الذاكرة التاريخية للأبعاد الحضارية للأزمات الاقتصادية: دعوة لتجديد الاهتمام بالاقتصاد الحضاري الإسلامي العالمي

لا تكُفُّ الأذن منذ 2020 عن سماع كلمة أزمة اقتصادية مالية عالمية؛ مقرونة بوباءٍ عابر تارة، وبحرب إقليمية منذ عدوان روسيا على أوكرانيا في فبراير 2022 تارة أخرى. حقيقة تداعيات الحربيْن: ضد الوباء، وكل من روسيا أو أوكرانيا ضد بعضهما، تداعيات ذات آثار اقتصادية ومالية على أرجاء العالم المختلفة وعلى أوطاننا العربية والإسلامية بصفة خاصة. ولكن يظل السؤال القائم هو: ما معنى “عالمية”؟

هل هي أزمة اقتصادية عالمية، أم هي في الواقع أزمة للنظام الرأسمالي العالمي؟

من أين نشأت؟ ولماذا؟ وما مسئولية بقية أرجاء العالم في الاندلاع والاتساع من ناحية وفي كيفية الإدارة لتقييد الأزمة أو انفلاتها من ناحية أخرى؟ والأهم بالطبع ما الوزن النسبي للأضرار والأعباء عبر العالم؛ هل من خاسر أكبر، هل من مستفيد؟ من استطاع الصمود وابتكار العلاج أو على الأقل التكيُّف ومن لم يستطع؟ وأخيرًا ما المآل وأين المخرج؟ 

ويطل من بين جميع هذه الأسئلة، ويظل الحاضر بقوة واللازم استدعاؤه في النهاية -بل ومنذ البداية- سؤال مهم هو: ما موقع أمتنا وأوطاننا من هذه الأزمة؟

فنحن لا نهتم بـ”العالمي” بصفة عامة لذاته فقط، ولكن لأن الأمة حاضرة في العالم تؤثر وتتأثر بأنماط مختلفة وفق كل مرحلة من مراحل تطور النظم العالمية.

إن لهذا السؤال المركب إجابات متعددة بتعدد زوايا النظر؛ من نظارات قوى النظام الرأسمالي الغربي (دول وغيرها) المهيمن منذ قرن بقيادة أمريكية أو منذ قرون سابقة بقيادات أوروبية استعمارية، أو من نظارات القوى الكبرى (روسيا والصين) أو الإقليمية (تركيا وإيران والبرازيل والهند) المُتحديَّة لهذه الهيمنة سواء بحثًا عن نظام عالمي جديد أم للمشاركة في الهيمنة الرأسمالية (ولو المتحورة) القائمة ولكن بشروطٍ جديدة⁕⁕.

ولكن يظل للعملة وجه آخر مختلف تمامًا لا تستدعيه الحملات الإعلامية أو البيانات الرسمية أو اللقاءات العالمية، فيظل قائمًا وصاعدًا لدى الاتجاهات الفكرية والمدنية والشعبية (غير الرسمية)؛ وهي الاتجاهات الناقضة لأساس وجود هذا النظام الرأسمالي العالمي المهيمن، وما يفرزه من أزمات في شكل دورات متلاحقة يتكيف في كلٍ منها بعد وطأة أزمة شديدة، ولو على حساب بقية أرجاء العالم.

فتقدم هذه الاتجاهات تحليلات نقدية تثويرية تستهدف “التغيير العالمي” وتنطلق من مقولتين: الأولى أن هذه الأزمات ليست عالمية إلا بقدر تأثيراتها السلبية، لأنها أزمات تفرزها ميكانيزمات كلٍ من النظام الرأسمالي العالمي (ومن قلب مراكزه الأساسية) ونظام توازن القوى العالمي اللصيق به وتسقطهما من أعلى على أرجاء العالم، في حين أن هذه الأزمات ناجمة عن طبيعة منطلقات النظامين وآلياتهما وأدواتهما في إدارة المصالح والحفاظ على الهيمنة على كافة الأصعدة (العسكرية والاقتصادية والثقافية..). ورغم الآثار المتعددة للأزمات، يظل وصفها بأبعاد اقتصادية ومالية بالأساس مما يعني فصلًا وتمييزًا بين هذه الأبعاد وغيرها من الأبعاد الاجتماعية والسياسية والثقافية، في حين أن جميع هذه الأبعاد متحاضنة.

والثانية: أن هناك أزمات إقليمية وعبر إقليمية حادة ذات أبعاد خارجية واضحة تعاقبت عبر القرن العشرين وحتى الآن (ناهيك عن قرون سابقة) ولم تلقَ اهتمامًا كافيًا، بذريعة أنها ليست عالمية! فبرغم أن أسبابها نابعة من كافة أشكال وروابط التبعية، وكان لها تداعيات شديدة على مواطن حدوثها سياسيًا واجتماعيًا وإنسانيًا، ولكنها تظل من منظور “الكِبار” غير عالمية لأنها لا تمس مباشرة وبشكل سلبي المصالح العليا لقوى النظام المهيمن، بل يمكن لهذه القوى أن تديرها على نحو يقيد امتداداتها السلبية إلى مراكز هذا النظام الرأسمالي العالمي. بل وعلى نحو يحُول أحيانًا دون إيجاد حلول سريعة أو جذرية لها طالما تم احتواؤها وتقييد امتداداتها.

وفي المقابل، أي مقابل موجات أزمات النظام الرأسمالي العالمي المتلاحقة، فإن الأمة التي تتناوب عليها الأزمات من داخلها أيضًا في حاجة لرؤية استراتيجية عن كيفية مقاومة آثار هذه الأزمات الخارجية أو المناعة ضدها إذا أمكن. 

ولقد تعددت المؤشرات منذ منتصف السبعينيات عن تغيير الوضع العالمي للعالم الإسلامي وحضوره بقوة في قلب التحولات العالمية سلبًا أو إيجابًا؛ ومن أهم هذه المؤشرات: تنامي أدبيات الاقتصاد السياسي الإسلامي وخبراته العملية بأبعادها الخارجية والداخلية، وأبعادها التاريخية أو المعاصرة، ذلك لأننا أضحينا -وبصورة متزايدة- ضحايا أساسيين للأزمات المتكررة للنظام الرأسمالي العالمي.

بعبارةٍ موجزة، فإن هذه الحالة القائمة أو النقدية لما يسمى “أزمة اقتصادية عالمية” يدفعنا إلى نطاق ما يُسمى “الاقتصاد السياسي العالمي من منظورات مقارنة”. ولكن من مدخل محدد وهو “الأزمات الاقتصادية العالمية” من منظورات مقارنة ذات نماذج معرفية متنوعة لا بد وأن تختلف في التوصيف والتحليل والتفسير وزوايا الاهتمام الفكري والعملي في آن واحد، ومنها حضاري إسلامي.

وبناء على التقديم السابق، يتضح مغزى عنوان الدراسة “الذاكرة التاريخية والأبعاد الحضارية للأزمات الاقتصادية”، وهي الدراسة التمهيدية للملف الراهن والذي تتناول دراساته مباشرة أبعاد الأزمة الاقتصادية العالمية الراهنة، كما تتصدى آخر دراساته لإشكالية القيم والأخلاق في هذه الأزمة الراهنة على نحو يستقصي حقيقتها الحضارية -أي منظومية وتشابك أبعادها المختلفة- من منظور إسلامي قيمي مقارنة بالمنظور الوضعي الواقعي الذي يركز على بعد دون آخر مع إسقاط أولوية القيم والأخلاق.

ومن ثم، فإن منطلق الورقة المعرفي والفكري من ناحية، ومنهاجية عرض مكوناتها الموضوعية من ناحية أخرى، تطرح منظومة الأسئلة التراكمية التالية:

  1. ما موضع الأزمة العالمية الاقتصادية الراهنة من أزمات النظام الرأسمالي العالمي خلال القرن العشرين، وما قبله من قرون نشأةٍ ونموٍ وذروةٍ، ثم بداية تراجع وخبو النظام الرأسمالي العالمي؟
  2. هل الأزمات العالمية أزمات اقتصادية بالأساس؟ أين موضع الأبعاد الأخرى للظاهرة الاجتماعية والإنسانية التي تضربها هذه الأزمات؟ لماذا تتغلب الأبعاد الاقتصادية المالية للنظم بدرجة أساسية، أين الأبعاد الحضارية للأزمات العالمية؟!
  3. ألا تحتاج الأزمات الاقتصادية العالمية للنظر والتدبر في سياق أوسع وأشمل تاريخيًا في إطار دورة الحضارة أو الدولة، وكذلك في إطار يجمع هذه الأزمات بمنظومة من الظواهر اللصيقة (مثل الحروب الكبرى والصغرى وحالة القوى المهيمنة الكبرى وحالة التابعين) على صعيد نفس النظام العالمي الرأسمالي، أو النظام العالمي الإسلامي في دورته الحضارية من الذروة إلى التراجع؟
  4. هل النظام الرأسمالي العالمي يمر -في ظل هيمنة أمريكية متدهورة الآن- بنهايات دورة الهبوط التي بدأت منذ قرن (بعد الحرب العالمية الأولى)، وبعد أن أخذت دورة الصعود قرنين (السادس عشر والسابع عشر) ودورة الذروة القرنين الثامن عشر والتاسع عشر؟
  5. وما الآفاق أمام العالم الإسلامي بعد مرحلة المخاض الشديدة الراهنة منذ نصف قرن تقريبًا؟ وماذا تقدم لنا الذاكرة التاريخية عن دورة قيادته الحضارية للعالم وعن طبيعة النظام العالمي خلال دورة الصعود والهبوط لهذه القيادة على حد سواء؟ وكيف انعكست الرؤية الإسلامية على النموذج النظري والتطبيقي للاقتصاد العالمي في ظل هذه الدورة؟ هل تقدم هذا الذاكرة نماذج مختلفة الدلالة عن النماذج في ظل ذروة النظام العالمي الرأسمالي؟

إن الإجابة عن هذه الأسئلة التي تجمع بين المعرفي والتطبيقي، وبين المعاصر والتاريخي، وبين الداخلي والخارجي تستدعي وتتطلب منظومة متشابكة من المقارنات من رؤى وضعية واقعية وأخرى إسلامية، وتقع في قلب هذه المنظومة أمور منهاجية هامة تمثل خيوطًا ناظمة عبرالدراسة:

* الذاكرة التاريخية، الغربية والإسلامية.

* الرؤى المعرفية التأصيلية المقارنة هي ميزان الواقع التاريخي والمعاصر.

* إشكالية العلاقة بين الاقتصاد وغيره من أوجه الظاهرة الاجتماعية، هل هي علاقة منظومية أم علاقة بين سبب ونتيجة؟ بعبارة أخرى هل نتحدث عن اقتصاد مادي أم اقتصادي حضاري؟

* ما منطق العلاقة من القيم/ الأخلاق وبين القوة والمصلحة؟

* وأخيرًا إشكالية العلاقة بين الداخلي والخارجي.

إن الذاكرة التاريخية وخاصة للأبعاد الحضارية للأزمات الاقتصادية (العالمية وغيرها) تلعب دورًا هامًا على صعيدين: من ناحية التنظير لدورات الصعود والهبوط (للدول، الإمبراطوريات، الحضارات)، على نحو يزيد من القدرة على فهم الأزمات السيارة والراهنة المعاصرة؛ لأن هذه الأزمات ليست مفاجئة ولأنها تبدأ داخلية وإقليمية حتى تصبح عالمية وفي مسار تاريخي ممتد. ومن ناحية أخرى: التخطيط الحضاري الرشيد لكيفية التغيير إصلاحًا وتجديدًا وليس استبدلًا بسرعة وفجائية.

والجدير بالذكر هنا أن دوافع وأهداف هذا الاستدعاء للذاكرة التاريخية ومنظومة الأبعاد الحضارية للأزمات الاقتصادية (في هذه الدراسة التمهيدية) إنما ترتبط بحال ومآل العالم الإسلامي الراهن وآفاق إصلاحه بالأساس، وليس إصلاح النظام الرأسمالي العالمي الراهن فقط. فإن هذه الذاكرة تبين أن الوضع المتردي الحالي لهذا العالم ليس مفاجئًا، فهو نتاجُ تراجعٍ ممتد بعد ذروة حضارية صاعدة، كما أنه ليس حتميًا ونهائيًا ولكن يمكن تجاوزه والتغلب عليه وفق شروط السنن الإلهية. كما تبين الذاكرة التاريخية من ناحية أخرى أن طبيعة النظام الرأسمالي العالمي ليست هي الطبيعة الوحيدة العالمية للنظم العالمية، فلقد سبقته نظم حضارية مختلفة مرت بدورتها الحضارية، ومن ثم فإن هذا النظام الرأسمالي ليس حتميًا ونهائيًا.

وعلى ضوء هذه الأهمية للذاكرة التاريخية، نجد أنها يجب ألا تنفصل، بل تؤسس لرؤية استشرافية لمستقبل التغيير العالمي. 

وتسعى الدراسة للبحث عن إجابات استكشافية للأسئلة وفق المنهاجية التالية: 

  • من خلال مجموعات من النماذج التاريخية المتنوعة، زمنيًا وحضاريًا.
  • مقرونة بمجموعات من التعليقات والإشكاليات المنهاجية المتصلة بالمقارنة بين نموذجين معرفيين وحضاريين: الإسلامي والرأسمالي الغربي، انعكسا -سواء في مراحل صعودهما أو هبوطهما- على نمط الأزمات من حيث أسبابها وآثارها.
  • ويتم تقديم هذه النماذج المقارنة وفق تقسيم مرحلي تاريخي جامع بين تقسيمات التاريخ الغربية ونظائرها الإسلامية، على نحو يراعي أساسًا دورة صعود وهبوط كلٍ من الحضارتين، ويتجاوز التصنيفات التقليدية التاريخية الإسلامية أو الغربية وفق تواريخ الحروب الكبرى، ويستدعي بالأساس “الأزمات الكبرى” الاقتصادية وغيرها في سياق كل مرحلة أو نظام تاريخي.
  • وأخيرًا تهدف إلى إبراز الفروق بين أنماط الأزمات وفق “النموذج الحضاري”.

أولًا- النظام الحضاري الإسلامي العالمي: موضع الاقتصاد وأزماته من دورة الصعود ثم دورة التراجع:

بالنظر إلى أدبيات التاريخ الإسلامي، من رؤية إسلامية أو استشراقية، نلحظ تغلب الاهتمام بالتاريخ السياسي (الداخلي والخارجي، الشامل والجزئي) على حساب التواريخ الاقتصادية والاجتماعية، وتبرز الأبعاد الاقتصادية الاجتماعية الثقافية على صعيد أنماط أخرى من التواريخ. ولكن يظل السؤال المركب التالي قائمًا (كما سبقت الإشارة): ما وزن استدعاء الأزمات الاقتصادية بأبعادها الداخلية والخارجية؟ وما أنماط هذه الأزمات وكيف تطورت طبيعتها على مر التاريخ الإسلامي الحضاري صعودًا وهبوطًا؟ ومن ناحية أخرى: هل ظهر الربط بين الأبعاد السياسية-الاجتماعية والأبعاد الاقتصادية لهذه الأزمات؟ وكيف ظهر الربط بين أبعادها الداخلية والخارجية؟ وهل تطورت أنماط هذه الروابط من مرحلة إلى أخرى قوة أو ضعفًا؟ ويعكس هذا السؤال المركب الإشكاليات المنهاجية لدراسة الأزمات الاقتصادية في التاريخ الإسلامي ودلالاتها المقارنة مع نظائرها في التاريخ الغربي، وذلك على ضوء “الرؤية المعرفية الإسلامية” والمنظور الحضاري الإسلامي الذي يستبطنها والذي يحكم التفاعلات والسياسات بين الدول الإسلامية وغيرها. وخاصة فيما يتصل بمركزية دور القيم والأخلاق في هذه الممارسات مقارنة بأدوار عناصر القوة الاستراتيجية المادية، بعبارة أخرى فإن هذه الإشكاليات المنهاجية تتصل بمنظومات ثلاث متداخلة كما سبقت الإشارة: القيمي/المادي، الداخلي/ الخارجي، الاقتصادي/ الحضاري.

إذن فنحن لا نبحث في مجال الاقتصاد الإسلامي أو الاقتصاد السياسي الإسلامي فقط أو الاقتصاد السياسي الإسلامي العالمي فقط ولكن نبحث عن الاقتصاد الحضاري الإسلامي العالمي..

إن التأصيل الإسلامي والممارسات الإسلامية لا تعرف فصلًا جامدًا بين الداخلي والخارجي أو بين مركز الخلافة ومكوناتها، كما أن البعد السياسي للاقتصاد أو البعد الاقتصادي للسياسة حاضران في قلب التأصيل والخبرة الإسلامية وفي ترابطهما مع أبعاد أخرى اجتماعية وثقافية؛ حيث إن الظاهرة الاجتماعية في الرؤية الإسلامية تتسم بالشمول والكلية وعدم الاجتزاء أو اختزال أبعادها المركبة، ومن ثم عدم إعطاء أولوية مطلقة وحتمية لأحد الأبعاد على حساب الأخرى. وانعكست هذه الرؤية بالطبع على الممارسات والخبرة. وفي المقابل فإن منظومات هذه الثنائيات الثلاثة هي نتاج الاقتصاد السياسي الدولي من رؤية غربية، والذي اقترن بخبرة النهضة الأوروبية الحديثة منذ القرن السادس عشر الميلادي (كما سنرى لاحقًا). 

ومن ثم -وهو الأهم- فلا وجود للسؤال التقليدي في أدبيات الاقتصاد السياسي الدولي الغربية، ألا وهو: أيهما الذي يؤثر على الآخر، السياسة أم الاقتصاد؟ والسؤال الأكثر ملاءمة لرؤية إسلامية هو: ما نمط تفاعل البعدين وكيف يؤثر أحدهما على الآخر ومتى يبرز تأثير أحدهما على الآخر في إطار أكثر كلية يستدعي منظومة القيم الضابطة لكل من البعدين، أو السنن الشارحة أو المقاصد المستهدفة أو الأحكام الملزمة… والقيم والسنن والمقاصد والأحكام تصبغ الظاهرة المعنية بصبغتها حيث يضحى لمفهوم الاقتصاد ذاته وفلسفته معنى مختلف عن نظيره “الغربي الوضعي” نظرًا لصعود الأبعاد القيمية الدينية والثقافية والحضارية في فهم وتشكيل هذه الظاهرة الاقتصادية دون انفصال عن السياسة، وبدون انفصال أيضًا بين الداخلي والخارجي، وسعيًا نحو إدارة الأوضاع القائمة وإصلاحها لتكون أكثر عدالة وإنسانية.

بعبارة أخرى إذا كان تطور التنظير الغربي وصل إلى التمييز بين: الاقتصاد السياسي الدولي التقليدي الذي يقتصر على العلاقة بين السياسي والاقتصادي، وبين المفهوم النقدي الأوسع الذي يشمل الأخلاقي والثقافي والمجتمعي، فإن منظورًا حضاريًّا إسلاميًّا يرفض هذا التمييز بل ويؤصل له.

فالاقتصاد السياسي باعتباره ظاهرة متصلة بالمعايش والحاجات والموارد والثروة والمال، لم يكن في عزلة، في التأصيل الإسلامي أو الخبرة الإسلامية، عن غيرها من مظاهر الحياة السياسية والاجتماعية والثقافية؛ نظرًا لشمول الرؤية الإسلامية عن الظاهرة المجتمعية. ومن ناحية أخرى فإن الأجزاء الخاصة بالأموال في الفقه هي الباب الأكبر، من أبواب العبادات والسياسات، بل إن مسائل فقه الجهاد والقضاء بدورها غير منفصلة عن فقه الماليات، مما يتبين معه شمول العقلية الفقهية. ومن هنا، أهمية القراءة في التاريخ الاقتصادي والاجتماعي للخبرة الإسلامية وعدم الاقتصار على تواريخ الحروب والتواريخ السياسية للممالك والسلاطين.

وبالطبع، وحيث إن هذا الموضوع ليس محلا للدراسة التفصيلية، فنكتفي باستعراض نماذج من بعض الخبرات النوعية والزمنية عبر هذه القرون العشرة الهجرية. 

تهتدي عملية البحث في هذه الخبرات التاريخية بعدة موجهات، من قبيل: 

  • أين موضع “القوة الاقتصادية” وأدوات القوة الاقتصادية الخارجية في تحديد موضع “الدول الإسلامية الكبرى” من التوازنات العالمية ومن إدارة العلاقات الخارجية للأمة؟
  • كيف يمثل “الجانب المادي” إلى جانب -أو انطلاقًا من- الجانب القيمي الأخلاقي مكونًا أساسيًا في القوة أو الضعف؟
  • كيف تفاعل الجانب الاقتصادي تأثيرًا وتأثرًا مع سياسات الحروب والدبلوماسية في التقاليد الإسلامية؟ 
  • كيف اقترنت سياسات الفتوح والعمران والوحدة بسياسات اقتصادية ومالية، وما نظائرها التي اقترنت بها سياسات الدفاع والجمود والتراجع والانقسام؟
  • وكيف كانت عمليات الاسترداد “الغربية”، ثم الاحتلال والتجزئة نتاج “القابلية للانحدار ثم القابلية للاستعمار من الداخل على نحو مكَّن للخارج؟ ومن ثم: هل التبعية ناتجة عن أسباب خارجية نظمية عالمية بالأساس (وفق مُنظِّري التبعية)، أم ناتجة عن أسباب داخلية بالأساس (وفق مُنظِّري الواقعية والليبرالية)، أم تقدم الخبرة الإسلامية جديدًا بشأن إشكالية العلاقة بين الداخلي والخارجي في عمليات القوة والنمو والاستقلال أو الضعف والتخلف والتبعية؟

وهذه الموجِّهات مستخلَصة من طبيعة رؤى إسلامية فكرية متعاقبة عن أسباب صعود الحضارات (والدول) وسقوطها، وهي ليست رؤى نظرية ولكن تقوم على استقراء واقع المسلمين على ضوء سنن وقواعد الأصل القرآني وفي الخبرة النسقية (أي الممارسة النبوية والخلافة الراشدة).

وفيما يلي نقدم نماذج لأزمات اقتصادية اجتماعية ذات سياقات داخلية وخارجية سياسية وعسكرية متنوعة أيضًا.

[1] مرحلة النبوة في مكة والمدينة والعهد الراشدي

عن بناء وتأسيس النظام الاقتصادي وامتداداته في هذه المرحلة أستعين بما أسماه د.مدحت ماهر “نظام السياسة”

ويتضح من منهج النبوة في التأسيس والبناء أن أمور الاقتصاد والمال (موارد ونفقات) كانت سارية فيما يتصل بالبنى والأدوات ونظم التعامل المختلفة (القيادة، والوزارة والإمارة والقضاء، والجيش وأعمال الأموال وعمالها). وأكتفي هنا بالنقل عن عنوانين ذوي دلالة مباشرة عن الاقتصاد والمال، الأول هو “أعمال الأموال وعمالها”:

“في إطار عملية التغذية المتبادلة بين مجالات السياسي؛ على النحو السابق في الإمارة والقضاء والحرب، عزَّزت السياسة الجانب المالي للدولة وتعزَّزت به. فمن أمارات “الدولة” البارزة جدًّا: إنشاء حق جهة الحكم في اقتطاع أجزاء من أموال الأفراد من جهة، والاختصاص برعاية المال غير المخصوص بالأفراد أو الجماعات المحدودة، والقيام عليه، ولم يكن ذلك سائدًا بصورة منتظمة في الحياة القبلية. وقد جاء الإسلام بالزكاة تشريعًا مركزيًّا واجبًا –ركنًا من أركان الإسلام- ليقرِرّ هذا المعنى ويطوِرّه ضمن المنطلق الإيماني الذي أضْفاه على الحياة، وضمن حكم أخرى غير سياسية. وقد أَوْلَت السياسةُ النبوية أمرَ المال العام والعلاقة بين المال والشأن العام عنايةً بارزة؛ فقد سمَّى القرآنُ المالَ عامة “مال الله”، فهو مالك كلّ شيء، وأشار كذلك إلى الملكية البشرية بنسبة الأموال إلى الناس، وعرف المال العام في السُّنَّة والسيرة بمال الله ومال المسلمين….

ولم يعيِّن الرسول (صلى الله عليه وسلم) مكانًا مخصوصًا لجمع المال إلاَّ متأخِرًا، فلم يكن يختزن المال عنده أو يبيته لليوم التالي، بل يقسمه في يومه، كما روى أبو داود عن عوف بن مالك….

ومما يدخل في التكوين الإداري في العهد النبوي تعيينه لرجال جمع الأموال وصرفها وتوصيلها، وما منحهم من المهام، وما قام به هو (صلى الله عليه وسلم) من تحديد طرق التحصيل وطرق التوصيل”.

والعنوان الثاني هو السياسة العامة:

“لم تكن أكثر وظائف السياسة النبوية جديدة على العرب من مراعاة الشئون (الأمنية – القضائية – الحربية…)، ولكن المنطق النبوي لها بدا جديدًا تمامًا؛ حيث الْتقى الدينيُّ المنزَّل بالسياسي الْتقاءً خاصًّا؛ فالرئيس السائس في هذه الحالة نبيٌّ يُوحَى إليه، ما يقوله وما يفعله تشريع لوقته ووقائعه، ولتقعيد القواعد العامة الصالحة والمُصلحة لما بعده من أزمان وأحوال.

باشر النبي (صلى الله عليه وسلم) الوظيفة الرعائية العامة؛ في التصدِّي لاحتياجات الناس من الضروريات والحاجيات، والعمل على تدبيرها بأساليب تعاونية أو عبر فريضة الزكاة، أو الموارد الناتجة عن الحروب (الفيء والغنيمة). ومن ناحية أخرى، تصدَّر النبي (صلى الله عليه وسلم) للقضاء بين الناس، وسمح للمتصدِّرين والكبراء بالقضاء بين يديه، وأوضح أصول التقاضي والمقاضاة والحكم بين الناس بالعدل. وشمل قضاؤه المسلمين وغير المسلمين، كما حكمَ على مَن فعل الفاحشة من اليهود بالرجم، وحكم بالقتل قصاصًا، وبالقطع وبالجَلد، وبالتغريب (النفي أو الحبس)، وبالغرامات والتعويضات، وبإثبات النسب ونفيه… وهكذا.

ومن ناحية ثالثة، أصدر النبي (صلى الله عليه وسلم) القرارات العامة المهمَّة؛ بإجلاء قبائل كبني قينقاع وبني النضير من اليهود، وهدم مبانٍ كمسجد الضرار، ومنع مبادلات الذهب والفضة والأقوات الأساسية إلَّا بنظام محدَّد، وتحديد سنٍّ أو علامة للالتحاق بالجيش، وجمع الزكاة، ونظَّم العيدين الإسلاميَّيْن، ووضع قواعد أخلاقية وتشريعية للأسواق وطبَّقها، وكذا الزواج والطلاق والميراث والمعاملات المالية، وغيرها. ومن ناحية رابعة، عيَّن أفرادًا في وظائف مختلفة بشكل شبه دائم أو مؤقَّت لأداء مهمَّة معيَّنة، فعيَّن كتبَةً وسفراء ورسلًا لنقل رسائله أو قراراته، وآخرين منفِّذين لها، ووظَّف عمَّالًا على أموال الصدقات، وآخرين لجمعها، وآخرين لتنفيذ العقوبات. ومن ناحية خامسة، أقام سياسة خارجية بين تحالفات سياسية وتدافعات عسكرية، وأعدَّ الجيش وجهَّزه واستكمل نقصه من طاقة الإيمان والعُدَّة والعدد، وخطَّط للمعارك، واستشار في ذلك ونزل على رأي غيره المخالف لرأيه كما تقدَّم، وقسَّم جيشَه، وأرسل عيونَه تستطلع له أخبار العدو وأحواله، واستعمل الردع والحرب النفسية والدعاية ضدَّ العدو، والتضييق عليه بتخريب موارده.

في الظاهر، لم تشهد الدولة النبوية خطةً تنموية واضحة على النمط المعاصر، ولا خطة حمائية من الصراع الداخلي أو انتشار الجريمة أو مكافحة الفقر أو ما شابه. فما معنى السياسة إذن؟

الحقيقة أن هذا أمر يحتاج إلى تدبُّر شديد لعموم سياسته (صلى الله عليه وسلم). فقد انصبَّت بالأساس على العنصر البشري؛ فآوى المهاجرين، وصالح الأنصار وصهر ما بين الفريقين بالرابطة العقيدية، وغذَّى في المجتمع روح الرعاية والمشاركة العامة أمرًا بالمعروف ونهيًا عن المنكر، وأتاحها لهم وتفاعل مع ما يشاركون به تشجيعًا وتأكيدًا، وفي المقابل حذَّر من اللامبالاة. وجمع ذلك المعنى وما يستلزمه من تدافع وإصلاح الفساد ومنعه في نموذج تمثيلي يوضح أهمية المشاركة -وخاصة بالمعارضة عند بروز الخلل في المجتمع والمسئولية الجماعية- في قوله (صلى الله عليه وسلم): “مَثَلُ القائِمِ علَى حُدُودِ اللَّهِ والواقِعِ فيها، كَمَثَلِ قَوْمٍ اسْتَهَمُوا علَى سَفِينَةٍ، فأصابَ بَعْضُهُمْ أعْلاها وبَعْضُهُمْ أسْفَلَها، فَكانَ الَّذِينَ في أسْفَلِها إذا اسْتَقَوْا مِنَ الماءِ مَرُّوا علَى مَن فَوْقَهُمْ، فقالوا: لو أنَّا خَرَقْنا في نَصِيبِنا خَرْقًا ولَمْ نُؤْذِ مَن فَوْقَنا! فإنْ يَتْرُكُوهُمْ وما أرادُوا هَلَكُوا جَمِيعًا، وإنْ أخَذُوا علَى أيْدِيهِمْ نَجَوْا، ونَجَوْا جَمِيعًا“.

وكانت المشاركة المالية في الشأن العام الأكثر بروزًا؛ شجَّع عليها وتقبَّلها، وجعلها علامة إيمان ومقابلها قرينة نفاق. أنعش نفوس الفقراء بأول موارده المالية، حتى إذا دخلوا في المجتمع بكفاف أو كفاية، طوَّر سياسة توزيع الثروات على العدل دائمًا والمساواة في محلها. لكن البارز أن أكثر نفقته (صلى الله عليه وسلم) كانت على الناس لا على أبنية أو ما إليه؛ لأنه تسلَّم جماعات مغرقة في الفقر المدقع، حتى إذا تجاوز هذه المرحلة بنهاية عهده (صلى الله عليه وسلم) انتقل خلفاؤه إلى نفقات أخرى. أقام نظم اتصال بين الأقاليم عبر الرجال (البريد)، وحاسب العاملين في إدارته، وعذر وعزل. والخلاصة أنه لم يترك سياسة نظرية إلَّا وطبَّقها بقيمها ومقاصدها وأصولها التشريعية والأخلاقية في مجتمعه، فصار مجتمعه من بعده (صلى الله عليه وسلم) وعاءً لإنتاج سياسات عامة عمرانية وتنموية استمرَّت لمئات السنين وإلى اليوم”.

وعن مرحلة نظام السياسة في العهد الراشدي: يقول د.مدحت إنها مرحلة الاتباع والاجتهاد في نفس الوقت؛ حيث نجد أن أمور الاقتصاد والمال لم تكن أيضًا في تطويرها وتنميتها بمنأى عن أمور السياسة والحرب والاجتماع. والمجمل عن هذا العهد الراشدي من نظام السياسة أنه وفق د.مدحت تطور “من مرحلة تثبيت الأركان والانتقال من النبوة إلى الخلافة، فمرحلة تطوير البنيان وتوسعة العمران، ثم مرحلة حفظ ميزان الاستمرار ومدافعة اختلال الاستقرار، إلى مرحلة تقليل الخسائر ووأد الفتنة وممانعة الانحدار التام في المبادئ، وصولًا إلى رأب الصدع، خاصة فيما عُرف بعام الجماعة 41هـ الذي اختتم به العصر الراشدي”.

وعن الخصائص المتصلة بأمور الاقتصاد والمال في عهد كل من الخلافات الأربع (وإن لم تنفصل في ذاتها عن أمور السياسة والحرب) يشير د.مدحت إلى ما يلي:

عن عهد أبي بكر الصديق نقلًا عن د.مدحت: “يأتي اتخاذه القرار الأخطر بفتح الجبهات مع المرتدين والمتنبئين ومانعي الزكاة أيضًا، ليكشف أنه كان يعمل على نقل الأوضاع المضطربة إلى حال الثبات؛ بالثبات أولًا على المبدأ، مع الاجتهاد ثانيًا في الوسائل، من: استعمالٍ كثيف للشورى، وتلقٍّ للنصائح، وتفويض للسلطات، واستصلاح للقادة، واستعمال متمكِّن لموازين المصالح والمفاسد، مع علم غزير بما تتيحه الشريعة من صلاحيات العفو أو المعاقبة، والمواجهة والمهادنة (وهي غير المداهنة)، والتشوف العام إلى هداية الناس وتحقيق السلام والأمان”.

وعن عهد عمر بن الخطاب يقول د.مدحت: “لكن المزية الكبرى لعهد عمر هي جلاء التطبيق العملي لثلاثة أمور: تطبيق القيم السياسية وإعلائها، وتطبيق فقه المصلحة باتساع، وترسيخ مأسسة الوظائف الإدارية”

“ومن ثمَّ، فعهد عمر عهد توسُّع وتعمُّق في العمران، زادتْه الفتوحات التي افتتحها أبو بكر وتوسَّع عمر فيها، ثراءً وَحَرَجًا في آنٍ واحد. فأما الثراء، فقد ضم عهد عمر جغرافية حضارية واسعة؛ حيث هضمت دولته دولة الفرس وحضارة الساسانيين كاملة، وأجزاءً من حضارة الروم، فضلًا عن ممالك العرب الشمالية وممالك أفريقية بدائية. وضمَّت دولة عمر غير مسلمين كثيرين، ضمُّوا إلى أهل الذمَّة وجرت عليهم أحكام أهل الذمَّة؛ ومن ثم استفادت بهم السياسة العُمَرية كثيرًا، لا سيما في عالم الوسائل والمؤسسات والفنون الإدارية العامة. وأما المقصود بالنتائج الحرجة فقد كان للأمر سلبياته. فقد دخلت على السياسة الإسلامية أفكار وقيم ونزوعات مخالفة أو حائدة عن روح الإسلام وما أسَّسه الرسول ومضى عليه أبو بكر وعمر، خاصة أثر الشكليات؛ من مظاهر الأبهة والترف والاستمتاع بالدنيا، والطبقية السياسية، والتوسُّع في الاستصلاح على تخوم القيم وفي المساحات الرمادية المخيفة، التي عادة ما تبرَّر بالاضطرار أو الحاجة التي تنزل منزلة الضرورة. ومن هنا تباينت سياسة عمر في الحالات المختلفة”.

وعن عهد عثمان بن عفان، يقول د.مدحت فيما يتصل بموضوعنا: “ومن الناحية السياسية، فقد اشتمل عهده على تطورات مهمَّة، لعلَّ أبرزها: العناية بزيادة تعيين اختصاصات العاملين في الدولة، وتقسيم العمل عليهم وتحديد قواعده؛ ومن ثم استقرَّ العديد من المسائل الفنية في كلٍّ من السياسة المالية والقضائية والخارجية. ومع زيادة مساحة الدولة وعدد سكَّانها وكثرة مواردها أصبحت سمة لأكثر الأمور: كثرة الموارد، وكثرة النفقات، وكثرة الأعمال الإدارية، وكثرة العاملين في الدولة، وكثرة الاعتراضات عليهم، وكثرة الاجتهادات، وكثرة الاختلافات… لكن الشيء الأبرز هو جريان سُنَّة النقص، وتحول الكثرة إلى التكاثر، والروعة الدينية إلى التحضُّر الدنيوي. وقد بدأت بذور النقص في عهد عثمان، فجاراه واجتهد في حياطته بالسياسة المرنة حتى لا تفضي إلى مصادمة السُّنن. واستعمل عثمان ذكاءه السياسي وسعة صدره أكثر مما استعمل المصادمة والحزم، فدامت خلافته على ذلك اثنتي عشرة سنة وانتهت بقتله.

وإذا كان عمر قد أدار أزمات الجوع كعام الرمادة، وقدَّم نموذج الخليفة المتفقر اختيارًا، فإن عثمان أدار أزمات الغنى وقدَّم نموذج الخليفة الثري المستغني المتزهد؛ نموذجًا ربما لم يرِد مثله ولا يطابق نموذَجي العمرين: عمر بن الخطاب أو عمر بن عبد العزيز، اللذين انخلعا من المال أصلًا وأفقرا أيديهما. فعثمان احتفظ بالمال وامتلكه، ولكن استعمله فيما يستعمله الزاهدون. وهذا فارق مهم لم يفطن إليه الكثيرون؛ ومن ثم لم تتبيَّن لهم مزية عثمان ومغزى رشادة خلافته والميزة النسبية له بين الخلفاء الأربعة…”.

“وقد أنشأ عثمان أول أسطول بحري ضمن استكماله لسياسة الفتوحات التي وسعت نطاق الدولة كثيرًا فوق ما تركه عمر، وتسبَّبت في غزارة الموارد المالية، وإثراء كثير من المسلمين من الحكام والمحكومين؛ ما أفرز مشكلات الحضارة وأجرى سُننها التي أشار إليها ابن خلدون”.

وعن عهد علي ابن أبي طالب، فقد جاء في غمار الفتنة التي ابتلى الله بها المسلمين خلال خلافة عثمان. وكانت في جزء منها تتصل بأمور السوية والعدل. “ومن ثم جاء عهد علي بن أبي طالب رضي الله عنه في غمار الفتنة، واستمرَّ خمس سنوات انتهت بمقتله جرَّاء اتساع الفتنة وتعدُّد رءوسها. وأبرز ما ميَّز هذا العهد سياسيًّا ممارسةُ الحكم في ظلِّ أزمة شرعية من البداية؛ الأمر الذي لم يكن في العهود الثلاثة السابقة”. إذن هل كان لأزمة الشرعية أثر على الاقتصاد والعمران؟

وعن محصلة العمران والتنمية وإدارة التحولات الاجتماعية والاقتصادية في عهد النبوة ثم العهد الراشدي، وفي ارتباط مع التحولات السياسية والعسكرية يقول د.مدحت:

“إذا كان العمران المادي وتنمية الأحوال الحضارية التي تتطلَّبها سعة حصة الدولة وتكاثر المنتمين إليها، وتعدُّد الحاجات وتفنُّن الصنائع واختلاف الطبائع قد كان عند أدناه في عهد النبي (صلى الله عليه وسلم) ما أتاح المجالَ لبيان بناء الإنسان والتركيز عليه باعتباره الأَوْلى والمقصود من النبوة ورسالتها وعصرها؛ فإن عهد الراشدين كان مجالًا لهذه التنمية، ولإدارة النموِّ والتحوُّل الاجتماعي والاقتصادي الذي بدا تارةً أشبه بالأمر الواقع والواجب مجاراته، وتارة أخرى أشبه بالأزمة الواجب إدارتها ومقاومة آثارها الضارَّة وتجنُّبها إنْ أمكن…”.

“…معلوم أن النبي (صلى الله عليه وسلم) كان يقول لأصحابه وأمَّته إنه لا يخشى عليهم في مستقبلهم من الفقر، إنما من الثراء وكثرة الأموال، ليس تفضيلًا للفقر على الغنى؛ إنما تحذيرًا من أثر الابتلاء الناعم والمحبَّب للنفوس، وأنه يفتح باب التنافس الاجتماعي فتنطبق سُنَّةُ الأولين: بسطة، فتنافس، فتباغض وتدابر، فصراع وهلاك ونهاية. وقد كان الراشدون منتبهين لذلك؛ فضرب الأربعة المثال من أنفسهم للزهد في الدنيا والحرص في التعامل مع معطياتها المتزايدة والمغرية، وبلغ عمر وعلي رضي الله عنهما في ذلك المثال الأبلغ. ولكن إدارة التوسُّع في حياة الناس كانت محدودة بحدود الحلال والحرام، وأنه لا يحقُّ للقائد السياسي أن يحرِّم على الناس حلالًا أحلَّه الله تعالى. ولم يكن ذلك هو التحدِّي الوحيد أمام سياسة الراشدين؛ فقد كان النبي (صلى الله عليه وسلم) نفسه حريصًا على إغناء الناس، وقد كان جلُّ أتباعه شديدي الفقر مادِّيًّا أولًا، وألَّا يكون المال دُولةً بين طبقة غنية، بل يتحرَّك بين الجميع وخاصة الطبقات المحرومة. ومن ثم فقد حرص الراشدون أيضًا على إغناء الناس، لا سيما الفقراء، لكن تيار التحوُّل وحدود التحليل والتحريم لا تمكِّن دائمًا من الوزن الطبقي، وتجعل مطلب العدالة الاجتماعية وإدارة النمو والتحوُّل معضلة ثقيلة ومجالًا حرجًا”.

“والملاحظ أن الراشدين رضي الله عنهم اتفقوا في معظم سياساتهم، لكنَّ قدرًا من التنوع برز بينهم، والتنويع بين الراشدين من كمال سياستهم لا ممَّا يُتَّخَذُ مجالًا للمعارضة بينهم. فعهد عثمان -مثلًا- ورث من عهد عمر دولةً قوية آخذةً في الثراء، فبخلاف عمر أدار عثمان سياسة يمكن وصفها بالكرم والإكرام ومراعاة سعة الأحوال. ولم يعنِ ذلك تدليلًا ولا بذخًا، إنما التوسعة بلوازمها وبمستحقَّاتها من ضرورة الزكاة كاملة مثلًا…”.

“وكذلك رجع علي بن أبي طالب (رضي الله عنه) إلى سياسة أبي بكر (رضي الله عنه) في التسوية في العطاء، وألغى اعتبارات عمر رضي الله عنه للسابقين في الإسلام أو الهجرة…، وسوَّى بين السادة والموالي، وربط بين موارد الدولة ومقاصد سياستها، لا سيما العمارة، فقال للأشتر النخعي في رسالته الشهيرة: “وليكن نظرك في عمارة الأرض أبلغ من نظرك في استجلاب الخراج؛ لأن ذلك يدرك بالعمارة، ومن طلب الخراج بغير عمارة أضرَّ بالبلاد وأهلك العباد…” إلخ كلامه النفيس المنسوب إليه في هذه الرسالة”.

وفي إطار هذا النظام الإسلامي الوليد والممتد إبان إمامة الرسول ثم خلافاته الراشدة، ورغم التزام الأنظمة الاقتصادية وامتداداتها الخارجية بقواعد وأسس ومبادئ الإسلام وأحكامه وما أنتجته من عمران، إلا أن هذه الأنظمة واجهت أزمات اقتصادية كان لها دلالاتها الداخلية في دولة الإسلام بأمصارها وفي خارجها.

ومن أهم وأشهر الأمثلة على هذه الأزمات كانت الأزمة المترتبة على حصار قريش وحلفائها الاقتصادي على المدينة، ولم تبدأ أحوال المسلمين المعيشية في التحسن إلا بعد غزوة الخندق. والمثال الثاني كان في عام الرمادة (18هـ) في عهد الفاروق عمر (رضي الله عنه)، منتجة الجفاف والقحط والجوع، وهو الأمر الذي واجهه عمر بن الخطاب بمجموعة من الإجراءات من بينها المبادرة إلى طلب مواد التموين والإغاثة من الأمصار، وتأخير جمع الزكاة، والطلب من جميع المسلمين التوجه إلى الله بالاستغفار والدعاء ليرفع الشدة. كذلك أزمة الطاعون في عهد عمر أيضًا.. 

كانت هذه الأزمات بالأساس أزمات من فعل الطبيعة أو حصار الأعداء أو عواقب الحروب، ولم تكن قد ظهرت بعد بصورة جلية أزمات الترف والفساد والظلم والسياسات الفاشلة أو تغلب الأعداء. 

وفي هذا يقول ابن خلدون عن خلفاء رسول الله إن عهدهم عهد استمساك ومواصلة وليس ملك وحضارة (كما حدث بعد ذلك مع الخلافة الأموية والعباسية)، “فلما استحضر رسول الله استخلف أبا بكر على الصلاة؛ إذ هي أهم أمور الدين، وارتضاه الناس للخلافة؛ وهي حمل الكافة على أحكام الشريعة، ولم يجر للملك ذكر لما أنه مظنة للباطل ونحلة يومئذٍ لأهل الكفر وأعداء الدين. فقام بذلك أبو بكر ما شاء الله متَّبِعًا سنن صاحبه، وقاتل أهل الردة حتى اجتمع العرب على الإسلام. ثم عهد إلى عمر فاقتفى أثره وقاتل الأمم فغلبهم، وأذن للعرب بانتزاع ما بأيديهم من الدنيا والملك، فغلبوهم عليه وانتزعوه منهم. ثم صارت إلى عثمان بن عفان ثم إلى عليّ رضي الله عنهما. والكل متبرِّئون من الملك منكبُّون عن طرقه، وأكد ذلك لديهم ما كانوا عليه من غضاضة الإسلام وبداوة العرب؛ فقد كانوا أبعد الأمم عن أحوال الدنيا وترفها، لا من حيث دينهم الذي يدعوهم إلى الزهد في النعيم، ولا من حيث بداوتهم ومواطنهم وما كانوا عليه من خشونة العيش وشظفه الذي ألفوه….

[2] مرحلة الخلافات الأموية، والعباسية، والعصر المملوكي:

وما أن بدأ الملك العضود ابتداء من الخلافة الأموية إلا وبدأت بالتدريج وبطريقة متصاعدة أنماط أخرى من الأزمات ترتبط بعواقب الملك والترف، أي عواقب الحضارة (في المفهوم الخلدوني) “الحضارة غاية العمران ونهاية لعمره وأنها مؤذنة بفساده”. واقترن ذلك كله باتساع الجغرافيا الحضارية لدول الخلافة من ناحية وامتداد واتساع علائقها مع غير المسلمين من الأمم والدول بأشكال مختلفة وأدوات مختلفة، على نحو بدأ معه تأثير الخارجي على الأمة يتخذ أشكالًا متعددة وتزايدت آثاره السلبية بالتدريج ولكن ظلت السلطنات والإمارات قادرة على مواجهتها إلى حين بداية انقلاب الدورة الحضارية منذ القرن السادس عشر تحت تأثير مجموعة عوامل داخلية وخارجية.

  1. الخلافة الأموية: معضلة ما بين الفتوحات والرخاء وبين الملك العضود

في ظل الخلافة الأموية، وعلى ضوء طبيعة النظام السياسي وتطوراته وعلائقه الخارجية في ظل هذه الخلافة “العربية” التي لم تمتد لأكثر من قرن، فإن الوضع الاقتصادي الداخلي وامتداداته الخارجية (دون انفصال عن الداخلي) اتَّسم بعدة خصائص انعكست على نمط الأزمات.

فلقد أسست هذه الخلافة، منذ استخلاف معاوية لولده يزيد، بداية مبكرة لملك عضود، وهو الأمر الذي كان لا بد أن يؤثر -وفق د. ريهام- على الواقع الاجتماعي والاقتصادي. “وتزامن ذلك مع تغييرات متتالية في المكونات الاجتماعية للدولة الإسلامية؛ نتيجةَ التوسع في الفتوحات، وتزايد الروافد الحضارية لها. كما شهدت الفترة الأموية استحداثًا لجملةٍ من مؤسسات الدولة ترعى وظائفها وتقوم عليها. وتفاعلت في هذا السياق القوى المجتمعيةُ مع المؤسسات الناشئة للقيام على الأمور، بجانب تدافع بعضها مع البعض لرسم المساحات وتحديد الصلاحيات. واكتسى الواقع الفكري والفقهي بالتأصيل -رفضًا أو قبولًا- لهذا الحراك السياسي والاقتصادي. ومن ثم، تكتسب الدولة الأموية أهميتها؛ لكونها مثَّلت رحلة تأسيسية لنظام سياسي وبناء اجتماعي واجتهادات فقهية وتيارات فكرية متباينة بدرجة ملحوظة عن نظيرتها في عهد النبي وخلافته الراشدة، وذات تأثير عميق على ما تبعها…

وتُعَدُّ الدولةُ الأمويةُ خلطتْ عملًا صالحًا وآخر فاسدًا؛ فقد أرستْ دعائمَ قويةً لمؤسسات الحكم والإدارة، وتوسعت في الفتوحات وتعريب الأمصار، إلا أنها أصَّلت أيضًا لمُلك عَضوض شكَّلته سُلطوية سياسية ناجمة عن الأهواء والطموحات الشخصية، تزامنت مع استعادة تدريجية لنعرات قبلية انخرطت في شبكة نفعية مع دائرة الحكم، وأسَّست لتوظيف آليات العنف والقمع والمال السياسي. كما لم يُحسن الأمويون إدارة الروافد الحضارية والبشرية المنضمَّة إليهم بفعل الفتوحات، فاستُقطبتِ الأمَّةُ بين قُطبَي شبكاتِ مصالح مستفيدةٍ من استمرار الحكم من جانب، وبين معارضةٍ مشتَّتة غير ناضجةِ المشروعِ البديلِ أو قدراتِ التمكينِ من جانب آخر. وتتَّفق الدراسة مع أطروحة المفكِّر عبد الحليم عويس في كون افتقار الدولة الأموية لمشروع سياسي جامع عجَّل بنهايتها، مقابل دعوة الثورة العباسية الناجحة لتوظيف مظاهر التنوُّع في المجتمعات الإسلامية في إطار رؤية إدماجية”.

وفي سياق التفاعلات بصفة خاصة بين مؤسسات المجتمع والسلطة الحاكمة، تبرز د.ريهام تطورات الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية وحالة الازدهار المالي والعنصر البشري ودرجة العدالة التوزيعية للثروات التي تحققت من الفتوح أساسًا. كل ذلك في نطاق وعلى ضوء انعكاسات التحول في أسس الشرعية وقيم الحكم، فمع الاحتفاظ بهوية إسلامية واضحة واستقلال القضاء والعلماء، ظهرت من جانب ملامح الإخلال بمنظومة الحرية والعدالة من مرجعية إسلامية، وهيمنة القوة وتعسفها، وانتهاك قواعد المساواة وإحياء النعرات القَبَلية، كما ظهرت من جانب آخر خلفيات التحول للمُلك العضود تحت تأثير محفزات اجتماعية ودوافع سياسية، وفي نفس الوقت استمرت الفتوح الإسلامية شرقًا وغربًا.

ولقد تأثرت الأوضاع الاقتصادية بهذه الخصائص السياسية الكبرى وخاصة التوجهات الخارجية نحو الفتوح. وأرجعت د.ريهام الازدهار المالي إلى الفتوحات من ناحية والتجارة الخارجية من ناحية أخرى ثم الزراعة من ناحية ثالثة. وفي هذا تقول د.ريهام: 

  • “لا يمكن إغفال حدوث نقلة نوعية في مستوى المعيشة وازدهار التدفقات المالية خلال فترة الحكم الأموي. فبفضل توسع الفتوحات، ازدادت أموال الغنائم والفيء وما شابهها. وفي المقابل، تكلَّفت الفتوحات الأموية المتواصلة مبالغ طائلة لتوفير رواتب الجند، التي أشرف على توزيعها عرفاء القبائل، ونفقات الصناعات الحربية، وخاصة صناعات السفن والصناعات البحرية لارتباطها باستهداف الإمبراطورية البيزنطية عدو المسلمين الأول حينها…
  • تميَّزت النفقات الإدارية بدرجة من اللامركزية في تحديدها، بحيث تُركت لولاة الأمصار. وفي المقابل، جرت العادة على عودة فوائض بيت المال من الأمصار المختلفة إلى دمشق؛ عوضًا عن إنفاقها في مناطقها. وهو ما أثار حفيظة أهالي الأمصار، وكان أحد مطالبهم التي تعهَّد بها في أواخر الحكم الأموي يزيدُ بن الوليد ولم يتسنَّ له تحقيقه. وظهرت لأول مرة نفقات الضمان الاجتماعي في صورة رقاع يتلقَّى أصحابها بموجبها سلعًا عينية، وتطوَّرت لاحقًا لتصبح أحد البنود الرئيسية في ميزانية الدولة. ويمكن ربطها مع المبدأ الذي أرساه معاوية بن أبي سفيان عن تبادل المنافع مع العامة مقابل ولائهم.
  • زاد الأمويون بصورة كبيرة في الإنفاق الترفي، ولا مجال لمقارنتهم بزهد الخلفاء الراشدين. وبالرغم من تقييم البعض لهذا السلوك كتوجُّه عام نحو الترف في المجتمع نتيجة تدفُّق الأموال، فإن دور خلفاء بني أمية كان يُفترض أن يكون قدوة شأنَ سابقيهم من الراشدين. ولا يعتدُّ بكون الأمويين أقلَّ من العباسيين في الترف، أو توسُّع الأمويين في الفتوحات بما تكلَّفته، فالشاهد من السلوك المترف هو إقرارهم بمسلك مختلف عن منهج الرسول صلى الله عليه وسلم وخلفائه الراشدين في الزهد، وتكريس غياب الشفافية في الإنفاق. وهو الأمر الذي سار العباسيون فيه على درب الأمويين”.

وعن التجارة تقول د.ريهام: “تطورت التجارة الخارجية بصورة لافتة في عهد الدولة الأموية؛ بسبب الموقع المتوسط للدولة الإسلامية، ولرغبة الحكام وطبقة من الرعية في اقتناء السلع والكماليات نتيجة تحسن الأحوال المعيشية. ولفترة وجيزة، تركَّزت التجارة باتجاه الغرب، خاصةً مع وجود تبادل مع الدولة البيزنطية في ظل هدنة قصيرة، وكذلك خروج جُلِّ النزاعات والمعارضة السياسية من مناطق الشرق. ورصدت علا أبو زيد الأثر السلبي لفشل المسلمين في إسقاط القسطنطينية، وإخفاق ابن نصير في اجتياح أوربا، فالنجاح الجزئي وتنازعهم مع الدولة البيزنطية أنهى الدور التجاري المحوري للبحر المتوسط لمدة ستة قرون وحوَّله لجبهة قتال. إلا أن المسلمين استطاعوا موازنة هذا الدور بإنعاش التجارة في مناطق الشرق الأقصى، وخلق التعاون بين الخليج العربي والبحر الأحمر كمنافذ تجارية للشرق. بينما تدهورت الأوضاع في أوربا الحبيسة؛ مما غيَّر مسارها التاريخي نحو الإقطاع، وأدَّى لانعزالها عن التأثير في العالم الخارجي”.

وعن الزراعة: “حدث تطور زراعي غير متوازن بين مناطق الدولة الأموية؛ فازدهرت الأقاليم الغربية في الشام والجزيرة الفراتية، وزاد خراجها، وتطورت نظم الري بها نتيجةَ الاستقرار السياسي وخصوبة الأراضي وازدهار حركة العمران البشري. بينما تدهورت الأجزاء الشرقية بسبب عدم الاستقرار السياسي وكثرة الحروب. وعقب الهدوء النسبي بها، اهتم الحَجَّاج ومن تلاه من الولاة ببناء السدود وتمهيد الطرق. كما اتبعوا سياسة نقل القبائل إلى الأراضي الموات لإصلاحها وتعميرها. واجتهد ولاة الأقاليم بصورة عامة في تطوير الزراعة في مناطقهم وسد العجز في احتياجاتها الزراعية”.

خلاصة القول أن مجمل عناصر القوة الاقتصادية الأموية ارتبطت بالفتوح والتجارة والزراعة، إلا أنه تناوبتها بعض الأزمات الداخلية أساسًا نتيجة تأثيرات الصراعات السياسية الداخلية على المكانة والنفوذ. ولم تكن التهديدات الخارجية من البيزنطيين لتؤثر على عناصر القوة هذه.

ولكن في المقابل، وإلى جانب الأزمة السياسية الداخلية، تضيف د. ريهام آفتين أخريين؛ الآفة الأولى غياب مشروع علمي أو نهضة حضارية متكاملة وذلك لانشغال الأمويين بالصراعات السياسية لتثبيت حكمهم وتركيزهم الشديد على التوسع في الفتوحات كلما هدأت المعارك الداخلية، إلا أن الأمويين استطاعوا إرساء مقومات مادية وفكرية لنهضة حضارية تالية.

والآفة الثانية (التي مثلت منطلقًا لأزمات اقتصادية داخلية) هي -وفق د.ريهام- فقدان “العدالة التوزيعية والشفافية والمساءلة بالتوازي مع تواتر توظيفها للمال السياسي في ضمان الولاء والتأييد. واستغل الولاة أحيانًا تنفيذ المشروعات الزراعية من عدمه كأداة للضغط السياسي”. ورغم أن اللامركزية المحدودة في إنفاق فوائض بيت المال قد أثارت حفيظة أهالي الأمصار، إلا أن أوضاعهم لم تصل للتأزم الاقتصادي بسبب نفقات الضمان الاجتماعي ولكن مقابل الولاء

ومن ثم يمكن القول أن الأزمات الاقتصادية من الداخل والخارج لم تكن مستحكمة. ورغم تعدد حركات المعارضة (المسلحة غالبًا) للنظام الأموي (من خوارج، وثورة الحسين بن علي وملحقاتها، وثورة أهل المدينة، وثورة عبد الرحمن بن الأشعث في العراق، وثورة زيد بن علي بن الحسين)، فهي لم تنجح لأسباب كثيرة سياسية وفكرية وأيضًا اقتصادية من ناحية، كما لم تأزِّم حالة الازدهار المالي والاقتصادي للنظام الأموي سواء في مركزه أو أمصاره من ناحية أخرى.

وظلت المظالم من عدم شرعية النظام وقيم حكمه ذات جذور سياسية بالأساس وإن تجلت أبعاد اقتصادية واجتماعية أيضًا. فرغم التوسع الجغرافي والعمران المادي إلا أن انتهاك مبادئ العدالة والمساواة كرست عدم شرعية الإنجاز. أما المحاولة الفريدة للإصلاح من الداخل التي بدأها عمر بن عبد العزيز والتي قامت على الحق والعدالة وردِّ المظالم المتعددة في الأمصار وتحقيق التنمية وتأمين حقوق العباد، فلم تنجح هذه المحاولة قصيرة الأمد في تغيير طبيعة النظام.

  1. الخلافة العباسية: معضلة ما بين البنيان العمراني وبين اللامركزية

وفي ظل الخلافة العباسية، وعلى ضوء طبيعة النظام السياسي وتطوراته وعلائقه الخارجية في ظل هذه الخلافة الممتدة قرابة الأربعة قرون، ما بين قرني قوة ومركزية وقرني تراجع ولا مركزية، فإن الوضع الاقتصادي الداخلي وامتداداته الخارجية اتسم بعدة خصائص انعكست على نمط الأزمات. 

وتمثل هذه الخلافة -نقلًا عن دراسة موسوعية حولها– “حلقة هامة من حلقات تجديد عنفوان حضارة الأمة الإسلامية، فقبلها وبعدها استمرَّ الإسلام حاضرًا بقوة في الفعالية الحضارية العالمية، واستمرَّ مرجعيةً لحياة البشر ومُشكِّلًا رئيسيًّا لنظرتهم للكون ومعيارًا أساسيًّا لبنائهم وتقييمهم للنظم القانونية والاقتصادية والاجتماعية والسياسية، واستمر المسلمون قوة تضعف وتقوى، ولكنهم ظلُّوا رقمًا هامًّا في المعادلات الدولية، ونموذجًا رئيسيًّا ومختلفًا للحكم بمعايير ذلك العصر. فمع كوْن الحكم المطلق هو سمةَ العصور الوسطى، فإن التجربة السياسية الإسلامية مكَّنت المجتمعات من أن تكون أكثر فعالية وحيوية وتجدُّدًا، وأطلقت قدرات الأمة بشكل غير مسبوق بالنظر إلى السياق الزمني، وأيضًا بالنظر إلى الخط التاريخي الممتد لما بعد دولة الخلافة.

من أهم التناقضات التي جسَّدتها دولة الخلافة العباسية ما بعد العصر الأول، ذلك التزامن الفريد من نوعه بين الوهن السياسي على المستوى المركزي للدولة وبين التقدُّم الحضاري بتجلياته العسكرية والثقافية، الاقتصادية والمجتمعية للأمة، كمجتمعات وكنظم حكم فرعية في كثير من ربوعها. ومن ثم تعدَّدت المراكز الحضارية الإسلامية ومراكز القوة السياسية للمسلمين”.

وتقدم هذه الدراسة نموذجًا يبرز التفاعل بين كافة المتغيرات في تشكيلها للنظام العباسي انطلاقا من فرضية أن المتغير الثقافي متغلغل في عملية التفاعل، وهو الأمر الذي يساعد على فهم حالة الوضع الاقتصادي الداخلي وامتداداته الخارجية من منظور حضاري إسلامي يتجاوز المناهج التقليدية لدراسة التاريخ السياسي الإسلامي.

ويظهر هذا الجانب الاقتصادي على كافة مستويات الدراسة: مراحل تطور الدولة منذ قيامها، ومؤسسات ووظائف وقوى النظام، والحاضنة المجتمعية والعمرانية للنظام واللحمة الثقافية للأمة، وأخيرًا العلاقة بين المركز وبين أطراف دولة الخلافة. كما يحتضن تقديم هذا البعد الاقتصادي إطارًا ثلاثي النظر في نظام الخلافة وهو (الشرعية، والعدل، والقوة).

وعن الوظيفة العمرانية وتكامل أدوار الأمة والسلطة، نشير نقلًا عن هذه الدراسة الموسوعية إلى الآتي:

ابتعدت الدولة العباسية عن اقتصاد الحرب الذي كان يغلب على فترة الدولة الأموية؛ حيث كان معظم دخل بيت المال يأتي من موارد مرتبطة بالفتوحات، مثل الجزية والخراج والغنائم. ومع تخلِّي العباسيين عن سياسات الفتح كان لا بد من تغييرات جذرية في هيكل اقتصاد الدولة الإسلامية يوفِّر موارد جديدة لخزانة الدولة بعيدًا عن الفتوحات. فكانت الزراعة والتجارة المصدريْن الجديدين للدخل وتلاءمتا مع سياسة التعايش والسِّلم مع الدول غير الإسلامية. وساعد على ذلك أن العراق –رغم تراجع مكانته السياسية وثقله العسكري إبَّان الدولة الأموية لعدم ثقة المركز به- شهد تناميًا في موارده الزراعية، وحدثت به طفرة اقتصادية كانت بمنزلة التمهيد لانتقال مركز السلطة له لاحقًا. كما أن موقع بغداد جعل منها ملتقى الطرق التجارية العالمية. ويمكن هنا ملاحظة أنه لا تلازم بين تراجع المكانة السياسية أو المعارضة للمركز، وبين تدهور الأوضاع الاقتصادية. ففكرة عقاب المناطق المغضوب عليها اقتصاديًّا من قِبل المركز لم تكن رائجة في دولة الخلافة، كما أن درجة الاستقلالية التي تتمتَّع بها الأطراف وطبيعة أدوات الاتصال في ذلك العصر لم تكن تسمح للمركز –حتى لو أراد- أن يمارس عقوبات، أو يهمِّش اقتصاديًّا الأطراف والمناطق المناوئة للسلطة”

“بحلول القرن الثالث الهجري، أصبح التاجر الغني أحد أهم ممثلي الحضارة الإسلامية، خاصة وأن حضارة المسلمين تعقَّدت وتشابكت وكثُرت مطالبها. وكان نشاط التجار المسلمين في القرن الرابع الهجري مظهرًا مميزًا من مظاهر أبهة الإسلام. وصارت تجارة الدولة الإسلامية هي الأهم في داخل الدولة، وهي الأولى على مستوى العالم، وتجوب سفن المسلمين وقوافلهم أنحاء العالم. وكانت كلٌّ من الإسكندرية وبغداد هي التي تحدِّد الأسعار العالمية على الأقل في البضائع الكمالية منها، إن لم يكن أغلبها. وأدَّى عُلُوُّ شأن التجار المسلمين إلى تراجع دور غيرهم، خاصة التجار اليهود. وقد فتح المسلمون طرقًا تجارية جديدة، مثل فتح الطريق التجاري إلى بلاد الروس في الشمال في القرن الرابع الهجري، كما اتَّسعت الممالك التي تخطب ودَّ التجار المسلمين في الصين شرقًا. وكان من آثار هذا المدِّ التجاري ازدهار وعلوُّ مكانة الجاليات المسلمة في ممالك غير المسلمين، وكان يرأس هذه الجاليات مسلم، ولا يقبلون حكم غير المسلمين فيهم، ولا يتولَّى حدودهم ولا يقيم عليهم شهادة إلَّا مسلمون، حتى وإن قلَّ عددهم. وذلك ما كان قائمًا في بلاد كثيرة، مثل: الخزر والسرير واللان وغانا وكوغة وصيمور (في الهند)، وفي الصين، وأيضًا في كوريا. وذلك مع ملاحظة أنه في هذه الفترة تراجعت السلطة الفعلية لمركز الخلافة في بغداد، فإن الحضارة الإسلامية ظل لها حضور واضح على الساحة الدولية سياسيًّا عبر استمرار الجهاد ومقاومة تدخل الخارج، واقتصاديًّا عبر الهيمنة على التجارة العالمية، وثقافيًّا عبر استمرار النهضة العلمية المتميزة عن غيرها من الحضارات في ذلك العصر”.

…وفي العصر الذهبي للدولة العباسية، يمكن الربط بين السياسة المالية للعباسيين وبين أهداف دعوتهم المعلنة عن إقامة العدل وتفعيل مفهوم الأمة. فإذا كان التطبيق سياسيًّا وإداريًّا قد انعكس في رفض القبلية كأساس للحياة السياسية وتأكيد المساواة والتعاون مع الموالي بتوسيع إشراكهم في الإدارة والجيش، فإنه انعكس اقتصاديًّا وماليًّا في إعادة النظر في الخراج عبر إدخال خراج المقاسمة بدل خراج الوظيفة في السواد، وإنهاء مشكلة تحويل الأراضي الخراجية إلى عشرية بترسيخ مبدأ فرض الخراج على كلِّ من يمتلك أرضًا خراجية بغض النظر عن الأصل والدين.

ولكن ظلَّت بعض المساوئ المرصودة في كتاب “الخراج” لأبي يوسف، مثل الظلم الذي يتعرَّض له أهل الخراج من قِبل بعض العمَّال ومطالبتهم بما ليس واجبًا عليهم، وتعذيبهم من أجل الجباية والتعامل ببعض الوجوه بما لا يقرُّه الإسلام. وهي مثالب لم يحدِّد أبو يوسف مدى انتشارها”.

وفي المقابل، وبالنظر إلى المشاكل الاقتصادية في العصر العباسي الثاني ومراحله الأخيرة، فإن هذه المشاكل لم تكن عائدة لنقص الموارد بل بالأساس لسوء الإدارة وعدم رشد الأولويات في الإنفاق وانتشار الفساد في دواوين الدولة العباسية.

ولقد كان الوجه الآخر لتطور الأوضاع الاقتصادية الداخلية مجموعة من التحولات المجتمعية المتصلة بالقاعدة المجتمعية العريضة للنظام العباسي الجديد من ناحية، والبنى الاجتماعية التي انعكس عليها هيكل البناء الاقتصادي للدولة (تجار، جند، إقطاع…).

وقدمت الدراسة الموسوعية خلاصات هامة بشأن العلاقة بين البعدين الاقتصادي والاجتماعي والبعد السياسي للخلافة في المركز وعلى صعيد الأمة، مفادها التالي:

من ناحية، “تشير عملية رصد التطورات الاقتصادية على المستوى الكلي للأمة الإسلامية إلى تكاملها وتعاضدها من منطلق مكاني، ففي وقت التراجع الاقتصادي (أو السياسي والعسكري) الذي تعاني منه منطقة أو مناطق من دولة الخلافة، نجد صعودًا أو ازدهارًا أو مقاومة في منطقة أو مناطق أخرى؛ لتستمر الحياة والتجدُّد يدبَّان في أوصال تلك الأمة على امتداد جغرافيا وتاريخ المسلمين”.

ومن ناحية أخرى، وبعد استتباب الأوضاع واستقرار الداخل والعلاقة مع الخارج، انفتح باب اللهو والترف والنعيم فاتسمت الدولة بمظاهر النعيم والترف وخاصة على مستوى الخلفاء والأمراء والنخب، كما انتقل الناس نقلة نوعية في مستوى المعيشة وخاصة في مدن جديدة (بغداد العاصمة الجديدة). إلا أن مظاهر عدم التوزيع المتكافئ للثروات ظل قائمًا وفي تزايد.

وفي المقابل، وعلى الرغم من التدهور السياسي الذي أصاب مركز الخلافة في العصر العباسي الثاني، استمر ازدهار علوم الطب والعمارة والتاريخ والتفسير والفقه واللغة، كما ظلت اللُّحمة الثقافية الحضارية الإسلامية للأمة قائمة ممثلة وعاءً جامعًا رغم انقسامات السياسة وصراعات الحكم بحيث -نقلا عن الدراسة- “يمكن اعتبار الدولة العباسية أول تجسيد واقعي للحمة الحضارية لأطياف الأمة الإسلامية قبل أن تكون حلقة من حلقات الوحدة السياسية للمسلمين… مع تنوع الشعوب التي انتشر فيها الإسلام… وأصبح الإسلام هو ما يبقي الخلافة موحدة…”

وعلى ضوء التفاصيل التاريخية الشارحة لهذه اللحمة وسياسات وأدوات تحقيقها، تأتي الخلاصة التالية في الدراسة:

“وفي سياق اللُّحمة الثقافية الحضارية، لا يمكن الحديث عن وجود دول مستقلَّة عن الخلافة (سواء بشكل كامل أو مع الاعتراف الرمزي) باعتبارها تعبيرًا عن حركات قومية، بل ظلَّت في داخل إطار ثقافي وحضاري واحد. فعلى سبيل المثال، فإن الفرس والديلم عندما أقاموا دولًا لهم قام قادتهم وحكَّامهم بمجرد الاستقرار على عروشهم بالاندماج طوعًا في الثقافة العربية والتأثر بها، مع استمرار خصوصيتهم الثقافية المحلية.

كما أنه لا يمكن النظر إلى ظهور الدويلات وانقسام الوحدة السياسية بوصفه مؤشِّر ضعف على الإطلاق؛ إذ في مقابل تراجع قوة المركز ظهرت قوة الأطراف، وليس طرفًا واحدًا، بل ظهرت في أحيان كثيرة قوى فتية إسلامية متعدِّدة ومتزامنة في نفس الوقت. ومن المظاهر الإيجابية الأخرى لبزوغ دول إمارات التغلب إحياء النماء والرفاهية الاقتصادية لكثير من المناطق التي بدأت تعاني من التحلل السياسي لمركز الخلافة”.

ومن أهم أنماط الأزمات الاقتصادية التي شهدها العصر العباسي: تلك المترتبة على تدهور التجارة تحت تأثيرات الصراعات الداخلية، وظهر ذلك مثلًا خلال سيطرة البويهيين؛ حيث تكررت أزمات في بغداد تمثلت في الاضطرابات والهبات الشعبية بعد أن أضحت الضرائب والإقطاع هي المصدر الرئيسي للثروة ولموارد الدولة في تلك الفترة.

وفي المقابل فلقد حرص الخلفاء -كما بان في عصر الرشيد مثلًا- على تنظيم أمور الخراج والجزية والغنائم والصدقات، إلا أن موارد الدولة تراجعت بعد ذلك نتيجة استئثار عمال الأقاليم بكثير من الخراج. ومن ثم فإن استمرت الحالة الاقتصادية جيدة إلا أنها لم تكن بنفس انتعاش وازدهار الفترة الأولى. وتوالت بعد ذلك مظاهر التراجع الاقتصادي بأشكال مختلفة خلال العصر العباسي الثاني وما شهده من أزمات داخلية

ومن نماذج الأزمات الاقتصادية الداخلية ما ذكره د.زيد بن محمد الرماني عن الأزمات في أمصار الدولة العباسية في ظل إمارات وسلطات التغلب المتتالية، ومنها:

ما ذكره المقريزي في كتابه “إغاثة الأمة بكشف الغمة” عن مجموعة الأزمات الاقتصادية التي وقعت في مصر خلال الدولة الإخشيدية (338 – 343هـ)، (352- 360هـ)، وكان من أهم أسبابها نقص مياه النيل وكثرة الفتن الداخلية والحروب بين الجند والأمراء، وتفشي الوباء والأمراض، واقترنت هذه الأزمات أحيانًا باحتجاجات الرعية على الغلاء.

كما وقعت أزمات أخرى خلال العصر الفاطمي في عصر الحاكم والظاهر والمنتصر، وكان من أبرز هذه الأزمات وأكثرها قسوة على الناس ما عرف بالشدة المستنصرية (457- 463هـ)، وتعددت أسبابها ما بين نقص مياه النيل وما بين ضعف الدولة الاقتصادي وما بين الاحتكار والطمع. كما شهد عهد الدولة الأيوبية أزمات ومجاعات أخرى.

وبقدر ما أفاضت حوليات التاريخ الإسلامي في وصف أبعاد هذه الأزمات، يعتبر المقريزي من أهم من قدم تفسيرًا متعدد الأسباب لهذه الأزمات في العصر العباسي والمملوكي من بعده؛ ومن الأسباب السياسية: ضعف الدولة وسلطتها وعدم معالجة الأوضاع الاقتصادية المختلة لتضمن تحقيق العدالة خلال الأزمة، ومن الأسباب الاقتصادية المالية: الاحتكار -وخاصة من جانب أصحاب السلطة- والمضاربة في الأسعار، ومن أهم الأسباب الطبيعية كان نقص مياه النيل. وكان لكل هذه الأزمات، وفق كافة التفسيرات، آثارها الأمنية والمجتمعية ناهيك بالطبع عن الآثار الاقتصادية. ولكن ماذا عن التأثيرات أو التفاعلات المتبادلة مع الخارج (البعد العالمي) خلال هذه الأزمات؟

ولقد اقترنت هذه الأزمات الداخلية –لأسباب طبيعية أو سياسية أو اقتصادية- بامتدادات خارجية تتصل بروابط العلاقة بين مكونات الأمة ومع غير المسلمين، ومن أهم النماذج التي يمكن استدعاؤها: آثار الحروب الصليبية في قلب الشام ومصر كانت سياسية أكثر منها حضارية أو اقتصادية، أما آثار الهجمتين المغولية (منذ جنكيز خان حتى هولاكو) فلقد امتدت عبر الفضاء الإسلامي الحضاري ابتداء من تركستان الغربية وحتى الشام مرورًا بخراسان والأناضول. وبقدر ما كان لهذه الهجمات الممتدة زمنيًّا أيضًا عبر العصر العباسي وحتى إسقاط الخلافة العباسية (1256م/ 656هـ) آثار متعددة اقتصادية، بقدر ما كان لتأثيرها على خط الحرير آثار سلبية مركبة ثقافية واجتماعية وسياسية ساهمت في إضعاف الكيان الحضاري الإسلامي الآسيوي وجعلته نهبًا بعد ذلك لأطماع إمارة روسيا التي نمت بالتدريج بالتوسع غربًا أولًا ثم بالتوسع جنوبًا وشرقًا بالتدريج منذ القرن 16م/ 10هـ على حساب هذا الكيان الحضاري الإسلامي الآسيوي المقسم بين سلطنات وإمارات متنافسة سواء في القوقاز أو آسيا الوسطى، كما جعلته نهبًا بعد ذلك للالتفاف البرتغالي من الجنوب بعد عصر الكشوف الجغرافية وضعف سلطنة المماليك في مصر والشام، ليبدأ عصر الاستعمار الأوروبي الغربي (كما سنرى).

وكان لسقوط الخلافة العباسية دلالاته السياسية الكبرى، فرغم أن عصر الخلافة اللامركزية كان ممتدًا قبل سقوطها إلا أن الأمة شهدت فراغًا من دور الخلافة لمدة قرنين تقريبًا. فرغم محاولة المماليك مع بداية عصرهم تدارك هذا الأمر شكليًا إلا أن الفراغ لم يتم ملؤه إلا مع دخول الدولة العثمانية طور الدور العالمي منذ 1453م ثم بعد ضم مصر والشام (كما سنرى) ولكن يظل للعصر المملوكي دلالاته الاقتصادية الداخلية والخارجية أيضًا، ممزوجة بالدلالات السياسية، على حد سواء.

  1. العصر المملوكي: معضلة العلاقة بين “الجهاد الدفاعي” وبين تدهور موارد الدولة: زيادة التأثير الخارجي السلبي

وفي ظل العصر المملوكي، بعد سقوط الخلافة العباسية 1255م/ 655هـ، في نفس الوقت الذي بدأت فيه أيضًا مرحلة بناء وتوسيع الدولة العثمانية في الأناضول قبل أن تنتقل منذ (1453- 1520) إلى ذروة الدور العالمي.

شهدت مصر والشام والحجاز خلال العصرين المملوكي الأول (البرجية) والثاني (البحرية) و(الثالث) أزمات اقتصادية متكررة، أفاضت العديد من الدراسات -نقلًا عن المقريزي وابن خلدون وغيرهما- في وصف هذه الأزمات المتكررة وأسبابها وعواقبها. والملاحظ من واقع هذه الدراسات أنها تُجمِع على نفس منظومة الأسباب التي كانت وراء الأزمات المتكررة عبر إمارات التغلب في مصر خلال العصر العباسي، وهي: أسباب سياسية مثل حال الدولة وطبيعة ودرجة قوة حكامها أو ضعفهم، وطبيعة سياسات الدولة المالية والاقتصادية ومدى حرصها على حماية ودعم الأوضاع الاقتصادية وخاصة المتصلة بالزراعة وأسعار المحاصيل وإدارة الاحتكار، ومن الأسباب الطبيعية كان حالة فيضان النيل زيادة أو نقصًا والآفات والظواهر الطبيعية الأخرى التي تُلحِق ضررًا بالزراعة ويترتب عليها انتشار الغلاء والأوبئة.

ومن الملاحظ أن الدراسات عن العصر المملوكي الثاني (عصر المماليك البرجية) قد أعطت الأولوية للأسباب السياسية المتمثلة في الفساد الإداري والمالي وبيع الوظائف والاضطرابات الداخلية والتي كانت تزيد من تداعيات الأسباب الطبيعية وتعجز عن إدارتها؛ حيث كانت استجابات الدولة ضعيفة لا تتناسب مع مظاهر الأزمات مثل الغلاء، ولذا كانت آثار هذه الأزمات في مجموعها وخيمة على حالة المجتمع وقوة الدولة مما دفع إلى مزيد من الاحتجاجات التي كانت تواجهها السلطة بمزيد من القمع والتسلط لمنع تكرارها.

ومن الملاحظ أيضًا أن قراءة المقريزي وتحليله لأسباب الأزمات في العصر المملوكي (ما يزيد عن 120 أزمة)، وكذلك ابن خلدون، لم تقتصر على مجموعة الأسباب المادية المشار إليها فقط، ولكن قرنها بالانحطاط والانهيار الأخلاقي.

وبهذا فإن المقريزي، بالإضافة إلى ابن خلدون، تجاوزا التفسير التقليدي الذي يُرجِع التأزم إلى غضب الله سبحانه وتعالى فقط، كما تجاوزا التفسير المادي الذي يرجعه للأسباب المادية فقط. ولكن شخَّص كل منهما الأسباب المادية التي تنافي كل سنن العمران وخاصة الاستبداد والفساد والظلم وفشل السياسات، وأضاف ما يتصل بالعنصر البشري من قيم وأخلاق. ومن هنا يتضح مغزى عنوان كتاب المقريزي الأشهر “إغاثة الأمة في كشف الغمة”، والذي يعني أن الأسباب المادية ليست حتمية بالضرورة ولا يمكن الفكاك منها، ولكن العامل البشري في الإدارة من ناحية ومدى التزامه بقواعد الاجتهاد والرشادة وامتثاله لأحكام الشرع واستيعابه لسنن العمران من ناحية أخرى يمثلان سبلًا فعالة لإدارة الأزمات مهما استفحلت. ولقد قدم المقريزي مقارنات بين حالات ونماذج من الإدارة الرشيدة ونماذج من الإدارة الفاسدة، تبين هذه النماذج أن نقص مياه النيل وعواقبه ليس بلا علاج يساعد على تحقيق عواقب الأزمات وتخطيها (المقارنة بين إدارة الحاكم بأمر الله الرشيدة للأزمة وبين فشل إدارة المستنصر بالله التي أدت للأزمة الأسوأ في تاريخ مصر المملوكية (هلاك ثلثي سكان مصر). كما أوضحت مقارنته بين عصر المماليك الأول (البحرية) وعصر المماليك الثاني (البرجية) استشراء الأزمات في العصر الثاني نظرًا لما ساد من سوء تدبير الزعماء والحكام وغفلتهم عن النظر في مصالح العباد.

ولكن الملاحظ أيضًا من ناحية أخيرة، أن العامل الخارجي وتأثيراته لم يكن قائمًا في التفسيرات المختلفة. كما لم يتضح إذا ما كان لهذه الأزمات الاقتصادية داخل مصر والشام المملوكية آثار على علائقها الخارجية مع غير المسلمين.

إذن ماذا عن هذا العامل الخارجي؟

إذا كان المماليك قد استطاعوا توحيد مصر والشام والحجاز بعد تصفية بقايا الإمارات الصليبية وبعد التصدي للمغول، فلقد استطاعوا أيضًا التحكم في طرق التجارة والمواصلات الدولية ومن ثم جني ثروات طائلة من ضرائب التجارة العابرة للسلطنة، وإقامة دولة قوية عسكريا واقتصاديا. 

ولكن من ناحية أخرى كان للأوضاع الداخلية امتدادات في العلاقات الخارجية للمماليك في فترة قوة جهادهم ومرابطتهم على الثغور المتاخمة للإمارات الصليبية وحتى تصفيتها في الشام، وكذلك الثغور المتاخمة للمتوسط شمال مصر في مواجهة الإمارات الأوروبية البحرية. إلا أن القوة السياسية والعسكرية الجهادية لم تكن تعني –وخاصة في العصر المملوكي الثاني (754 – 923ه/ 1382 – 1517م)- استقرارًا ورخاء اقتصاديًّا مستمرًا لأهل مصر والشام؛ حيث تكررت الأزمات الاقتصادية (كما سبقت الإشارة) دون حل، مما أدى بعد ذلك إلى انهيار الدولة المملوكية حين توافرت معاول الهدم المباشرة مع الضم العثماني.

فلقد انهارت الدولة المملوكية نتيجة أزماتها الاقتصادية، الداخلية والخارجية على حد سواء، ثم أمام الامتداد العثماني نحو الجنوب والالتفاف البرتغالي من البحار الجنوبية والهجوم الأسباني واللاتيني المتصاعد على شمال مصر المتوسطي. ويمكن أن نرصد في منظومة أسباب هذا الانهيار التأزم في ثلاثة جوانب أساسية ذات أبعاد خارجية:

من ناحية: المكوس المفروضة على التجارة الأوروبية العابرة للأراضي المصرية نحو الشرق برًا وبحرًا كانت مصدر ثراء كبير للمماليك في العصر المملوكي الأول، بقدر ما أضحت مصدر ضعف بعد كساد التجارة العابرة في العصر المملوكي الثاني.

فإذا كان قطاع التجارة بصفة عامة -نقلًا عن د.عثمان علي عطا– قد تدهور نتيجة لتدهور الزراعة والصناعة في ظل حكم المماليك الجراكسة (البرجية) ونتيجة ارتفاع الضرائب والمكوس ومصادرة أموال التجار ودخول الأمراء مجال احتكار السلع الاستراتيجية، فلقد انعكس ذلك كله على تجار أوروبا، وتجارتهم العابرة من وإلى الشرق عبر مصر، الأمر الذي مثل دافعًا من دوافع اكتشاف رأس الرجاء الصالح مما أدى إلى انخفاض إيرادات الدولة وكساد الأسواق مما فاقم من الأزمة الاقتصادية واحتضار الدولة.

ومن ناحية أخرى: تجسدت القوة العسكرية المملوكية في جانب منها في قوة بحرية لإدارة الهجمات المتبادلة مع الإمارات الأوروبية المتوسطية وخاصة البندقية. ومن أهم مجالات التجارة المملوكية-الأوروبية، وقت السلم ولم تنقطع وقت الحرب، شراء المماليك الأخشاب والحديد اللازمة لصناعة السفن العسكرية والتجارية من أوروبا، كما كانت الثروة من الذهب والفضة والتوابل مصدرها الشرق عبورًا نحو الغرب.

بعبارةٍ أخرى، كان للمماليك تجارة خارجية تمثل نشاطًا رئيسيًا للقوة العسكرية والاقتصادية المملوكية، ناهيك عن تمتعها بأهمية عالمية بالغة في مجال تجارة التوابل، نظرًا لأهمية موقع مصر الجغرافي بالنسبة للسفن التجارية القادمة من المتوسط أو من الشرق الأقصى. وكانت هذه التجارة والضرائب عليها أحد أهم مصادر الثروة المملوكية حتى بدأ تدهورها –كما سبقت الإشارة- بعد تدهور قطاعي الزراعة والصناعة. وارتبط بهذا التدهور التجاري تدهور نقدي ومالي مقترنًا بنوع من التدخل الخارجي أو الامتيازات الخارجية؛ فلقد بدأ دخول السلع الأجنبية وزيادة الاستيراد ومنافسة العملات الأجنبية وخاصة الدينار البندقي.

ومن ناحيةٍ ثالثة: اقترنت هذه التغيرات بتغيرات أخرى فيما يعرف بظاهرة “الفندق”، والتي عبرت بدورها عن تراجع القوة المملوكية عسكريًا واقتصاديًا في مواجهة الخارج على نحو انعكس على وضع “غير المسلمين” من التجارة الداخلية.

ويقدم “نموذج الفندق” وتطوره في العصر المملوكي نموذجًا خاصًا عمَّا يمكن وصفه بـ”التفاعل السلمي المقاوم”، أي التفاعلات المملوكية عبر المتوسط مع الممالك الأفرنجية التي تشابكت فيها تأثيرات الحروب مع الدبلوماسية والعلاقات السلمية التجارية.

“ابتداءً من القرن التاسع الميلادي حتى منتصف القرن الثاني عشر لم تكن التجارة بين مصر وهذه الدول إلا تجارة ساحلية حيث تكونت جاليات تجارية في مدن وسواحل وبنادر البحر المتوسط دون أن تتمكن من الحصول على حق إقامة فندق. وكان ينظم مقام هؤلاء التجار عقد أمان إسلامي للفرد أو الجماعة. وبالرغم من أن استمرار هذه العلاقات كان يدل على وعي سلاطين مصر بأهمية توطيد العلاقات التجارية علي نحو يخدم ولا يضر مصالح مصر السياسية والعسكرية، إلا أنه لم تظهر جماعات أجنبية مستقرة تتمتع بحقوق مؤسسية الفندق، ولكن ومنذ منتصف القرن الثاني عشر الميلادي تراجعت تدريجيًا السياسة الإسلامية التقليدية في قصر نشاط التجار الأوروبيين على السواحل حيث تطورت ثم اكتملت أبعاد المؤسسة الفندقية حتى أصبحت تمثل ذروة المؤسسات التجارية والمعاملات الدولية والعمود الفقري للمعاهدات التي عقدتها مصر مع الممالك الأوروبية المتوسطية في القرنين الرابع عشر والخامس عشر الميلاديين. ولقد صاغت بنود هذه المعاهدات التصريح للتجار القادمين من دار الحرب بمزاولة أعمال التبادل باعتبار أنها لا تضر الإسلام والمسلمين، كما صاغت حدود هذه الأعمال التي تحكمها القوانين الإسلامية والشروط التي طالبت بها دول هؤلاء التجار. وكان من أهم تلك المعاهدات تلك التي عقدت مع البندقية والتي ترجع إلى القرن الثالث عشر الميلادي ثم تلتها ست معاهدات أخرى في القرن 14م (1302، 1344، 1355، 1361، 1366، 1375) وثلاث معاهدات في القرن الخامس عشر ميلاديًا (1415، 1422، 1444) وذلك نظرًا لازدهار العلاقات التجارية بين مصر والبندقية أواخر القرن الثامن الهجري الرابع عشر الميلادي وأوائل القرن التاسع هجريًا الخامس عشر ميلاديًا

وإذا كان البعض قد رأى أن معاهدات القرنين الرابع عشر والخامس عشر ميلاديًّا (كما سبق ورأى البعض في معاهدات المماليك خلال النصف الثاني من القرن الثالث عشر ميلاديًّا) تشتمل على بدايات “الامتيازات الأجنبية التي وردت في معاهدات الباب العالي (السلطان العثماني مع البلاد الصديقة)، وإذا كان البعض الآخر قد أشار في معرض تقويمه لأبعاد قوة المماليك العسكرية والاقتصادية والدينية أنه من الأمور المشكوك فيها بقوة أن المماليك قد رأوا مبدأ الحرب المقدسة (الجهاد) بنفس طريقة الفقه التقليدي؛ إلا أنه بالنظر إلى السياق الزماني والمكاني لهذه المعاهدات ولحالة الطرف المملوكي وأهدافه من ورائها يمكن القول إن هذه الممارسات المملوكية على صعيد العلاقات السلمية التجارية انطلقت من وضع القوة والمناورة وليس الضعف والخضوع، كما أنها كانت تخدم وتدعم المصالح السياسية والعسكرية المصرية في مواجهة الأعداء من الشرق والغرب على حدٍّ سواء”.

إلا أنه سرعان ما تغير وضع الفندق وقواعده مع تراجع القوة المملوكية، على نحو فتح الطريق لخبرة أخرى بعد سقوط المماليك.

وأخيرًا، فإن اهتمام العديد من الدراسات بالأزمات الاقتصادية في العصر المملوكي (أسبابها وآثارها المتعددة) كان اهتمامًا بالاقتصاد السياسي للصعود والهبوط المملوكي من منظورات مادية واقعية أسدلت الستار أو أهملت الدور الجهادي ثم المرابط للمماليك ضد الصليبيين والمغول والممالك الأوروبية المتوسطية حماية لمصر والشام من الشرق والشمال. وفي المقابل كانت هناك دراسات أخرى لنفس المجال ولكن من منظور حضاري أوسع، كان من أبرزها تراثيا المقريزي والأسدي وابن خلدون، والتي جمعت بين العوامل السياسية والاقتصادية والاجتماعية في تفسيراتها سواء للعمران أو لخراب العمران.

خلاصة القول عن هذه المرحلة أنه يمكن من هذه القراءة في نماذج من أزمات عصور الخلافات المتتالية أن نخلص إلى:

  1. تعدد أنماط الأزمات ما بين أزمات طبيعية (الجفاف والجوع والأمراض)، وأزمات ما قبل وما بعد حروب ممتدة، وأزمات فساد وفشل سياسات.
  2. لم تكن الأزمات قرينة مراحل الضعف والتراجع الحضاري العام فقط، ولكن كانت مقترنة أيضًا بمراحل صعود وقوة سياسية وعسكرية تقدر على الاستجابة لهذه الأزمات وتجاوزها. وعلى العكس ففي مراحل الضعف كانت الأزمات المتكررة دون استجابة وراء السقوط.
  3. اقترنت بعض الأزمات بالتدافع والتداول الحضاري بين أقوام المسلمين (العرب، الترك، الفرس)، ثم لاحقًا بينهم وبين غير المسلمين منذ بداية الهجمة الأوروبية الثانية مع بداية القرن السادس عشر.
  4. التراجع الحضاري الشامل في الأمة كان نتاج منظومة عوامل متداخلة وليس هزائم عسكرية فقط أو اقتصادية فقط؛ فلم تكن الحروب الصليبية أو الهجمة الأوروبية الحديثة نتاج الاقتصاد فقط، كما لم تكن الهجمة المغولية من قبلها ذات تأثيرات عسكرية فقطـ. 

فلقد كان لكل من الهجمات الثلاث الشاملة على العالم الإسلامي تداعيات حضارية شاملة، ولكن استطاعت الأمة في البداية استيعابها وتجاوزها، وخاصة الاقتصادية منها. فلقد كان النظام الاقتصادي الإسلامي –كمكون من مكونات النظم الإسلامية الحضارية- ذا قواعد وأسس وأركان شرعية تنوعت تطبيقاتها عبر عصور الخلافة (كما سبقت الإشارة) ما بين الفعالية والاختلال. ثم بدأ الاختلال في الزيادة تدريجيًا ضمن منظومة الاختلال والتراجع الحضاري التي بدأت دورتها منذ القرن السابع عشر كما سنرى.

  1. كانت الأبعاد الخارجية لممارسات القوة الاقتصادية الإسلامية حاضرة في شكل منح أو منع، وكانت التجارة الدولية حاضرة أيضًا بين المسلمين وغير المسلمين سواء وقت السلم أو الحرب، وكان تحكمها قواعد وأسس إسلامية تطبق بفعالية في مراحل القوة والصعود. لكن لم تكن الأبعاد العالمية (العولمية) قد تبلورت بعد بصورة كافية، سواء من حيث تأثير الخارج على المسلمين أو العكس.

والجدير بالملاحظة أن الأدبيات التي قرأت فيها عن الأزمات الاقتصادية الإسلامية أو عن الأبعاد الاقتصادية للنظم السياسية الإسلامية لم تتحدث عن تأثيرات عالمية ولكن عن تأثيرات وتأثرات خارجية.

  • فهل يعني هذا أن الاقتصاد الإسلامي الحضاري لدول الخلافات لم يكن ذا طابع عالمي مثلما أضحى الاقتصاد الرأسمالي الغربي بعد ذلك؟ ولماذا؟

والمقصود بالعالمي هنا أن ينعكس طابعه وجوهره –عنوة أو إراديًا- على اقتصاديات العالم الأخرى (غير المسلمة، لأن المسلمة كانت تقع في نطاق الخلافة وأحكام الإسلام)؛ مثلًا هل سقوط بغداد أمام المغول وسقوط المماليك أمام العثمانيين كان ذا تداعيات “عالمية اقتصاديًّا”؟

  • أم أن طبيعة الاقتصاد الإسلامي ذاته لم تكن تتطلب امتدادات خارج دولة الخلافة؟

أم أن امتدادات مركز كل خلافة، بالفتوح والغزوات أو بالعلاقات السلمية، لم تكن شرطًا لبقاء النظام الاقتصادي الإسلامي في المركز أو الأمصار؟ حيث كانت الفتوح الوسيلة لتحقيق الدعوة وكانت الدعوة هي الدافع، وكان إرساء النظام الإسلامي وبناء حضارة وعمران في الأراضي المفتوحة هو الهدف والغاية، وكان تطبيق شرع الله في إدارة الموارد (الخراج والفيء والزكاة والصدقات) هو المنطلق والقاعدة؟ وذلك على عكس طبيعة النظام الرأسمالي العالمي حيث الاعتماد على الخارج -كما سيتضح لاحقًا-.

  • أم أن طبيعة العصر في العشرة قرون الهجرية الأولى من حيث وسائل المواصلات والاتصالات لم تسمح باعتماد متبادل أو تأثير وتأثر سريع وواسع النطاق؟ أم أن لكل عصر مفهومه عن “العالمية”، فلم تكن “عالمية” عصور الصعود والازدهار الحضاري الإسلامي هي نفس “عالمية” النظام الرأسمالي العالمي، كما لم تكن الفتوح الإسلامية مناظرة لحملات الاستعمار الأوروبي المتعاقبة منذ القرن السادس عشر (لماذا؟)؟ وهنا ننتقل إلى المرحلة الثانية في الدراسة.

ثانيًا- دورة صعود النظام الغربي الحضاري الحديث ودورة هبوط النظام الإسلامي الحضاري واستعماره وتجزئته (1500 – 1914)، دورة تأزم النظام الرأسمالي وتكيفه (1914-           )

إن تاريخ النظام العالمي الحديث -أي الغربي الحضاري العالمي- كتبته وسادت عليه حتى وقت قريب أقلام ورؤى المركزية الغربية المعرفية ومنظورات علومها الاجتماعية والإنسانية الحديثة، الوضعية الواقعية العلمانية. ولقد بدأت أوروبا نهضتها الحديثة وتوالت مراحل تكوينها في إطار عدة ثورات متنوعة؛ وهي ثورة الكشوف الجغرافية، الثورة العلمية، الثورة الفكرية سياسيًّا واقتصاديًّا، ثورة الإصلاح الديني والحرب المذهبية، الثورة الفرنسية.

ولقد ساهمت آثارها في تشكيل طبيعة النظام الحضاري الأوروبي أولًا ثم الغربي العالمي منذ خمسة قرون في دورة من الصعود. سواء من الناحية المالية والثروة (ثورة الكشوف الجغرافية) أو الناحية المعرفية (التنوير والحداثة والعلمانية) أو من الناحية العقلية (العلم بعيدًا عن الغيبيات) أو من الناحية السياسية (التحرر من أشكال حكم الملكيات والإقطاعيات والكنيسة المستبدة التي تحكم باسم الله) أو الاقتصادية (الرأسمالية التجارية ثم الصناعية بعد الإقطاع الزراعي)، أو التحرر للإنسان في ظل مبادئ الثورة الفرنسية العلمانية التنويرية.

وفي ظل خبرة التفاعلات الأوروبية-الأوروبية وداخل كل دولة أوروبية من ناحية وتفاعلاتها مع العالم الخارجي من ناحية أخرى، تأسست طبيعة هذا النظام الأوروبي ثم الغربي على قواعد: العلمانية، الرأسمالية، الاستعمار، مما انعكس على ممارسات امبراطورياته المتعاقبة (الإسبانية – البرتغالية – الهولندية – الفرنسية – البريطانية ثم الأمريكية) تجاه بعضها البعض وتجاه غيرها من الأمم المسلمة وغير المسلمة؛ حيث حملت هذه الامبراطوريات معها إلى العالم (وخاصة خلال القرنين الثامن عشر والتاسع عشر [دورة الاستعمار نماذج لتنظيم الدول على غرار الدولة القومية، نماذج تبشيرية اجتماعية وأخلاقية على غرار ما يسمى التمدن الغربي، نماذج الإنتاج والتجارة لخلق أطراف تابعة خادمة للمركز الرأسمالي التجاري ثم الصناعي سواء كمصدر للموارد (الرقيق، الذهب والفضة، المواد الأولية) أو كسوق لتصريف المنتجات.

وكان نشر جميع هذه النماذج سواء بالإكراه والقسر العسكري أو المعنوي، يثير مواجهة حضارية وليس عسكرية أو سياسية فقط مع الأمم المستهدفة ودولها، وعلى رأسها الأمة الإسلامية وامبراطوريتها العثمانية (التي وصلت عند بداية النهضة الأوروبية في القرن السادس عشر الميلادي إلى ذروة قوتها)، والامبراطوريتان المسلمتان الأخريان المغولية الهندية، والفارسية الصفوية اللتان كانتا في بداية تشكلهما.

ومن ثم فإن تاريخ تلك القرون (منذ القرن السادس عشر) ذو صيغة هامة متمثلة في المواجهة بين نموذجين حضاريين، أحدهما في القمة والآخر صاعد.

وبقدر ما أشرنا من قبل إلى رؤى فكرية إسلامية عن صعود وسقوط الحضارات بالتطبيق أساسًا على الحضارة الإسلامية، بقدر ما أدلى فلاسفة الحضارة الغربية بدلوهم في تقديم رؤى متنوعة عن هذه الدورة، وفي قلبها حال الاقتصاد وما يحكمه من القيم والأخلاق.

إذن في هذه المرحلة الثانية من الدراسة التي تستدعي المواجهة بين نموذجين حضاريين، أحدهما في دورة صعود وآخر يبدأ من ذروة القوة دورة هبوط، فإن الجمع بينهما –على عكس المرحلة الأولى التي اقتصرت على صعود النموذج الحضاري الإسلامي في ظل العصر النبوي والراشدي والخلافات التالية فقط- يعني أمورا هامة بالنسبة لموضوع دراستنا: من ناحية أن المواجهة بين الامبراطورية العثمانية أساسًا وبين عدة امبراطوريات أوروبية متعاقبة ومتزامنة، تعني انكشافا أكبر للبعد العالمي في النظام الدولي. ومن ناحية ثانية، وحيث إن هناك سرديتين لهذه المواجهة فإن الجمع بينهما ضروري وهام لفهم ماهية “التاريخ العالمي” وفي نفس الوقت ماهية ما يسمى “أزمات اقتصادية عالمية”. وهل بدأت أزمات الأمم والحضارات تأخذ طابعًا عالميًا منذ أن تأسس وصعد النظام الحضاري الغربي وتوالت موجاته التوسعية خارج أوروبا في العالم القديم والعالم الجديد؟ ومن ناحية ثالثة، المقابلة بين قيم وأخلاق اقتصاديات مرحلة تأسيس الدولة الإسلامية في عصر النبوة ثم الخلافة الراشدة، وبين نظائرها في مرحلة تأسيس نظام النهضة الأوروبية الحديثة (الكشوف الجغرافية والاستعمار الماركنتلي والعلاقات مع العثمانية) قبل بلوغ ذروتها العالمية مع الاستعمار منذ القرن التاسع عشر، فإذا كانت الفتوح الإسلامية -وفق بعض المستشرقين المنصفين– نجحت بسرعة وعلى نطاق واسع في إحداث تغيير دائم في مصائر المناطق والشعوب التي فتحتها سلمًا أو بالتجارة، والتي رأت في الفاتحين سادة أفضل من سادتهم القدامى؛ فما الذي تكشف عنه تواريخ الكشوف الجغرافية للعالم الجديد واستعمار العالم القديم في فترة صعود أوروبا الحديثة؟

وفيما يلي خريطة بعض النماذج الشارحة عبر المراحل الكبرى التي تحولت عبرها المواجهة الحضارية النظمية بين النظام الإسلامي العثماني والنظام الغربي (عبر خمسة قرون) وموضع الاقتصاد سلبًا أو إضافة لعناصر قوة كل نظام، ومن ثم موضع الأزمات الاقتصادية من دورة صعود طرف وتدهور طرف آخر.

  1. بدأت هذه المواجهة بين النظامين بحدثين هائلي التأثير على العلاقات التجارية والمالية، وهما احتضار طريق الحرير من أقصى الشرق إلى القسطنطينية من ناحية، واكتشاف رأس الرجاء الصالح والعالم الجديد من جانب أسبانيا والبرتغال من ناحية أخرى. ولكل من الحدثين سياقاته السياسية والعسكرية المنجدلة معه سواء من حيث الأسباب أو العواقب على التوازنات بين النظامين العثماني الإسلامي والأوروبي ثم توالت بعد ذلك متغيرات اقتصادية أخرى عبر المراحل التالية.
  2. ومن المراحل المقترحة للتقسيم – في مقابل مراحل تقسيم الخبرات التاريخية الغربية خلال القرون الخمسة الأخيرة- ما يلي:
    • مرحلة الكشوف الجغرافية ونهوض الدول القومية الأوروبية والصعود العثماني (القرنان 16 و17): ففي حين كان الواقع الأوروبي وتوازنات القوى المتحولة تؤسس للمذهب الماركنتيلي وتعبر عنه وتبرر العلاقة بين السياسي الخادم للاقتصادي على صعيد العالم؛ حيث أضحت السياسات الاقتصادية التجارية الخارجية للدول تعظم من قوة الدولة وقدراتها. في المقابل كان الفكر الخلدوني يعكس حالة العالم الإسلامي في هذه الآونة. فكان يعبر عن أزمة اقتصاد سياسي داخلي وبيني وخارجي، ويحاول التنظيرُ ترشيدَ الحركة من خلال منظور عمراني يدعو لغلّ يد الدولة عن الأسواق والجبايات والتدخل الجائر في المعايش والصنائع والمكاسب لإضرارها بالرعايا والعمال والتجار. كذلك دعا المقريزي -تلميذ ابن خلدون- لـ”إغاثة الأمة بكشف الغمة”، أي بتصحيح سياسات التدخل السياسي في التسعير والإنتاج والسياسات المالية، وهو تيار يبدو معاكسًا للماركنتيلية –ليس داخليًا فقط ولكن خارجيًا أيضًا، يضع ثقته في آليات المجتمع الاقتصادي الحر. وتقدم الخبرات التاريخية العملية والفكرية نماذج متنوعة من التأصيل والتطبيق لكيفية إدارة الدولة الإسلامية لاقتصادها داخليًّا وخارجيًّا.
    • مرحلة الثورة الصناعية في غرب أوروبا وتراجع الخطر العثماني على أوروبا منذ بداية القرن 16 والتوجه الأوروبي نحو الاستعمار وظهور التنافس على الأسواق والموارد (القرن الـ18)، وهي مرحلة صعود فكر الليبرالية الرأسمالية في نفس الوقت الذي تراجعت فيه مظاهر الفكر الاقتصادي الإسلامي إزاء النزعة العسكرية العليا للدولة العثمانية وأمام حالة الانحدار الحضاري عبر أرجاء العالم الإسلامي وأمام التدخلات الخارجية متعددة المستويات وخاصة في المجال الاقتصادي والاجتماعي (عصر التنظيمات العثمانية).
  • مرحلة الاستعمار الأوروبي في مظلة من الاستشراق المعرفي ونهب الثروات وإعادة تشكيل الهياكل والقوانين والأطر الاقتصادية في العالم الإسلامي وليس فقط السياسية والثقافية. وهي مرحلة امتزج فيها الهدف السياسي والاقتصادي والثقافي لحركة القوى الاستعمارية وكذلك أدواتها المتنوعة في إطار من هيمنة مفهوم القوة الصراعية الجبرية القهرية. ولقد كانت الدراسات الاستشراقية المتعلقة بالمجتمعات واقتصادياتها وطرق التجارة سواء للمجتمعات الشرقية القديمة أو العالم الجديد لتكون رأس حربة الاستغلال الاستعماري الشامل. ولقد كشفت دراسات ما بعد الكولونيالية الخلفيات والأطر المعرفية والفلسفية التي روجها الاستشراق حول رسالة الرجل الأبيض وعبئه الحضاري لتحديث الآخر البربري المتخلف حضاريًا. إذن كيف كان قدر التراجع الحضاري وهل قاوم المسلمون الاختراق الاقتصادي سواء في شبه القارة الهندية، أو إيران القاجارية أو مصر والشام الكبير أو شمال أفريقيا أو أفريقيا جنوب الصحراء، بل وفي البلقان وشرق أوروبا والمركز العثماني؟ هل يمكن تقديم معرفة جديدة من واقع إعادة قراءة هذه التواريخ مقارنةً بتواريخ الصعود الأوروبي الحديث؟ لتصبح بدورها معرفة لخدمة سلطة التغيير والنهوض الحضاري من جديد؟
  •  مرحلة تغير التوازن العالمي ابتداء من بداية القرن العشرين وفترة ما بين الحربين العالميتين الأولى والثانية: وهي المرحلة التي شهدت، وخاصة بعد نهاية الحرب العالمية الثانية؛ انخفاضًا في الاهتمام بالأبعاد الاقتصادية الدولية التي كانت حاضرة في الفترة ما بين الحربين (دوافع اندلاع الحربين الاقتصادية وعواقبهما وآثارهما على توازنات القوى العالمية) دون أن تلقى الاهتمام الكافي من مؤسسي علم العلاقات الدولية الواقعيين أو المثاليين. إلا أن صعود أهميتها بوضوح اقترن بالدور الذي لعبته دراسات الاقتصاد السياسي الدولي في الصراع ضد الشيوعية وفي تأكيد الهيمنة الأمريكية. ولقد سادت هذه المرحلة المدارس الغربية صعودًا وهبوطًا، ولم يكن العالم الإسلامي -كما سبق التوضيح- في مقدمة التحليل إلا موضوعًا للتفاعلات، كما كان غائبًا عن الأبعاد التنظيرية سواء من منظورات غير غربية، أو منظور إسلامي بصفة خاصة.
  • وأخيرًا المرحلة الراهنة (منذ نهاية الحرب الباردة وبداية القرن الواحد والعشرين) من تجدد الاهتمام بأزمات نظام الهيمنة الغربي وتراجعه ومستقبل التوازن العالمي الجديد من ناحية، وتجدد الاهتمام من ناحيةٍ أخرى بالفكر والتنظير الإسلامي للاقتصاد بصفةٍ عامة والاقتصاد السياسي بصفة خاصة، مع بعض الإرهاصات حول الأبعاد الدولية وموضع العالم الإسلامي من هذه التحولات العالمية بأبعادها المختلفة وخاصةً أزماتها الاقتصادية.
  1. وعبر مراحل هذه القرون الخمسة، ومن واقع خبرات ذاكرتها التاريخية التفصيلية يمكن أن نشير إلى النماذج التالية؛ ابتداءً من مركز النظام الإسلامي الدولي (الدولة العثمانية)، ومركز النظام الأوروبي الدولي، وصولًا إلى النظام المعاصر.

النموذج الأول: أزمة احتضار طريق الحرير بعد زهوه:

كان لطريق الحرير دور هام في التواصل الحضاري بين حضارتين شرقية زاهرة وغربية آفلة (خلال العصور الوسطى)؛ فلقد كان أعظم طرق العالم القديم الذي عبره الإسكندر الأكبر ثم جنكيز خان ولو في اتجاهين معاكسين على التوالي. ومن قبلهما بالطبع أباطرة الصين وتجارها في محاولة للوصل بين الشرق الأقصى والمتوسط.

وبقدر ما كان هذا الطريق أعظم الطرق التجارية القديمة في العالم، فلقد كان أيضًا أكثرها أهمية كطريق لتبادل الأفكار والتقنيات والتفاعل الديني والاجتماعي والثقافي بين شعوب هذا الامتداد الجغرافي الحضاري. ولقد ابتلي هذا الشريان الحضاري، الذي وفر -وفق خليل انلجيك- الأمن والسلامة للمسافرين بين الشرق والغرب، بآفات الحروب والثورات ونهب قطاع الطرق، وظلت كياناته السياسية مقسمة متنافسة حتى أواخر القرن الثالث عشر وأوائل القرن الرابع عشر الميلادي في ظل حكم المغول (الذين أسلموا واستقروا). وبزوال دولة المغول انتهت أدوار طريق الحرير الإيجابية، وعند سقوط القسطنطينية في منتصف القرن الخامس عشر (1453م) لم تقُم لطريق الحرير قائمة ولذا كانت الكشوف الجغرافية فتحًا من غرب أوروبا لطرق بحرية جديدة ليس إلى العالم الجديد فقط ولكن نحو الصين حول أفريقيا وآسيا عبر بحارهما الجنوبية. وبذا أفلت الطرق البرية وازدهرت الطرق البحرية، بما حمله ذلك من تغير أنماط التوسعات الأوروبية (الماركنتلية التجارية) والاقتصاديات العثمانية وامتداداتها الخارجية. فماذا عن هذا النموذج العثماني؟

النموذج الثاني: التاريخ الاقتصادي-الاجتماعي للدولة العثمانية:

ويقدم كتاب تاريخ الدولة العثمانية الاقتصادي والاجتماعي بجزئيه خبرات هامة لهذا النموذج من حيث بناء عناصر القوة الاقتصادية في سياقاتها السياسية الفاتحة، ومن حيث تراجع هذه العناصر وتأثيراتها الخارجية في ظل تراجع الدور العثماني العالمي وتأزمه تحت موجات الهجوم الأوروبي المضاد ومشروع تقسيم الدولة العثمانية منذ بداية القرن الثامن عشر (1699).

وأنقلُ اقتباسًا عن مقدمات هذين الجزئين ما يلي:

“… قبل عام 1800، لم تكن التجارة العالمية بين الدولة العثمانية وأوروبا محكومة بتكاليف النقل فحسب وإنما أيضًا بالصراعات المتكررة بين هذين العالمين المتنافسين دينيًا وثقافيًا، وحروب الحدود المستمرة، ونشاطات القراصنة. ومع ذلك، فإن الحاجات الاقتصادية المتبادلة الإلزامية فرضت على كلا الجانبين الحفاظ على علاقات تجارية ودية حتى خلال أوقات الحرب، وكان السلطان -الإمام- يمنح الضمانات الضرورية للإقامة، والانتقال والتجارة في الأراضي العثمانية بحسب مبدأ الأمان الإسلامي، فقط لغير المسلمين من دار الحرب الذين يقدمون تعهدًا “بالصداقة والنية الحسنة”. ونتيجة لذلك، فإن الدول أو الأفراد المعتبرين أعداء للإسلام كانوا يحرمون من تلك الضمانات الرسمية، ويمكن استعباد مثل هؤلاء الناس.

… إن المبدأ الأساسي للامتيازات هو دائمًا “أمان” أعطي رسميًا من قبل رئيس الجماعة الإسلامية في مقابل التعهد بالصداقة من قبل غير المسلمين، وغالبًا ما كان العثمانيون يميلون إلى تفسير مثل هذا التعهد على أنه نوع من التحالف.

.. وعلى قاعدة التعهد “بالصداقة”، توقع العثمانيون، رغم أن ذلك لم يكن معبرًا عنه في الوثيقة، حصول رعاياهم على امتيازات متبادلة، وقد استفاد الرعايا العثمانيون غير المسلمين مثل: اليهود، والأرمن، واليونان والسلاف بشكلٍ خاص، من الحماية المعطاة للعثمانيين في الخارج وأنشأوا منذ القرن الخامس عشر، جاليات تجارية مزدهرة…

…. توقع العثمانيون، وبشكل رئيسي، من منحهم الامتيازات الحصول على امتيازات سياسية من الدول المستفيدة، أي فرصة الحصول على حليف ضمن العالم المسيحي…

واستفاد العثمانيون أيضًا من علاقاتهم التجارية مع أوروبا، فقد حصلوا على سلع نادرة واستراتيجية…

… اعتبرت المنافع المالية الناتجة عن هذه التجارة أحد أكثر نواحيها أهمية، فقد قدمت الرسوم الجمركية مبالغ نقدية كبيرة كانت الخزانة الإمبراطورية في أمس الحاجة إليها…

… وفي ظل الامتيازات منح الأجانب غير المسلمين الإذن بالتنقل والتجارة الحرة في الأراضي العثمانية. لكن لم يسمح عمليًا لأعضاء الدول الأجنبية إلا بالإقامة فقط في بعض المرافئ بأحياء محددة أو خانات ضمن هذه المرافئ. وتمتعوا في إزمير، وحلب وغلطة بدرجة عالية من حرية الحركة”.

هذا، ولقد استهل خليل إينالجك أحد محرري الكتاب مقدمة الجزء الثاني منه، بالقول إن دراسة الأحداث السياسية تسبق قيام مؤلفي الكتاب على دراسة الاقتصاد والمجتمع في مراحل تطور العصر العثماني.

ومن ناحية أخرى، بيَّن كيف أن القوة العثمانية، السياسية والعسكرية، قد أحيت التجارة الشرقية بين الهند والشرق الأوسط وحافظت على العالم الإسلامي طيلة أربعة قرون من الأخطار الخارجية التبشيرية والاستعمارية، وفي نفس الوقت فلقد كان للدور العثماني العالمي وجه آخر؛ حيث يشير خليل إينالجك”:

“… وهناك حقيقة تاريخية مدوَّنة حتى في مناهج التاريخ المدرسية ألا وهي: إن الأوروبيين تعلموا كافة العلوم ابتداءً من علم الرياضيات وحتى فنون النسج والأصباغ ونظم الشركات غير الخاصة وغيرها من حضارة الشرق الأدنى، ودون إدراك هذا المفهوم لا يمكن فهم وإدراك ما يسمى بـ”المعجزة الأوروبية”، واعتبارًا من عام 1150 منحت الدول الإسلامية امتيازات التجارة الحرة للأوروبيين في البلدان الإسلامية.

ومن دون شك، فقد لعب العثمانيون دورًا في تطوير الاقتصاد الرأسمالي الأوروبي وذلك بتوسيع امتيازاتهم الرأسمالية… وباختصار يمكن القول: إنه لا يمكن فهم تطور أوروبا الحديثة بغض النظر عن الحضارة الإسلامية والتعاون الإسلامي، وسوف يجد القارئ تفاصيل كل ذلك في هذا الكتاب”.

وفي المقابل، في حين بدأ الدور العثماني العالمي في التراجع عسكريًا وسياسيًّا، وبدأ عصر الإصلاحات أو التنظيمات، فإن اتجاهات الاقتصاد العالمي سجلت نموًا أوروبيًا متسارعًا نتيجة اختلال الميزان التجاري لصالح أوروبا الرأسمالية، الأمر الذي أثر سلبًا على الدولة العثمانية والتي كانت تواجه مشاكل تتفاقم وهو الأمر الذي انعكس على التجارة والضرائب والجمارك والعملة العثمانية.

بعبارةٍ موجزة: فإن المدخل لتفاصيل العلاقات الاقتصادية والتجارية العثمانية مع العالم هو حالة العلاقات السياسية وميزان القوة السياسية، كما أن حالة هذه العلاقات الاقتصادية هي أيضًا مؤشر على، أو مدخل للتأثير في حالة العلاقات السياسية، ولقد كان وضع التجار الأجانب والامتيازات العثمانية وهجرات السكان، ووزن العملات محورًا أساسيًا في هذا الجانب من التعارف.

ومن الواضح، أن هذا المدخل أي “الاقتصاد السياسي الدولي” “للتعارف” ودوره في تشكيل علاقات القوى العالمية في العصر العثماني، هو مدخل اقتصادي حضاري عالمي، أي لا يمكن لجانب واحد منه الاقتصادي أو السياسي أن يشرح حقيقة علاقات القوى هذه.

ويوجز خليل إينالجك هذا المدخل في عبارات واضحة وشاملة تشرح بيسر تفاصيل ممتدة عبر أكثر من أربعة قرون تفاعل خلالها الاقتصاد والسياسة داخليًا وخارجيًا، وهي الآتية

“علاقات الدولة بالغرب التي تكثفت بعد القرن السادس عشر. لقد كانت الدولة العثمانية أول إمبراطورية آسيوية تشهد تأثير نهوض أوروبا وتوسعها البارزين في الحقلين الاقتصادي والعسكري. وبينما كان الغرب التجاري مهتمًا في الحفاظ على السوق العثماني واستغلاله كأمر حيوي للاقتصاد الغربي، فإن كلا من إمبراطورية آل هابسبورغ والإمبراطورية الروسية، مستفيدتين من التطورات الجديدة في التكنولوجيا العسكرية، بدأتا سياسة عدوانية لغزو وتقسيم الإمبراطورية العثمانية.

في هذه المرحلة الجديدة، غيَّرت الهيمنة الأوروبية وضع الإمبراطورية والعثمانية، من السيطرة إلى التبعية المتزايدة. وفي محاولة للخروج من هذه الأزمة، سعى العثمانيون أولًا إلى إصلاح مؤسستهم العسكرية، ثم تنظيماتهم الإدارية، لذا ظهر بالنسبة للعثمانيين ما يمكن تسميته المسألة الغربية، أي محاولة مجتمع إسلامي تقليدي أن يحدد إلى أي مدى بإمكانه أن يتبع الطرق الغربية.

ترافقت هذه التغييرات العسكرية والإدارية مع تسارع وتيرة الاستيراد من الغرب.

…. من التطورات الأكثر أهمية في المرحلة التي تلت المرحلة التقليدية، ظهور “الليبرالية” العثمانية في الموضوعات الثقافية والاقتصادية، وقد توسعت الامتيازات التجارية لتطال كل الدول الأوروبية.

… وفي القرن العثماني الأخير، استُؤنفت الليبرالية بالقضاء على الإنكشارية عام 1826، وهي التي كانت تحمي امتيازات النقابات الحِرَفية، وبالمعاهدة الإنكليزية -التركية عام 1838. لقد ضعفت مساعي الحكومة لتوجيه الاقتصاد، تدريجيًا من الآن فصاعدًا، بعد أن كادت تؤدي إلى تدميره في أواخر القرن الثامن عشر. إلا أن الحكومة سعت مجددًا في القرن التاسع عشر، للتدخل والحماية.

… إلا أن الحروب وخسارة الأراضي استمرت في تدمير شبكات التجارة وتشكيل شبكات جديدة، ما أثر وبشكل عميق في النشاطات الزراعية والصناعية في أعقاب ذلك.

… لقد سعينا لعرض تفسير للوقائع الاجتماعية والاقتصادية في محيطها العالمي”.

ومن واقع هذه الرؤية النظمية الشاملة عن هذا النموذج العثماني في عصري القوة والتراجع لا بد من التنبيه إلى أمرين هامين لما لهما من دلالاتٍ معاصرة:

الأمر الأول: هو أنه كان للقوة الاقتصادية العثمانية الداخلية تأثيرات خارجية؛ حيث تم استخدامها كأداة منح أو منع لبناء التحالفات المضادة ضد أكثر الأعداء تحديًا “الهابسبورج مثلًا”. ومن هنا بدأت سياسة منح الامتيازات التجارية والمالية للبوربون (فرنسا) وفق معاهدة سليمان القانوني معهم 1535. إلا أنه بمرور الوقت تحولت هذه الامتيازات –مع توالي الهزائم العثمانية وفرض الشروط الخارجية عليها (1776، 1839، 1858)- إلى أدوات تدخل مالية ودينية وثقافية وتجارية، استعدادًا للحظة المواتية للتقسيم الكامل لما تبقى من الدولة العلية في البلقان والشام.

ورغم أن الاستجابة لشروط هذه التدخلات أطلق عليها العثمانيون مصطلح “التنظيمات” والإصلاحات، إلا أن القراءة التفصيلية في بنودها وتداعياتها تبين بوضوح كيف أنها كانت ما أسماه البشري “الإصلاح الضال غير الرشيد لأنه يتم تحت ضغط الهزيمة الخارجية والضغوط التدخلية الخارجية”، ولقد بدأ هذا السيناريو منذ تصفية اقتصاد دولة محمد علي (معاهدة بلطة ليمان 1838 ثم معاهدة لندن 1840)

بعبارة أخرى، لم تحدث التداعيات الاقتصادية والاجتماعية على النموذج العثماني جراء أزمة عالمية اقتصادية، ولكن جراء هزائم عسكرية متوالية وفشل سياسات داخلية مفروضة من الخارج؛ لأنها كانت سياسات تقييد واستبدال وليس إصلاح…

الأمر الثاني: أن الأزمات الاقتصادية النظمية في مركز النظام العثماني لا يجب أن تمنع النظر إلى أزمات جزئية إقليمية ونوعية تناوبت على شعوب الأمة وخاصة في مراحل الحروب وتراجع القوة العثمانية.

على سبيل المثال وليس الحصر: 

  • أزمات الاستدانة الخارجية من إسماعيل خديو مصر (تحت السيادة العثمانية حتى 1914) التي انعكست سلبًا على استقلال أصول مصر وخاصةً3.6
  •  قناة السويس.
  • أزمات الشام الكبير في ظل حكم الاتحاد والترقي منذ 1908.
  • الأزمات الاقتصادية الطاحنة في بعض دول البلقان (البوسنة) التي أدت إلى اندلاع أزمة البلقان 1875 ثم الحربين البلقانيتين (1912 – 1913).
  • أزمات التهجير القسري لمسلمي البلقان والقوقاز قبل الحرب العالمية الأولى، وبعدها أزمات أخرى طاحنة في آسيا وأفريقيا من جراء الاستعمار الأوروبي كما سنرى لاحقًا.

النموذج الثالث: أزمات النظام الرأسمالي الاستعماري الأوروبي: ذروة صعود النظام الأوروبي واستكمال دورة هبوط النظام العثماني (القرنان الثامن عشر والتاسع عشر):

لم يكن الصعود الاقتصادي والعسكري الأوروبي، ابتداء من الثورة الصناعية في القرن الثامن عشر ووصولا إلى ذروة استعمار العالم القديم وتقسيمه خلال القرن التاسع عشر، خيرًا كله للبشرية جمعاء ولا عمرانًا أو حضارة رشيدة. ولكنه اقترن بأزمات حادة داخل أوروبا وخارجها، فبعد موجات الاستئصال لشعوب العالم الجديد ونهب ثرواته التي كانت مصدر قوة لأوروبا، جاءت موجات استعمار العالم القديم المتتالية مسببة أزمات اقتصادية متنوعة لشعوب هذا العالم، إلا أنها صبت جميعها في عافية النظام الرأسمالي الأوروبي ليصبح عالميًا بعد أن انضمت إلى مساره الولايات المتحدة واليابان.

ومن أهم الأزمات الاقتصادية الإقليمية والنوعية، التي أحاط بها تنافس القوى الاستعمارية، تلك التي تعاقَب فيها الاستعمار الماركنتلي (نقاط ارتكاز ونفوذ ساحلية والحصول على امتيازات تجارية وفتح أسواق بكافة الأدوات: العشيرة، الجندي، القسيس، التاجر) ثم الاحتلال العسكري المباشر في آسيا وأفريقيا.

ونذكر من أبرزها:

  1. حربي الأفيون الأولى والثانية في الصين (1840 – 1860)
  2. أزمات إعادة هيكلية الاقتصاد الهندي وإعادة توزيع ثرواته من المسلمين المغول إلى الهندوس؛ لكسر شوكة مقاومة المسلمين باعتبارهم الأكثر تهديدًا لاستقرار السلطة الاستعمارية البريطانية في ذلك الوقت.
  3. أزمات الشعوب المسلمة في القوقاز وآسيا الوسطى أمام التمدد الامبراطوري القيصري وسياسات الروسنة والتهجير القسري.
  4. استجلاب الرقيق من غرب أفريقيا، وتدمير حضارات الممالك الإسلامية الكبرى في السودان الكبير.

إن جميع هذه الأزمات أزمات حضارية؛ فلم تكن اقتصادية فقط ولكن ذات تداعيات إنسانية بأوسع معانيها… وتحتاج كل منها وغيرها (ما قبلها وبعدها) دراسة تفصيلية تنفض الغبار عن تاريخ الاقتصاد السياسي الدولي لشعوب العالم الإسلامي في ظل الاستعمار وما بعده. قد تكون دراسات “ما بعد الكولونيالية أو الاستشراق الجديد الرشيد ساهمت في ذلك، ولكن ما الجديد من منظور حضاري إسلامي؟

الجديد سيتمثل في: كيف تكون القيم والأخلاق ميزانًا للأداءات الاقتصادية والحروب، ومن ثم كيف يتم استدعاؤها في تفسير دورات الصعود والهبوط للأمم والإمبراطوريات؟

فإذا كان بول كيندي في دراسته لدورة صعود وسقوط الامبراطوريات الأوروبية الكبرى خلال خمسة قرون قد أعطى الأولوية في تفسيره لهذه الدورة للعامل الاقتصادي الناجم عن الأعباء المتراكمة لهذه الإمبراطوريات نتيجة التوسع الجغرافي، فإن تفسيرات أخرى من منظور حضاري إسلامي -كما سبقت الإشارة- استدعت ما يتصل بالقيم والأخلاق وتجلياتها من عدمه في الصعود أو السقوط.

النموذج الرابع: أزمات الحربين العالميتين والحرب الباردة واستحكام أزمة النظام الرأسمالي العالمي وتداعياتها منذ بداية الألفية الثالثة

سرعان ما بدأ السحر ينقلب على الساحر منذ نهاية القرن التاسع عشر، منذ أن أفرزت الوحدة الألمانية من عقر دار أوروبا، محفزات جديدة للصراع الأوروبي-الأوروبي الاستعماري الذي لم ينقطع أبدًا طوال قرون متخذًا أشكالا عدة بين إمبراطوريات متعاقبة سواء على ساحة أوروبا أو خارجها.

  • وانبثقت الأزمة من داخل أوروبا ذاتها وتبلورت خلال سنوات الحرب العالمية الأولى في شكل قروض ومعونات ومبيعات سلاح متدفقة من الولايات المتحدة لكل من الطرفين المتحاربين وحتى خرجت أوروبا من الحرب، دولا منتصرة وأخرى مهزومة، وقد تداعت اقتصادياتها وزاد اعتمادها على الولايات المتحدة.
  • ورغم أن أزمة الكساد الكبير (1929-1933) قد بدأت في الولايات المتحدة الأمريكية، تحت تأثير تجدد الدماء في عروق الاقتصاديات الأوروبية بعد عقد من تسويات الحرب العالمية الأولى، إلا أن تداعياتها على العالم لم تكن اقتصادية مالية فقط ولكن عسكرية وسياسية بدرجة واضحة.

فلقد اندفعت اليابان تحت تأثير عواقب الأزمة نحو تدعيم التوسع الخارجي في شرق آسيا (الصين ومنشوريا) الذي وصل إلى قمته إبان الحرب العالمية الثانية في نفس الوقت الذي بدأت فيه الصين تنفض عن نفسها آثار الانقسامات والامتيازات الأجنبية وتحاول إعادة وحدتها التي تمت مع انتصار الثورة الشيوعية على الحركة الوطنية الصينية بعد حرب أهلية مدمرة.

بعبارةٍ أخرى، لم يعد النظام الدولي نظامًا أوروبيًا فقط ولكن أضحى عالميًّا بمشاركة القوى غير الأوروبية (الولايات المتحدة واليابان) التي مثلت تحديا اقتصاديًا وعسكريًا وسياسيًا متزايدًا “للعصر الأوروبي”.

  • في نفس الوقت، وتحت وطأة تسوية معاهدة فرساي 1919 على ألمانيا، انبثق من داخل أوروبا تحدي أيديولوجي واقتصادي وعسكري من عقر دار أوروبا: النازية والفاشية. ولقد حال اهتمام فرنسا وبريطانيا بالسلام والرخاء دون الاستجابة السريعة المناسبة ضد النازية واستعداداتها العسكرية وطموحاتها القومية.

وألحقت سنوات الحرب العالمية الثانية بأرجاء العالم أزمات اقتصادية متنوعة، وهكذا بدأت تتجلى في صورة معاصرة الآثار السلبية العالمية لأزمات وحروب النظام الرأسمالي. والجدير بالإشارة أن الدول الاستعمارية (فرنسا وبريطانيا) عبأت موارد مستعمراتها في الهند وأفريقيا -شمالها وجنوبها- لدعم مجهودها الحربي ضد ألمانيا في الحربين العالميتين، الأمر الذي زاد من سوء الأوضاع الاقتصادية في هذه الدول ولكن على النحو الذي اقترن بتصاعد المطالبة بالاستقلال

  • ومع تبلور الأبعاد العالمية للعلاقة بين أزمات الاقتصاد الرأسمالي وحروبه، الناجمة عن الصراع بين الدول الرأسمالية، سعيًا من كلٍ منها للحفاظ على الهيمنة في الاقتصاد السياسي العالمي؛ تم وضع نظام مالي عالمي لإدارة النظام الرأسمالي العالمي وتوابعه بعد نهاية الحرب العالمية الثانية، وهو نظام كرَّس القيادة الأمريكية لهذا النظام من خلال ثلاث مواد رئيسية نصت عليها اتفاقية بريتون وودز وقامت على تنفيذها مؤسسات هذا النظام، هذه المواد الثلاث هي: تثبيت قاعدة الاعتماد على الذهب والتحويل من الدولار إلى ذهب، قابلية تحويل العملات الأساسية إلى ذهب، تأكيد أسعار الصرف الثابتة للعملات.
  • ولقد بدأت أزمات دورة الهبوط في الاقتصاد السياسي الغربي العالمي تتوالى منذ السبعينيات، وكان لكل دورة من الأزمات سياقاتها السياسية والعسكرية.

فلقد بدأ ظهور التحدي من الشرق (اليابان، الاتحاد السوفيتي، الصين الشيوعية)، رغمًا عن كل مؤشرات التفوق الشامل لدى الولايات المتحدة (الامبراطورية الجديدة وريثة أوروبا الاستعمارية)، إلا أن مؤشرات التحدي بدأت تظهر أيضًا من عقر دار الغرب بعد أن أخذت أوروبا تستعيد حيوية اقتصادياتها خلال ربع قرن منذ نهاية الحرب العالمية الثانية. واقترن بأزمات إعادة البناء الأوروبي بعد الحرب العالمية الثانية أزمات مقاومة الاستعمار الاقتصادية والعسكرية، ثم موجات الاستقلال عن الاستعمار الأوروبي وتصفيته عبر قارتي آسيا وأفريقيا.

  • ومن ثم بدأت حقبة جديدة من الأزمات الاقتصادية النوعية الإقليمية عبر أرجاء الدول الحديثة الاستقلال في ظل عمليات التحول الداخلية والإقليمية التي صاحبت عمليات بناء الدول الحديثة الاستقلال في ظل حرب باردة مستعرة ألقت بظلالها الاقتصادية والاجتماعية والعسكرية التي صاحبت هذه العمليات؛ حيث ظلت الأخيرة -وفي ظل عسكرة متزايدة الانتشار على صعيد هذه الدول- تتأرجح من استراتيجيات التنمية الاشتراكية إلى الرأسمالية، ومن ثم فشلت سياسات الاعتماد على الذات التي تألقت طموحاتها خلال الستينيات هي وسياسات عدم الانحياز والحياد.
  • وخلال السبعينيات تداخلت ثلاث أزمات عالمية بوضوح شديد، أبرزت ما أضحت عليه عالمية أزمات الدول والنظم الرأسمالية في ثوب جديد (بعد ثوب الاستعمار التقليدي وتصفيته)، ألا وهو ما سمي “نظام اقتصادي عالمي جديد”. وشغلت الدعوات إليه ومبادرات تفعيله طيلة عقدين، وحملت جميعها مؤشرات لتحدي الهيمنة الأمريكية على النظام، إلا أن الولايات المتحدة استطاعت التكيف مع كل أزمة والخروج منها.

الأزمة الأولى: ما عُرف بأزمة قاعدة الدولار. والمقصود بها الأزمة التي صاحبت التدابير الاقتصادية التي قادها الرئيس الأمريكي نيكسون 1971 من طرفٍ واحد، والتي أدخلت تعديلات على قواعد بريتون وودز، وذلك بإلغاء قاعدة التحويل الدولي المباشر من الدولار إلى الذهب.

ومع فشل كافة الإصلاحات في إعادة العمل بالقاعدة فرض الأمر الواقع الأمريكي نفسه على النظام المالي العالمي منذ 1973، حيث ظل العمل بهذا النظام قائمًا منذ ذلك الوقت أي عدم التحويل المباشر من الدولار إلى الذهب، ومن ثم سرى نظام تعويم العملات الورقية وعدم ثبات سعر صرفها مقارنةً بالدولار. وترجع تلك التدابير من طرفٍ واحد إلى انخفاض احتياطي الذهب الموجود لدى الولايات المتحدة من ناحية، ومن ناحيةٍ أخرى انخفاض نصيبها من التجارة الدولية، وأعباء حرب فيتنام على الاقتصاد الأمريكي من ناحيةٍ ثالثة.

ولذا كانت هذه الأزمة مؤشر على بداية مواجهة الاقتصاد الأمريكي صعوبات، بعد أن وصل إلى ذروته عقب نهاية الحرب العالمية الثانية.

والأزمة الثانية: هي أزمة تأميمات البترول العربي في ليبيا والعراق (1970- 1971)، ثم الحظر البترولي الشامل الذي صاحب ودعم حرب أكتوبر 1973. ولم تقتصر آثار هذا الحظر، ثم ارتفاع أسعار البترول بعد إلغائه، على الغرب فقط ولكن على دول العالم الثالث، على نحو ترتبت عليه أزمات اقتصادية ومالية منتشرة.

وإذا كانت المراكز الغربية قد استطاعت بدرجاتٍ متفاوتة التكيُّف مع هذه الأزمة وتوابعها، إلا أن العكس حدث مع الجنوب. ولم تنجح الدعوات بإقامة نظام اقتصادي عالمي جديد سواء على مستوى حوار الشمال الجنوب، أو الجنوب -الجنوب (القروض، الاستثمارات، التكنولوجيا، التجارة) في الاستجابة لمطالب الجنوب بنظام أكثر عدالةً وتكافؤ. وظلت اقتصاديات الدول النامية –المتخلفة- ترفل في الأزمات الهيكلية الناجمة عن الفشل الداخلي في ظل العسكرة أو الاستبداد من ناحية وروابط التبعية للنظام الرأسمالي من ناحية أخرى، فلم تكن أزمة حظر البترول وأسعاره منبعها الدول المنتجة فقط ولكن الرغبة في التحرر من قيود الشركات الكبرى السبعة المالكة لحقوق التنقيب والإنتاج.

ولم تتوقف بعد ذلك الأزمات المالية والاقتصادية، وخاصةً في دول الجنوب، الناتجة عن الخلل في نظام الإمدادات البترولية أو الأسعار، وخاصة في ظل الحروب الإقليمية مثل الحرب العراقية الإيرانية (1981 – 1989)، وحرب الخليج الأولى (1990 – 1991).

الأزمة الثالثة: أزمة تشديد العقوبات والمواجهة مع الاتحاد السوفييتي في فترة الحرب الباردة الجديدة، أو بمعنى آخر حرب تصفية الاتحاد السوفييتي وتفكيكه (1985 – 1991). وكانت السياسات الأمريكية، ومن ورائها الأوروبية الغربية، ذات آثار واضحة على شرق أوروبا وجمهوريات الاتحاد السوفيتي، وهو الأمر الذي مثَّل أحد أضلع المنظومة المركبة لانهيار الاتحاد السوفييتي وانتهاء الحرب الباردة بلا حرب وبداية ما عرف بعصر الهيمنة الأمريكية الأحادية (1991 – 2001). فلقد كان الاقتصاد في قلب هذه المنظومة.

  • وفي ظل هيمنة أحادية أمريكية (1991- 2001) ثم بداية تراجعها (2001- 2016)، مع استمرار المقاومة للحفاظ على الهيمنة الغربية بصفة عامة وفي قلبها الهيمنة الأمريكية، توالت أيضًا أزمات عالمية ولم تنتهِ أبدًا مسلسلات الأزمات النوعية والجزئية، بل زاد وطيسها مع احتدام استخدام أدوات القوة العسكرية الصلدة الأمريكية لتأكيد هذه الهيمنة الأحادية والحفاظ عليها في مواجهة تأكد صعود التحدي من الشرق، والتحدي أيضًا مما عُرِف بالإرهاب العالمي أو الثورات العربية والحروب عليها من جانب الثورات المضادة.

ومن تداعيات حرب الخليج الأولى (1990 – 1991): الحصار الاقتصادي لنظام صدام حسين، الذي عانى منه ملايين من الشعب العراقي في أزمة اقتصادية طاحنة لم تنَل من الإنسان العراقي فقط ولكن من مقدرات دولته البترولية والزراعية والصناعية. وإذا كانت هذه أزمة محدودة النطاق إلا أن تداعياتها على النظام العربي كله كانت شاملة وممتدة، في نفس الوقت الذي كان النظام الرأسمالي العالمي يحتفل بانتصار نموذجه الحضاري على نظيره المعادي الشيوعي. وفي نفس الوقت الذي أخذت فيه أيضًا اقتصاديات دول الجنوب تلهث وراء قطار العولمة الاقتصادي (سياسات الليبرالية الجديدة).

ومن الدلائل الأولى المبكرة في الثمانينيات على عواقب هذا النمط من التنمية الليبرالية في دول الجنوب (مع عدم توافر مقوماتها الرشيدة) ما عرف بأزمة ديون أمريكا اللاتينية، التي ضربت الأرجنتين والبرازيل وفنرويلا، وكانت فاتحة لتحولات في الاستراتيجيات التنموية للدول اللاتينية بعد أن رزحت اقتصادياتها تحت أعباء الروابط الرأسمالية المباشرة مع الولايات المتحدة الأمريكية. واقترنت هذه التحولات الاقتصادية اللاتينية بدورات من تداول السلطة بين اليمين واليسار بعد أن استقرت مرحلة الانتقال الديمقراطي ووأْد الانقلابات العسكرية برعاية أمريكية.

ولم تكن أفريقيا بعيدة بدورها عن الأزمات الاقتصادية الحادة التي أفشت الجوع حتى الموت، ولم تكن الطبيعة بمفردها المسئولة؛ فلم يكن التصحر والجفاف نتاج الطبيعة فقط ولكن نتيجة السياسات الفاشلة في إدارة هذه الأمراض المزمنة التي لم تفاجئ القارة، سواء في ظل انقلابات عسكرية أو حروب أهلية قبلية أو طائفية أو تدخلات خارجية وروابط تبعية رأسمالية ظلت تفرغ أفريقيا من ثرواتها المعدنية بل والبشرية، ودون مواجهة حقيقية لأزمات أفريقيا الهيكلية بالأساس.

وفي المقابل في أقصى جنوب شرق آسيا، كانت ماليزيا نموذجًا حيًّا من العالم الإسلامي يدشن ويحصد نتاج استراتيجية تنموية حضارية طيلة عقدين من منتصف السبعينيات، حتى كان ما عُرِف بأزمة جنوب شرق آسيا المالية (1997 – 1998) التي عصفت -تحت تأثير مناورات رؤوس الأموال الأجنبية بالأسواق الماليزية، ليس بالنموذج التنموي فقط ولكن بالنموذج السياسي أيضًا (نظام مهاتير محمد)، وعلى نحوٍ أوقف أو عطل من استمرار نمو هذا النموذج على نحو كان يمكن أن يغير التوازن في جنوب شرق آسيا بين ما هو مالاوي وما هو صيني بصورة أو بأخرى.

  • وفي العقد الأول من الألفية الجديدة (2001- 2011)، وفي ذروة النشوة الغربية الرأسمالية بالانتصار على النموذج السوفيتي الشيوعي، استمرت الاستراتيجية الغربية بقيادة أمريكية في تحصين “الهيمنة الأحادية” من التهديدات والتحديات.

فبعد موجة تحديات البلقان وأوروبا الشرقية والقوقاز وآسيا الوسطى والخليج والصراع العربي الإسرائيلي في التسعينيات، وجميعها كانت ذات أبعاد تعكس تأزُّمًا اقتصاديًّا إقليميًّا، قفز إلى الصدارة حربان إقليميتان دمويتان، العدوان الأمريكي على أفغانستان 2001 ثم على العراق 2003. ورغم التركيز على أبعادهما العسكرية والسياسية بالأساس، إلا أن أبعادهما الاقتصادية لم تكن أقل خطورة، وخاصةً بالنسبة لشعوب هاتين الدولتين وجوارهما الإقليمي. في المقابل، استمر المجتمع الصناعي العسكري الأمريكي والغربي في الإنتاج والضخ في هاتين الحربين، وهذا رغم كل الانتقادات من الداخل الغربي لعواقب هاتين الحربين على أعباء الاقتصاد الأمريكي وإنهاك قدراته، ناهيك بالطبع عن الوجه الآخر للانتقادات الخاص بأهداف وغايات هاتين الحربين المتصلة بالتوازن العالمي.

  • وفي مقابل هذه الأزمات الاقتصادية النوعية التي كان يتم استدعاؤها أحيانًا بوازع “الإنسانية” فقط، ارتفعت الأبواق عاليًا وبشدة وباستمرار مع أزمة 2007- 2008 المالية وهي نتيجة أزمة انهيار سوق العقارات في الولايات المتحدة وتداعياتها على البنوك والشركات المالية الكبرى. إنها في واقع الأمر أزمة في مركز النظام العالمي، ولما لهذا المركز من تأثيرات خارجية أضحت أزمة عالمية سرعان ما تم التكيف معها أمريكيًا وتجاوزها في موجة جديدة من موجات تكيف النظام الرأسمالي مع أزماته وليبدأ خطوات تالية في مسيرته بعد أن سحقت الأزمة في طريقها مصالح الطبقة المتوسطة في أمريكا وخارجها.
  • والمشهد الأخير الذي يمكن التوقف عنده مشهد العقد (2011- 2020)، وهو يقدم المزيد من المؤشرات عن تكاثر أزماتنا وتفاقمها –في الجنوب بصفةٍ عامة، والعالم الإسلامي بصفةٍ خاصة- تحت وطأة تزايد التدخلات الغربية الرأسمالية بأدوات القوة الصلدة والمرنة على حد سواء؛ ولو عبر استمرار عشرات الحروب الأهلية والهجرات ذات الآثار الاقتصادية والمالية والاجتماعية المدمرة على شعوبٍ عدة. 

فلقد كانت موجات الثورات العربية والحروب المضادة عليها، منذ 2011 وحتى الآن، والتي تحولت إلى حروب أهلية ممتدة في سوريا واليمن وليبيا والسودان، ذات آثار اقتصادية واجتماعية مدمرة على شعوب هذه المنطقة، كانت تلك التطورات في نفس الوقت الذي تصاعد فيه العدوان الصهيوني على الشعب الفلسطيني الذي لم تتوقف مقاومته رغم حصار غزة ورغم تفاقم الاستيطان والقسر في الضفة الغربية، ولم تكن العواقب الاقتصادية والاجتماعية بالهينة على هذا الشعب رغم استمرار مقاومته… ولا تحوز هذه الأبعاد الاقتصادية المتأزمة الانتباه الدولي اللازم إلا بقدر ما يصدر أحيانًا من صوت لمنظمات الأمم المتحدة أو منظمات المجتمع المدني الدولي الإغاثية. وفي المقابل، لا تتوقف التحليلات والتحذيرات والتهديدات أحيانًا حين يتصل الأمر بسياسات الإقراض والاستثمار الغربي في دول هذه المنطقة. فلقد وصلت هذه الدول جميعها وغيرها من دول الجنوب في آسيا وأفريقيا، إلى حافة الهاوية الاقتصادية نتيجة ارتفاع القروض والعجز عن السداد وتقييد المنح والمعونات، ناهيك عن تراجع الاستثمار الخارجي ووضع شروط مجحفة لعودته تصل إلى “شراء أصول دول ومراقبة الدين الخارجي”.

ولقد كانت أزمة كورونا من ناحية والحرب الروسية على أوكرانيا من ناحيةٍ أخرى ذات عواقب اقتصادية وخيمة على جميع هذه الاقتصاديات المنهكة أصلًا، ليس بسبب الثورات فقط ولكن بسبب السياسات الفاشلة في الدول، التي وإن لم تندلع فيها حروب أهلية، إلا أن استراتيجياتها الاقتصادية الفاشلة حالت دون تفادي الآثار الخارجية السلبية المتفاقمة. وما كان للخارج أن يتمكن إلا إذا مكنه الداخل من ذلك. هكذا يقول لنا التاريخ.

بعبارة أخرى، مع بداية العقد الثالث من الألفية الثالثة انجدلت الأزمات الاقتصادية الداخلية والإقليمية التي تمتد عبر أرجاء العالم مع أزمة اقتصادية عالمية بدأت بالكورونا، واستمرت مع “حرب أوكرانيا” التي يمكن وصفها بأنها إرهاصات الحرب العالمية الثالثة؟

  • وهنا ارتفع الحديث عن عالمية الأزمة لأنها تضرب “الكبار”، وتختبر التحولات العالمية وتوازنات القوى الدولية الجديدة.

حيث أضحت مصادر الغاز والطاقة لأوروبا محل تهديد على نحوٍ يختبر السياسات الجماعية الأوروبية وفعاليتها، وحيث أضحى الدولار يواجه تحديه الأكبر مع تغير مؤشرات الاقتصاد الأمريكي نحو “انحدار” سواء داخليًا أو خارجيًا: مثلا أكبر مديونية لأمريكا في تاريخها، وحيث أضحى الاقتصاد الروسي يُحارب الحصار الغربي بأدوات وسياسات وتحالفات جديدة، وحيث تأكدت مركزية الدور الصيني الإقليمي والعالمي في تحدي الولايات المتحدة، اقتصاديًا وأمنيًا، وفي واختبار مدى تماسك عرى العلاقات الأورو- أطلنطية، … إن جميع هذه الأبعاد الأوروبية، الأمريكية، الروسية، الصينية، هي أضلاع مربع السياسات العالمية الراهنة التي تمر بتحولاتٍ مفصلية.

ودائمًا كما يقول لنا التاريخ أن مثل هذه المراحل الانتقالية بين نظامين عالميين والتحولات من هيكل قوة عالمية إلى آخر، تشهد علاقة وطيدة من التفاعل بين الأبعاد الاقتصادية والسياسية والعسكرية العالمية، وفي قلبها نظائرها الإقليمية وعبر الإقليمية ذات الصلة. فلنقارن مثلا بين هذه السنوات منذ 2020 وبين ما قبل الحربين العالميتين الأولى والثانية وخلالهما، من حيث المؤشرات الاقتصادية العالمية: (مثلا التدفقات المالية بكافة أنواعها)، ماذا ستقول لنا هذه المقارنة عن الأزمة الراهنة: موازين التجارة الدولية، مبيعات السلاح، التحالفات الاقتصادية الغربية (الاتحاد الأوروبي، ومنظمة التعاون الاقتصادي الغربي، مؤسسات النظام المالي الرأسمالي … في مقابل الأخرى الصاعدة: البريكس مثلا وطموحاته الحالية وعلى رأسها استبدال صندوق عملة جماعية جديدة بالدولار رمز الهيمنة الأمريكية)، نموذج السياسات والاستراتيجيات الاقتصادية العالمية لكلٍ من المراكز الدولية المتنافسة، أنماط إدارة الصراعات العالمية بينهم ووزن الأدوات الاقتصادية على صعيدها.

  • وفي المقابل، وكالمعتاد تتسارع وتيرة السياسات الإصلاحية أو التكيفية للنظام الرأسمالي الغربي العالمي، سواء على مستوى المركزين الأوروبي والأمريكي أو على مستوى العلاقات بينهما ومع غيرهما من الحلفاء في الشرق والغرب…

وتتعدد المؤشرات على الأبعاد المتحاضنة لهذا التكيف، ولعل أحدثها مثلًا:

-مؤتمر باريس في يونيو 2023 عن إصلاح النظام المالي العالمي استجابةً لأزمة ديون الجنوب (قارن مع نظرائه، نادي لندن ونادي باريس، في أواخر السبعينيات…).

-ومؤتمر ميونخ السنوي للأمن الدولي 2023، ومناقشته مشاكل الدفاع العسكري الأوروبي التي كشفت عنها تحديات حرب أوكرانيا…

-مفاوضات توسيع حلف الأطلنطي شرقًا، ومؤتمر الناتو الدوري في لتوانيا (يوليو 2023).

-مظاهرات باريس (يونيو-يوليو 2023)، ضد العنصرية في فرنسا كموجة ثانية بعد موجة مناظرة في الولايات المتحدة في نهاية إدارة ترامب. وهاتان الموجتان من مؤشرات أزمة الديمقراطيات الغربية من داخل مجتمعاتها. والتي فجرتها عوامل عديدة من بينها موجات الهجرة المتتالية عبر نصف قرن التي أيقظت العنصرية الهيكلية في مجتمعات أوروبية. 

إن هذه الأبعاد الاقتصادية والسياسية والعسكرية المتلاحمة دليل على أنها أزمة حضارية شاملة يمر بها النظام الرأسمالي العالمي. ويزيد من وطأة هذه الأزمة الثلاثية ما أصاب حاضنتها الأخلاقية القيمية من تدهور:

حقيقة لا تكف الأقلام الناقدة عن الكشف عن لا أخلاقيات الممارسات الرأسمالية منذ بدايات هذا النظام وعبر حلقاته المتوالية تاريخيًا، ليس تجاه شعوب العالم فقط ولكن تجاه شعوب الغرب الرأسمالي نفسه حيث تسود الممارسات مقولتي “البقاء للأقوى” والغاية تبرر الوسيلة، والأولوية للمصالح والقوة ولا موضع للأخلاق في حماية الأمن والمصالح… وغيرها من مقولات الوضعية الواقعية التي جسدتها عموم الخبرة الحضارية الغربية.

إلا أن الأمر ومنذ عقود، أضحى يتصل بأخلاقيات وقيم وأعراف “الناس” على الصعيد الفردي والمجتمعي، حيث يتم الإسقاط المتوالي لأركان “الفضيلة” ليس الدينية فقط ولكن “الإنسانية” بصفة عامة. الأمثلة عديدة ومتراكمة عن مسار هذا الانحدار الأخلاقي المصاحب للأزمات الاقتصادية الرأسمالية (ما الفارق مع نظائرها في الخبرة الحضارية الإسلامي السابق تناولها؟).

ولقد وصل هذا المسار إلى ذروته الراهنة، مع تقنين زواج الشواذ والتربية وفق ما يسمى ثقافة اختيار النوع. فضلًا عما يتصل بالذكاء الاصطناعي وأبعاده الأخلاقية والإنسانية.

إذا كان النموذج الحضاري الإسلامي، قد ارتبطت أزماته ومسار انحداره بضعفٍ اقتصادي ومالي إلى جانب السياسي والعسكري فضلًا عن تدهور أخلاقي وقيمي، فماذا عن هذا النظام الرأسمالي العالمي الذي تزداد عناصر قوته المادية وتتهاوى نظمه الأخلاقية والقيمية.. فما المآل بالنسبة له وللعالم؟

وأمام هذا النظام الرأسمالي العالمي الذي تتصارع أبعاده الاقتصادية والسياسية والعسكرية والأخلاقية، في محاولة للخروج من المرحلة الراهنة لأزمته المعاصرة، نجد جنوبًا تصارع نظمه -وخاصةً الفاشلة– من أجل البقاء حتى ولو على حساب دمار الشعوب. إنه جنوب تلفظ نظمه المتحجرة أنفاسها، ولكن تظل مراكز مضيئة منه تقاوم من أجل النهوض والتجدد الحضاري الشامل.

فمن أين الخلاص له من مأزق أزماته الداخلية، وتداعيات الأزمات العالمية المتلاحقة عليه؟

هل ساعدت القراءة في هذه الدراسة للأبعاد الحضارية للذاكرة التاريخية للأزمات الاقتصادية للنظامين المتتاليين العالميين الإسلامي ثم الغربي الرأسمالي في البحث عن إجابة: على ضوء فقه أدق للواقع، وعلى ضوء رؤية تجديدية للفكر، وعلى ضوء إجراءات ووسائل تطبيقية أكثر فعالية ورشادة؟

الخاتمة: كيف المخرج؟

إذا كانت أوروبا القارة العجوز تحاول في أطرها الجماعية النجاة بنفسها من ضغوط الداخل والخارج على حد سواء، وإذا كانت الولايات المتحدة تحارب بكافة الأسلحة دفاعًا عن الهيمنة انطلاقًا من القوة الصلدة المغلفة بقوةٍ ناعمة، وإذا كانت روسيا تتشبث في إطار قومي أصولي بطموحات استعادة المجد السابق، مهما كانت التكلفة. وإذا كانت الصين تسير بتؤدة الثعبان وقوة التنين تبني تحالفات وقواعد قوة منتشرة بأساليب القوة الناعمة أساسًا المحاطة بأساليب القوة الصلدة…

إذن أين المخرج أمام العالم الإسلامي في قلب الجنوب اللاهث، أين المخرج من الأزمة الاقتصادية المالية العالمية التي اندلعت من مركز النظام الرأسمالي، والتي تقترن (مثل سابقاتها التاريخية) بمشهد للتحول العالمي والانتقال نحو نظام عالمي ذي هيكل قوة جديد وأجندة قضايا عالمية جديدة وأدوات قوة شديدة التغير في عصر الذكاء الاصطناعي. وفي الوقت نفسه الذي تلتحف فيه العنصرية والقومية والأيديولوجيا الرأسمالية والأصوليات الدينية بأردية متغيرة لتلائم العصر…

في وسط كل تلك السياقات، لم تتوقف أنماط المقاومة الحضارية للشعوب للخلاص من قيودٍ عديدة، ومن أجل عالم أكثر إنسانية وعدالة.

لا تكفي خبرات القرون الخمسة الأخيرة بمفردها ودلالاتها المعاصرة لتقديم إجابة وافية، فإن الذاكرة التاريخية للأبعاد الحضارية للأزمات امتدت بنا إلى القرون العشرة الأسبق. والدلالات المعاصرة لخبرات هذه القرون بدورها ذات أهمية بالنسبة لحال ومآل العالم الإسلامي الراهن. وتتلخص هذه الدلالات في الآتي:

أنماط أزمات عالم المسلمين في مراحل الصعود والتراجع، ووفق الرؤية الإسلامية ليست أنماطًا صاعدة أو هابطة فقط، فهي أنماط شرطية أي تتتابع وفق سنن شرطية سواء فيما يتصل بأسبابها أو آثارها أو سبل علاجها.

  • وهي ليست اقتصادية بحتة أو قيمية بحتة، وهي ليست اقتصادية منعزلة عن سياقاتها الاجتماعية والسياسية والثقافية، كما أنها ليست نتاج ضغوط خارجية فقط ولكن عوامل داخلية بالأساس (طبيعية وبشرية)؛ ذلك لأنها أزمات تتفاعل أسبابها في تحاضن دائري، كما أن الأبعاد القيمية الأخلاقية حاضرة إلى جانب الأبعاد المادية.
  • قد كانت الأزمات حاضرة في مراحل الصعود بقدر حضورها في مراحل التراجع أو الهبوط، ومناط الاختلاف بالأساس كان في نمط ومناط الاستجابة، فهو من الداخل، وكان حاضرًا قويًا قادرًا على إدارة التحدي في المِصر الواحد أو بين الأمصار لعلاج الأسباب الداخلية بالأساس (طبيعية، حروب، فساد) ولم تكن تأثيرات الخارج معجزة أو مانعة عن مواجهة الأزمة؛ حيث لم يكن اقتصاد الأمة في مرحلة الصعود يعتمد على الخارج، ولم يتوقف نموه -بحكم طبيعته- على امتدادات خارجية، عكس النظام الرأسمالي منذ نشأته.

بعبارةٍ أخرى، بقدر استقلال وقوة نظمنا الاقتصادية والاجتماعية في مرحلة الصعود الحضاري كانت قدراتها على الاستجابة لوطأة الأزمات وتجاوزها كبيرة، إلا أنه كلما تناقصت وضعفت الاستقلالية والقوة والوحدة زاد اندماجنا في اقتصاد عالمي (ولو بالتدريج منذ أربعة قرون) واستحكمت روابط تبعيتنا لنظامٍ رأسماليٍ عالمي. ومن ثم أضحت أزماتنا تأخذ منحى آخر يتأثر بقوة بالخارج، وإن ظل المحك هو الداخل وما آل إليه تحكُّم قوى الفساد والظلم والاستبداد المتحالفة مع قوى ومصالح الخارج على الأوطان. ومن هنا تراكم الفشل في التصدي للأسباب الداخلية والخارجية لأزماتنا.

ولذا؛ من الجدير بالتذكرة أن “الخارجي” ليس هو السبب الأصيل في أزماتنا الاقتصادية، على امتداد أوطان ودول الأمة، فلقد كان حاضرًا دائمًا بتهديداته وتحدياته عبر تاريخنا، تاريخ مراحل القوة والوحدة، ولكن استطعنا بدرجات متنوعة إدارة أزماتنا وتحييد تدخلاته العسكرية والثقافية بل والاقتصادية، وذلك بفضل منظومات أدوات وكيانات الداخل وأدوارها الحضارية، ولو في ظل ملك عضود.

ومن ثم، فإن وزن تأثير الخارجي على أزماتنا الحضارية لا يقاس بطبيعته فقط ولكن مقارنةً بطبيعة الداخل، فإن الأخير هو مناط المقاومة للأزمات أو الاستكانة للتدخلات الخارجية لتوظيفها.

وفي المقابل، فإن أزمات النظام الرأسمالي العالمي -الذي اتضح كيف أن امتداداته الخارجية هي مناط استمراره قويًا- تخضع بدورها لتفسيرات متعددة وسيناريوهات متنوعة، وكذلك الأمر بالنسبة إلى مآلات النظام ذاته الذي دخل مرحلة خبو وتراجع في هيمنته ومركزية قيادته الغربية-الأمريكية. ومن ثم دخول العالم مرحلة تداول حضاري جديدة من حضارة غربية رأسمالية إلى حضارة…؟

إن مشاركة أمتنا العربية الإسلامية في عملية التداول الجارية الآن تحتاج شروطًا سننية عدة ليتحقق من جديد النهوض الحضاري لهذه الأمة. فهي أمة باقية، وليست كالأمم الأخرى تنوء الآن بالأزمات الطاحنة، أزمات تمثل ذروة منحنى التدهور المستمر منذ خمسة قرون. والعامل المحفز والمستمر لهذا الانهيار الحضاري الآن هو الظلم والفساد وعدم الشرعية السياسية للنظم، والتآكل الأخلاقي والقيمي للمجتمعات، في ظل تفشي الجهل والفقر والمرض. ومن ثم، فإن إصلاح الإنسان، وليس ضخ الأموال، هو مناط التجديد الحضاري وحل الأزمات الحضارية وفي قلبها الأزمات الاقتصادية.

ولقد تعددت الكتابات الفكرية والأكاديمية الراهنة عن “المنهاجية الإسلامية ومعالجة الأزمة الاقتصادية العالمية”، “الاقتصاد الإسلامي في مواجهة الأزمة العالمية”، “دور النظام والمؤسسات المالية الإسلامية في حماية الاقتصادات الإسلامية من الأزمات”، “الاقتصاد الإسلامي كبديل عن الاقتصاد الرأسمالي في حل الأزمات الاقتصادية”، “الحل الإسلامي لأسباب الأزمة الاقتصادية العالمية”…إلخ. ولكن يظل السؤال قائمًا: أين موضع هذه الدراسات من التطبيق الفعال والتأثير الملموس؟ ولماذا رغم تعدد الاجتهادات مازلنا نخوض -شعوبًا ونظمًا- في بحور الأزمات المتعاقبة التي تهدد أجيالا قادمة ثقافيًّا وصحيًّا وتعليميًّا، بل وجودًا؟ هل لأن جميعها ما زالت أفكارًا نظرية لا متسع لتطبيقها لأسبابٍ كثيرة وعلى رأسها الأسباب السياسية، أم لأنها تركز على علاج أزمة النظام الرأسمالي في حين يجدر الاهتمام بمناطنا الداخلي أولًا؟

ومن ثم، نظل ندور في حلقاتٍ مفرغة ونحن نجتهد لفهم “الأزمة العالمية الراهنة”، دون أن نعمل لكسر هذه الحلقة المفرغة لإخراج العالم كله من أسر هذه الرأسمالية المتوحشة التي تفترس الإنسان في كل مكان في العالم، لدرجة وصلت بنا الآن إلى مواجهة سيناريوهات قوى عالمية، منظورة وغير منظورة، تتحدث صراحةً عن أن تخفيض عدد سكان الكرة الأرضية ضرورة حتمية وبأساليب متنوعة. هل منها أزمات الأمراض العابرة، والمجاعات المتراكمة والممتدة، والحروب الأهلية الطاحنة عبر الأقاليم… إلخ؟! 

لقد قدم لنا أعلام تراث فلسفة التاريخ الإسلامي، أمثال الأسدي، المقريزي، ابن خلدون، مسالك العلاج بقدر ما قدموا شروحات الأسباب (كما سبق البيان)، وقدم لنا أعلام الفكر الإسلامي الحضاري المعاصر تراكمًا اجتهاديًا منضبطًا بظروف العصر عن الأسباب والمخارج أيضًا.

وبالطبع تنوع هؤلاء الأعلام من حيث الأولويات: سياسية، أم اقتصادية، أم تربوية… ولكن اجتمعوا بوضوح على أولوية الداخل، وعلى أولوية القيم والأخلاق والوعي الحضاري بالذات والتجديد.

أُضيف هنا خلاصة لما سبق تناوله بمزيد من التفصيل: أن التغيير العالمي من أجل عالم أكثر عدالة وإنسانية ليس مطلب شعوب العالم الإسلامي فقط، بقدر ما هو مطلب شعوب العالم أجمعها… وهذا يتطلب رؤية شاملة حضارية تؤكد اندماجية وتكاملية ثلاثية (القوة – القيم – المصالح) على مستوى الأمم والجماعات والشعوب وليس الحكام والساسة وأصحاب الثروات والعسكر فقط.

فهذه الرؤية الحضارية الشاملة للتغيير تتسع لكثير من مساحات وفرص العمل والتأثير من “غير الكبار”، ومن خلال إعادة النظر في أدوات وعناصر القوة القادرة على إحداث تغيير وتجديد في الأمم وعبر حدودها.

إن الغاية في العالم الإسلامي هي الإصلاح وليس التغيير العنيف الدموي الاستئصالي، والحاجة ماسة لدولة تقود مشروع النهوض والتجديد، على مستوى الأوطان وعبر الأقاليم، حتى يعم الأمة كلها، والحاجة أمسُّ لنموذج حكم رشيد، يستند إلى شرعية ومشروعية من المجتمع ويستند إلى عناصر قوة اقتصادية وعسكرية تكون قادرة على تحقيق استقلالية تفاعلية مع الدول الأخرى. 

الحمد لله

يوليو 2023

 

فصلية قضايا ونظرات – العدد الثلاثون – يوليو 2023

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى