التسوية الأذرية – الأرمينية: تنافس النفوذ الروسي – التركي

مقدمة

جدد اندلاع الحرب الأخيرة التي شهدتها منطقة ناغورنو كاراباخ في شهر سبتمبر من عام ٢٠٢٠م[1]، بين أذربيجان وأرمينيا، الاهتمام العالمي بمنطقة جنوب القوقاز الواقعة في مفترق طرق استراتيجي يتلاقى فيه نفوذ ثلاث قوى إقليمية متنافسة هي؛ روسيا وتركيا وإيران. وبعد ستة أسابيع من القتال الضاري بين الجانبين، تم التوصل إلى اتفاق سلام بوساطة روسية منفردة، وقد استبعدت كل من فرنسا والولايات المتحدة اللتان كانتا من المزمع مشاركتهما فيها بوصفهما يترأسان مع روسيا مجموعة مينسك (المجموعة التي تقود جهود منظمة الأمن والتعاون الأوروبي OSCE لحل أزمة ناغورنو كاراباخ)[2]. وبدا أن أهم بنود هذا الاتفاق هو احتفاظ أذربيجان بما استعادته من أراضي الإقليم المتنازع عليه خلال الاشتباكات، والأهم من ذلك، نشر قوات روسية لحفظ السلام في المنطقة بمشاركة تركية[3].

لا شك أن أذربيجان قد خرجت رابحة من هذه الجولة الأخيرة، فقد نجحت في استعادة جزء كبير من الأراضي الآذرية التي فقدتها عام ١٩٩٤م لصالح أرمينيا، وثبتت أقدامها هناك باتفاقية وقف إطلاق نار ترعاها كل من روسيا وتركيا. أما تركيا، فقد أثبتت أهميتها كقوة إقليمية لا يُستهان بها، حيث أظهرت الحرب أهمية الدعم التركي لأذربيجان، خاصةً على المستويين العسكري والسياسي. من ناحيةٍ أخرى، حققت روسيا بعض المكاسب أيضًا، فقد استطاعت حماية حليفتها أرمينيا من مصير أسوأ بكثير، وقامت بالتوسط منفردة في التوصل إلى اتفاق سلام بين البلدين، كما عززت تواجدها العسكري المباشر من خلال قوة حفظ السلام الروسية التي وافقت جميع الأطراف على نشرها في الإقليم، هذا بخلاف توفير الظروف الملائمة للتخلص من القيادة الأرمينية ذات التوجهات الغربية[4].

من الواضح أن انتهاء هذه الجولة لا يعني توقف النزاع القائم بين أذربيجان وأرمينيا المستمر منذ انتهاء الحرب الباردة وانهيار الاتحاد السوفيتي في تسعينيات القرن المنصرم، وهو ما يؤكده تجدد التوترات بين الجانبين بين الفينة والفينة، والتي كان آخرها أسر القوات الآذرية لستة جنود أرمنيين على الحدود في 27 مايو 2021[5]. ويبدو أيضًا أن هذا الصراع في القوقاز الجنوبي سوف يستمر لأهمية المنطقة بالنسبة للقوى الإقليمية المتنافسة، لا سيما روسيا وتركيا. وفي هذا الصدد يُطرح التساؤل التالي: ما الذي يمكن أن يُقدمه لنا هذا النزاع بين أذربيجان وأرمينيا من تفسيرات ودلالات ومآلات التنافس بين القوى الإقليمية الرئيسية على النفوذ في منطقة القوقاز الجنوبي، خاصةً التنافس الروسي التركي الممتد منذ عصر الدولة العثمانية وروسيا القيصرية، الذي كان الموقف في القوقاز الجنوبي أحد فصوله الرئيسية والذي تبين التسوية الآذرية الأرمينية الأخيرة أهم مراحل تطوره الحديث واستشراف مستقبله القريب؟

وللإجابة ينقسم التقرير إلى ما يلي:

أولا: نظرة تاريخية لتفاعلات القوى الدولية والإقليمية في منطقة القوقاز الجنوبي.

ثانيًا: الدور الروسي والتركي في النظام العالمي والإقليمي في مرحلة تراجع القوة الأمريكية.

ثالثًا: التسوية الآذرية الأرمينية وتنافس النفوذ الروسي التركي في القوقاز الجنوبي.

خاتمة: تسوية معلقة في ظل علاقات معقدة.

 

أولا: نظرة تاريخية لتفاعلات القوى الدولية والإقليمية في منطقة القوقاز الجنوبي:

إن الموقع الجغرافي لمنطقة جنوب القوقاز، تلك المنطقة الواقعة في نقطة تلاقي محوري الأناضول – البحر المتوسط والسهوب – البحر الأسود، فرض عليها أن تكون ساحة تنافس دولي وإقليمي محتد عبر أغلب فترات تاريخها القديم والحديث. واختلفت طبيعة هذا التنافس ونطاقه وفقًا للتغيرات المستمرة لطبيعة النظام الدولي وتوازن القوى فيه.

وفي هذا الجزء من التقرير، سنناقش تطور هذا التنافس الدولي والإقليمي في منطقة القوقاز الجنوبي عبر التاريخ، معتمدين المدخل النظمي في تحليل تاريخ العلاقات الدولية ودراسة التغير الدولي والإقليمي، والذي ينطلق من دراسة هيكل وبنية النظام الدولي وعلاقات القوة فيه وتأثير ذلك على العلاقة بين مكوناته وفواعله المختلفة. طور هذا الاتجاه العديد من منظري العلاقات الدولية على مدار تاريخ الحقل. وقد أوجزت د.نادية مصطفى أهم مراحل تطور هذا المدخل في توظيف التاريخ لدراسة متغيرات النظام الدولي والتفاعل بين مكوناته، كما بينت أهم مدارسه التنظيرية المختلفة وخصائص كل منها، وكيفية استخدامها في دراسة التاريخ الإسلامي وعلاقات المسلمين ببعضهم البعض وبالعالم خلال فترات التاريخ المختلفة[6].

تميزت منطقة القوقاز الجنوبي منذ زمن بعيد بتنوع إثني وعرقي وثقافي كبير، فقد كانت دائمًا عبر تاريخها مستقرًا للعديد من الهجرات المستمرة من آسيا ومنطقة السهوب الروسية باتجاه أوروبا والعكس. إلا أنها ظلت موضعًا لصراع النفوذ الفارسي والبيزنطي، ثم كان العصر الإسلامي، حتى أصبحت تحت سيطرة الدول الإسلامية المتعاقبة منذ الفتح الإسلامي لها في عهد عمر بن الخطاب وعثمان بن عفان -رضي الله عنهما- واستكمال فتحها من قبل الأمويين خلال القرن الأول الهجري حتى نهاية سيطرة الدولة العباسية الفعلية عليها منذ مستهل القرن الرابع[7].

طوال هذه الفترة، ظلت هذه المنطقة محلًا للصراع الدولي، إن جاز التعبير، بين القوتين النافذتين في هذا الجزء من العالم، أي الدولة الإسلامية (الأموية ثم العباسية) والإمبراطورية البيزنطية، وهو ما استطاعت النخبة الأرمنية المتنفذة استغلاله لصالحها حتى حصلت على وضع يشبه الاستقلال الفعلي عن كل هذه القوى المتنازعة. فقد شهدت هذه المنطقة تغيرات كبيرة في خضوعها لهذه القوة الإقليمية أو تلك، فتارة تكون تحت السيطرة البيزنطية وتارة تدخل في حكم المماليك وتقع أجزاء منها أحيانًا تحت سيطرة الصفويين، حتى دانت بالكامل للدولة العثمانية إبان عهد قوتها وازدهارها في القرن الخامس عشر الميلادي[8]. وكما نرى، فالمنطقة ظلت دومًا شديدة الحساسية والاستجابة للتغيرات النظمية الدولية، فأينما وجد صراع قوى دولية، كانت تصبح سريعًا مقياسًا لهذا التنافس الدولي.

وحين أصبحت الدولة العثمانية أقوى قوة عالمية في القرنين الخامس عشر والسادس عشر ميلاديًا، ساد المنطقة مناخ من الاستقرار والهدوء وانصياع الجماعات العرقية والدينية المختلفة للقوة الأعظم في العالم. وكذلك، حين ضعفت الدولة العثمانية نسبيًا، وبدأ الصراع يحتدم بينها وبين الدولة الصفوية ثم روسيا القيصرية الصاعدة، التي دخلت على الخط في أربعينيات القرن التاسع عشر[9]، سرعان ما انعكس ذلك على منطقة القوقاز الجنوبي، حيث أصبحت ساحة للصراع على السيادة استمر قرابة المائتي عام[10].

ويشير العديد من الباحثين كذلك إلى تأثير عامل مهم في النظام الدولي ظهر في أواخر القرن التاسع عشر، ألا وهو موجة القومية التي اجتاحت أوروبا، والتي دفعت العديد من الشعوب إلى محاولة إقامة دولًا قومية نقية عرقيًا بمعنى أنها مقصورة على قومية واحدة، وهو ما دفع كل من الأرمنيين والآذريين إلى التطلع نحو وطن قومي لكل منهما في المنطقة ذاتها[11]. وقد اجتاحت هذه الموجة من انتشار الأفكار القومية الدولة العثمانية ذاتها، لا سيما أعضاء حزب الاتحاد والترقي، الذين سيطروا على السياسة العثمانية منذ عام ١٩٠٨م. ونتيجة إيمانهم بضرورة بناء الدولة التركية الحديثة على أسس قومية تركية خالصة، بدأوا في انتهاج بعض سياسات التطهير العرقي على أسس اثنية وثقافية، بدأت في الأناضول، وبلغت أوجها في القوقاز أثناء الحرب العالمية الأولى، حيث قام الجيش التركي أثناء عملياته هناك بانتهاكات واسعة ضد سكان تلك المنطقة من الأرمن[12]. وبغض النظر عن التقديرات المتباينة لهذه الانتهاكات العرقية التركية في حق الأرمن، فقد تركت هذه المأساة أثرًا بالغًا على كلا الطرفين وعداوة باقية لا تخمد مع مرور الأيام.

وبعد الحرب العالمية الأولى، استطاعت روسيا، في ظل حكم الاتحاد السوفيتي، بسط سيطرتها الكاملة على المنطقة، فبعد فترة من الصراعات والحروب الصغيرة بين الآذريين والأرمنيين، نتيجة الانقسامات القومية والدينية، أخمد النظام السوفيتي الصارم النزاع في الإقليم طوال فترة حكمه خاصةً بعد الحرب العالمية الثانية وحتى نهاية الحرب الباردة[13]. وقد شهدت كل من أرمينيا وأذربيجان، كشأن جميع جمهوريات الاتحاد السوفيتي، عمليات واسعة من سياسات الروسنة، كان أبرزها منع جميع المظاهر الدينية مثل غلق المساجد والكنائس والقبض على رجال الدين ومنع جميع الطقوس الدينية، وسيطرة الحزب الشيوعي الروسي على جميع الأنشطة الفكرية والثقافية وفرض اللغة الروسية في التعليم. واستمرت هذه السياسة تخفيفًا وتشديدًا، حيث إذا ما تم تخفيفها، تأججت المشاعر القومية من جديد، فتعود الحكومة السوفيتية إلى تشديدها من جديد. وبالرغم من ذلك، ظلت الحكومة المركزية تنتهج سياسات تبقي المنتمين لقومية واحدة داخل نفس الجمهورية التي تضم هذه القومية وتشير إلى قوميتهم في جوازات سفرهم، الأمر الذي أبقى على الانتماءات القومية حية متجددة في النفوس ومنعت اندماجها في انتماء سوفيتي واحد[14].

أما خلال الحرب الباردة، فبعد انضمام تركيا إلى حلف شمال الأطلسي، جعلت تركيا خط القوقاز الجنوبي أحد الخطوط الفاصلة بين المعسكرين الغربي والشرقي، أو بين حلفي شمال الأطلسي ووارسو. وقد أدى ذلك إلى استقرار المنطقة على هذه الحال على مدار خمسين سنة، تماشيًا مع توازن القوى على الساحة الدولية الذي صبغ النظام الدولي لهذه المرحلة[15].

وبنهاية الحرب الباردة في أواخر ثمانينيات القرن العشرين، وضعف قبضة الاتحاد السوفيتي على جمهورياته، ومن ثم انهياره تمامًا في العام ١٩٩١م، بدأت التوترات العرقية والقومية بين جمهوريتي أرمينيا وأذربيجان في الظهور. وبدأت بوادر الصراع في عام ١٩٩١م، عندما أخذت أرمينيا تكوين ميليشيات مسلحة استعدادًا للاستيلاء على إقليم ناغورنو كاراباخ الذي كان ما يزال تحت السيادة الآذرية ويتجهز سكانه الأرمن للمطالبة بالاستقلال. أما أذربيجان، فقد راهنت في البداية على حماية الاتحاد السوفيتي للوضع الراهن، ولم تبدأ في تشكيل قوات مسلحة إلا في مارس عام ١٩٩٢، وبدا أن الخلافات الداخلية بين نخبها السياسية تنذر بضعفها في مواجهة حركات الاستقلال الأرمينية الصاعدة في الإقليم.

وسرعان ما أندلعت الحرب بين الجمهوريتين في ربيع عام ١٩٩٢م، واستطاعت القوات الأرمينية تحقيق انتصارات كبيرة في إقليم ناغورنو كاراباخ المتنازع عليه، واحتلته بالكامل بالإضافة إلى سبع مقاطعات آذرية محيطة به قبل إعلان وقف إطلاق النار في مايو عام ١٩٩٤م. جاءت الهزيمة نتيجة الدعم الروسي لأرمينيا وكذلك الدعم الإيراني لها، والذي جاء على خلاف الروابط الدينية والثقافية بين إيران وأذربيجان، وكان سببه تخوف إيران من اندلاع انتفاضة طائفية داخل حدودها الشمالية التي يغلب عليها العرق الآذري. بالإضافة إلى الانقسامات الداخلية الآذرية التي بلغت ذروتها بقيام القوات الآذرية بالانقلاب على الحكومة المنتخبة، إلا أن السياسي المخدرم، حيدر علييف استطاع إفشال الانقلاب والسيطرة على الموقف، ولكن بعد أن استفادت القوات الأرمينية من كل هذه الظروف[16].

ومرة أخرى، يجد الصراع في القوقاز الجنوبي طريقه إلى الاستقرار والجمود؛ وفقًا لتوازنات القوى الدولية والإقليمية وبنية النظام الدولي. فبعد انهيار نظام القطبين، ومعه حلف وارسو والكتلة الشرقية، هيمنت الدول الغربية، وفي مقدمتها الولايات المتحدة، على الساحة الدولية كقطب أوحد وقوة عظمى لا تنافسها أخرى. وبعد أن وجدت أرمينيا أن ليس لها من نصير إلا روسيا الجريحة التي كانت ما تزال تحاول النهوض من كبوتها، لم يكن أمام أذربيجان إلا الاحتماء بحليفتها التقليدية، بحكم الانتماء العرقي والثقافي، تركيا، التي كانت بدورها تنتمي إلى المعسكر الغربي المهيمن، ولكن تحت سيطرة النفوذ الأمريكي التام.

بيد أن السؤال هنا يصبح: إذا كانت أذربيجان قد انتمت إلى المعسكر الغربي المهيمن على الساحة العالمية دون منافس في تلك الفترة، إذًا لماذا لم تستطع استعادة ما خسرته خلال حرب عام ١٩٩٢م؟ الإجابة عن هذا السؤال في غاية الأهمية، إذ إنها تتيح لنا معرفة أسباب تجمد الصراع في القوقاز الجنوبي طوال قرابة الثلاثة عقود، بالرغم من هيمنة قطب أوحد على الساحة الدولية، وهو بذلك يفسر سبب اشتعال الصراع مرة أخرى عام ٢٠٢٠م، ويعكس التغيرات التي وقعت في بنية النظام الدولي والإقليمي في السنوات الأخيرة. لقد ظل الصراع في القوقاز متجمدًا طوال تلك الفترة نتيجة الارتباك الذي شهدته كل من روسيا وتركيا عقب نهاية الحرب الباردة، وانشغالهما في ترتيب سياستهما الداخلية والخارجية، لكن الأهم أن القوة المهيمنة، الولايات المتحدة أرادته كذلك، ولم يكن باستطاعة أية قوة إقليمية في ذلك الوقت تحدي النفوذ الأمريكي.

كانت تلك الرغبة الأمريكية نابعة من ثلاثة أسباب رئيسية: أولها: أن الولايات المتحدة، متبوعة بحلف شمال الأطلسي، كانت منشغلة في تلك الفترة بنزاعات دولية أكثر خطورة وأهمية بالنسبة لمصالحها الدولية. فقد اشتعلت حرب الخليج الثانية في عام ١٩٩١م، وكان لا بد للولايات المتحدة من تثبيت أقدامها في تلك المنطقة ذات الأهمية الجيوسياسية والاقتصادية البالغة. كذلك انشغلت الولايات المتحدة، وحلف شمال الأطلسي الذي تقوده، بحروب البلقان، الأقرب والأكثر خطرًا بالنسبة لدول الحلف، حيث اشتعلت النزاعات العرقية والطائفية في منطقة يوغوسلافيا السابقة وخاصة في كل من البوسنة (١٩٩٢ -١٩٩٥م) وكوسوفو (١٩٩٨ -١٩٩٩م). ثانيًا: كانت الولايات المتحدة، ومن ورائها حلفاؤها، قد حققت الأثر الاستراتيجي والجيوسياسي المطلوب في منطقة القوقاز الجنوبي باستقطاب أذربيجان إليها. فقد ضمنت ممرًا حيويًا للطاقة يمر من حقول النفط والغاز في باكو مرورًا ببحر قزوين ليصب في إمدادات الطاقة الغربية. كذلك ضمنت أذربيجان لأمريكا ممرًا استراتيجيًا حيويًا للنفوذ إلى آسيا الوسطى ومن ثم أفغانستان. ذلك الممر الذي أثبت أهميته وفاعليته إبان الحرب الأمريكية على الإرهاب في كل من أفغانستان والعراق عامي ٢٠٠١ و٢٠٠٣م. لذلك لم يكن هناك دافع لزعزعة استقرار المنطقة. أما السبب الثالث والأخير، هو حرص الولايات المتحدة على عدم استفزاز روسيا في تلك المناطق شديدة القرب من مجالها الحيوي، وهو ذات السبب الذي جعلها تغض الطرف عن الانتهاكات الروسية في حرب الشيشان الأولى عام ١٩٩٤م والثانية عام ١٩٩٩م[17].

لهذه الأسباب الثلاثة، لم ترد الولايات المتحدة إذكاء الحروب الإقليمية في المنطقة، وكان على القوى الإقليمية التابعة، في ذلك الوقت، الالتزام بالخط الأمريكي، وهو ما أكده أحمد داود أغلو نفسه خلال تحليله للسياسة التركية في تلك الفترة[18]. وظل ذلك عاملًا يُضعف من ثقل تركيا الإقليمي والدولي، ولكن كان كل ذلك على وشك أن يتغير خلال العقد الثاني للقرن الحادي والعشرين، مصاحبًا للتغير الذي أصاب بنية النظام الدولي، الذي بدأ ينتقل تدريجيًا من نظام القطب الواحد والقوة العظمى المهيمنة، إلى نظام الأقطاب المتعددة وصعود القوى الإقليمية المختلفة لتلعب أدوارًا أكثر استقلالاً وتفردًا، ليست بالضرورة متماشية مع رغبات القوة الأكبر في العالم، الولايات المتحدة. وكانت روسيا وتركيا أبرز القوى الإقليمية التي بدأت تسعى إلى بسط نفوذها وسيطرتها على مناطق النزاع التاريخية، وكان القوقاز الجنوبي بطبيعة الحال، أحد تلك المناطق. فكيف يمكننا فهم هذا التغير الذي طرأ على طبيعة النظام الدولي؟ وكيف له أن يُفسر واقع التنافس والتعاون الروسي – التركي المعقد في منطقة القوقاز الجنوبي؟ وما تجليات هذه العلاقة وتداعياتها التي ظهرت في الحرب الآذرية الأرمينية الأخيرة؟ وهل يمكننا التنبؤ بمستقبلها على المدى القريب أو البعيد؟ هذا ما سنناقشه في الجزء التالي من هذا التقرير.

ثانيًا: الدور الروسي والتركي في النظام العالمي والإقليمي في مرحلة تراجع القوة الأمريكية:

كثيرة هي الأطروحات التي حللت بنية النظام الدولي المعاصر، وقد لا يتسع المجال لمناقشتها جميعًا، لذلك سوف نعتمد في هذا التحليل الإطار النظري الذي قدمه منظرو المدرسة الإنجليزية في العلاقات الدولية عن بنية النظام الدولي الحديث، خاصةً نظرية كل من باري بوزان وأولى ويفر. إن أطروحة المدرسة الإنجليزية الأشهر تتعلق بمفهوم المجتمع الدولي International Society، والإطار النظري الذي سوف نعتمد عليه في تحليلنا للوضع في القوقاز الجنوبي ينبع من هذا المفهوم الكبير، لكنه يتعلق بمسألة أكثر خصوصية، ألا وهي شكل هذا المجتمع الدولي، أو بنية النظام الدولي.

يقدم باري بوزان رؤيته لبنية النظام العالمي المعاصر في دراسة بعنوان “نظام عالمي دون قوى عظمى: الإقليمية اللامركزية”[19]. وهي تلخص رؤيته لعالم ما بعد القطب الواحد والإطار النظري الذي ابتكره لتحليل النظام الدولي الحالي، الذي يتكون من قوى كثيرة كبرى، عوضًا عن قوة واحدة عظمى كما كان الحال مع الولايات المتحدة خلال الفترة التي أعقبت الحرب الباردة. وهو يفرق بوضوح بين تعريف القوة العظمى Super power وتلك الكبرى Great power، حيث الفارق الرئيس هو في تغول نفوذ القوة العظمى في كل مكان في العالم، كما كانت حالة الولايات المتحدة، بينما تستطيع القوة الكبرى بسط نفوذها فقط في منطقة واحدة أو عدد محدود من مناطق العالم. ولذلك، فهو يجادل بأن النظام العالمي سوف يكون نظامًا إقليميًا لامركزيًا، تتنازع فيه القوى الكبرى النفوذ في مناطق التماس بينها، وتختلط فيه علاقات التنافس والتعاون بين هذه القوى. وهذا هو بالضبط ما يمكن أن يفسر العلاقات الروسية التركية في العقد الأخير عامةً، وتفاعل الطرفين في منطقة القوقاز الجنوبي والصراع الآذري الأرميني خاصةً. وقد أكد أولي ويفر هذا التحليل وقدم عليه مزيد من الأدلة وناقش العديد من الأطروحات المقابلة وفندها[20].

إن هذا الإطار النظري يبدو أقدر من غيره على تفسير النظام الدولي وبنيته وما يتم فيه من عمليات، حيث إنه لا يركز فقط على الجوانب المادية للتفاعلات الدولية، بل يجمع إليها العوامل الثقافية والنفسية. كذلك فهو يُعطي اعتبارًا أكثر من غيره لتفسير التفاعلات التعاونية التي تحدث جنبًا إلى جنب مع تلك التي تحمل طابعًا صراعيًا، وهي ميزة لا تتيحها الأطر النظرية التقليدية الأخرى، مثل الواقعية والليبرالية وروافدهما الحديثة[21]. إن هذه الميزة بالتحديد هي ما تجعل هذا الإطار النظري هو الأنسب لتفسير التسوية الآذرية الأرمينية الأخيرة في ناغورنو كاراباخ، والعلاقات الروسية التركية المتشابكة في القوقاز الجنوبي وتراوحها بين التنافس والتعاون. فكيف يمكننا تبين واقع هذا الصراع، وتفسير مفردات التسوية الأخيرة التي أعقبت حرب سبتمبر ٢٠٢٠، وما يمكن أن نستخلصه من تداعيات هذا كله على العلاقات الروسية التركية في منطقة القوقاز الجنوبي بشكلٍ خاص؟

بدأت كل من روسيا وتركيا، منذ وقتٍ مبكر من القرن الحادي والعشرين، في اتخاذ طريق خاص بها نحو مكانة القوة الكبرى في النظام الدولي، بالمفهوم الذي تحدث عنه بوزان. فقد بدأت روسيا تحت قيادة الرئيس فلاديمير بوتن في التحدي الصريح للقوى الغربية، وعلى رأسها الولايات المتحدة عام 2008م، عندما قامت القوات الروسية بغزو جورجيا، دون أن تتعرض لردة فعل غربية حاسمة[22].

لقد كان لهذه الخطوة الخطيرة أثر بالغ في النظام الدولي عامة، ومنطقة القوقاز بشكلٍ خاص، فقد بدا أن النظام الذي كانت تهيمن عليه الولايات المتحدة في أفول، وأن روسيا أزمعت على تحدي هذه الهيمنة الأمريكية وأنها لن تتوقف عند هذا الحد. وهو ما أكده موقف روسيا ونمط سياستها الخارجية العدائي تجاه الغرب، والذي ظهر جليًا في موقفها من الثورات المطالبة بالديمقراطية في كل من أوكرانيا وجورجيا على سبيل المثال. ويبدو أن موسكو لا تنظر إلى مثل هذه التغيرات نحو الديمقراطية إلا من حيث كونها تحركًا من الدول الغربية، لا سيما الولايات المتحدة وأوروبا، بهدف بسط نفوذها على هذه الدول على حساب النفوذ الروسي، بل تتعدى هذه النظرة العدائية إلى اعتبار هذه التحركات تهديدًا مباشرًا للأمن الروسي ذاته[23]. لذلك كانت ردة الفعل الروسي شديدة الوطأة على الغرب، وأتى ضم روسيا لشبه جزيرة القرم في أوائل عام ٢٠١٤م تتويجًا لهذه السياسة الروسية الجديدة التي تلخص رغبتها في حماية أمنها القومي ضد التوغل الغربي وكذلك بسط نفوذها مجددًا في المناطق التي كان يسيطر عليها الاتحاد السوفيتي تاريخيًا[24].

في هذا السياق، تتضح أهمية القوقاز الجنوبي بالنسبة للسياسة الخارجية والأمن القومي الروسي. وقد احتفظت روسيا، حتى بعد نهاية الحرب الباردة، بتواجد عسكري متقدم في أرمينيا، يحفظ مصالحها في المنطقة ويعمل كقاعدة دفاع متقدمة لمواجهة الناتو وحلفاءه، لا سيما في جورجيا القريبة. وتجسد هذا الوجود العسكري الروسي في أرمينيا بقاعدتين عسكريتين؛ بإريربوني وكيومري، وهي القاعدة الـ١٠٢ لروسيا على الحدود الأرمينية التركية. وفي شهر أغسطس من عام ٢٠١٠م، وقعت كل من يريفان وموسكو اتفاقية أمنية جديدة لتحل محل اتفاقية عام ١٩٩٥م. وبحسب الاتفاقية الجديدة، أصبحت روسيا مسؤولة عن ضمان أمن حدود أرمينيا بكاملها، لا الحدود مع تركيا فقط، وتوجب عليها إمداد أرمينيا بأنظمة تسليحية متقدمة[25]. يبين ذلك اعتماد الأرمنيين الكامل على روسيا في ضمان أمنهم ضد كل من أذربيجان وتركيا، بيد أن حرب الأيام الأربعة بين أرمينيا وأذربيجان في أبريل عام ٢٠١٦م، جعلت عامة الأرمنيين يفكرون في دعم خيار التكامل مع أوروبا والتقارب مع الناتو والغرب[26].

ولا شك أن ذلك سبب مزيدًا من القلق لدى موسكو، خاصة في سياق التوجس من التوغل الغربي في مناطق نفوذها. وجاءت الثورة المخملية بقيادة نيكول باشينيان، المعارض الأرميني ذا التوجهات الغربية، وصعوده إلى سدة الحكم عام ٢٠١٨م، لتؤكد بما لا يدع مجالًا للشك عند روسيا هذا التوغل الغربي في مجال نفوذها في القوقاز[27]. وسوف يكون لذلك أثر بالغ على سير أحداث حرب ناغورنو كاراباخ عام ٢٠٢٠م، والموقف الروسي منها.

أما تركيا، على الجانب الآخر من المعادلة الإقليمية في القوقاز الجنوبي، فقد بدأت رحلة صعودها إلى مكانة القوى الكبرى بحسب الإطار النظري لبوزان إبان اعلاء حزب العدالة والتنمية سدة الحكم عام ٢٠٠٢. وبدأت تحت قيادة الرئيس رجب طيب أردوغان منذ ٢٠١١م في لعب أدوار إقليمية خطيرة في أكثر من منطقة حيوية في العالم، خاصةً في الشرق الأوسط ووسط آسيا. فمن تدخلها في سوريا إلى ليبيا، بدا أنها لن تقبل أن تكون مجرد قوة تابعة لحلف شمال الأطلسي، بل تعتزم أن تصبح قوة إقليمية إسلامية مؤثرة[28].

وانتهجت تركيا كذلك، كنظيرتها روسيا، سياسة مواجهة الغرب والولايات المتحدة، وظهر ذلك في أكثر من مناسبة، بلغت ذروتها عند إعلان تركيا اعتزامها عقد صفقة الدفاع الجوي المتقدم S400 مع روسيا، على الرغم من المعارضة الأمريكية الشديدة لهذه الصفقة[29]. دل ذلك كله على أن روسيا وتركيا قد أصبحتا قوتين كبريين على الساحة الدولية، وأنهما لن تخضعا للضغوط الغربية في انتهاج سياسات خارجية تهدف إلى تعزيز مصالحهما بالطريقة التي تريانها مناسبة. وأتى ذلك تناغمًا مع التغير الحادث في بنية النظام الدولي الذي يتجه نحو الإقليمية اللامركزية، حيث تتنافس على النفوذ الإقليمي قوى كبرى دون تدخل فعال من القوة التي كانت مهيمنة على الشؤون العالمية عقب انتهاء الحرب الباردة، أي الولايات المتحدة.

ثالثًا: التسوية الآذرية الأرمينية وتنافس النفوذ الروسي التركي في القوقاز الجنوبي:

مما سبق، يتبين أن التغير في بنية النظام الدولي قد أنتج نمطًا معقدًا من العلاقات الروسية التركية، تمثل في العلاقات التنافسية التعاونية في آنٍ واحد، وفي أكثر من منطقة في العالم. فهي تنافسية لتضارب مصالحهما وتنافسها في جميع مناطق التماس، وتعاونية لحاجة كل طرف منهما للآخر وعدم قدرة أي منهما على حسم الصراع لصالحه. ففي سوريا على سبيل المثال، تحافظ روسيا على أمن نظام بشار الأسد وبقائه في الحكم، وبذلك تحافظ على تواجدها العسكري والسياسي في منطقة الشرق الأوسط والبحر المتوسط. أما تركيا، فهي تحمي سكان الشمال السوري من السنة وتحفظ أمن من تبقى من معارضي النظام، وتحفظ أمنها الداخلي من قوات حماية الشعب الكردية ذات الصلات بحزب العمال الكردستاني في داخل الأراضي التركية. أدى ذلك التضارب في المصالح أولًا إلى أزمة كبيرة بين البلدين، عندما اسقطت القوات الجوية التركية طائرة روسية اخترقت المجال الجوي التركي لفترة وجيزة في شهر نوفمبر ٢٠١٥م. ولكن سرعان ما أدرك الطرفان عدم جدوى استمرار هذا التوتر بينهما على كافة الأصعدة، لتبدأ مرحلة من التعاون الحثيث في الجوانب السياسية والاقتصادية والعسكرية على حدٍ سواء[30].

وتكرر هذا النمط أيضًا في ليبيا، ومن ثم في منطقة القوقاز الجنوبي والحرب الآذرية الأرمينية، لا سيما التسوية التي تم التوصل إليها في نهاية الحرب. وبالتالي، فرضت العوامل السياسية والاقتصادية طبيعة تنافسية بين القوتين الروسية والتركية على الساحة الإقليمية في القوقاز الجنوبي، فكلاهما تحت قيادة قوية تسعى لبسط نفوذها السياسي والعسكري إلى أبعد ما يمكن أن تبلغها إياه قوتها، محملة بإرث تاريخي عريق ورغبة في استعادة المكانة الإمبراطورية لكل من الاتحاد السوفيتي، في الحالة الروسية، والإمبراطورية العثمانية، في الحالة التركية. وهذا يذكرنا دومًا بأن المصالح المتعلقة ببسط السيادة والنفوذ وحفظ الأمن القومي والرغبة في تبوؤ مكانة عالية في العالم، كانت وستظل أقوى دوافع الفاعلين الدوليين وأسبقها أولوية.

وكان ذلك واضحًا في تصريحات كل من الفريقين بشأن النزاع بين أرمينيا وأذربيجان. فلم يترك الرئيس التركي، أردوغان، مناسبة تتعلق بالقوقاز، إلا ويؤكد حق أذربيجان في استعادة كامل أراضيها المحتلة من قبل أرمينيا، وعلى دعم تركيا غير المشروط لأذربيجان لتحقيق هذا الهدف[31]. أما روسيا، فعلى الرغم من رغبتها في الحفاظ على علاقات جيدة بكلا الطرفين، إلا أنها ما زالت عند موقفها قبل الحرب الأخيرة، أن يظل الموقف على ما هو عليه دون مزيد من التصعيد، وبالطبع دون أن تتخلى أرمينيا عن مزيد من الأراضي التي احتلتها عام ١٩٩٤م[32].

وعلى الرغم من هذه العلاقة التنافسية التي تسعى لتحقيق أهداف متضاربة في منطقة القوقاز، فالتعاون بين روسيا وتركيا في المنطقة في المجالات الاقتصادية والعسكرية والسياسية يجري على قدم وساق منذ عام ٢٠٠٢م، لاسيما التعاون في مجالات الطاقة والمشروعات الكبرى المتعلقة بها. فعلى الجانب السياسي، تجمع الرئيسين أردوغان وبوتن علاقات جيدة جدًا، بدأت حتى قبل أن يصبح أردوغان، زعيم الحزب الذي تولى الحكم عام ٢٠٠٢م، ذا صفة رسمية[33]، وقد تبادل الرئيسان الزيارات لأكثر من ١٢ مرة منذ ذلك الوقت. وعلى الجانب العسكري، فليس أدل على التعاون الروسي التركي فيه، من صفقة نظام الدفاع الجوي S400 التي أكدت تركيا للولايات المتحدة أن أمرها قد تم إبرامه ولن يتم التراجع فيه[34].

أما أهم مجالات التعاون الروسي التركي على الإطلاق، فهو التعاون في مجال الطاقة ومشروعاتها الكبرى. وكان أبرز تلك المشروعات اتفاق الجانبين على إنشاء أول محطة تركية لتوليد الطاقة النووية في أبريل عام ٢٠١٨م[35]. كذلك فالبلدان لديهما علاقات حثيثة في مجال الغاز الطبيعي ومسارات نقله وتصديره، في إطار المشروع التركي الذي يهدف إلى جعل تركيا محطة إقليمية ودولية لنقل الطاقة من غرب ووسط آسيا إلى أوروبا. وفي هذا الإطار، تم الإعلان عن إطلاق مشروع “توركستريم”، لنقل الغاز الطبيعي الروسي إلى أوروبا[36]. ويبدو أن هذه العلاقات المعقدة بين روسيا وتركيا، المترددة بين التنافس والتعاون، ستظل السمة الغالبة على المنطقة لفترات طويلة قادمة. فما الذي يمكن أن تقدمه هذه العلاقة من تفسير للتسوية الآذرية الأرمينية عقب الحرب الأخيرة بينهما في سبتمبر ٢٠٢٠م؟

خاتمة: تسوية معلقة في ظل علاقات معقدة:

لا يمكن فصل ما وقع في القوقاز الجنوبي عن سائر العلاقات الروسية التركية المعقدة، إلا أن تلك الحرب وتلك التسوية كان لهما طابع آخر ومسار مختلف. فقد حققت تركيا وحليفتها أذربيجان مكاسب كبيرة، ربما لم تستطع تحقيقها في مناطق التماس الأخرى مع روسيا. وبالرغم من تأكيد روسيا على نفوذها في المنطقة، إلا أن حليفتها أرمينيا خرجت الخاسر الأكبر من هذه الحرب. وكان ذلك نتيجة سببين رئيسين؛ أولهما، رغبة روسية في تأكيد النفوذ في أرمينيا والإطاحة بحكومة باشينيان صاحب الأجندة والتوجهات الغربية. والذي كان قد صعد إلى سدة الحكم في أرمينيا عقب التظاهرات الحاشدة لعام ٢٠١٨م، المطالبة بالديمقراطية وسُميت الثورة المخملية، وهي الثورة التي نظرت إليها روسيا بوصفها توغل غربي في مناطق نفوذها الإقليمي. وقد أدت الهزيمة في الحرب الأخيرة إلى توترات في الشارع الأرميني، وخلافات بين باشينيان نفسه وقيادة جيشه التي طالبته بتقديم استقالته[37]. إلا أنه دعا إلى إقامة انتخابات مبكرة، وفاز فيها بشكلٍ غير متوقع، وهو ما من شأنه أن يربك الحسابات الروسية[38]. أما السبب الثاني، فيتعلق بالقدرات العسكرية والتقنية التركية التي دعمت بها حليفتها أذربيجان في تلك الحرب، خاصة تكنولوجيا الطائرات المسيرة “البيرقدار تي بي ٢”، والتي كان لها بالغ الأثر في تقدم القوات الآذرية وانتصارها في الحرب[39].

ولكن في الوقت ذاته كان أي انتصار آذري تركي محكومًا بقبول روسيا لمداه وأثره، لذلك تم التوصل سريعًا، بعد أربعين يومًا فقط من القتال، إلى اتفاق وقف إطلاق نار بين البلدين وقع عليه كل من الرئيس الروسي بوتن والرئيس الآذري إلهام علييف ورئيس الوزراء الأرميني نيكول باشينيان. ونص الاتفاق على: بقاء قوات الفريقين في مواضعها الحالية، ونشر قوات حفظ سلام روسية في المنطقة، وانسحاب القوات الأرمينية من الأقاليم الآذرية السبعة المحيطة بإقليم ناغورنو كاراباخ التي احتلتها عام ١٩٩٤م، بالإضافة إلى السماح لكلا الطرفين ببناء خطوط مواصلات تربط كل منهما بالأقاليم ذات الحكم الذاتي التي تهمها، خاصةً ربط إقليم ناخشيفان مع الأجواء الغربية من أذربيجان[40]. تركت هذه الاتفاقية الكثير من الأمور المعلقة في المنطقة، فلم يتم التحدث عن المهمة المحددة لقوات حفظ السلام الروسية، ولم تتحدث عن مسار محدد للتوصل إلى سلام دائم بين الطرفين، ولم تتطرق إلى الدور التركي في هذه العملية، الدور الذي تطالب به تركيا نظرًا للدعم الذي قدمته لأذربيجان وكان حاسمًا في تحقيق النصر[41].

ويبدو أن الحال في القوقاز سوف يتجمد مرة أخرى وفقًا للخطوط الراهنة، ومن المتوقع أن يظل على هذا الجمود على المدى المنظور. ويؤيد هذا الاستنتاج العلاقات الروسية التركية المعقدة، والتي تتميز بالتعاون المشوب بالتنافس. وبعد أن توازنت قوى الطرفين في سوريا وليبيا والقوقاز، وتوصلهما لصيغ تعاونية وتنسيقية متوازنة في كل من تلك النقاط، ليس من المتوقع أن يُحدث أي منهما اختراق أو تغيير جذري في مسار العلاقات بينهما. وسوف تظل العلاقات الروسية التركية، خاصة في منطقة القوقاز الجنوبي، خاضعة لبنية النظام الدولي الحالي الذي يتميز بالإقليمية اللامركزية، بحسب إطار بوزان النظري، حيث تسيطر القوى الإقليمية الكبرى على مناطق التماس بينها في ظل علاقة من التنافس والتعاون، دون أن تتغلب إحداها على الأخرى، ودون تدخل قوى عظمى أخرى في هذه العلاقة اللامركزية.

__________________

الهوامش

[1]  لورانس برورز، أرمينيا وأذربيجان: لماذا ينذر القتال في ناغورنو كاراباخ باندلاع حرب أوسع في القوقاز، بي بي سي عربي، ٢ أكتوبر ٢٠٢٠، تاريخ الاطلاع: ٨ يونيو ٢٠٢١، الساعة ٦:٣٥، متاح عبر الرابط التالي: https://cutt.us/Mpqhq

[2] OSCE Minsk Group, Organization of Security and Co-operation in Europe, accessed 22 June 2021: https://www.osce.org/mg

[3]  ناغورنو كاراباخ: اتفاق سلام بين أذربيجان وأرمينيا بوساطة روسية، بي بي سي عربي، ١٠ نوفمبر ٢٠٢٠، تاريخ الاطلاع: ٨ يونيو ٢٠٢١، الساعة ٦:٤٥، متاح عبر الرابط التالي: https://cutt.us/lLEDP

[4]  مايكل يونغ وألكساندر غابويف، اللعب بالنار في جنوب القوقاز، مركز مالكوم كير-كارنيجي للشرق الأوسط، ١٦ نوفمبر ٢٠٢٠، تاريخ الاطلاع: ٨ يونيو ٢٠٢١، الساعة ٧:٣٠، متاح عبر الرابط التالي: https://cutt.us/Ss2vj

[5] Azerbaijan captures six Armenian troops on border, BBC News, 27 May 2021, accessed: 8 June 2021, 8:00: https://cutt.us/e38PY

[6] نادية مصطفى، التاريخ والعلاقات الدولية: منظور حضاري مقارن، (دراسة: التاريخ ودراسة النظام الدولي: رؤى نظرية ومنهاجية مقارنة)، (القاهرة: دار البشير للثقافة والعلوم، ٢٠١٥)، الجزء الأول، ص ص ٣٧ -١١٢.

[7]  صابر محمد دياب حسن، أرمينية من الفتح الإسلامي حتى مستهل القرن الخامس الهجري، (القاهرة: دار النهضة العربية، ١٩٧٨).

[8] Hovannisian RG. The Armenian Question in the Ottoman Empire, East European Quarterly, 1;6 (1):1, (March 1972), P 1.

[9] Cornell SE. The Nagorno-Karabakh Conflict, (Department of East European Studies, Uppsala University, 1999), p.4.

[10] أحمد داود أغلو، العمق الاستراتيجي: موقع تركيا ودورها في الساحة الدولية، ترجمة: محمد جابر ثلجي وطارق عبد الجليل، (الدوحة: مركز الجزيرة للدراسات، الطبعة الثانية، ٢٠١١)، ص ١٥٠.

ولمزيد من التفاصيل حول الصراع العثماني -الروسي في القوقاز الجنوبي، انظر:

– نادية مصطفى، العصر العثماني من القوة والهيمنة إلى بداية المسألة الشرقية، نادية محمود مصطفى (إشراف): مشروع العلاقات الدولية في الإسلام، (القاهرة: المعهد العالمي للفكر الإسلامي، ١٩٩٦م)، الجزء الحادي عشر.

[11] Cornell SE. , “The Armenian-Azerbaijani Conflict and European Security”, (in): Cornell SE., (ed.), “The International Politics of the Armenian-Azerbaijani Conflict”, (Washington DC: Central Asia-Caucasus Institute, 2017), p. 5.

[12] Taner Akçam, From Empire to Republic: Turkish Nationalism and the Armenian Genocide, Zed Books, 2004, Pp. 158 – 175.

[13] Cornell SE, “The Armenian-Azerbaijani Conflict and European Security”, Op. Cit. p.6.

[14]  Ben Fowkes, “Stalin and After: The Interplay of Modernization and Russification”, In The Disintegration of the Soviet Union, (London: Palgrave Macmillan, 1997), Pp. 62-89.

[15] أحمد داود أغلو، العمق الاستراتيجي، مرجع سابق، ص ١٥١.

[16] Cornell SE., “The Armenian-Azerbaijani Conflict and European Security”, Op. cit. Pp 7-11.

[17] Fred Hiatt, Pretending Chechnya Is Different, Washington post, 20 February 2000, accessed: 10 June 2021, 15:00, https://cutt.us/3s25Y

 [18] أحمد داود أغلو، العمق الإستراتيجي، مرجع سابق، ص ٣٠٤ – ٣٠٥.

[19] Barry Buzan, A world Order without Superpowers: Decentred Globalism, The Inaugural Kenneth N. Waltz Annual Lecture. International Relations, Vol. 25, No. 1 (2011), pp. 3-25.

[20] Ole.Wæver, “International leadership after the Demise of the last Superpower: System Structure and Stewardship”, Chinese Political Science Review, Vol. 2, No. 4, 2017, pp. 452-476.

[21] نظريات العلاقات الدولية: التخصص والتنوع، ترجمة: ديما خضرا، (الدوحة: المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، ٢٠١٦)، ص ص ٣٤٠ – ٣٥٥.

[22] Roy Allison, Russia Resurgent? Moscow’s Campaign to “coerce Georgia to peace”, International Affairs, Vol. 84, No. 6, 2008, pp. 1145-1171.

[23] Eugene Rumer, Russian Foreign Policy beyond Putin, (Routledge: 2017), pp. 25-27

[24] Daniel Treisman, Why Putin Took Crimea: The Gambler in the Kremlin, Foreign Affairs, Vol. 95, 2016, p. 47.

[25] Can Kasapoglu, Russian Forward Military Basing in Armenia and Moscow’s Influence in the South Caucasus. (NATO Defense College: Research Division, 2017), p. 6.

[26] Nicholas Spina, Threats to National Security and Public Support for Integration: The case of Armenia and Nagorno-Karabakh, Caucasus Survey, Vol. 6, No. 3, 2018, pp. 230-251.

[27] Terzyan Aram, The Aftermath of the “Velvet Revolution”: Armenia between Domestic Change and Foreign Policy Continuity, Eastern European Journal for Regional Studies (EEJRS), Vol. 5, No. 2, 2019, pp. 24-43.

[28] Cagaptay Soner, The rise of Turkey: The twenty-first Century’s First Muslim power, (Potomac Books, Inc., 2014).

[29] Mustafa Kibaroğlu, On Turkey’s Missile Defense Strategy: The Four Faces of the S-400 Deal between Turkey and Russia, ( PERCEPTIONS: Journal of International Affairs), Vol. 24, No. 2, 2019, pp. 159-174.

[30] Köstem Seçkin, Russian-Turkish Cooperation in Syria: Geopolitical Alignment with limits, Cambridge Review of International Affairs, 2020, pp. 1-23.

[31] Ayla Jean Yackley, Feted in Baku, Turkey’s Erdoğan Rules out Restoring Ties with Armenia, Eurasianet, 17 September 2018, accessed: 11 June 2021, 15:30: https://cutt.us/Wj6sU

[32] Sergey Markedonov, Russia and the Nagorno-Karabakh Conflict: A Careful Balancing, ISPI, 12 March 2018, accessed: 11 June 2021, 16:00, https://cutt.us/ppWP1

[33] Robert O. Freedman, “Russian Policy Toward the Middle East Under Putin: The Impact of 9/11 and The War in Iraq”, Alternatives: Turkish Journal of International Relations, Vol. 2, No. 2, Summer 2003, pp.90-91.

[34] Tuvan GumrukcuEce Toksabay, Turkey tells U.S. at NATO that Russian defense purchase is ‘done deal’, Reuters, 24 March 2021,  accessed: 11 June 2021, 16:30, https://cutt.us/clAs1

[35] Russia starts building Turkey’s first nuclear power plant, World Nuclear News, 3 April 2018, accessed: 11 June 2021, 17:00, https://cutt.us/dt3rz

[36] Olesya Astakhova, Can Sezer, Turkey, Russia launch TurkStream pipeline carrying gas to Europe, Reuters, 8 January 2020, accessed: 11 June 2021, 17:30, https://cutt.us/w4RWE

[37] Célestine Bohlen, Armenia’s Postwar Crisis: What to Know, Council on Foreign Relations, 25 March 2021, accessed: 28 June 2021, 17:33, https://cutt.us/e1ARh

[38] Liz Cookman, Armenia Opts for Pashinyan, Democracy Despite Defeat in War, Foreign Policy, 21 June 2021, accessed: 28 June 2021, 17:40, https://cutt.us/IaGB2

[39] بافيل أكسينوف، أرمينيا وأذربيجان: كيف تغيّر طائرات درون وجه الحرب في ناغورنو كاراباخ؟، بي بي سي، ١٠ أكتوبر ٢٠٢٠، تاريخ الاطلاع: ١٠ يونيو ٢٠٢١ ساعة:٨:٣٠، متاح عبر الرابط التالي: https://cutt.us/YnLu4

[40] President of Russia, Statement by President of the Republic of Azerbaijan, Prime Minister of the Republic of Armenia and President of the Russian Federation, (Mosco: Kremlin, 11 November 2020) accessed: 12 June 2021, 10:00, https://cutt.us/5prur

[41] Thomas de Wall, Unfinished Business in the Armenia-Azerbaijan Conflict, Carnegie Europe,  11 February 2021, accessed: June 12 2021, 9:00, https://cutt.us/OwFFs

فصلية قضايا ونظرات- العدد الثاني والعشرون ـ يوليو 2021

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى