الدولة اليهودية من المشكلة إلى المكانة: مئة عام بين وعد بلفور وموعد التصهين العربي

مقدمة

تبدأ القصة بما عرف بالمشكلة اليهودية التي تفاقمت في القرن التاسع عشر بين شرقي أوروبا وغربيها، حيث سمَّاها اليهود معاداة السامية، وسموها وغيرهم “مشكلة اليهود”. لكنها في نهايات القرن التاسع عشر تحوَّلت من مشكلة إلى حلٍّ باسم الصهيونية. والصهيونية هي باختصار حركة لنقل مشكلة اليهود من أوروبا إلى وطن قومي خاص؛ تحدَّدَ في مؤتمر بازل في “سويسرا”(1). كتب اليهود وخطبوا وخاطبوا أنفسهم والعالم من أجل تبرير مشروعهم لإقامة دولة أرض إسرائيل؛ بذرائع عدة: الحق التاريخي، والحق الديني (النبوءة التوراتية)، والحق القومي، والحق الإنساني والأخلاقي، وادِّعاء الحق النوعي (ادِّعاء تفوُّق اليهود عن العرب وغيرهم)، والتوافق العالمي، والتقاء المصالح السياسية على تأييدهم، لكن الأهم كان حركة اليهود على الأرض، وتضافُر الفكر مع الحركة في صنع القصة، بدءًا من المشروع/الحلم الذي عبَّر عنه تيودور هرتزل في تسعينيات القرن التاسع عشر، إلى الدولة القوية، فالبحث لها عن مكان في الإقليم ومكانة بين الأمم على النحو الذي تجادَلَ حول صيغته المستقبلية كلٌّ من رئيسي الوزراء الإسرائيليَّيْن شمعون بيريز وبنيامين نتنياهو بعد مئة عام من مشروع هرتزل؛ أي في تسعينيات القرن العشرين.
هذه الأيام تمر مئة سنة على ذلك الإعلان الرسمي الذي نشره وزير الخارجية البريطاني ساعتها آرثر جيمس بلفور وعُرف بوعد بلفور 2 نوفمبر 1917، والذي أكَّدَتْ عليه الدول الكبرى في مؤتمر فرساي 1919م ثم اتفاقية “سان ريمو” وصك الانتداب على فلسطين الذي عهدت به عصبة الأمم إلى بريطانيا سنة 1920م. مئة عام من الحركة الصهيونية المتنامية بفعل عوامل عدَّة، على رأسها مئة عام من التراجع العربي المستمر، ليصل إلى أبعد مستوياته في اللحظة الراهنة: لحظة التصهيُن العربي الذي أعقب محاولات مريرة وعقودًا أربعة من تعثُّر مشروع التطبيع منذ كامب ديفيد 1978م. ففي هذه الأيام تقف إسرائيل كالعروس المجلوَّة يخطب ودَّها وينشد رضاها هؤلاء الذين اعتادوا التعيُّش على ادِّعاء عداوتها؛ إذ تُظهر أنظمة الثورات العربية المضادة موقفًا صهيونيًّا جديدًا يُقِرُّ إسرائيل على ما وصلت إليه، ويبرِّر عدوانَها الدائم على الفلسطينيِّين، ويهاجم المقاومة الفلسطينية، ويقمع التعاطف العربي والإسلامي والقومي معها، وتمارس تلك الأنظمة تصهينًا متعدِّد الأبعاد: سياسيًّا وأمنيًّا وعسكريًّا وإعلاميًّا وقضائيًّا وقانونيًّا واقتصاديًّا وثقافيًّا.
فكيف جرى ذلك التحوُّل المزدوج بين تقدُّم المشروع الصهيوني الذي بدأ بمشروع دولة عسير التنفيذ ووصل إلى تصدُّر خريطة الشرق الأوسط الجديد وفَرَضَ المكانة، وبين تدهور المقاومة العربية على الصورة التي نعيشها اليوم؟ أي بعبارة واحدة: لماذا تقدَّم اليهود وتدهور العرب عبر قرن ويزيد؟

أولًا- من مشروع الدولة إلى الوعد الدولي: قراءة في طرح هرتزل

في حدود عام 1895م كتب الصحفي النمساوي والناشط الصهيوني تيودور هرتزل وثيقته المشهورة “الدولة اليهودية” أو “دولة اليهود” The Jewish State، ليؤكِّد أن حل المشكلة اليهودية –رغم أنها مشكلة دينية واجتماعية وثقافية واقتصادية- لا يكون إلا حلًّا سياسيًّا ومن خلال المفهوم القومي للسياسة السائد من حينها والمعروف باسم “الدولة”. بنى هرتزل مشروعَه على زعم أساسٍ مزدوج؛ هو: بؤس اليهود ومعاناتهم، ومعاناة العالم -لاسيما الغرب- منهم. وَوَضَعَ لطرحه مبادئ عملية ووعود: “إن الدولة اليهودية ضرورية للعالم ولذلك سوف تقوم”، “إن اليهود الذين يريدون الدولة اليهودية ستكون لهم وسوف يستحقُّونها”(2)، “إنها –أي المشكلة اليهودية- قضية قومية يمكن حلُّها فقط عندما تعالَج كقضية سياسية عالمية تناقشها شعوب العالم المتحضِّر في مجلس دولي”، “فالقضية هنا قضية قوة، شأنها في ذلك شأن الأمور الأخرى التي تنشأ في العلاقات بين الشعوب… القوة تسبق الحق. هذه هي الحقيقة الواقعة في عالمنا المعاصر، وسوف تبقى كذلك إلى أمد بعيد”(3).
كتب هرتزل مشروعه ذلك مخاطبًا اليهود المؤمنين بالصهيونية بصفة أساسية، بفئاتهم وطبقاتهم ومواقعهم المختلفة، وبالأخصِّ الشباب، مراعيًا –في الوقت ذاته- اليهود غير الصهاينة والشخصيَّات والدول التي ينشُد توافقها ومعونتها على تنفيذ مشروعه على عجل.
ولَخَّصَ هرتزل خطَّته العامَّة بقوله: “إن الخطَّة العامَّة في جوهرها بسيطة كل البساطة، كما ينبغي لها أن تكون لو أنها أصبحت مفهومة للجميع، فلنُمنح السيادة على جزء من الأرض يكفي للاحتياجات الحقيقية لأمَّةٍ، وسوف نتكفَّل نحن بالباقي”(4). ووسط الجدل الصهيوني الذي ساد ساعتها حول ذلك الجزء من الأرض (أوغندا، الأرجنتين، فلسطين…؟)؛ تساءل هرتزل: “هل نختار فلسطين أم الأرجنتين؟ وعقَّب: إننا سنأخذ ما سيُعطى لنا، وما يختاره الرأي العام اليهودي، وسوف تقرِّر الجمعية كلا الأمرين”(5).
وبمناسبة الجمعية، فقد بنَـى هرتزل مشروعه تنفيذيًّا على مؤسَّسَتيْن رئيسيَّتيْن: الجمعية اليهودية والشركة اليهودية: لتقوم جمعية اليهود بالأعمال التمهيدية في مجالي العلم والسياسة، وتقوم الشركة بالتطبيق العملي والنظر في مصالح اليهود المالية وتنظيم الاقتصاد والتجارة. وعلى هاتين المؤسَّستيْن شيَّد خطَّته التنفيذية ومهام الهجرة والاستيطان وبناء الدولة اليهودية. لقد بدا مشروعا عمليًّا في ذاته خياليًّا في سياقاته؛ أن تقام دولة من فكرة، بلا شعب قومي، ولا أرض محدَّدَة، على النحو الذي أشارت إليه عبارة هرتزل السابقة: “سنأخذ ما يُعطى لنا”. فكان لابد للفكر الصهيوني أن يدَّعي أن “اليهودية -منذ بدايتها- كانت دينًا وقوميَّة معًا”، وأن الدين في أرض وأزمان الشَّتات أصبح “الأداة الرئيسة للمحافظة على هويَّتهم وطموحاتهم القوميَّة”(6). ولذلك اتَّفقت كلمة الصهاينة الأوائل على أنه يجب عليهم الحصول على تأييد دولي واسع لفكرتهم، وكانوا صرحاء في ذلك، يقول نتنياهو: “قال الصهاينة إن اليهود يجب أن يحصلوا على دولة خاصة بهم في أرض إسرائيل، ووافق زعماء العالم على ذلك، رغم معرفتهم بأنَّه لا توجد سابقة لمحاولة إقامة دولة من لا شيء”(7)؛ ومن ثمَّ كان العام 1917م وكان الوعد البريطاني.
لقد كان مؤتمر بازل في سويسرا 1897م تتويجًا لجهود ربما زادت عن مئة عام، فقد كانت الفكرة الصهيونية واحدةً من مشروعات نابليون إبان غزوه مصر والشام 1798م، وصرح بذلك في خطاب لليهود، واستهدف دعاة الصهيونية النخبَ في البلاد المختلفة وخاصَّة الدول الكبرى والمؤثِّرة والواعدة، مثل: بريطانيا والولايات المتحدة، الأمر الذي لم يُعِرْه العرب والمسلمون أدنى اهتمام، حتى كان مطلع القرن العشرين وإذا بسياسيِّين من أمثال الرئيس الأمريكي وودرو ويلسون وقبله عدد آخر من الرؤساء فضلًا عن أغلب السلسلة التالية له، وديفيد لويد جورج رئيس وزراء بريطانيا (1917 – 1920م)، وآرثر بلفور وزير خارجيته في الفترة نفسها (وهو نفسه رئيس وزراء بريطانيا سابقًا 1902 – 1905م)، على قناعةٍ تامَّةٍ بالمطلب الصهيوني وكون فلسطين هي أرض إسرائيل، والتي يجب أن تُهدى للشعب اليهودي المسكين، يقول بلفور: ينصبُّ اهتمامي فقط، على إيجاد بعض الوسائل التي يمكن بواسطتها، وضع نهاية للوضع الحالي الفظيع الذي يعيشه كثيرون من أبناء الشعب اليهودي(8).
ومن ثم جاء الوعد –عقب مؤتمر “بازل” بعشرين سنة- واضحًا في المفاضلة بين أمَّة صاعدة رغم شتاتها وأخرى هامدة رغم وجود خليفة على رأسها: إن حكومة جلالة الملك تنظر بعين العطف إلى الأماني اليهودية في إنشاء وطن قومي لليهود في فلسطين (in Palestine) وستبذل قصارى جهودها لكي تسهل تحقيق هذا الهدف. وإنه لمن المفهوم بوضوح أنه لن يُفعل شيء يكون من شأنه التأثير على الحقوق المدنية والدينية للجماعات غير اليهودية الموجودة في فلسطين (the existing non-Jewish communities in Palestine). سأكون سعيدًا إذا أنهيتم هذا الإعلان إلى علم المؤسسة الصهيونية (Zionist Federation).
هكذا جاء الوعد معبِّرًا عنَّا بمجتمعات غير يهودية، لا عربية ولا مسلمة، وجاء التعبير عن فلسطين باعتبارها أرضًا بلا أهل، تقطنها مجموعات لا اسم لها. وقد كان رد الفعل على ذلك -لاسيما في المستوى الرسمي- أشبه بالتثاؤب قياسًا على الحمية اليهودية. ومن الجدير بالذكر أن إعلان بلفور هذا قد حظي بتصديق رسمي من الكونجرس الأمريكي بغرفتيه في يونيو 1922، ثم صادق عليه الرئيس الأمريكي وارن ج. هاردنج في سبتمبر.

ثانيًا- من الوعد إلى الدولة: وعي وسعي أمام لا وعي ولا سعي

وبالفعل، انتقل الفكر الصهيوني إلى الحركة بناء على تنظير قومي وديني ودولي واضح، وأقيمت المؤسَّسات اليهودية التي دعا لها هرتزل، وخاصَّة الوكالة اليهودية والصندوق اليهودي، اللذيْن أدارا عملية كبرى من التهجير والاستيطان وبناء الهيئات داخل فلسطين؛ منها: الكيبوتسات الزراعية، واتحاد العمال، والميليشيات العسكرية نواة للجيش، والجامعة العبرية. وبينما كانت الشعوب العربية تراقب ذلك وتستنكره بلا قدرة على التأثير، وكانت في الشام وفلسطين تنمو نواة مقاومة عربية إسلامية للمشروع الصهيوني، كانت النخب العلمانية والأنظمة القُطرية لا تُظهر مبالاة بل لا تمانع أحيانًا من مباركة المشروع، فقد حضر رئيس الجامعة المصرية أحمد لطفي السيد حفل افتتاح الجامعة العبرية 1920م، بناء على دعوة وُجِّهَتْ له، غير ملتفت لحملة الرفض التي أبرزتها الصحف المصرية ساعتها، كما كان بعض العرب يقاتلون في صفوف بريطانيا تحت قيادة لورنس لأجل مُلك شخصي يمنحه العدو كما فعل الحسين بن علي وأبناؤه.
ومن العجائب أن صعود التيار القومي العربي في الشام والعراق تزامن مع الصعود الصهيوني وكلاهما اشترك في معاداة ما تبقَّى من الدولة العثمانية والسلطان عبد الحميد الثاني الذي رفض المطلب الصهيوني لمؤتمر “بازل”، والذي قدَّمه إليه هرتزل نفسه 1901م عارضًا تحمُّل الأثرياء اليهود سداد الديون التي تنوء بها الدولة العثمانية، وبينما كان الصهاينة يعرفون طريقهم وما يريدون كان القوميون العرب يخبطون خبط عشواء ويمهِّدون لهم الطريق بوعي أو بغير وعي.
وعلى الرغم من التبايُنات بين اليهود وانقسامهم إلى صهاينة وغير صهاينة وأعداء للصهيونية، والاختلافات بين الصهاينة أنفسهم، ورغم النزاعات بين الإدارات الحكومية للدُّول التي اعتمدت عليها، فإن الحركة الصهيونية قطعت طريقها بنظام وجدِّيَّة وخبث، وعبر مسارات متعدِّدة، حتى تمكَّنت من غرس جذور واقعيَّة لها على الأرض تستند إليها، ومن ثمَّ قاومت الحركة ما بدا تراجُعًا أو تباطؤًا بريطانيًّا فيما بين الحربين (1918 – 1939م) في تنفيذ المخطَّط، حيث تأرجحت بريطانيا مراعاة للعرب ومصالحها معهم، ولكن الغياب العربي الطويل عمَّا يجري في العالم من تحوُّلات، جعل ما بين الحربين فترة راجحة لصالح الصهيونية، ليس فقط من حيث التقدُّم في تحقيق أهدافها، ولكن من باب صناعة الملحمة والتدافُع من أجل أن يكون للمشروع أساس يهودي ذاتي يمكِّنهم من كتابة روايتهم الخاصة المليئة بالأباطيل.
في هذه الفترة نمت المقاومة العربية في فلسطين وتكلَّلت بعصبة “عز الدين القسام” الذي استشهد في 20 نوفمبر 1935، فاندلعت الثورة الفلسطينية الكبرى (1936 – 1939م)، لتأتي اللجنة الملكية البريطانية (لجنة بيل) 1937م بقرارها تقسيم فلسطين إلى دولتين: يهودية وعربية بعد عشرين سنة أخرى من وعد بلفور، ثم “الكتاب الأبيض” لحكومة تشامبرلين مايو 1939 ليكمل الدعوة لإنشاء دولة ثنائية القومية: عربية ويهودية، وبينما كان اليهود يُظهرون المرونة وهم يقدرون على المزيد، كان العرب يظهرون تصلُّبًا مبدئيًّا بغير فعل حقيقي على الأرض، وبالطبع انتصرت الواقعية على العنترية. ومن ثم جاءت الحرب الثانية لكي تستكمل الملحمة الصهيونية روايتها ودعايتها ويتم إنضاج المشروع بقوة على نيران “الهولوكوست”. وكما يقول نتنياهو: “كان الطلب بسيطا: بما أن الشعب اليهودي قد عانى كل هذه المعاناة الفظيعة، حان الوقت لتمكينه من إقامة دولة خاصة به”(9).
ومن ثم؛ فبعد ثلاثين سنة من وعد بلفور جاء قرار التقسيم عالميًّا عبر الأمم المتحدة في نوفمبر 1947، ليتمَّ إعلان الدولة الصهيونية باسم “دولة إسرائيل” بعده بستة أشهر في مايو 1948 وتتسابق أقوى دولتيْن في عالم ما بعد الحرب الثانية للاعتراف بها: الاتحاد السوفيتي، والولايات المتحدة. وتظهر الأنظمة العربية كأنها أفاقت من سُباتها لتدخل حربًا هزلية هزيلة تنتهي بلافتة “النكبة” 1948م، الأمر الذي سيتكرَّر مرارًا ويأخذ عناوين مثل: “النكسة” 1967م، والمذبحة والمجزرة والمحرقة والغزو والعدوان.. تلك العناوين التي لم تُغَيِّرْ من واقع الاحتلال الإسرائيلي شيئًا، وإنَّما مرَّرَتْ أيام العرب بغير شيء سوى الكلام، حتى شاع في العقود الأخيرة قبل الآنية أن العرب “ظاهرة صوتية”(10).
ومهما كان الكذب اليهودي في تأسيس الدولة أو الألاعيب والتآمر في تشييدها من منظورنا نحن العرب والمسلمين، فإن النتيجة أن اليهود نجحوا في تشييد دولتهم في ظل التفريط العربي، ليس فقط في فلسطين، ولكن في بناء دولهم وحيازة مكانتهم التي تؤهِّلهم لها إمكانيات كبيرة؛ إذ امتهن القادةُ العرب فنًّا مدمِّرًا سمَّاه نادر فرجاني “هدر الإمكانية”(11).
وكما خاض الصهاينة حربًا ضدَّ العرب وأحيانًا ضدَّ البريطانيِّين قبلَ إعلان دولتهم، فقد خاضوا حروبًا أخرى متعدِّدَة ولا يزالون، عملًا بحكمة هرتزل الواقعية: القوَّة تسبق الحق، أو التي ترجمها غيره: القوة تخلق الحقَّ وتحميه.

ثالثًا- شرق أوسط إسرائيلي ومكان بين الأمم.. مشروع واحد بجناحين: بيريز ونتنياهو

بعد مئة عامة من كتاب “الدولة اليهودية” كانت الدولة قد استوت على سوقها، وإن ظل قلق الفناء والإزالة يساورها بحكم نفسية الظلم والغدر، وأصبح يتجادل على مستقبلها وإدارته جناحا الصهيونية التقليديَّان اللذان تطوَّرا بعد التأسيس باسم حزب التكتل (ليكود) ذي الميل اليميني المتشدِّد، وحزب (العمل) ذي الميل اليساري الأقل تشدُّدًا، وإن اتَّفقا بالطبع على أصل الفكرة الصهيونية. بعد مئة عام من مشروع هرتزل يكتب شمعون بيريز مشروع عمل الدولة اليهودية في محيطها من منظور إقليمي تحت عنوان (الشرق الأوسط الجديد)، وفي الوقت نفسه يكتب بنيامين نتنياهو مشروع الليكود من منظور أوسع (مكان بين الأمم)(12)؛ ليُبرزا ما طرأ على المشروع والدولة –ومن طرف خفي ما طرأ على العرب- من تحوُّلات واقعيَّة.
تبدو رسالتا بيريز ونتنياهو مناظرتين حول وضعية الصهيونية وإسرائيل ومستقبلهما في نهاية القرن العشرين، لكنهما اتَّفقتا على مبدأ أساس: أن إسرائيل أصبحت أمرًا واقعًا أمام العرب والعالم، وأن قضيَّتها الكبرى صارت هي أمنها ورخاءها وتمدُّد قوَّتها، وبينما يركِّز بيريز أكثر على رخائها وأنه الوسيلة لتحقيق الأمن من منظور إقليمي، فإن نتنياهو لا يرى سوى أمن إسرائيل ورضوخ العرب لضماناته عمليًّا؛ لكي يكون هناك سبيل للسلام فالرخاء. وجدير بالذكر أن الشيء الذي بات محلَّ إجماع واضح بين قيادات إسرائيل المتناظرة؛ هو أنَّ التحدِّي الأكبر أمام إسرائيل من الثمانينيات –ومن ورائها المنطقة والعالم- يتمثل في الأصولية الدينية وبالأخص الإسلامية؛ التي ينعتونها بالتطرُّف والعنف والإرهاب(13). من الواضح أن تحوُّل المقاومة العربية من القوميَّة واليساريَّة المنهزمتيْن -لاسيما عقب هزيمة 1967م- إلى التيار الإسلامي الصاعد، وبالأخصِّ بعد انتفاضة فلسطين 1987م، وحمله شعار المقاومة والمواجهة مع إسرائيل، هو ما يقف وراء هذا الإجماع والتهييج الإسرائيلي على ذلك العدو الجديد والمشترك لإسرائيل والغرب، وأيضًا للأنظمة العربية وعلمانيِّيها.
يقدِّم بيريز مشروعًا لشرق أوسط جديد ملخَّصه أن: “مشكلة هذه المنطقة من العالم لا يمكن أن تحل على يد دولة منفردة، أو حتى على مستوى ثنائي أو متعدِّد. إن التنظيم الإقليمي هو المفتاح إلى السلام والأمن، ولسوف يعزز إشاعةَ الديمقراطية، والتنميةَ الاقتصادية، والنموَّ القومي، والازدهارَ الفردي، إلا أن هذا التحوُّل لن يتمَّ بسحر ساحر، أو بلمسة يد دبلوماسية، فتوطيد السلام والأمن يقتضي ثورة في المفاهيم. وهذه ليست بالمهمَّة السهلة، إلا أنها ضرورية مع ذلك، وبغيرها فإن أيَّ اتِّزان نحرزه سيكون قصير الأجل. هدفنا النهائي هو خلق أسرة إقليمية من الأمم، ذات سوق مشتركة، وهيئات مركزية مختارة، على غرار الجماعة الأوروبية”(14). وقوام ذلك المشروع أربعة أعمدة: الاستقرار السياسي وترجمته القضاء على ما أسماه الاصولية “التي تَشُقُّ طريقَها سريعًا وعميقًا في كل بلد عربي في الشرق الأوسط، مهدِّدَة بذلك السلام الإقليمي، ناهيك عن استقرار حكومات بعينها”، ثم الاقتصاد، فالأمن القومي، فإشاعة الديمقراطية، بشرط أن تكون ديمقراطية بلا إسلاميين، وإلا فلا لزوم لها: “إن حضور الأصولية، وهي حركة مناهضة للديمقراطية في الجوهر، حتى حين تستخدم شعارات ديمقراطية، يزيد في صعوبة إدخال العمليات الديمقراطية”(15). ومن ثم ينظر بيريز لأمن إقليمي في مركزه إسرائيل وتشرف عليه قوة عظمى معروفة، واقتصاد إقليمي وهو محور طرحه للشرق الأوسط الجديد.
الآن –أقصد منذ ربع قرن- يتحرَّك الفكر السياسي الصهيوني باتِّجاه إدارة المنطقة من مقعد الراحة والطمأنينة إلى أن العرب لم يعودوا يمثِّلون تحدِّيًا بقدر ما يمثلون فرصة للتشغيل والتوجيه. اليوم يرسم الصهاينة واقع المنطقة ومستقبلها بعقولهم اليقظة في الوقت الذي تأكَّد للجميع أن الأنظمة العربية اغتالت العقل والوجدان العربيَّيْن إلى أمد.
ومن ثم يتحدَّث بيريز عن مراحل: “فسنتقدم على مراحل، ولعلنا نصف الخطة بأنها برنامج تعاون يشبه هرمًا ثلاثي الأضلاع. معهد أبحاث مشترك لإدارة الصحراء، أو مصالح تعاونية لتحلية المياه، وإن التعاون المثمر الجاري حاليا بين إسرائيل ومصر في ميدان الزراعة هو مثال طيب على هذه المقاربة… أما المرحلة الثانية فتتضمَّن كونسورتيومات [تحالفات] دولية تتولَّى تنفيذ المشاريع التي تتطلَّب استثمار رساميل هائلة… أمَّا المرحلة الثالثة فتشمل سياسة الجماعة الإقليمية، مع التطوير التدريجي للمؤسَّسات الرسمية…”، ثم يتحدَّث عن أحزمة أربعة اقتصادية-سياسية تشد المنطقة: نزع السلاح، المياه والتكنولوجيا الحيوية والحرب على الصحراء، والهياكل الارتكازية للنقل والمواصلات، والرابع هو السياحة. ومن ثم يعيد تشكيل أولويات العرب أنفسهم باسم أولويات المنطقة (الشركاء): “في الماضي كانت القضية الفلسطينية تشكل القضية المركزية في الصراع العربي-الإسرائيلي، وهو أمر لم يعد موجودًا الآن، فقد أصبحت القضية المركزية هي التهديد النووي، … حتى يقول: إن الخطر الأعظم الذي نواجهه اليوم هو مزيج من الأسلحة النووية والأيديولوجية المتطرفة…”(16)، وبالطبع لا يشير في هذا إلى الدولة اليهودية بشيء وكأنها ليست التي تملك منفردة مخزونا نوويًّا هائلًا، ولا التي تضج بتطرُّف غير إنساني وغير مسبوق ومظاهره الفجَّة لا تنقطع!
لكن خلاصة منظور بيريز أو مشروعه أنه مشروع “ما بعد الدولة اليهودية” أو ما يمكن تسميته: المنطقة اليهودية، نحو شرق أوسط جديد يقوده اليهود.
وفي قبالة هذا التلاعب والتحايل الخطابي والسياسي، يقدم بنيامين نتنياهو من الأرضية ذاتها موقفًا صلفًا يشترط على العرب أن يعتنقوا عقيدة الأمن الإسرائيلي المقدَّس قبل أن ينعموا بسلام مع ذلك المارد: “فوجهة نظرنا لتحقيق السلام يجب أن تُبنى على دعامتين: الأولى- وجود نوايا مخلصة للسلام من جانب شركائنا العرب. والدعامة الثانية- هي أن الشروط أو الأوضاع الأمنية التي ستحمي إسرائيل يجب أن تثبتها تلك النوايا بدرجة لا تقل عن النوايا المسالمة”(17).
ويمارس نتنياهو –مثل بيريز على الجانب المقابل- مناظرة مع اليسار اليهودي في إسرائيل وخارجها الذي يراه قد تخلَّى عن الصهيونية، الأمر الذي يبدو فيه تناظر كبير بين مفاهيمهما واستخدام لعبارات متماثلة وحجج متشابهة. ولكن بينما يخاطب بيريز العرب في لحظة ما بعد أوسلو مباشرة مستغلًّا الدعاية الإقليمية والعالمية للاتفاق وحالة التبرير العربي والفلسطيني له (من قبل منظمة التحرير الفلسطينية بقيادة عرفات)، فإن نتنياهو يتوجَّه بتبرير دولته ومستقبلها الواعد إلى الغرب أولًا وبالأساس -وبالأخص الولايات المتحدة- نخبًا ورأيًا عامًّا، ليصوِّر لهم استمرار مأساة اليهود ما بعد الدولة في ظل العداوة العربية التي يُظهرها عدوانًا راديكاليًّا أزليًّا لصيقًا بالعرب ولا مبرِّرَ له؛ ومن ثم يعرض صورة شديدة الشيطنة للعرب حكوماتٍ وشعوبًا، قوميِّين ويساريِّين وإسلاميِّين وغيرهم، وبالأخص من حيث الميل للعنف والإرهاب(18): “إن توأم التطرُّف العربي –القومية العربية والإسلام الأصولي- هما الجذور الحقيقية للنزاع في الشرق الأوسط. فكراهية الأجانب التي يغذِّيها هذان التياران، ورغبتهما في التوسُّع، وعداؤهما المتوقِّد للنظام العالمي الحالي- كل هذه الأمور، لها دور كبير في إذكاء العنف الذي يسود منطقة الشرق الأوسط، وينطلق منها إلى أنحاء العالم… كما أن غياب التقليد الديمقراطي عن الساحة الشرق أوسطية، يخنق ويوقف أيَّ تطور لتوجُّهات من شأنها كبح جماح التطرف العربي-الإسلامي”(19).
ويقيم كلٌّ من بيريز ونتنياهو رؤيتيهما المتكاملتين –مثل مؤسس الصهيونية ومثل دلالات وعد بلفور- على نظر مدقق في الوضع السياسي العالمي وكيف تفكر القوى الكبرى؛ ومن ثم يرى بيريز أن العالم يقف مع خيار الاحتواء من أجل إنهاء الحروب، بينما يرى نتنياهو أن الردع هو الذي يصنع السلام: “إن تناقص عدد الدول العربية المستعدة لمحاربة إسرائيل باستمرار، يجسد حقيقة أساسية في الواقع الشرق أوسطي هي: أن السلام بين إسرائيل وجاراتها، هو سلام ردع، وأن احتمال تحقيقه يرتبط بصورة مباشرة على قدرة إسرائيل في الردع…”(20). ومن ثم فنتنياهو صريح بأنه لن تكون هناك دولة فلسطينية تأكل من أرض إسرائيل التي يراها ضئيلة الحجم والعمق الاستراتيجي جدًّا، ولن تكون هناك قوَّات لا في سيناء ولا شرق الأردن، فكلاهما مناطق عازلة لضمان أمن إسرائيل علاوة على استبقاء مرتفعات الجولان شمالا بيد إسرائيل للمعنى ذاته: “بغض النظر عن الخلافات في الرأي داخل إسرائيل، سواء بين مؤيدي حزب العمل أو الليكود، أو بين المعارضة والحكومة، فإن معظم الجمهور الإسرائيلي يؤمن بأن إسرائيل لا تستطيع العودة إلى حدود حزيران (يونيو) 1967، دون أن تعرض وجودها للخطر، وأنه لا يحق لها التفريط بالسيطرة الاستراتيجية على الجولان، ومناطق الضفة الغربية… إن سيطرة إسرائيل على هذه المناطق ليست عائقًا أمام السلام إنما هي عائق أمام الحرب”(21).
والخلاصة أن الدولة الإسرائيلية –بشِقَّيْ عقلها هذيْن- تقف اليوم على رؤية لذات قوية في منطقة متردِّيَة تخلُّفًا واستبدادًا وفرقة وصراعات، ومن طرف خفي تشير إلى تبعيَّة أنظمة هذه المنطقة للقوى الدولية التي تتشارك مع إسرائيل صهيونيَّتها، وتؤكِّد أن المستقبل لإسرائيل، وأنها بوابة لمستقبل المنطقة، وليس للعداء العربي من مصير إلا الهزيمة ومزيد من الخسائر، وأن على المنطقة أن تنتقل من العروبة إلى الشرق أوسطية خضوعًا للأمر الواقع، كما أن على العالم أن يكمل مسيرته التي بدأها عمليًّا منذ 120 عامًا وصرَّح بها في وعد بلفور منذ قرن تام.
النقلة الأساسية لدولة هرتزل هي من عَرْضِ الحلم إلى فَرْضِ الأمر الواقع على يد عصابات وسند دولي كبير ثم اليوم فرض المنطق الإسرائيلي كما يعرضه حكام تل أبيب. تقابلها نقلة كبيرة عكسية لدى العرب لا تُفهم إلا من منظور حضاري واسع؛ فقد تراجع لدى العرب كثير من عناصر التكوين وثقافة الفاعلية: تراجَع الانتماء للذات والولاء للإخوة وقيم المقاومة والنصرة والنخوة، وتمكَّن الاستبداد في ظلِّ الدولة القومية القطرية من إضعافهم كما لم يفعل الاحتلال الأجنبي، ونَزَفَ العرب من الأخلاق أضعاف ما نزفوه من مواردهم المادية(22)، فيما تحلَّى اليهود بقدر فاعل منها.
ويقوم المنظور الحضاري على مراجعة عناصر العقيدة والمرجعية وتحكيم القيم ومراعاة المقاصد والعمل بالسُّنَنِ والانتماء إلى الأمَّة والفعل على المستوى الحضاري الكلي؛ لكي نفهم ما يجري ونجيب عن سؤالنا: لماذا تقدَّم اليهود وتأخَّر العرب إلى هذه الدرجة من التبعيَّة للصهيونيَّة نفسها؟
والأمر واضح من مجرد العناوين: فاليهود جدَّدوا عقيدتهم الدينية وأحالوها عقيدة سياسية وقومية وقتالية أيضًا، واحترموا بدرجة ما مرجعيَّتهم، وأظهر قادتُهم اعتزازًا بالتوراة والتلمود والتاريخ اليهودي، وتحلوا بقيم عملية وبينيَّة، ينكرونها بالطبع في حق العرب من باب (..وَمِنْهُم مَّنْ إِن تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لاَّ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلاَّ مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَآئِمًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُواْ لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ وَيَقُولُونَ عَلَى اللّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ) [آل عمران: 75]. لكن الأبرز في العقل اليهودي الحديث هو مراعاته لعالم السُّنن والأسباب؛ وإن كان بانتقائية؛ الأمر الذي تجلَّى منذ هرتزل وحتى نتنياهو في العناية الشديدة بقواعد القوَّة والعوامل الدولية الممكنة لهم، واستغلال النفوذ المادي والأدبي في كسب المؤيدين. لقد قرَّر اليهود أن يروا أنفسهم أمَّة فصارت لهم دولة. لا يسعى الفكر الصهيوني إلى أن يصدِّقه الآخرون قبل أن يجسِّد هو حالة التصديق الصلب لأكاذيبه، وهي ذاتها مثلبة الفكر العربي الذي لا يمتلك الصلابة لكي يصدِّق حقائقه إلا بعد أن يصادق عليه آخرون. ومن ثم يلتصق بالفكر الصهيوني نزوع عملي واضح، بخلاف حالتنا نحن العرب. فهرتزل ووايزمان وبن جوريون ومائير وبيجن وشامير ورابين وشارون وبيريز وباراك ونتنياهو… هؤلاء ممَّن فكَّر وكتب، وعزم وعمل، كانوا نماذج لهذه الخاصية، بينما نعيش حالة فصام عربي نكد بين الفكر والعزم والحركة، تحوَّل بعد قرن إلى الدَّوران في الفلك الإسرائيلي وممارسة التصهيُن الرسمي باسم الدُّول وفرض الصهينة على الشعوب. ومن ثم فمن السهل أن يُجاب عن النصف الآخر من السؤال فيما يتعلَّق بنا نحن العرب والمسلمين بعد مئة عام من الوعد الذي أهاننا!

خاتمة: اليوم الإسرائيلي… إلى أين؟

أقصد باليوم تلك السنوات الأربع الماضية منذ منتصف 2013م فصاعدًا؛ منذ أعلنت الأنظمة العربية الحرب على شعوبها التي ثارت أو أيَّدت ثورات من أجل الحرية والتخلُّص من الاستبداد. اليوم يتحالف الاستبداد مع الصهيونية ضدَّ الشعوب تحت مقولة “الحرب على الإرهاب” الذي لم تعد الحكومات العربية تخجل من أن تصفه بالإسلامي. في مصر والسعودية والإمارات أصبحت حركة المقاومة الفلسطينية الإسلامية إرهابية سواء بقرار حكومي أو حكم قضائي، ومن يعاونها أو يعلن تأييده لها كذلك إرهابي، وأصبحت القدس هي الشرقية فقط وعلى مضض، وأصبحت غزَّة مصدرًا لإرهاب يحاصر ليلًا ونهارًا، وأصبح إغلاق المسجد الأقصى أمرًا هيِّنًا يمر بلا تعليق له معنى، وأصبحت أخبار القتل اليومي للفلسطينيِّين وحرق أولادهم لا تؤثِّر لا في الحكومات وحدًا بل ولا في الشعوب نفسها، في ظلِّ اتِّساع الشعور بالتساوي في المعاناة؛ ما بين الاحتلال الصهيوني والاستبداد العربي.
وأنا أختم الورقة كانت لقاءات نتنياهو مع حلفائه العرب وخطابه وخطاباتهم في الدورة الثانية والسبعين للجمعية العامة للأمم المتحدة تعلن عن تدشين مرحلة “التصهيُن العربي الكبير”. قال نتنياهو: “نحن في خضمِّ ثورة كبرى، ثورة في وضع إسرائيل في أوساط الأمم، هذا يحدث لأن الكثير من البلدان في جميع أنحاء العالم، استيقظت في النهاية إلى ما يمكن أن تفعله إسرائيل لصالحهم، أصبحت تلك البلدان تدرك مثل المستثمرين الكبار كوارن بافيت والشركات الكبرى مثل جوجل وإنتل، ما قد أدركوه وعرفوه لسنوات من أن إسرائيل هي دولة الابتكار، هي المكان للتكنولوجيا المتقدمة، والزراعة والمياه وأمن الفضاء الإلكتروني، وفي الطب وفي السيارات التي تقود نفسها بذاتها، وسَمِّ ما شئتَ من تلك الابتكارات، تلك البلدان تدرك أيضًا القدرات الاستثنائية لإسرائيل في مكافحة الإرهاب، وفي السنوات الأخيرة قدَّمت إسرائيل معلومات استخباراتية حالَتْ دون وقوع العشرات من الهجمات الإرهابية في جميع أنحاء العالم، لقد أنقذنا أعداد أنفس لا تحصى، لكن ربما لاحظتم أو حكوماتكم التي تعمل عن كثب مع إسرائيل لإبقاء بلدانكم ومواطنيكم آمنين. وقفت في العام الماضي على هذه المنصة، وتحدثت عن هذا التغير العميق في وضع إسرائيل في جميع أنحاء العالم، وانظر ماذا حدث في غضون عام، مئات الرؤساء ورؤساء الوزراء ووزراء الخارجية قاموا بزيارة إسرائيل، كثير منهم للمرة الأولى.
وكان من دواعي شرفي أن أمثل بلدي في ست قارات مختلفة، في سنة واحدة ست قارات، … بعد سبعين عامًا أضحي العالم يعانق إسرائيل وإسرائيل تعانق العالم، بالفعل خلال عام واحد زرت ست قارات، … تعرف إسرائيل أنها لا تقف وحدها في التصدِّي للنظام الإيراني، فنحن نقف جنبًا إلى جنب مع أولئك -في العالم العربي- الذين يشاطروننا الأمل في مستقبل أزهى. فقد عقدنا سلامًا مع الأردن ومصر، ورئيسها الشجاع عبد الفتاح السيسي الذي قابلته هنا الليلة البارحة وأقدر دعم الرئيس السيسي للسلام، وآمل أن أعمل عن كثب معه وقادة آخرين في الإقليم من أجل الدفع قُدُمًا بعملية السلام، فإسرائيل ملتزمة بتحقيق السلام مع كل جيراننا العرب بما في ذلك الفلسطينيِّين…
في هذا العام من الزيارات التاريخية والذكريات السنوية التاريخية، فإسرائيل لديها الكثير لتشعر بالامتنان له، فقبل 120 عامًا، تيودور هرتزل عقد أول مؤتمر صهيوني لتحويل تاريخنا المأساوي لمستقبل زاهر من خلال إنشاء دولة يهودية، وقبل مئة عام قرَّبَنَا “إعلان بلفور” من تحقيق تلك الرؤية من خلال الاعتراف بحق الشعب اليهودي في وطن قومي في أرضنا التاريخية، أرض الأجداد، وقبل سبعين عامًا عزَّزَت الأمم المتحدة تلك الرؤية باعتمادها قرارًا يدعم إنشاء دولة يهودية، وقبل خمسين عامًا قمنا بإعادة توحيد عاصمتنا القدس، حيث حققنا انتصارًا أعجوبة ضد أولئك الذين حاولوا تدمير دولتنا. فحلم تيودور هرتزل أصبح واقعًا، لقد عُدْنا إلى أرض الميعاد، وأحيينا لغتنا، وبنينا ديمقراطية مزدهرة، وغدًا اليهود في كل أنحاء العالم سيحتفلون برأس السنة العبرية الجديدة بداية عامنا الجديد، فذلك وقت لإمعان النظر والتأمل والنظر إلى الوراء متسائلين ومتعجبين، ونستعرض الأعاجيب التي ولدت في ظلِّها أمَّتنا ونتطلَّع إلى الإسهامات الرائعة التي ستواصل إسرائيل تقديمها إلى كل الأمم. انظروا من حولكم وستلاحظون هذه المساهمات كل يوم، في الأطعمة التي تأكلونها، في المياه التي تشربونها، والأدوية التي تتناولونها، والسيارات التي تقودونها، والهواتف التي تستخدمونها، ترونها في ابتسامة أم أفريقية في قرية بعيدة نائية بفضل الابتكارات الإسرائيلية، ولم يَعُدْ يجب عليها أن تمشي ثماني ساعات يوميًّا لتنقل المياه إلى أطفالها، ترونها في عيون طفل عربي طار إلى إسرائيل لكي تجري له عملية في القلب تنقذ روحه، وترونها في وجوه الناس في المناطق التي ضربتها الزلازل في هايتي والنيبال الذين تم إنقاذهم من تحت الأنقاض، ومُنِحُوا حياة جديدة بفضل الأطباء الإسرائيليِّين، فكما قال النبي أشعياء: “فقد جعلتك نورًا للأمم لتكون خلاصي إلى أقصى الأرض”، واليوم وبعد 2700 عام على تلك الكلمات أصبحت إسرائيل قوة صاعدة بين الأمم، وأخيرًا أصبح نورها مشرقًا عبر القارات يغمر المعمورة ويأتي بالأمل والخلاص إلى أقصى الأرض….”(23).
وبعده بيوم ذاع مقال لأحد الكتَّاب يقول فيه: “… طوال قرابة أربعة عقود منذ توقيع المعاهدة مع إسرائيل والعلاقات تتراوح ما بين السلام البارد والحرب الباردة بسبب التنافس الإقليمي المصري الإسرائيلي، وبسبب استمرار الاحتلال ومصادرة الأراضي وإنشاء المستعمرات عليها. ولكن علينا في الوقت نفسه أن نضع المصلحة الوطنية المصرية في المقدمة ونتحلَّى بالموضوعية، ونعترف بأن إسرائيل لعبت دورًا مهمًّا في دعم ثورة الشعب المصري في الثلاثين من يونيو، ومارست الوفود التي أرسلها بنيامين نتنياهو ضغوطًا كبيرة على أعضاء في الكونجرس من أجل تبنِّي رؤى موضوعية تجاه الأحداث في مصر”(24).
إلى هذا وصلت سطوة الصهيونية وبجاحة التصهين العربي، ولكن علينا أن نتذكَّر أن مشروع تطبيع الشعوب على مسار الحكومات المهدِرة للحقوق قد تعثَّر، بل نَمَتْ صحوة مقاومة موازية لذاك الخط الصهيوني تُجَدِّدُ رايةَ الصمود ضدَّ احتلال فلسطين وضدَّ الاستبداد بالشعوب ومحاولات طمس ثقافتها العربية الإسلامية، وإذا كان اليوم يوم ثورة كبرى في وضع إسرائيل من العالم ومن العرب خاصَّة، فإن ثورة أخرى مقابلة تحتدم نارها في أجيال لن تعرف إسرائيل ولا حلفاؤها الصمود أمامها، وإن لها مؤشراتها ومبشراتها من بين الغبار العالق في سماء الثورات المضادة. والله المستعان.
*****

الهوامش:

(*) المدير التنفيذي لمركز الحضارة للدراسات والبحوث.
(1) عبد الوهاب المسيري، موسوعة اليهود واليهودية والصهيونية، الجزء السادس، (القاهرة: دار الشروق، 1998)، ص ص 13 – 25.
(2) تيودور هرتزل، الدولة اليهودية، ترجمة: محمد فاضل، (القاهرة: مكتبة الشروق الدولية، 2007م)، ص ص 2 – 3. وقد نُشر الكتاب في فيينا ولايبزيج في 14 فبراير 1896 قبل ثمانية عشر شهرًا من انعقاد المؤتمر الصهيوني الأول.
(3) هرتزل، المرجع السابق، ص ص 6 – 7.
(4) هرتزل، المرجع السابق، ص 17.
(5) هرتزل، المرجع السابق، ص ص 18 – 19.
(6) راجع: بنيامين نتنياهو، مكان تحت الشمس، ترجمة: محمد عودة الدويري، مراجعة وتصويب: كلثوم السعدي، (عمان – الأردن: دار الجليل للنشر والدراسات والأبحاث الفلسطينية، 1995)، ص 66.
(7) نتنياهو، المرجع السابق، ص 58.
(8) نقلا عن: نتنياهو، المرجع السابق، ص 57.
(9) نتنياهو، ص 110.
(10) عبد الله القصيمي، العرب ظاهرة صوتية، (باريس: مطابع شركة مونمارتر للطباعة والنشر، 1977)، وفيه: “إن العرب ليظلون يتحدثون بضجيج وادعاء عن أمجادهم وانتصاراتهم الخطابية حتى ليذهبون يحسبون أن ما قالوه قد فعلوه.. إن من آصل وأشهر مواهبهم أن يعتقدوا أنهم قد فعلوا الشيء لأنهم قد تحدَّثوا عنه…”، ص 5.
(11) نادر فرجاني، هدر الإمكانية: بحث في مدى تقدُّم الشعب العربي نحو غاياته، (بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية، ط3، 1983).
(12) ترجم في العربية بعنوان “مكان تحت الشمس”.
(13) انظر: بنيامين نتنياهو، محاربة الإرهاب، ترجمة: عمر السيد وأيمن حامد، (القاهرة: النهار للطباعة والنشر والتوزيع، ط1، 1996)، ص ص 73 – 95.
وانظر: شمعون بيريس، الشرق الأوسط الجديد، ترجمة: محمد حلمي عبد الحافظ، (عمان-الأردن: الأهلية للنشر والتوزيع، ط1، 1414هـ/1994م)، ص ص 62-63.
(14) شمعون بيريس، الشرق الأوسط الجديد، ترجمة: محمد حلمي عبد الحافظ، (عمان – الأردن: الأهلية للنشر والتوزيع، ط1، 1414هـ/1994م)، ص ص 61 – 62.
(15) بيريس، ص ص 66 – 67.
(16) بيريس، حتى ص 89.
(17) نتنياهو، مكان تحت الشمس، مقدمة الطبعة العربية، ص 11 وما بعدها.
(18) راجع فصل: “حقيقة القضية الفلسطينية” في: نتنياهو، مكان تحت الشمس، مرجع سابق، ص ص 125 – 161.
(19) نتنياهو، مكان تحت الشمس..، المرجع السابق، ص 148.
(20) نتنياهو، المرجع السابق، ص ص 288 – 289.
(21) نتنياهو، المرجع السابق، ص 328.
(22) على الوردي: الأخلاق: الضائع من الموارد الخلقية، (بيروت: دار الوراق للنشر المحدودة، 2007).
(23) كلمة نتنياهو في الدورة 72 للجمعية العامة للأمم المتحدة على موقع YouTube، منشورة بتاريخ 19 سبتمبر 2017، متاح عبر الرابط التالي: https://goo.gl/jzzeRD
(24) عماد جاد: لقاءات الرئيس فى نيويورك، صحيفة الوطن، 21 سبتمبر 2017، متاح عبر الرابط التالي: https://goo.gl/PLK8VW

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى