الدولة ونظام الحكم في أمريكا اللاتينية

 مقدمة:

بطبيعة الحال فإن تجارب الدولة ونظم الحكم في أمريكا اللاتينية وقضاياها المركزية المتعلِّقة بالنموذج الاقتصادي والمجادلة النظرية والعملية الخاصَّة بالتبعيَّة الاقتصاديَّة والنموذج النيوليبرالي الذي حاول فرض نفسه على دول ما بعد الاستقلال، وكذلك استخدام هذا النموذج للأنظمة العسكرية والنُّخب المحلية لضمان سطْوته في دولة ما بعد الاستعمار أو لنقُل دولة ونخب الاستعمار الجديد، وطبيعة الأنظمة السياسية وتحولاتها وتطوراتها بعيدًا عن النظام الملكي الذي كان في دول الاستعمار السابق، وكذلك الخطابات السياسية وتطوراتها وتأرجُحها ما بين اليمين الشعبوي والخطاب المعتدل للحركات العمَّالية والاجتماعية وكذلك بعض خطاب اليسار الشعبوي أيضًا، كل هذه القضايا محورية في دراسة النظم السياسية وتحوُّلاتها الديمقراطية.

وفي هذه الورقة نعرض خمس دراسات باللغة العربية حول النظم السياسية في أمريكا اللاتينية، من خلال التوضيح والتحليل وتحديد جوانب الإفادة التي يمكن استخلاصها من تلك التجارب التي تمكَّن الكثيرُ منها من الفكاك من التبعية للمركزية الأوروبية والغربية عمومًا وتخلَّص من الأنظمة العسكرية، واستطاعت بعضُ دول أمريكا اللاتينية كتابة تاريخ مغاير لما أراده الاستعمار وتوابعه لها، وأعادت بناء نظامها السياسي والحزبي ولا تزال في مجادلةٍ مع النظام الاقتصادي النيوليبرالي الذي يُراد تعميمُه، وتقدِّم نماذج ناجحة أحيانًا وتتراجع في أحيان أخرى.

  • العسكريون والحكم في أمريكا اللاتينية[1]:

تجادل الورقة بأن العسكريِّين شكَّلوا طبقةَ الحكْم خلال فترة ما بعد الاستقلال وذلك لدورهم في حروب التحرير في معظم دول أمريكا اللاتينية منذ أواخر القرن التاسع عشر وحتى الثمانينيات من القرن الماضي حيث كانت أنماط الحكم المدنية الأخرى تُعَدُّ استثناءات، وكانت المقولة السائدة أن رئاسة الجمهورية هي أعلى الرتب العسكرية، ووجد هؤلاء العسكريون في الجيتو الاجتماعي المنعزل القادمين منه ظهيرًا اجتماعيًّا مفسِّرًا لاستقرار سلطة العسكر، حيث شكَّل العسكريون طبقةً حاكمةً منغلقةً تهدف إلى الحفاظ على مصالحهم واستمرار بقائهم في الحكم.

وتُشير الورقةُ إلى ما كان يجري من تكويد القيادات أو تحويلها لكودرمز وطني، بحيث تصْبح الزعامات والقيادات هي مصدر تشريع التصرُّفات الاجتماعية والسياسية وغيرها، بعض هذه القيادات كانت رمزًا للاستبداد وبعضها الآخر ارتبطت رمزيَّته وزعامته بعلاقته الشعبوية بالجماهير، ومع ذلك فجميع هذه النظم العسكرية ظلَّت حاميةً للنظام الرأسمالي السائد وأدوات لتعميقه والدفاع عن مصالح الطبقة الحاكمة.

الفيصل في استقرار حكم العسكر لفترة طويلة في هذه المنطقة يتمثَّل في الدعم الأمريكي لهذه الأنظمة العسكرية في مواجهة المطالب الاقتصادية والاجتماعية التي كانت تمثِّلها الحركات الاجتماعية وأحزاب اليسار في القارة والتي كانت الولايات المتحدة تقاومها بكلِّ الطرق في سبيل الحفاظ على الوضع القائم في بلاد اعتبرتها حديقتها الخلفية لعقود، بل إنها -وحتى في أوج دعوتها للديمقراطية في الألفية الجديدة- دعمت انقلابًا عسكريًّا ضد هوجو تشافيز في فنزويلا عام ٢٠٠٢ ولم يستمر سوى ٤٨ ساعة وكذلك دعمت الانقلاب العسكري في هندوراس في ٢٠٠٩.

  • من الحكم العسكري إلى الديمقراطية.. العلاقات المدنية العسكرية في أمريكا اللاتينية[2]:

تقدِّم الورقة محاولة رصدية تحليلية للإجابة على تساؤلات حول طرق انتهاء الحكم العسكري المباشر في أمريكا اللاتينية، وعن طبيعة العلاقات المدنية -العسكرية الجديدة في بلدانها، وطبيعة الدور الحالي الذي تقوم به القوات المسلحة في تلك المنطقة.

وتعطي الورقة وصفًا دقيقًا للانقلابات العسكرية في أمريكا اللاتينية عبر دراسة إحصائيَّة لعدد الانقلابات العسكرية في دول القارة اللاتينية الثمانية عشر والتي شهدت وفقًا للدراسة ١٥٩ انقلابًا عسكريًّا منذ عام ١٩٠٠ وحتى نهاية التسعينيَّات بمتوسِّط يقترب من تسعة انقلابات لكلِّ دولة على حدة، مع تفاوت بين دول شهدت انقلابيْن عسكريَّين فقط كما في أوروجواي وكوستاريكا، ودول أخرى شهدت أكثر من خمسة عشر انقلابًا مثل بوليفيا وباراجواي والإكوادور.

ثم تنتقل الورقة إلى طرق انتهاء الحكم العسكري المباشر من أمريكا اللاتينية وتشير إلى قائمة من امتيازات للمؤسَّسة العسكرية التي بقيتْ بعد التحوُّل من الحكم العسكري إلى الديمقراطي، والتي منها: تعليق الحماية القضائية للحريات والحقوق المدنية خلال حالات الطوارئ، وتعريف الأمن الداخلي والأدوار السياسية للقوات المسلحة في الدستور الذي جعل من القوات المسلحة -افتراضيًّا- الفرع الرابع للأوصياء الحكوميِّين على الأمة، والمحاكمات العسكرية للمدنيِّين بتهمة ارتكاب “جرائم ضد الأمن الداخلي والإرهاب” أو حتى إهانة الضباط، وتمثيل رسمي للقوات المسلحة في صنع السياسات على سبيل المثال في الكونغرس والقضاء والأجهزة التنفيذية والإدارة العامة والمؤسسات العامة، والاستقلال الذاتي الدستوري والقانوني الواسع للجيش من الرقابة على المسائل المهنية الداخلية مثل الميزانية والتعليم العسكري والترقيات والتقاعد.

كان هذا في المراحل الأولى للتحوُّل الديمقراطي ثم تراجعت تلك الامتيازات خلال السنوات التالية للتحوُّل الديمقراطي، ولم يكن الأمر سهلًا بطبيعة الحال بل ظلَّ العسكريُّون يمارسون بعض الأدوار السياسية خلال السنوات الأولى من التحوُّل للحكم الديمقراطي. وبالإشارة لأنماط التحوُّل الديمقراطي تُشير الورقةُ إلى ثلاثة أنماط هي:

١- الانقسامات داخل الحكومة العسكرية، الناجمة عن الخلافات بين مكوِّناتها المختلفة.

٢- اتفاق / معاهدة بين النخب: وهو مسار أسهل وأكثر إنجاحًا للديمقراطية، ويؤسِّس لصيغةِ تبادُل السلطة المُتَّفق عليها، وكيفية توزيع المناصب القيادية في الدولة.

٣– التفاوض بين الحكومات العسكرية والمدنيِّين: لضمان استمرار دوْرهم في العملية السياسية وحماية أنفسهم من المحاكمة عن الجرائم التي ارتُكبت خلال حكمهم، كما حدث في تشيلي والبرازيل. وتمتازُ هذه الصيغة الانتقالية بتقليل الصراع بين المدنيِّين والعسكريِّين، ولكن التقدُّم في الحالة الديمقراطية يكون ضعيفًا.

بنهاية الحكم العسكري المباشر لدول أمريكا اللاتينية، تغيَّر نمطُ العلاقات المدنية-العسكرية، حيث إن القدرة على تحقيق الرقابة الديمقراطية على القوات المسلَّحة تتوقَّف وبشكل عام على مدى نضج العملية الديمقراطية. فهناك نماذج شهدت تغيُّرًا جذريًّا -وإن كان عبر سياسات مؤسَّسية تدريجيَّة- في نمط تلك العلاقات وصل إلى حَدِّ إلغاء الجيش كما في كوستاريكا لتجنُّب أيِّ تدخُّل للقوَّات المسلَّحة في السياسة، واستثمار البنود المالية المخصَّصة للدفاع في قطاعات التعليم والصحة العامة. أو حالات العودة النهائية إلى الثكنات بعد خسارات المؤسَّسة العسكرية لسُمعتها وهيْبتها وتحالُفاتها الانتخابية، كما في الأرجنتين والبرازيل وأورجواي، وربما بوليفيا والسلفادور عبر الخفض المتزايد للصلاحيات العسكرية واستغلال ملف حقوق الإنسان أثناء الحكم العسكري لتنفيذ هذا الخفْض.

النمط الآخر هو الديمقراطية المدرَّعة وهو وضعٌ يقوم فيه الجيش -أو يُدْعَى للقيام- بدور الوصي Guardian أو المحكِّم Arbitrator فيما يتعلَّق بالمؤسَّسات الديمقراطية التي عادت رسميًّا، ويتواجد في سياق تتميَّز فيه الحكومات الديمقراطية بالضعف وتستمر فيه الصراعات السياسية بين السياسيِّين المدنيِّين، ومثال على هذا حالات تدخُّل الجيش لإبْعاد رؤساء من السلطة قبل انتهاء مددهم الرئاسية التي شهدتْها هندوراس وباراجواي، ضدَّ كلٍّ من مانويل زيلايا عام ٢٠٠٩، وفرناندو لوجو عام ٢٠١٢، حيث لم يتمَّ تصنيف ما حدث على أنه انقلاب عسكري بل سمَّاه البعضُ انقلابًا برلمانيًّا أو انقلابًا دستوريًّا.

  • النظم الرئاسية واستقرار الحكم في أمريكا اللاتينية[3]:

تناقش الورقة مدى نجاح النُّظم الرئاسية في أمريكا اللاتينية في تحقيق الاستقرار السياسي، وتبدأ بمقولة تأسيسيَّة حول أن أيًّا من أنظمة أمريكا اللاتينية لم تشهدْ نظامًا برلمانيًّا ناجحًا، وتستخدم الدراسة المنهج المؤسَّسي لشرح وتحليل الأنظمة الرئاسية، فهي تشير لعلاقات القوة المؤسَّسية بين مؤسَّسة الرئاسة والمؤسَّسة الدستورية والقضائية والمؤسَّسات الحزبية والنظام الحزبي.

ووفقًا للورقة فالأنظمة السياسية في القارة اللاتينية تبني قوَّتها من قدرة الرئيس على استعمال القرارات والمراسيم الرئاسية Proactive power والتي تعطي الرئيس صلاحيات إصدار تشريعات وقوانين لها قوة تنفيذية حتى لو لم يكن لديه الأغلبية الحزبية في الكونجرس أو البرلمان الوطني، وتشير الدراسة لنجاح تجارب مثل البرازيل في تحقيق استقرار عبر هذا النوع من السياسات، وفي حالات أخرى يتمتَّع الرئيس بسلطة الاعتراض على القوانين Reactive Power، والتي تعطي للرئيس قدرة على الحفاظ على الأمر الواقع لأكبر فترة ممكنة ولا يمكن تجاوز اعتراضه إلَّا بأغلبية تتفاوت من أغلبية بسيطة في بعض الحالات أو مطلقة (٥٠٪+١) في حالات ثانية أو أغلبية الثلثين في حالات أخرى، وتشير الدراسة إلى أهمية توزيع القوة داخل النظام السياسي والتفاعل بين العناصر المؤسَّسية في بِنية أيِّ نظام سياسي دون ترجيح إمكانية تطبيق هذا النظام في بلدان خارج القارة تختلف فيها السياقات الاقتصادية والاجتماعية.

ولا تُشير الدراسة إلى ما إذا كانت هناك جدوى لتطبيق هذه الأنظمة الرئاسية في فترات انتقالية، وهنا تقع الإشكالية حيث يكون الصراع في الفترة الانتقالية على تحديد دستوري وقانوني لشكل وبنية النظام السياسي وتفاعلاته التي قد تستمرُّ لعقود، لكنها تُشير بين السطور لأهمية تمتُّع الأنظمة الرئاسية بالأغلبية التشريعية وكذلك الالتزام الحزبي والنظام الحزبي نفسه، وأهمية القيود على البقاء في السلطة سواء للرئيس أو أعضاء المجالس التشريعية، وتعطينا تجربة كوستاريكا نموذجًا رئاسيًّا هو الأنجح حيث لا يمكن إعادة انتخاب النواب التشريعيِّين لفترتين متتاليتيْن، كما لا يمكن انتخاب الرئيس إلَّا لفترة واحدة، وكذلك الحال في المكسيك مع إمكانية أن يحدِّد الرئيس من يترشَّح خلفًا له من حزبه، وهي أمثلة جيدة لتقييدها الفترات الرئاسية والتشريعية، ضمن الضوابط المؤسَّسية للتغلُّب على أزمات النظام الرئاسي.

 

 

  • السياسات النيوليبرالية في أمريكا اللاتينية.. تحوُّلات النظم الحزبية ومسارات التعبئة الجماهيرية[4]:

منذ نهاية التسعينيَّات أصبح الصراع الاجتماعي ضدَّ سياسات النيوليبرالية هو السِّمة المميِّزة للعملية السياسية بالقارة اللاتينية، حيث مثَّل صعود تشافيز في فنزويلا ١٩٩٨، ثم توليدو في بيرو ٢٠٠١، ولولا دا سيلفا في البرازيل ٢٠٠٢، وكريشنار في الأرجنتين ٢٠٠٢، وباسكيس في أوروجواي ٢٠٠٤،  وموراليس في بوليفيا ٢٠٠٥ ودانييل أورتيجا في نيكاراجوا ٢٠٠٦، وميشيل باشليه في تشيلي ٢٠١٣، حجَّة مضادَّة للخطاب الانتصاري للسياسات النيوليبرالية.

تحاجج الورقة بأنه عند إضافة تجارب أخرى من دول المنطقة لا يمكن مد التحليل الاجتماعي الماركسي القائل بحتمية مناهضة النخب النيوليبرالية، وأن ردود الفعل المجتمعية المناهضة للنظم النيوليبرالية، تحتاج لطرح مفسِّر لسؤال لماذا أدَّت السياسات النيوليبرالية إلى حركات احتجاجية عارمة أعادت تعريف التمثيل السياسي والاجتماعي خارج البرلمانات والتوازنات الدستورية القائمة في بعض الحالات، بينما أدَّت نفس السياسات في سياقات أخرى إلى نوع من التماهي والخنوع، أو تحسين شروط القبول لأُسس النظام النيوليبرالي على أحسن تقدير؟

وتقدِّم الدراسةُ تحليلًا يفيد بأن الصراع الاقتصادي له سياقٌ اجتماعيٌّ سياسيٌّ حاضنٌ متمثِّلٌ في الجذور الاجتماعية للأنظمة الحزبية في حقبة الثمانينيَّات، وعمق الأزمة الاقتصادية والتوجُّهات السياسية للقيادات، وأدَّى التفاعل بين هذه المتغيِّرات لإعادة تشكيل الصراع السياسي عبر النظام الحزبي على أُسُسٍ أيديولوجية وفقًا لمحوري اليمين واليسار؛ ما ساهم في إسقاط العديد من الأنظمة اليمينية النيوليبرالية، حيث كانت الأنظمة الحزبية مؤسَّسة على أُطُرٍ إمَّا طبقيَّة أو عمَّاليَّة شديدة الاستقطاب حول السياسات الاقتصادية، إذ خلَّفت سياسات التصنيع طبقةً وسطى وقيادات عمالية قوية، ولعب اليسار دورًا في تنظيم الحركة العمَّاليَّة وإحداث مكاسب تراكميَّة جدِّيَّة، وفشلت بعض النظم الحزبية النخبوية في البلدان التي لم يتمَّ تحديثها صناعيًّا في تصعيد أحزاب جماهيرية أو حركات عمَّاليَّة؛ ما قاد للتعايش مع السياسات النيوليبرالية.

ومع الانتقال من نموذج الدولة التنموية المتدخِّلة لنموذج الدولة المتخلِّية التابعة للمؤسَّسات المالية الدولية أُعيد ترتيب العلاقة بين الدولة والمجتمع ومثَّل هذا تحديًا للنظم الحزبية، وفقدت الأحزابُ جزءًا كبيرًا من قاعدتها التصويتيَّة، وأصبحت هناك أُسُسٌ موضوعية مغذِّية للخطاب اليساري الاحتجاجي الشعبوي، بالذات مع فشل سياسات التحرير الاقتصادي والتثبيت الهيكلي في تحقيق أهدافها المعلنة، بل وتناقض بعض السياسات مع البرامج والخطابات الحزبية الانتخابية.

وفي مرحلة ما بعد التكيُّف الهيكلي أُعِيدَ تشكيلُ النُّظم الحزبية إذْ قادتْ سياسات التكنوقراط لخضوع الأحزاب اليمينية وأحزاب الوسط للسياسات النيوليبرالية في بعض الحالات، وانهيار النظام الحزبي في حالات أخرى لصالح حركات اجتماعية أكثر التزامًا من الناحية الأيديولوجية بمقاومة النيوليبرالية.

ووفقًا لتنوُّع الخيارات المؤسَّسية للنظم الحزبية في تعاملها مع السياسات النيوليبرالية فقد كانت استجابتها لردود الفعل الجماهيرية مختلفة، فقد أدَّى السماح بالتعدُّدية الحزبية والحريات النقابية بالتوازي مع السياسات النيوليبرالية، إلى محاولات تنظيميَّة جيِّدة؛ الأمر الذي قادَ إلى استيعاب المعارضة الاجتماعية في بعض الحالات ضمن الإطار الحزبي كما في تشيلي وأوروجواي والمكسيك وكوستاريكا.

  • أمريكا اللاتينية.. من الشعبوية الكلاسيكية إلى الشعبوية الجديدة[5]:

تناقش الورقة مفهوم الشعبويَّة وتطوُّراته التطبيقيَّة في التجربة اللاتينية باعتبارها معملًا مليئًا بالتجارب الشعبويَّة التي تقوم على وجود قائد أو حركة قائدة للجماهير خارج الأطر المؤسَّسية التقليدية، ومحاولة فهمها وتصنيفها في سياق تطوُّرات اقتصادية واجتماعية حاضنة.

وفي هذا الإطار تميِّز الورقة بين: 1) شعبوية عضوية كما هو الحال في المكسيك، حيث تطوَّرت الشعبوية مؤسَّسِيًّا عبر الحزب القومي الثوري وخطابات مجابهة النيوليبرالية وإقرار سياسات للإصلاح الزراعي ومواجهة الإقطاع وخلق كتلة مجتمعية مؤيِّدة للسياسات الحكومية على الدوام بضمِّها عضويًّا للحزب الحاكم. 2) شعبوية العمال في الأرجنتين ما بين ١٩٤٦ و١٩٥٥، حيث أنشأ بيرون تنظيم الاتحاد العام للعمال واستغلَّه لمساندته في السلطة وتعامل معه كحزب سياسي من دون الفواعل الاجتماعية الأخرى. 3) الشعبوية الحزبية كما في حالة التحالف الشعبي الأمريكي في بيرو، والذي قام بخلق شعورٍ جماعيٍّ بالانتماء لجماعة محدَّدة بين عمَّال مصانع السكَّر ومزارعي القصب للحفاظ على التنظيم. 4) أخيرًا شعبويَّة الانتخابات المرتبطة بقدرة أشخاصٍ على تحريك الجماهير في المواسم والحملات الانتخابية دون الحاجة إلى تنظيم، أي بعلاقةٍ مباشرةٍ بين القيادة والجماهير دون الحاجة لمؤسَّسة وسيطة.

وترى الدراسة أن التحوُّلات الاقتصادية من سياسة إحلال الصناعات محل الواردات إلى السياسات النيوليبرالية كانت طريقًا وحاضنةً للتحوُّل الذي تمَّ من الأنماط الثلاثة الأولى للشعبويَّة إلى نمط الشعبويَّة الانتخابيَّة التي صاحبت سياسات الانفتاح الاقتصادي النيوليبرالي.

المفارقة هنا أن رموز التيارات الشعبويَّة الكلاسيكيَّة والذين يُفترض بهم تمثيل القطاعات المهمَّشة من الجماهير المقهورة، كانت هي من قامت بتمرير السياسات النيوليبرالية كسياسة أمرٍ واقعٍ أو علاجٍ مُرٍّ للأزمات الاقتصادية، ما أدَّى لانفصالها عن قواعدها الشعبيَّة وعدم قدرتها على تجديد الحركات الشعبويَّة بل ونفْي أو محاكمة رموزها في أكثر من تجربة.

لكن السياسات النيوليبرالية خلقت خطابًا شعبويًّا مناهضًا لها ومنتميًا لمهمَّشِي المدن والقطاعات غير الرسمية المعادِين للنُّخب التقليدية والمستبْعدين من مؤسَّسات الديمقراطية التمثيليَّة، وأبرز الأمثلة على صعود هذا الخطاب الشعبوي الانتخابي الجديد لألبرتوفوجيموري في بيرو في التسعينيَّات. وكذلك خطاب هوجو تشافيز في فنزويلا، والذي استطاع التحوُّل من الشعبويَّة الانتخابيَّة للشعبويَّة التنظيميَّة، عبر فرْضه لتغيير النظام الحزبي واستخدامه لتنظيم حركة الجمهورية الخامسة لكسْر الاحتكار الثنائي للسلطة من قبل الحزبين الرئيسيَّين في البلاد، وهو ما قادَ لبقائه في الحكم في الفترة من ١٩٩٨ إلى ٢٠١٣ عبر سلطة المجالس الجماعية أو سلطة الشعب المكوَّنة من ٣٣ ألف مجلس يتكوَّن كلٌّ منها من حوالي ٤٠٠ أسرة، وبالتوازي مع هذا كانت البرامج الاجتماعية الوسيلة الرئيسية لتعبئة المهمَّشين، والحال نفسه ينطبق على البرازيل والأرجنتين وأورجواي، حيث شهدت كلٌّ منها صراعًا بالنقاط وليس الضربة القاضية في ساحة السياسات الاقتصادية والاجتماعية، وحققت الحركات العمَّاليَّة إنجازات متراكمة أعطتْ خطابها السياسي زخمًا.

خاتمة:

يمكن القول إن البقاء تحت حكم الأنظمة العسكرية ليس قَدَرًا، وهو غير قابل للاستمرار للأبد في منطقتنا أو أيِّ منطقة أخرى من العالم، لكن لا يمكن تحييد حكم العسكريِّين والتخلُّص منه دون فَكِّ الارتباط بين الجيش والطبقات الاجتماعية الحاكمة، وذلك بتفكيك منظومة الرشاوى والفساد والواسطة التي تحكم عمليات دخول الكليات العسكرية والشرطية، من خلال تشريع قوانين صارمة حتى لا تكون المناصب مركَّزة في يدِ عائلاتٍ ومناطق معيَّنة في البلاد، وأن يُنظر إلى هذه العملية في إطار عملية أوسع لهيكلة وإصلاح الجيوش وإعادة توزيع السلطة بعدالة عن طريق معايير أقرب للكفاءة وليست للولاءات العائليَّة والطبقيَّة للضبَّاط.

بالتوازي مع ذلك فإن الإصلاحات التشريعية والدستورية شديدة الأهمية، لتنظيم علاقات القوة المؤسَّسية بين مؤسسة الرئاسة والمؤسَّسة الدستورية والقضائية والجيش والأمن والمؤسَّسات الحزبية والنظام الحزبي، وهي عوامل استقرار أوليَّة محدِّدة لوجود واستمرار أيِّ نظام سياسي وقدرته على الإنجاز في الميدان الاقتصادي والاجتماعي والحفاظ على شرعية إنجاز بجوار الشرعية الدستورية والانتخابية لكي يستطيع الصمود في مواجهة ثورات التطلُّعات الكبرى لدى الجماهير وبالذات في أوقات التغيير الكبرى.

تقتضي أية محاولة لمأسسة التحوُّل الديمقراطي أو إدارة العلاقات المدنية العسكرية دراسة أنماطها وتحوُّلاتها وسياقاتها بشكل أكثر تفصيلًا، ويمكن للحركات القائمة بهذه المحاولات أن تُخَصِّصَ باحثين أو كوادر لدراسة تلك الحالات باستفاضة أكبر وإجْراء مقارنات تفصيليَّة بين السياقات والأدوات وتوزيع القوة ومصادرها وآليات تفكيك وفهم بنية تلك الأنظمة.

وعلى الرغم من أهمية الخطابات الشعبوية في بعض المراحل والفترات الانتقالية والانتخابية، فإنَّها تشكِّل خطرًا على النظام السياسي الديمقراطي وعلى استقرار العلاقة بين الدولة والمجتمع وهدم فكرة المؤسَّسية، وإن نجحت في إبقاء قيادات شعبوية في السلطة، ولذا من المهم الاستفادة من الخطاب الشعبوي في قدرته على الحشد والتعبئة وفي جانب السياسات الاجتماعية؛ وفي هذا فالقارة اللاتينية تقدِّم تجارب رائدة لتحسين الخدمات العامة الصحية والتعليمية وبرامج للحماية الاجتماعية وحقوق العمال.

وإذا كان التاريخ معملًا لباحثي العلوم السياسية فإن القارة اللاتينية معملٌ أساسيٌّ لدارسي النظم السياسية وبالذات العلاقات المدنية العسكرية وتفاعلاتها، وإعادة تشكيلها للسلطوية، والعلاقات بين الدولة والمجتمع، وبين الجيش والبيروقراطية، وبين الدولة والطبقة الحاكمة من كبار البيروقراطية ورجال الأعمال المؤسِّسين لهيكل الرأسمالية المحلية، وعليه فإن فهم هذه العلاقات وأنماطها مفيد في عملية إعادة تفكيك وفهم السلطوية وديناميكيات عملها ونقاط ضعفها وكيفية إضعافها والقضاء عليها لصالح أنظمة أكثر عدالة وديمقراطية عبر سياسات اقتصادية واجتماعية مغايرة للنمط السائد.

 

فصلية قضايا ونظرات – العدد الثامن والعشرون – يناير 2023

__________________

الهوامش

[1] نجلاء سعيد مكاوي، العسكريون والحكم في أمريكا اللاتينية، مجلة الديمقراطية، مؤسسة الأهرام، المجلد 13، العدد 52، أكتوبر 2013.

[2] عبد الله فيصل محمد علام، من الحكم العسكري إلى الديمقراطية: العلاقات المدنية العسكرية في أمريكا اللاتينية، مجلة المستقبل العربي، مركز دراسات الوحدة العربية، المجلد 38، العدد 444، فبراير 2016.

[3] شيماء حطب، النظم الرئاسية واستقرار الحكم في أمريكا اللاتينية، مجلة الديمقراطية، مؤسسة الأهرام، المجلد 18، العدد 70، أبريل 2018.

[4] شيماء حطب، السياسات النيوليبرالية في أمريكا اللاتينية: تحولات النظم الحزبية ومسارات التعبئة الجماهيرية، مجلة الديمقراطية، مؤسسة الأهرام، المجلد 15، العدد 59، يوليو 2015.

[5] شيماء حطب، أمريكا اللاتينية: من الشعبوية الكلاسيكية إلى الشعبوية الجديدة، مجلة الديمقراطية، مؤسسة الأهرام، المجلد 16، العدد 62، أبريل 2016.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى