الباب المفتوح التي جاءت بعد عام واحد من انتهاء حرب اكتوبر عام 1973، وجاءت أولى معالم هذه السياسة بعد عام واحد من حرب أكتوبر عبر إصدار قانون الاستثمار رقم 43 لسنة 1974 في محاولة لاستمالة أصحاب رؤوس الأموال الأجانب والمصريين والعرب وفتح صفحة الجديدة لا تقوم على فكرة التصادم كما حدث في الخمسينيات والستينيات، واستكمل السادات هذا النهج باصدار قانونين عام 1975 و1981 بمقتضاهما تمت إعادة 147 ألف فدان كان صغار الفلاحيين يستأجرونها من وزارة الإصلاح الزراعي إلى ملاكها الأصليين اللذين اُنتزعت منهم في الحقبة الناصرية، كما رفعت هذه القوانين الإيجارات الزراعية مرتين إضافة إلى تغيير قواعد فسخ عقود الإيجار وتحديد نظام المزاراعات لصالح الملاك، كما ألغى القانون لجان فض المنازعات الخاصة بالأراضي الزراعية والتي كانت تضم في عضويتها عسكريين وأعضاء في الاتحاد الاشتراكى للنظر في منازعات أراضي الإصلاح الزراعي، بينما تم تعزيز تمثيل كبار الملاك في إدارة التعاونيات الزراعية فضلا عن السماح بتأسيس أشكال جديدة للتعاونيات كهيئات خاصة تعزز وضع متوسطي وكبار الملاك( ).
2. رفع يد الدولة عن الفلاح: سياسات التخلي
ثم جاء مبارك مستكملا لمسار السادات في تحرير الاقتصاد والتخلي عن القطاع الزراعي ولكن بشكل أكثر جرأة وتوسعًا، فأصدر قانون الأراضي الصحراوية عام 1981 والذي سمح بتملك الأفراد حتى 300 فدان بينما سمح للشركات بتملك عشرة آلاف فدان، وفي عام 1987 قررت الحكومة إلغاء البيع الإجباري لبعض المحاصيل المسماة استراتيجية باستثناء القطن وقصب السكر، الأمر الذي أدى إلى تحرير أسعار زراعتين من ذوي الاستهلاك الكبير (القمح –الفول) ومحاصيل أخرى أقل مثل السمسم والعدس والفول السوداني والصويا والبصل، وفي عام 1991 شهد الأرز بدوره تحريرًا لأسعاره وصار من أهم زراعات التصدير منذ 1996. خلاصة هذه التطورات أن الدولة لم يعد لها أي دور إشرافي على الزراعة باستثناء ثلاثة مجالات رئيسية تمثلت في: إنتاج الأرز والمتاجرة فيه، وتحديد حد أقصى لمساحة زراعة الأرز سنويًا، والتوزيع الجغرافي لأصناف الأرز على مستوى المحافظات المسموح لها بزراعته( ).
وقد تمت هذه الإجراءات في إطار سياسة عامة تضغط باتجاهها مؤسسات الإقراض الدولي وتدور حول تحرير القطاع الزراعي بكل مكوناته، بدءً بتحرير أسعار المدخلات والمنتجات الزراعية، بما في ذلك تحرير التصدير والاستيراد، خصخصة الشركات الزراعية التابعة للحكومة، إعادة تنظيم العلاقة بين المالك والمستأجر، إلغاء المناوبات الزراعية الإجبارية، تحرير الضمان بعد تحويل بنك التنمية والإئتمان الزراعي إلى بنك تجاري، وأخيرًا تحرير فوائد القروض البنكية، وصولا إلى التحول لنمط الزراعة الرأسمالية الكبيرة القائم على منح المستثمرين وذوي القدرة المالية مساحات كبيرة من الأراضي بتسهيلات مالية واسعة للقيام على استصلاحها في إطار خطة شاملة لزيادة التنمية الزراعية بشكلٍ عام في ظل استنناج بأن صغار الفلاحين لا يمكنهم النهوض بهذه العملية لعدم امتلاكهم لرأس المال والمعرفة الفنية المطلوبة. مثل هذه الرؤية تستبدل كبار رجال المال بصغار الفلاحين وتعيد إنتاج حالة ما قبل الخمسينيات، وبالفعل طبقت الدولة هذه السياسة على أغلب مناطق الاستصلاح الصحراوي الجديدة مثل مشروع توشكى الذي يضم 450 ألف فدان خصصت لرجال أعمال خليجيين بتسهيلات ضخمة لم تسفر عن نتائج تنموية ولو متواضعة بعد أكثر من خمسة عشر عامًا( ).
في إطار هذه السياسة صدر قانون 96 لسنة 1992، والذي حل محل قانون الإصلاح الزراعي ووصف بأنه قانون إصلاح زراعي ليبرالي مضاد لقانون اشتراكي سابق. بمقتضى هذا القانون الذي دخل حيز التنفيذ عام 1997 حُررت العلاقة بين المالك والمستأجر، ولم تعد أجرة الأراضي الزراعية مفتوحة المدة، كما سمح لمالكي الأراضي بطرد المستأجرين فور صدور القانون، ملغيًا حق المستأجرين في تجديد عقود الإيجار بلا نهاية، كما نص القانون على رفع أسعار الإيجار من سبع أمثال إلى اثنين وعشرين مثال الضريبة العقارية في الفترة الانتقالية ما بين1992 إلى 1997، كما نص القانون على أن الايجار والمزارعة وسوق الأرض الزراعية (بيع، شراء، إيجار) سيتم تحريرها بالكامل في مدة أقصاها 7 اكتوبر 1997، بما معناه إلغاء عقود الإيجار وإعادة الأراضي المستأجرة إلى ملاكها الذين أصبحوا غير مقيدين بأي قيد قانوني يمنعهم من التصرف في أملاكهم بالبيع أو الشراء أو الايجار وفقًا للأسعار التي يحددونها دون تدخل من أحد( ).
بهذا القانون نسف مبارك الجزء الأكبر مما تبقى من مكتسبات المزارعين من إصلاحات عبد الناصر الخاصة بالأمان الإيجاري، إذ سمح هذا القانون بتحرير أسعار إيجار الأراضي الزراعية تمامًا وإمكان استعادة كبار الملاك الأراضي التي كان يستأجرها منهم المزارعون. وقد تسبب القانون بطرد حوالي 904 ألف مستأجر (أي ما يعادل 31,1 في المئة من عدد حائزي الأراضي)، وخرجت 431 ألف أسرة خارج دائرة الحائزين، وتحولوا إلى العمل بالأجرة في المزارع عند كبار الملاك أو في قطاعات أخرى. كما تسبب القانون في ارتفاع إيجار الأراضي الزراعية من 200 جنيه للفدان إلى 800 جنيه (بزيادة 4 أضعاف) خلال الخمس سنوات الأولى من تطبيقه، قبل أن يصل إلى 17 ضعفًا بحلول عام 2009. كما تسبب هذا القانون في تظاهرات واشتباكات بين صغار المزارعين من جهة، والملاك والشرطة من جهة أخرى، في أكثر من 100 قرية أغلبها في الدلتا ووسط مصر، خلفت في مجملها 32 قتيلا و751 مصابًا من المزارعين. كما تعرض الكثير من المزارعين للترهيب والاحتجاز غير القانونيّ والتعذيب على أيدي الشرطة، بحسب حالات رصدها “مركز الأرض لحقوق الإنسان” ( ( .
3. عودة الإقطاع: أصحاب المال والنفوذ بديلا عن الفلاحين:
كما شهد قطاع الزراعة في عهد مبارك عودة لظاهرة الإقطاع وفق نمط جديد متدثر بعناوين تنموية براقة من قبيل “دعم مبادرات القطاع الخاص”، “جذب الاستثمار”، “الشراكة بين الدولة والقطاع الخاص”، وعلى هذا جرى التوسع في تخصيص مئآت الآلاف من الأفدنة لصالح المقربين من السلطة والمستثمرين الأجانب (خاصة من دول الخليج) بأسعار رمزية للغاية (عشرات الجنيهات للفدان) إضافة إلى تسهيلات ضريبية واسعة دون التقيد بزراعة محاصيل معينة، الأمر الذي فتح المجال لظهور نمط جديد من الزراعة التصديرية (مثل الموالح كالبرتقال والفرولة والرمان والكنتالوب والشبندر، وكذلك الخضروات مثل البطاطس والبصل) على حساب المحاصيل الاستراتيجية الناقصة مثل (القمح، الفول). وتشير إحصائيات جهاز “التعبئة والإحصاء”، إلى ارتفاع المساحات المزروعة بالبرتقال في مصر إلى 307 ألف فدان تقريبًا عام 2017، بحجم إنتاج وصل إلى 3.2 ملايين طن لتدخل مصر منافسة مع أسبانيا للاستحواذ على المرتبة الأولى كأكبر مصدر للبرتقال في العالم، وتستهدف الحكومة الحالية زيادة المساحة المزروعة بالنباتات العطرية لخدمة التصدير وجلب ملايين الدولارات لمصر، من خلال استراتيجية إعادة توجيه 69 ألف فدان لزراعة هذه النباتات في محافظة بني سويف جنوب القاهرة.
كذلك أدت سياسة تخصيص الأراضي لهذه الفئات من المستثمرين على حساب المزارعين من أهل البلد إلى نتائج فاسدة، من قبيل التحايل على أغراض المساحات المخصصة للزراعة وتحويلها إلى أغراض سكنية واستغلالها في عمليات البناء الفاخر (فيلات- قرى سياحية) بغرض التربح السريع في ظل غياب أو تغييب للأجهزة الرقابية. وتمتد هذه الظاهرة بشكل أساسي على طول الأراضي المتاخمة للطرق الصحراوية (طريق مصر –إسكندرية الصحراوي)، (طريق مصر –الإسماعيلية) إضافة إلى المناطق المتاخمة للساحل الشمالي للبحر المتوسط فضلا عن مناطق ما يُسمى الحزام الأخضر المتاخمة لمدينة السادس من اكتوبر بمحافظة الجيزة وبعض المناطق الأخرى –ذات الموقع الجغرافي المتميز- على مستوى الجمهورية.
ويواجه الباحثون صعوبات جمة في تقدير هذه الظاهرة الممتدة منذ ثمانينيات القرن الماضي، بسبب غياب الإحصائيات الكلية والتفصيلية عنها سواء من حيث المساحة التي جرى عليها التحايل أو من حيث التكلفة المالية المهدرة والفرص البديلة، كما يواجه الباحثون صعوبات على المستوى التفسيرى لتلك الظاهرة بسبب ندرة التحليلات التي تناولت آثارها الممتدة على قضايا الاقتصاد الكلي والجزئي لاسيما قضايا الزراعة والسكن والغذاء ذات الإلحاح الشديد فضلا عن قضايا الفساد وآثارها على الدولة والمجتمع، كذلك ثمة صعوبات جمة تواجه عملية تقييم ظاهرة وضع اليد على الأراضي وآثارها المختلفة.
صرح اللواء المهندس عمر الشوادفي( ) رئيس “المركز الوطني لتخطيط استخدامات أراضي الدولة”( ) في عام 2012 بأن حجم المساحة التي تم الاعتداء عليها عن طريق وضع اليد بلغت 22 مليون فدان على مدار ثلاثين عامًا مضت أي منذ نهاية الثمانينيات. وقال الشوادفي في حوار مع جريدة الجمهورية الحكومية “إن مساحة مصر الإجمالية تبلغ 238 مليون فدان منها 12 مليون فدان خارج الزمام ومرفوعة مساحيًا ويفرض عليها ضرائب، بينما تقدر المساحة التي تم الاعتداء عليها عن طريق وضع اليد بنحو 22 مليون فدان”. وأضاف الشوادفي “إن الدراسات التي قام بها المركز تظهر أن المساحة القابلة للاستصلاح علي مستوى مصر تبلغ 16 مليون فدان، بينما لا تكفي مياه الري المتاحة إلا لري 2.11 مليون فدان فقط، بينما يوجد 222 مليون فدان غير صالحة للزراعة من الأصل ويمكن استغلالها في البناء والصناعة والمزارع السمكية”.
وأشار الشوادفي إلى أن السبب الرئيس في بيع أراضي الدولة بثمن بخس يترواح من 50 إلي 200 جنيه للفدان كان بغرض تشجيع الاستثمار في الأراضي الزراعية لأن الاستصلاح يحتاج تكلفة عالية، لكن بعض المستثمرين كان لهم مآرب أخري فظهر حيتان الأراضي (وفق تعبيره) الذين استفادوا من الدعم ثم غيروا النشاط بالبيع أو التقسيم أو البناء، فأصبح الفدان يباع بأكثر من ثمانية ملايين جنيه في تقسيمات المباني، مشيرًا إلى أن جميع الأراضي حول الطرق الصحراوية تم الاستيلاء عليها بطرق ملتوية استغلالا لتشجيع الدولة للاستثمار لتحقيق أرباح خيالية. واعتبر الشودافي فترة الثمانينيات البداية التي انطلقت منها ظاهرة التلاعب بأراضي الدولة والاستيلاء عليها معتبرًا أن الحكومات المختلفة التي تعاقبت على حكم مصر لم تكن غافلة عن حجم الأموال المهدرة من تسقيع الأراضي ونهبها لا سيما الحكومات الأخيرة في عهد مبارك التي وصفها بحكومات رجال الأعمال التي وضعت البلد في ظروف خانقة وساهمت في عمليات الفساد وإهدار المال العام والنهب المنظم لثروات الأجيال القادمة، فلا يكاد يمر يوم حتي تظهر فضيحة جديدة لقضية خطيرة متعلقة بأراضي الدولة وبيعها بأبخس الأثمان.
وضرب الشوادفي بعض الأمثلة دون ذكر لأسماء قائلا “إن مستثمرا واحداً يضع يده علي 55 ألف فدان من أراضي الدولة، كذلك قام أحد المستثمرين بشراء قطعة أرض مساحتها 8 أفدنة بمبلغ 400 جنيه علي طريق مصر- الإسماعيلية الصحراوي بسعر 50 جنيهًا للفدان ثم قام ببيع الأرض بمبلغ 8 ملايين جنيه، والطرف الثاني اشترى علي أنه يقوم بنفس النشاط الزراعي والإنتاج الحيواني والداجني، إلا أنه قرر بناء مدرسة فرنسية مخالفًا لغرض الاستزراع”.
كما ضرب مثالا آخر بشركة القابضة المصرية الكويتية قائلا “كنا أول مركز يعد تقريرًا حول تلك القضية لرئيس الوزراء الأسبق د.أحمد نظيف، وكشفنا كثير من المخالفات في العقد الابتدائي لبيع الأرض التي تبلغ مساحتها 26 ألف فدان إلى الشركة بغرض الاستصلاح الزراعي بسعر رمزي قدره 200 جنيه فقط ليصبح إجمالي قيمة الأرض 5 ملايين و200 ألف جنيه فقط بمعني أن سعر المتر بلغ 47 قرشًا بينما القيمة الحقيقية لسعر المتر في هذه المنطقة 300 جنيه ليصل السعر الحقيقي لها لـ 20 مليار جنيه.”
وتابع “نص العقد على التزام الحكومة المصرية بتوصيل مياه الري من ترعة الجيزة على نفقة الشركة علي أن يتم خصم هذه المساحة من المساحات المقررة في خطة الدولة حتي عام 2017، ولكن نشب خلاف بين الهيئة العامة لمشروعات التعمير والتنمية الزراعية والشركة الكويتية نتيجة ارتكابها عدة مخالفات منها تقسيم المساحات لقطع صغيرة أقلها حوالي 2 فدان بأسماء أفراد وتعديها علي المنطقة الأثرية لهرم اللشت والمناطق الأثرية بـ”طهما”، وقد قام المركز الوطني بدراسة طلب الشركة الكويتية في تحويل الغرض لأنشطة عمرانية مقابل تسوية مالية، وعرض الأمر علي رئيس الوزراء الأسبق د.أحمد نظيف، ولكن عدم التعاون بين هيئة التعمير والمركز الوطني دفع إلى عدم تفعيل القرارات الخاصة بالشركة التي هددت في النهاية باللجوء للتحكيم الدولي”.
4. مشروعات الاستصلاح: خطط طموحة ونتائج ضعيفة
روجت الحكومات المتعاقبة منذ الخمسينيات وحتى عام 2010 لخطط استصلاح كبرى لزراعة ملايين الأفدنة في المناطق الصحراوية، وذلك بهدف المساهمة في زيادة الإنتاج الزراعي، وتوفير فرص العمل للمساهمة في حل مشكلة البطالة، وتعويض الفقد في الأراضي الزراعية القديمة، وإعادة توزيع الخريطة السكانية لخفض حدة الكثافة السكانية في الوادي والدلتا. اللافت في هذه الخطط المتعاقبة أنها لم تنجح في الوصول إلى الأرقام المستهدفة أو حتى نصفها (مع استثناءات طفيفة)، وتشير الإحصائيات المتاحة إلى أن جملة الأراضي المستصلحة خلال ستين عامًا منذ عام 1952 إلى 2012 لم تتجاوز 3.3 مليون فدان، وهو رقم ضئيل مقارنةً بالخطط المعلنة وحجم الزيادة السكانية( ).
وتظهر نشرة استصلاح الأراضى لسنة 1982 أن حجم الأراضي المستصلحة خلال فترة الرئيس السادات (1970 – 19981) بلغت 150 ألف فدان فقط، ويبدو أن تلك الفترة تأثرت بظروف الحرب مع إسرائيل، إذ تُظهر الإحصائيات تراجعًا حادًا في عمليات استصلاح الأراضي خلال تلك الفترة بشكل غير مسبوق ولا ملحوق، فقد بلغت جملة المستصلح خلال الفترة من 1972 إلى 1978 تسعة آلاف فدان ونصف فقط، ثم بدأت في الارتفاع إلى ستة آلاف فدان ونصف عام 1979 ثم إلى 19 ألف فدان عام 1980 وصولا إلى 94 ألف فدان عام 1981( ).
وتشير الإحصائيات نفسها الصادرة من الجهاز المركزي للإحصاء إلى أن حجم الأراضي المستصلحة خلال فترة الرئيس مبارك الممتدة لنحو ثلاثة عقود (1982 – 2011) بلغت حوالي 2.3 مليون فدان تقريبًا. ورغم أن هذا الرقم يمثل أكثر من ضعف المساحة المستصلحة خلال فترتي الرئيسين عبد الناصر والسادات (1952-1981)، والتي تقدر بمليون فدان تقريبًا إلا إنه مازال بعيدًا عن المستهدفات الضخمة المعلنة من قبل الحكومات المتعاقبة. فعلى سبيل المثال أطلق مبارك في عام 1997 خطة ضخمة تستهدف استصلاح نحو 3.4 مليون فدان بمعدل 150 ألف فدان سنويا خلال فترة العشرين عام الممتدة من ( 1997 – 2017 ) إلا أن ما تم استصلاحه منها فعليًا حتى عام 2012 أي بعد خسمة عشر عامًا لم يتخط 644 ألف فدان( ).
كما جاءت نتائج المشروعات الكبرى التي أعلنها مبارك منذ نهاية الثمانينيات متواضعة للغاية، مثل مشروع شباب الخريجين (المعروف بقرى الخريجين) في عام 1987، والذي قام على فكرة منح شباب الخريجين قطع أراضي تصل إلى خمسة أفدنة ضمن مشروعات الاستصلاح التي حددتها الحكومة في مناطق الوادي الجديد والفرافرة والواحات وغيرها، وكذلك مشروع توشكى الضخم الذى أعلن عنه في عام 1998 واستهدف استصلاح 300 ألف فدان من خلال المستثمرين الأجانب (الخليجيين تحديدًا)، إضافة إلى مشروع قرى الظهير الصحرواي عام 2005 وتضمن بناء 400 قرية لاستيعاب خمسة ملايين شخص بحلول عام 2022، وكذلك استصلاح مليون فدان.
استهدفت تلك المشروعات وغيرها إعادة توزيع النمو السكاني على الصحراء وفق توقعات بزيادته بنحو 24.4 مليون نسمة، على مدى العشرين سنة الممتدة من 1997 إلى 2017، بحيث يذهب 13.3 مليون منهم إلى 44 مدينة جديدة والباقي إلى مشروعات استصلاح الأراضي على مساحة 4.3 مليون فدان، بما في ذلك مشروع توشكى الضخم. لكن هذه الخطط لم تحقق المستهدف منها، لا على مستوى جذب وإعادة توزيع السكان ولا على مستوى تلبية الاحتياجات الغذائية لهم، وتكفي الإشارة إلى تضاعف معدلات استيراد مصر من المواد الغذائية الأساسية كالقمح خلال العقدين الماضيين حتى صارت مصر ثانى أكبر دولة مستوردة للقمح عالميًا( )، بكمية وصلت إلى 9 مليون طن في عام 2018 تمثل نصف احتياجات المصريين تقريبًا إذ يبلغ إجمالي الاستهلاك حوالي 18 مليون طن، ويتوقع تقرير حديث صادر من وزاراة الزراعة الأمريكية أن ترتفع واردات مصر من القمح إلى 12.5 مليون طن خلال عام 2019 لتصبح أكبر دولة مستوردة في العالم تليها إندونسيا ثم البرازيل، فالجزائر، والفلبين( ).
كما لم تنجح تلك الخطط في دفع ملايين المصريين للخروج من الوادي إلى الصحراء، حيث لم يتجاوز عدد المستوطنين بالوادي الجديد 230 ألف شخص أي ما يعادل 7.7٪ من المستهدف (3 ملايين نسمة). وجاءت نتائج مشروع توشكى ضعيفة هي الأخرى، ففي عام 2012، بعد ثماني سنوات من استصلاح الأراضي وقبل خمس سنوات من الموعد النهائي، تم استصلاح 5.5٪ فقط من الهدف المخفض (300 ألف فدان)، كما لم يصل عدد السكان المستهدف جذبهم أكثر من 2,655 شخص في عام 2006 أي ما يعادل أقل من 1٪ من الـ3 ملايين المستهدفة في عام 2017( (.
كما جاء الوضع أسوأ بالنسبة إلى مشروع قرى الظهير الصحراوي واستصلاح المليون فدان الذي بدأه مبارك في 2005. ففي خلال ثماني سنوات، تم بناء 13 قرية فقط وبقيت 49 أخرى قيد الإنشاء من بين الـ400 المستهدفين، في حين ظل المليون فدان غير مستصلحين حيث غاب التنسيق بين الجهاز المركزي للتعمير الذي كان مسئولًا عن إنشاء القرى، وجهاز مشروعات التعمير والتنمية الزراعية المسئول عن استصلاح الأراضي. فتم بناء بعض القرى على أراضٍ غير صالحة للزراعة، كما لم يتم توصيل مياه الري إلى قرى أخرى، أو لم تخصص أراضٍ للمستفيدين من البيوت الريفية من أصله، كما ظلت أغلبية القرى نفسها خاوية من السكان نظرًا لعدم توصيل مياه الشرب إليها، أو لبنائها بمناطق الكثبان الرملية، أو بمخرات للسيول( ). ولعل هذا ما دفع بالجهاز المركزي للمحاسبات إلى كتابة تقرير عن إهدار نصف مليار جنيه في مشروعات هذه القرى التي لم يستفد منها أحد يذكر، تاركينها قرى أشباح تأكلها الرمال( ).
أما بالنسبة إلى مشاريع الاستصلاح الضخمة الأخرى، مثل مشروع مبارك لشباب الخريجين، فثمة صعوبة في الحصول على البيانات الخاصة به سواء من حيث المستهدفات أو من حيث النتائج الفعلية التي تحققت بعد عقود من إطلاقه غير أن الملاحظة العامة حوله لا تشير بنجاحه.
يسهل من خلال ما سبق ملاحظة اختلاف السياسات الزراعية في عهدي الرئيسين السادات ومبارك عن نظيرتها في الفترة الناصرية، بحيث يمكن القول إن سياساتهما الزراعية تمثل انقلابًا مضادًا على سياسات الإصلاح الزراعي المتبعة في الخمسينيات، ويمكن تلخيص ذلك في خمس معالم رئيسية: الأول في فترة السادات، ويتعلق بإلغاء لجان فض منازعات الإصلاح الزراعي ومصالحة بعض كبار الملاك وإعادة ممتلكاتهم الموضوعة تحت الحراسة منذ الخمسينيات. المعلم الثاني في عهد مبارك، حيث استكمل المسار نفسه باصدار قانون مضاد لفترة عبد الناصر عرف بقانون “تحرير العلاقة بين المالك والمستأجر”، والذي بموجبه عادت سلطة الملاك للواجهة مرة أخرى. المعلم الثالث يتعلق بالتوسع في منح الأراضي الجديدة لأصحاب المال والجاه (المحليين والأجانب) وتهميش الفلاح المصري من عمليات الاستصلاح استنادًا لتصورات خاطئة حول أنماط الحيازات الصغيرة والكبيرة. المعلم الرابع يتعلق بانتشار ظاهرة الفساد في قطاع الأراضي وضعف نتائج الاستصلاح نتيجة التحايل على أغراض مساحات واسعة من الأرض وتحويلها إلى أغراض السكن الفاخر من قبل الشركات الحاصلة عليها لأغراض الاستصلاح الزراعي. المعلم الأخير ويتعلق بضعف الإنتاج الزراعي وتضاعف معدلات استيراد مصر من المحاصيل الغذائية الرئيسية حتى صارت مصر أكبر مستورد للقمح في العالم.
خاتمة: سباق الأرنب والسلحفاة (معضلة الأرض والسكان في مصر)
ثمة خلل رئيس متراكم على مدار العقود الستة الماضية محل الدراسة (1952 -2010) يتلخص في: ضعف نتائج المشروعات المتعاقبة لتوسيع الرقعة الزراعية مقارنةً بالنمو السكاني المتضخم بمعدلات متسارعة على مدار الفترة، إذ تشير التعدادات الرسمية المتاحة منذ عام 1897 إلى عام 2015 إلى أن عدد سكان مصر قد تضاعف ثلاث مرات وربع تقريبا خلال أخر 118 عام( ). فقد تضاعف عدد السكان خلال الخمسين السنة الأولى من تلك الفترة ( 1897- 1974) من 9.7 مليون إلى ما يزيد على 18 مليون نسمة، بينما استغرق تضاعف عددهم للمرة الثانية مدة أقل (ثلاثين عامًا تقريبًا) من 1947- 1976 ليصل إلى 36 مليون نسمة طبقا لتعداد عام 1976 الذى أُجري بعد حرب أكتوبر 1973، كما استغرق تضاعفهم للمرة الثالثة فترة أقل من الثلاثين عامًا (حوالي 27 عامًا تقريبًا) حيث بلغ عدد السكان 76.5 مليون نسمة في تعداد عام 2006، وصولا إلى تعداد عام 2015 الذي وصل إلى 104 مليون نسمة بمعدل نمو 24% أي الربع تقريبًا خلال عشر سنوات.
ولا يمثل النمو المتزايد للسكان مشكلة بحد ذاته بل بطريقة النظر إليه وكيفية التعامل معه، إذ تنظر إليه بعض الأنظمة الحاكمة في بلاد العالم باعتباره نقمة يجب التخلص منها، بينما ينظر إليه آخرون باعتباره نعمة تخلق فرص ينبغي اقتناصها، وفي هذا السياق يضرب المثال بالصين ثاني أكبر قوة اقتصادية في العالم والتي يبلغ عدد سكانها 1.4 مليار نسمة تقريبًا، كما يحتل اقتصاد الهند المركز السادس عالميًا وعدد سكانها 1.3 مليار نسمة تقريبًا.
ويبدو نمو الرقعة الزراعية في مصر ضعيفًا للغاية مقارنة بنظيره السكاني، إذ تشير الإحصائيات المتاحة إلى أن مساحة الأرض المزروعة في مصر عام 1900 بلغ 4.7 مليون فدان، ثم صعد إلى 5.2 مليون فدان عام 1950 ثم ارتفع إلى 7.8 مليون فدان عام 1997 وصولا إلى نحو 10 مليون فدان عام 2016، بما يعني أنه تضاعف مرة واحدة خلال قرن مقابل تضاعف عدد السكان ثلاث مرات وربع تقريبًا. وعلى الرغم من أن النشاط الزراعي للريف المصري هو النشاط الأساسي، إلا أن هذا النشاط أخذ يتناقص في أهميته النسبية خلال العقود الأخيرة ويتمثل هذا في تراجع نصيب الفرد من المساحة الزراعية والمساحة المحصولية من نصف فدان تقريبا عام 1897 إلى نحو 0.13 فدان عام 1997، وصولا إلى أقل من قيراطين للفرد عام 2014( ).
في السياق نفسه ثمة ظاهرة أخرى آخذة في التضخم وتتعلق بالزحف العمراني على الأراض الزراعية، ويُقدر حجم الأراض الزراعية المفقودة بسبب زحف المباني والمشروعات بحوالي 570 ألف فدان خلال الفترة من 1952 وحتى عام 1984، وحوالي مليون فدان خلال (1982- 2002). وتبلغ معدلات التآكل الحالية حوالي 60 ألف فدان سنويًا (بسبب تعديات السكن أو المرافق والبينة التحتية كأعمال الطرق وشبكات المياه والصرف)، وفي تقدير آخر للدكتور فاروق الباب بعد قيامه بمقارنة صور الاستشعار عن بعد أن ما فقدته مصر من أراضيها الزراعية بلغ 34% في القرن الماضي( ).
وتتعالى الأصوات المحذرة من تداعيات استمرار هذه الظاهرة بتلك المعدلات المتسارعة بما قد يؤدي في النهاية إلى اختفاء الأرض الزراعية بوادي النيل والمقدرة بنحو 6 مليون فدان (كأراضي قديمة). وتدفع هذه المخاوف بعض الخبراء إلى وضع سيناريوهين لمستقبل الأراضى الزراعية بالوادي والدلتا، أحدهما: متشائم بناء على توقع استمرار حالة البطء فى الخروج نحو الصحراء إلى المدن والمشروعات الكبرى مع عدم القدرة على توجيه النمو العمراني بعيدًا عن الوادي والدلتا. والثاني: متفائل بناء على توقع سرعة وارتفاع معدلات الاستيطان بالمدن الجديدة والمشروعات الكبرى وإيجاد بدائل سياسات جديدة، وبالتالى الحفاظ على الأراضى الزراعية القائمة( ).
وتبدو حركة الواقع الزراعي والعمراني تسير باتجاه متشائم للغاية، إذ مازال نمو الرقعة الزراعية ضعيفًا مقارنةً بمعدلات النمو السكاني، بينما تتضاعف معدلات استيراد المواد الغذائية الضرورية من الخارج، كما تتسارع معدلات تآكل الرقعة الزراعية الحالية بالوادي والدلتا بشكل غير مسبوق بسبب ضغوط الزحف العمراني المتصاعد، بينما لازالت المدن الجديدة المشيدة في الصحراء تعاني ضعف الإقبال والإشغال والاستيطان. وقد توصلت دراسة تقييمية أعدها معهد التخطيط القومي في عام 2011 إلى أن إجمالي عدد سكان 22 مدينة جديدة تأسست خلال العقود الثلاثة الماضية لم يتجاوز 903 ألف نسمة بما يمثل 5% من حجم السكان المستهدف لهذه المدن، وذلك استنادًا إلى بيانات ثلاثة تعدادات سكانية رسمية متتالية (1986، 1996، 2006)( ). وتبدو مصر بحاجة ماسة إلى خطط عاجلة في مجالات الزراعة والمياه والعمران خاصة في ظل التطورات المتلاحقة لأزمة سد النهضة الإثيوبي على نهر النيل وأضراره المؤكدة على الزراعة والعمران في مصر، وإن اختلفت تقديرات تلك الأضرار ما بين مهول ومهون.
*****

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى