مؤتمر المناخ في شرم الشيخ 2022: بين المنجز والمأمول

مقدمة:

واجهَ مؤتمر الأمم المتحدة للتغيُّر المناخي “كوب 27” الذي انعقد في شرم الشيخ بمصر وضعًا عالميًّا معقَّدًا للغاية، وقد انعكس هذا الأمر على تقييم كل طرف لمخرجات المؤتمر. فمن جانب، هناك تحديات عديدة تواجه أزمة تغيُّر المناخ يأتي في مقدِّمتها الحرب الباردة المتصاعدة بين الصين والولايات المتحدة الأمريكية، والتي انعكست بقوة في قرار الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب، الذي رأى أن اتفاقية باريس ستعطِّل الاقتصاد الأمريكي لصالح الاقتصاد الصيني، وقد انعكس هذا الصراع على مسارات النقاش التي اتخذتها جلسات قمة المناخ بوضوح.

ومن جانب آخر، الأزمة الاقتصادية العالمية، حيث يعاني العالم من ركود تضخُّمي يضرب الاقتصاد العالمي بقوة، جاء نتيجة تداعيات فيروس كوفيد 19 على المستوي الاقتصادي والاجتماعي، بالإضافة لأزمة سلاسل التوريد التي شَلَّتْ حركة التجارة العالمية. ثم جاءت الحرب الروسية الأوكرانية لتزيد من أعباء الوضع العالمي، فنتج عنها أزمة طاقة حادَّة نتيجة ارتفاع أسعارها بصورة كبيرة، وأزمة في الأمن الغذائي العالمي، لاسيما وأن أوكرانيا وروسيا هي سلة غذاء العالم، فأدَّى هذا أيضًا إلى ارتفاع أسعار الغذاء، فأصبحت الدول الفقيرة غير قادرة على استيعاب عددٍ هائلٍ من المصاعب الاقتصادية التي دَفَعَتْهَا لتحديد هدفٍ رئيسيٍّ من قمة كوب 27 الخاصة بتغيُّر المناخ، وهو ملف الأضرار والخسائر للحصول على تعويضات تساعدها على مواجهة الكوارث البيئية التي تؤثِّر بصورة سلبية على الاقتصاد العالمي. ويناقش هذا التقرير عددًا من العناصر: أولها هو سيرورة الاهتمام بقضية تغير المناخ، ثم تجربة مصر في التعامل مع هذا الملف منذ 2015 وحتى قمة كوب 27 في 2022، وأخيرًا قراءة في مخرجات المؤتمر وأبرز انجازاته.

أولًا- في التعريف بالمؤتمر[1]:

مؤتمر المناخ هو قمة سنوية تحضرها 197 دولة من أجل مناقشة تغير المناخ، وما تفعله هذه البلدان، لمواجهة هذه المشكلة ومعالجتها، ويعدُّ المؤتمر جزءًا من اتفاقية الأمم المتحدة الإطارية بشأن التغيُّر المناخي، وهي معاهدة دولية وقَّعتها معظم دول العالم بهدف الحدِّ من تأثير النشاط البشري على المناخ، حيث دخلت الاتفاقية حيِّز التنفيذ في 21 مارس 1994[2]. ويعرف اختصارًا بـ”كوب” والذي يمثِّل الهيئة العُليا لاتفاقية الأمم المتحدة الإطارية حول تغيُّر المناخ، ويتألَّف من ممثِّلين عن كلِّ دولةٍ وقَّعت على اتفاق باريس، ويجتمعون كلَّ عام. وآخر قمة كانت كوب 27 التي ترأستها مصر، والتي عُقدت في مدينة شرم الشيخ، التي تقع في جنوب سيناء والمطلَّة على البحر الأحمر في الفترة ما بين 6 نوفمبر و18 نوفمبر عام 2022[3].

ويعدُّ اختيار الدولة المستضيفة للمؤتمر وفقًا لنظام التناوب بين القارات المختلفة، وقد تقدَّمت مصر العام قبل الماضي بطلب لاستضافة دورة عام 2022 من المؤتمر، ووقع الاختيار عليها باعتبارها الدولة الأفريقية الوحيدة التي أبْدت رغبتَها في استضافته. وسنتحدَّث فيما بعد عن طريقة تعاطِي النظام المصري مع قضية المناخ منذ عام 2015، حتى وصلت لتنظيم أهمِّ مؤتمرٍ عالميٍّ في هذا الملف.

نجحت قمة جلاسكو التي عُقدت في المملكة المتحدة في 2021 في الوصول لاتفاق يهدف لتقليل حجم المخاطر البيئية التي يتعرَّض لها كوكب الأرض، لتصبح أول اتفاقية في التاريخ التي تنصُّ صراحةً على تقليل استخدام الفحم الذي يتسبَّب في زيادة الانبعاثات الغازية في الغلاف الجوي. كما تعهَّدت الوفود المشاركة أن تعمل على إنجاح قمة المناخ التي ستُعقد في مصر، للاتفاق على زيادة نسبة تخفيض معدَّلات انبعاثات غازات الدفيئة وثاني أكسيد الكربون، بما يتماشى مع تقليل معدَّل زيادة درجة حرارة الكوكب إلى أقل من 1.5 درجة مئوية. بالإضافة إلى تعهد قرابة الخمسمائة شركة من كبرى الشركات التي تعمل في مجال الخدمات المالية العالمية، على تخصيص استثمارات مالية بقيمة 130 تريليون دولار لإعادة العمل على إحياء وتنفيذ أهداف مؤتمر باريس في 2015، الذي يعدُّ واحدًا من أهم مؤتمرات المناخ[4].

وقد اتَّفقت الوفود المشاركة في قمة جلاسكو على إنهاء إزالة الغابات، والعمل على زيادتها وفقًا لخطة 2030، وقد شملَ هذا الاتفاق تخصيص 14 مليار جنيه إسترليني على دعم هذا الهدف، فالغابات تعدُّ هي رئة العالم، والعامل الأهم على امتصاص ثاني أكسيد الكربون الذي يؤدِّي لأزمة الاحتباس الحراري، ورغم ذلك فقد تعرَّضت الغابات لعملية تصفية مميتة واستنزاف أدَّى إلى خسارة مساحة واسعة منها، حيث قُطعت مساحات شاسعة من غابات الأمازون المطيرة[5].

ورغم المخرجات الكبيرة والهامَّة التي خرج بها مؤتمر جلاسكو، فإنه لم يتحقَّق منها سوى نتائج ضعيفة، وذلك وفقًا لثلاثة معايير رئيسية: الأولى هي الإبقاء على هدف ارتفاع درجة حرارة الأرض 1.5 درجة مئوية بنهاية هذا القرن، وهذا سيحدث بالمعيار الثاني وهو التخلُّص التدريجي من الوقود الأحفوري بصفة عامة، والفحم بصفة خاصة، ويحدث هذا من خلال الاستثمار في مصادر الطاقة النظيفة، والمعيار الثالث هو التأكيد على منح الدول الفقيرة 100 مليار دولار سنويًّا لمساعدتها في التكيُّف مع أزمة المناخ[6]، ولكن ما هي إلا أسابيع قليلة حتى اندلعت الحرب الروسية الأوكرانية وفكَّكت هذا التفاهم الهش. والجدير بالذكر أن الحرب الروسية لم تكُن هي العائق الأساسي والوحيد، فالخبرة التاريخية تؤكِّد أن هذه النتيجة لم تحدث حصرًا مع مؤتمر جلاسكو، فمعظم مؤتمرات المناخ لم يتحقَّق منها إلا أقل القليل، وسنوضِّح أسباب ذلك بعد قليل.

ثانيًا- واقع أزمة تغيُّر المناخ:

يعيش العالم أزمةً وجوديةً تستهدف حياةَ الجميع، ليس الإنسان فحسْب، بل كافة أنواع الكائنات الحيَّة، بسبب نموذج تنموي حداثي مدمِّر لا يركِّز سوى في لحظته الآنية وهنا فقط، ويهمل ما ينتظرنا جميعًا. إن الدول المسؤولة عن هذا الوضع هي الدول التي تتغنَّى بأرقامها القياسية في النموِّ الاقتصادي، متجاهلةً تمامًا تكلفةَ هذا النمو، وهل هو تقدُّم حضاري حقيقي أم تقدُّم للخلف. وإن الدول التي تسبَّبت في أزمة المناخ حاليًّا، ترفض تحمُّل مسؤوليتها، وتزعم أن ما حدث مجرَّد آثار جانبيَّة يمكن “التكيُّف” معها، حتى لا تكون مضطرَّة لتعويض المتضرِّرين من سياساتها، والمحصِّلة أن التلوُّث ما زالَ مستمرًّا وبأرقام مرعبة، رغم مرور 27 عامًا على انعقاد أول قمة للمناخ، فوفْق “أحدث التقارير الخاصة بالتلوُّث، تساهم الصين بـ27٪، وأمريكا بـ15٪ والاتحاد الأوروبي بـ10٪، وبقية الدول الغنية تتحمَّل النسب الكبرى، وتليها دول العالم النامي. والمعادلة هنا، أنه كلما كانت الدول أكثر تصنيعًا، كانت أكثر تلويثًا للأرض وللبيئة وللإنسان. لا تقتصر المسألة على التغيُّر المناخي، وارتفاع درجات حرارة الأرض، عن درجة ونصف، وذوبان الجليد، وارتفاع مستوى البحار. بل الأمر يتبلْور في عشر قضايا خطيرة، ويحتاج إيقاف التدهور فيها فعلًا إلى سياسات كبرى، على مستوى سياسات النظام العالمي، وعلى مستوى الاقتصاديات كذلك، وهي: التغيُّر المناخي، والزيادة في حموضة المحيطات، وانقراض العديد من الأنواع النباتية والحيوانية، وفقدان التنوُّع البيولوجي، وفقدان غطاء الأرض الأخضر، واختلال دورة النيتروجين والفوسفور، وتراجع منسوب المياه العذبة وزيادة التصحُّر، والتلوُّث الكيميائي والنووي، وتآكُل طبقة الأوزون وانتشار الأوبئة”[7].

ترى الدول التي وصلت للتقدُّم متأخِّرًا -وعلى رأسها الصين- أن الدول الغربية تستخدم ورقة تغيُّر المناخ لوقف تقدُّمها ونموِّها، وحتى الهند نفسها ترى أنه يفرض عليها تبنِّي سياسات تضرُّ بها، ولا يفعل الأمر مثله مع الدول الأوروبية. والأمر أصبح كذلك مع صعود دول أخرى كروسيا، فهذه الدول مجتمعة ترى أن الاهتمام بالمناخ تأخُّر عندما أصبح النمو في الغرب ضعيفًا وفي طريقه للركود، فهل أزمات المناخ وليدة اليوم، بالطبع لا ولا حتى وليدة التسعينيات، فتوقيت إعلان الاهتمام بالمناخ أحد أبرز القضايا المثارة في أوساط الدول التي ترى أن الغرب هو مصدر الأزمة، في حين يرى الأخير أن تبنِّي الصين لسياسة تصنيع خالية من أيِّ رقابة أو ضوابط، هو من أبرز أسباب أزمات المناخ، وبالتالي لا يجب تحميل الغرب فاتورة الفساد والتخلف الصيني في التصنيع بدون معايير.

الغريب في الأمر، أن العديد من الدول الأوروبية أعادت استخدام الفحم كوسيلة للطاقة، رغم أنه أحد أبرز أسباب أزمة الاحتباس الحراري، فقد أعلنت ألمانيا والدول الغربية -التي قطعت عنها روسيا الغاز بسبب مواقفهم من الغزو الروسي لأوكرانيا- أنها ستعمل على توفير الطاقة بما تملكه من أدوات كالفحم، ناهيك عن فرنسا التي ستعمل على توليد الطاقة من المفاعلات النووية، رغم خطورة استخدامها، وبالتالي فهذا يوضِّح أن الاهتمام الغربي بقضايا المناخ مفتعل[8]، ومقصود به حرمان الدول الصاعدة في قيادة العالم.

ورغم أن كوارث تغيُّر المناخ واضحة وجليَّة للعيان، فإن دول الجنوب هي الأكثر تضرُّرًا من هذا السياق وليس دول الشمال، وذلك لأن دول الجنوب وفي مقدِّمتها الشرق الأوسط، والدول الأفريقية تبدو الأكثر تأثُّرًا بالتغيُّر المناخي الذي بات يهدِّد بآثار سلبية خطيرة، فعلى سبيل المثال، تُعَدُّ وتيرةُ ارتفاع درجات الحرارة والرطوبة في الشرق الأوسط ضعف المتوسِّط العالمي تقريبًا، وغيرها من الأزمات التي قامت منظمة “جرين بيس” بالإشارة إليها مستغلَّة أن كوب 27 سينعقد في واحدة من الدول التي تُعاني من تداعيات أزمة المناخ، فقد نشرت تقريرًا تفصيليًّا بعنوان صادم “على شفير الهاوية”، تناول أزمات في المياه والغذاء وموجات شديدة الحرارة ستُعاني منها الأجيال المقبلة، وقد أكَّدَ التقريرُ الذي أعدَّتْه مختبرات “جرين بيس” للبحوث في جامعة إكسيتر البريطانية، أن درجات الحرارة ترتفع بمعدَّل متسارع يصل إلى 0.4 درجة مئوية لكلِّ عقد، وبالتحديد منذ ثمانينيَّات القرن الماضي وهو ما يعادل ضعف المعدَّل العالمي”. ونظرًا لوجود انبعاثات كربون عالية تخرج من منطقة الخليج الغنية بالنفط فمن المتوقَّع أن تتجاوز درجات الحرارة إلى 56 درجة مئوية في المستقبل القريب. وبالنسبة لمصر التي تستضيف الدورة الحالية من مؤتمرات المناخ، فيتوقَّع خبراء أن تفقد بحلول العام 2060 نصف إنتاجية قطاعها الزراعي، بسبب أزمات التصحُّر والجفاف وارتفاع درجات الحرارة وشحِّ المياه. وبحسب اليونيسيف، تقع 11 دولة من أكثر 17 بلدًا افتقارًا للمياه في العالم، في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا[9].

ثالثًا- مصر في الطريق إلى مؤتمر تغيُّر المناخ:

لقد ظهرت نتائج أزمة تغيُّر المناخ على العديد من الدول، وتسبَّب ذلك في حدوث متاعب اقتصادية واجتماعية عاشتْها تلك الدول، بسبب ندرة المياه وانتشار التصحُّر بالإضافة إلى زيادة حدَّة الكوارث البيئية كالفيضانات والأعاصير والحرائق، كما سبق الذكر، وتمثِّل تلك الأحداث تحديات جديدة تضغط بصورة سلبية كبيرة على قدرة حكومات الجنوب التي تُعاني اقتصاديًّا واجتماعيًّا، كما تمثِّل عبئًا جديدًا نظرًا للخسائر الاقتصادية الكبيرة التي تنتج من تلك الكوارث.

فبالرغم من أن القارة الأفريقية هي -تاريخيًّا- الأقل إسهامًا في إجمالي الانبعاثات الكربونية العالمية، فإنها من أكثر المناطق تضرُّرًا وتأثُّرًا بتغير المناخ مثل: تزايد وتيرة وحدة الظواهر المناخية المتطرِّفة، وارتفاع منسوب البحر، والتصحُّر، وفقدان التنوُّع البيولوجي، مع ما تمثِّله هذه الظواهر من تهديد لسُبل عيش الإنسان ونشاطه الاقتصادي وأمنه المائي والغذائي وقدرته على تحقيق أهدافه التنموية المشروعة والقضاء على الفقر. ولذلك حرصتْ مصرُ على مدى السنوات الماضية على الانخراط بقوة ولعب دور مؤثِّر في توجيه أجندة العمل الجماعي الدولي في هذا الخصوص، حيث أطلقت مصرُ مبادرتين أفريقيَّتين معنيَّتين بتغيُّر المناخ عامي 2015 و2016 تُعْنَى أولاهما بالطاقة المتجدِّدة في أفريقيا، والأخرى بدعم جهود التكيُّف في القارة. كما ترأَّست مصر عام 2018 مجموعة الـ 77 والصين في مفاوضات تغيُّر المناخ، وكذلك مجموعة المفاوضين الأفارقة، وبذلك كانت المتحدِّث باسم الدول النامية لاسيما الأفريقية منها والمعبِّر عن رؤاها وأولويَّاتها حول هذه القضية الحيويَّة[10].

وفي نفس السياق، أكَّد الدكتور محمود محيي الدين -رائد المناخ للرئاسة المصرية- أن أفريقيا أثبتتْ قدرتَها على أن تلعب دورًا كبيرًا في معالجة أزمة المناخ، بعدما طرحت حلولًا علميَّة قابلةً للتنفيذ، مشيرًا إلى وجود 22 دولة أفريقية تعتمد الآن على مصادر الطاقة المتجدِّدة، وذلك بفضْل تخصيص 10.5 مليار دولار في الاستثمار في الطاقة النظيفة، وذلك وفقًا لرؤية استخدام الهيدروجين الأخضر كمصدر للطاقة[11]. ناهيك عن وجود أكبر أربعة مشروعات للطاقة الشمسية في العالم على أرض أفريقيا ومنها محطة الطاقة الشمسية في بنبان بأسوان، موضِّحًا أن إفريقيا يمكنها أن تكون مصدرًا رئيسيًّا لإنتاج وتصدير الطاقة الخضراء في العالم.

وفي حديث مع بي بي سي، حذَّر محيي الدين من أن عدم وفاء الدول الكبرى بتعهُّداتها بتقديم 100 مليار دولار سنويًّا للدول النامية والفقيرة لمجابهة التغيُّر المناخي؛ قد يضاعف من مساهمتها في إنتاج الانبعاثات الضارة التي تبلغ حاليًّا 3٪ من إجمالي الانبعاثات العالمي. أي إنه يؤكِّد أن أفريقيا قد تؤدِّي إلى تفاقم أزمة تغيُّر المناخ، إذا لم تفِ الدولُ المسؤولة عن الوضع عن تحمُّل نتيجة سياساتها في تعويض الدول المتضرِّرة[12].

وذلك على الرغم من أن مصر لم تتَّخذ إجراءات جدِّيَّة فيما يخصُّ تبنِّي سياسات الحفاظ على المناخ، ومن ذلك على سبيل المثال التوسُّع في صناعة الأسمنت بقوة نتيجة تغطية الاحتياجات المتزايدة لصناعة المدن الجديدة وشبكات الطرق، حيث تُعَدُّ صناعة الأسمنت واحدةً من أكثر الصناعات الملوِّثة للبيئة والتي تتسبَّب في أضرارٍ بيئيَّة وصحِّيَّة للمواطنين، ورغم ذلك هناك اهتمام رسمي واضح بتحويل صناعة الأسمنت لتكون صناعةً رائدةً لتغطية الطلب المحلي والإقليمي المتزايد، لاسيما في ظلِّ مشروعات إعادة الإعمار في عدد كبير من دول المنطقة[13].

رابعًا- قضايا خلافية صاعدة من  مؤتمر المناخ 2022:

شهدت جلسات كوب 27 خلافات حادَّة ونقاشات ساخنة في عدد من الموضوعات أبرزها، موضوع التمويل، وتحديدًا تعويض الخسائر والأضرار التي تعرَّضت لها دول الجنوب، لاسيما وأن إدارة مصر للقمَّة من ناحية، ورغبة العديد من الدول النامية لعدم غلق هذا الملف قبل الخروج منه باتفاق يُبنى عليه في المستقبل تعويض البلدان المتضرِّرة، بالإضافة إلى الخلاف على طرق التعامل مع مصادر الطاقة، وبصفة خاصة الفحم والنفط والغاز، وأخيرًا، تركيز الأوربيِّين على إحياء هدف الحفاظ على 1.5 درجة مئوية، وذلك وفقًا لاتفاقية باريس 2015، التي تخشى الدول الأوروبية أن تموت أهم بنودها الخاصة بدرجة حرارة الأرض، وفيما يلي مزيد من التفصيل في تلك القضايا:

1- التمويل:

دخلت الدول المتضرِّرة كوب 27 تحت شعار “التعويضات ولا شيء قبل التعويضات”، فأخذت تضغط بكلِّ ما أُوتيت من قوة في سبيل تحقيق هذا الهدف، متجاهلةً للضغوط الأوروبية في التركيز على قضية 1.5 درجة مئوية، أو حتى الانشغال بقضية مصادر التقليل، وهل ستكتب في المسودة النهائية للجلسة الختامية التخلُّص التدريجي للوقود الأحفوري أم التقنين والتقليص التدريجي. فقد أدركت الدول المتضرِّرة أن المؤتمر يناقش كلَّ سنة قضايا لا تمسُّها وبعيدة عنها، خاصة قضايا التصنيع والتلوُّث ومصادر الطاقة، في حين أنها أقل الأطراف تأثيرًا في هذا الشأن، وأكثرهم عرضة للضرر، وقد أدركت الدول المتضرِّرة أنه ثمة أغراض كثيرة من تجاهل الدول الغنية لفتح هذا الملف، وأبرز تلك الأسباب هو أن الدول الغنية تخشى أن تفتح على نفسها بابًا من التعويضات الذي لا ينتهي، ناهيك عن أن قبولها بهذا الأمر، يعني اعترافها بالمسؤولية عما حدث ويحدث وسيحدث في المستقبل، لذلك تحاول الدول الغربية إلقاء التهمة على الصين واستراتيجياتها في التصنيع، مؤكِّدة على ضرورة أن تساهم بجزءٍ كبير من ملفِّ التعويضات، متجاهلةً أن الصين بدأت متأخِّرة عن الثورة الصناعية بعقود عن نظرائها في أوروبا والأمريكتين، في حين ترى الصين أن الدول الغربية هي المسؤولة عن الاختلال المناخي، كما أن قبولها المساهمة في ملفِّ التعويضات يجب أن يسبقَه اعترافُ الدول الغربية بأن الصين ليست دولة نامية وأنها دولة متقدِّمة ومؤثِّرة في المجتمع الدولي. ولذلك استمرَّ هذا الجدال أسبوعَين من المفاوضات ولم يسجِّل تقدُّمًا يُذكر نحو تقريب وجهات النظر، بسبب تمسُّك كلِّ طرفٍ بموقفه[14].

وبالرغم من أن الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة الأمريكية فتحا الطريق أمام مناقشة ملف التعويضات والخسائر، وأعلنا تخصيص أكثر من مليار يورو (نحو مليار و33 مليون دولار أمريكي) لتمويل تكيُّف الدول الأفريقية مع تغيُّر المناخ، من بينها 60 مليون يورو للخسائر. فإنهما اشترطا أن يتمَّ تنظيم هذا الأمر عبر البرامج والمؤسَّسات المالية القائمة، وليس إنشاء صندوق جديد خاص بهذا الغرض، إلَّا أن الدول المتضرِّرة كانت تصرُّ على إنشاء صندوق جديد تسهم فيه مع الدول الغنية في وضع لائحة عملِه التنفيذيَّة وأغراضه الكُلية. وأكَّدت وزيرة البيئة الباكستانية شيري رحمن المتحدِّثة باسم (مجموعة 77 والصين) التي تضمُّ 134 دولة، في مؤتمر صحفي، بأنَّ “تأخير إحقاق العدالة المناخية هو إنكار للعدالة”[15]. لاسيما في ظلِّ زيادة حدَّة أضرار الكوارث البيئية التي تخلِّف عشرات الآلاف من الضحايا سنويًّا، بخلاف الخسائر الاقتصادية الضخمة، وخير مثال على ذلك خسائر الفيضانات الأخيرة التي غمرت ثلث باكستان وتسبَّبت وحدها بأضرار قُدِّرَتْ بأكثر من 30 مليار دولار[16].

ورغم أن جدول أعمال المؤتمر كان مقرَّرًا أن ينتهي يوم الجمعة 18 نوفمبر 2022، فإن الدول المتضرِّرة بقيادة مصر، مدَّت المناقشات 24 ساعة أخرى، وأقرَّ مؤتمر الأطراف حول المناخ (كوب 27) فجر اليوم الأحد 20 نوفمبر 2022 في شرم الشيخ تأسيسَ صندوق الخسائر والأضرار لتعويض الدول المتضرِّرة، وصَفَّقَ المندوبون بعد إقرار إنشاء الصندوق خلال جلسة عامة ختامية بعد أسبوعين من المفاوضات الشاقَّة[17]، ومن الجدير بالذكر، أنه منذ توقيع اتفاق باريس قبل 7 سنوات، لم تنجح الدول النامية في وضع ملف الخسائر والأضرار على الأجندة الرئيسية، وإنشاء هذا الصندوق يُعَدُّ مكتسبًا ستعمل الدول المتضرِّرة على استكماله بقوة في القمم المقبلة[18].

ووصفت صحيفة الجارديان البريطانية الاتفاق على إنشاء صندوق لتعويض الخسائر والأضراربأنه بمثابة اختراق تاريخي، طالبت به البلدان النامية على مدى ثلاثة عقود. ولكنها أضافت أن الشيطان يكمن في التفاصيل عبر طرح عدَّة أسئلة: من يموِّل هذا الصندوق؟ وما هي شروط حصول الدول على التعويضات؟ وهل ستقوم بردِّها أم لا؟ وهو نفس رد فعل الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، الذي تساءل عن الجهة التي ستقوم بدفع الأموال[19]. وكأنه يرفع عن بلاده مسؤولية الأضرار التي يعيشها العالم من جراء الثورة الصناعية، وما تلاها من أزمات.

كما أشادت الصحيفة باللغة الخاصة المطالبة بإصلاح المؤسسات المالية الدولية في البيان الختامي للمؤتمر، واعتبرتها إنجازًا حقيقيًّا أيضًا ويمكن أن تساعد، على سبيل المثال، البلدان النامية على الاستثمار في مصادر الطاقة المتجدِّدة. لكن مرة أخرى، التفاصيل مهمة، فما هي التغييرات التي سيتمُّ تنفيذها، وبأيِّ سرعة؟ أم ستأخذ سنوات طويلة جديدة، تزيد من حدَّة الأزمة[20].

2- الفحم ومصادر الطاقة والوقود الأحفوري:

يعتمد الاقتصاد العالمي بصورة شبه كاملة على مصادر الطاقة التي تتولَّد من الفحم والوقود الأحفوري، إلَّا أنه ثمة ضغط على قضية استخدام الفحم بصفةٍ خاصَّة، لاسيما أنه ينتج تلوُّثًا بصورة أكبر بكثير من مصادر الطاقة الأخرى، وهو ما دفع الوفود المشاركة في قمة جلاسكو إلى الخروج باتفاق لتقليل استخدام الفحم، إلَّا أن الهند طرحت هذا الملفَّ بقوة في كوب 27، لأنها تعتمد على الفحم بصورة كبيرة في توليد الطاقة، ووجدت أن الضغط الذي يمارَس عليها يجب أن يفعل الأمر مثله على باقي مصادر الطاقة التي تضرُّ بالمناخ، أو تعويضها مادِّيًّا وتكنولوجيًّا بمصادر تساعدها على تطبيق عدالة الانتقال من مصادر الطاقة الملوِّثة إلى مصادر الطاقة النظيفة، ويقصد بعدالة الانتقال أو عدالة التحوُّل، السماح للدول بالانتقال إلى مرحلة الاقتصاد الأخضر الذي يعتمد على الطاقة النظيفة على مدى زمني طويل، حتى لا يحدث اضطراب اجتماعي واقتصادي في تلك الدول، يؤدِّي إلى انهيارها. كما نجحتْ مساعي الهند والصين في تخفيف الصياغة لتصبح التقليص التدريجي لكلِّ أنواع الوقود الأحفوري بدلًا من التخلُّص التدريجي.

ويرتبط هذا الخلاف بقضية أخرى وهي قضية الهدف الذي اتَّفقت عليه دول العالم بضرورة الحفاظ على هدف 1.5 درجة مئوية الذي تم إقراره في اتفاق باريس 2015، وهي معدَّل الزيادة التي يؤكِّد علماء البيئة أن أزمات تغيُّر المناخ ستتفاقم بصورة حادَّة لو زادت درجة الحرارة عن هذا الرقم[21].

وقد أخذت كافَّة وفود أوروبا تنادي بالتركيز على هذا الملف بصورة خاصة، في حين كانت الدول المتضرِّرة مهتمَّة أكثر بملف الأضرار والخسائر، وقد عبَّر سامح شكري، وزير الخارجية المصري ورئيس مؤتمر كوب 27، عن موقف بلاده وموقف الدول المتضرِّرة من هذه القضية، قائلًا: إن الحفاظ على سقف ارتفاع درجة حرارة الأرض عند 1.5 درجة مئوية لا يزال في متناول اليد. من الناحية النظرية هذا صحيح، لكن من الناحية السياسية الأمر ليس كذلك، حيث يجب أن تنخفض الانبعاثات العالمية بنسبة 50 في المئة بحلول عام 2030، بينما تسجل تلك الانبعاثات حاليًّا أرقامًا قياسيَّة جديدة. أي إنه يقول إن المؤشِّرات الأوَّلية لا توضِّح أن هناك نيةً جدِّيَّةً من جانب الدول الأوروبية في تحقيق هذا الهدف، وبالتالي لا ينبغي استنكار موقف الدول المتضرِّرة التي تطالب بتعويضات تساعدها في التكيُّف مع الأضرار التي حدثت وستحدث في المستقبل. وقد ظهر التناقض بين ما تنادي به الدول الغربية وما تنفِّذه بالفعل على أرض الواقع في تصريحات وزيرة الخارجية الألمانية أنالينا بيربوك التي وصفت الحدَّ من ظاهرة الاحتباس الحراري بأنه أولوية قصْوى، وأن البشرية تتحرَّك بقوَّة نحو الهاوية، حيث يتجاوز النسبة المحتملة للاحترار العالمي بأكثر من 2.5 درجة مئوية[22].

والمثير للسخرية أن الوزيرة تجاهلت أن بلادها عادت بقوة لاستخدام الفحم في توليد الطاقة، نظرًا للأزمة التي يعيشها الاقتصاد الألماني بعدما قطعت موسكو الغاز عنها إثر أزمة الغزو الروسي لأوكرانيا. لقد سادتْ أجواءٌ من غياب الثقة بين الدول الغنية والدول المتضرِّرة، حيث لم تهتم الأخيرة بمقولات الأولى، لاسيما بعدما انسحبت الولايات المتحدة الأمريكية في فترة دونالد ترامب من اتفاقية باريس للمناخ، فرغم محاولات الدول الغنية إعادة الثقة في قضية المناخ من خلال الخروج بقرارات كبيرة في مؤتمر جلاسكو 2021، ولكن في الحقيقة لم يُطَبَّقْ منها شيء، ولذلك حاولت الولايات المتحدة الأمريكية أن تمنح كوب 27 زخمًا كبيرًا، لإعادة إحياء هذا الملف، وخرج جو بايدن الرئيس الأمريكي معتذرًا للعالم عن قرارات سلفه ترامب، مؤكِّدًا أن الأزمة المناخية تتعلَّق بأمن البشر والأمن الاقتصادي والأمن القومي والحياة على الكوكب، وأن هناك تشريع رئيسي أُقِرَّ بدفع من إدارته يشمل أكبر استثمار حكومي أمريكي في الطاقة النظيفة، لتحقيق تعهُّدات بلاده في خفض انبعاثات الغازات الدفيئة بنسبة أكثر من 50٪ بحلول عام 2030[23]. وبحسب حديث ساميويل وربيرج المتحدِّث الإقليمي للخارجية الأمريكية لوكالة الأنباء المصرية، فإن الرئيس جو بايدن تعهَّد بمضاعفة تمويل صندوق المناخ 4 مرات من الحدِّ الأقصى الذي بلغتْه إدارة باراك أوباما، وتقديم 11 مليار دولار من التمويل سنويًّا بحلول 2024، وأوضح أن التمويل سيكون مقدَّمًا لـدعم جهود الدول الرامية لإزالة الكربون من اقتصاداتها وتعزيز ممارسات استخدام الأراضي الصديقة للمناخ وتعزيز التكيُّف والمرونة[24]. إلا أن الخبرة التاريخية طوال السنوات الماضية لم تَبْنِ أيَّ جدار من الثقة على تطبيق تلك الوعود. وهو ما أكَّده الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو جوتيرس عندما اختتم كلامه في كوب 27 بأن العالم يعاني من أزمة غياب الثقة بين دول الشمال ودول الجنوب، في الوقت الذي يحترق فيه العالم أمام أعيننا، لاسيما في ظلِّ التوسُّع في استخدام الوقود الأحفوري الذي يأخذ البشرية رهينة[25]، على حدِّ تعبيره. وهذا صحيح في حقيقة الأمر، إذ لا تسْمح الالتزامات الحالية للدول المختلفة بتاتًا بتحقيق هدف حصر الاحترار بـ1,5 درجة مئوية. وتفيد الأمم المتحدة بأنها تسْمح بأفضل الحالات بحصْر الاحترار بـ2,4 درجة مئوية في نهاية القرن الحالي[26].

خامسًا- على هامش قضايا تغير المناخ:

ولكن ثمة قضيَّتين يمكننا أن نختم بهما هذا التقرير، القضية الأولى خاصة بعملية التمويه / الغسل الأخضر، وهي عملية التضليل الإعلامي التي يتعرَّض لها عددٌ هائلٌ من الأشخاص حول الأسباب الحقيقية التي تقف خلف أزمة تغيُّر المناخ، وتضرُّ هذه العملية بإجراءات إنقاذ ما يمكن إنقاذه في ملف أزمة تغيُّر المناخ، لاسيما وأن هذا الملف يحتاج لجهد جماعي من الحكومات والمؤسسات وحتى الأفراد، وبالتالي تسْهم عملية التضليل في تعميق الأزمة، ففي رسالة مفتوحة وقَّعتها 550 مجموعة وفردًا، من بينهم مسؤولة المناخ السابقة بالأمم المتحدة كريستيانا فيجويريس، والدبلوماسية لورانس توبيانا إحدى مهندسي اتفاق باريس للمناخ المبرم عام 2015، والذي يشكِّل المرجع الأساسي للأهداف العالمية للحدِّ من تغيُّر المناخ. طالب الموقِّعون من رؤساء أكبر سبع شركات تكنولوجيا رقمية عالمية بينها تويتر وفيس بوك وجوجل بتبنِّي سياسات صارمة تمنع انتشار المعلومات المناخية الزائفة على منصَّاتها، على غرار ما حدث أثناء مواجهة الشائعات أثناء اجتياح فيروس كوفيد 19. فقد أظهرت دراسة استقصائية رافقت الرسالة، تأثيرَ هذا التضليل على ستة بلدان من الاقتصادات الرئيسية في العالم، وهي الولايات المتحدة، وألمانيا، وبريطانيا، والهند، والبرازيل، وأستراليا، حيث يرى قرابة 20٪ ممَّن شملهم الاستطلاع أن ظاهرة الاحتباس الحراري هي ظاهرة طبيعية وليست من صنع البشر، رغم أن كلَّ الهيئات والمؤسَّسات المعنيَّة تؤكِّد أن هذا الأمر غير صحيح، وأن ما حدث هو من صُنع الإنسان بلا أدْنى شك[27].

القضية الثانية هي أن الاستثمار في الطاقة النظيفة ما زال محدودًا للغاية ويحتاج إلى اهتمام أوسع، رغم أنها ضرورة حتمية يجب الانتقال إليها للتقليل من الأضرار التي تهدِّد الحياة البشرية جميعها، وتُعَدُّ المؤتمرات السنوية للمناخ فرصةً لتنشيط الدعوات لحَثِّ الدول الصناعية الكبرى على القيام بدورها الواجب لإصلاح ما أفسدتْه بنهَمها الرأسمالي وتغوُّلها على البيئة[28].

والمحصِّلة أن ملفَّي التضليل الإعلامي والاستثمار في الطاقة النظيفة، هما وجهان لعملة واحدة، لأن الوعود على الاستثمار في الطاقة النظيفة قد سادت في قمم المناخ في السنوات الماضية، ولم يتمَّ العمل بها في الحقيقة، وكأنها مجرَّد كلمات تُقال لتجميل الوضع الكارثي للمناخ، وتهدئة الشعوب وتضْليل المهتمِّين بهذا الملف.

خاتمة:

تناول الفصل التاسع لبرنامج الأمم المتحدة للبيئة عددًا من الإشكاليات التي لطالما مثَّلت بؤرَ استقطابٍ بين الوفود المشاركة في مؤتمرات المناخ، وعلى رأس تلك الإشكاليات هو معالجة الترابط بين المشكلات البيئيَّة وطرح رؤى كليَّة للتعامل معها، فعلى سبيل المثال، الربط بين مشكلات الهواء والمياه والتصحُّر وفقْدان التنوُّع، بحيث تكون الحلول كليَّة وشاملةً، والإشكاليَّة الثانية هي ربط البيئة بالتنمية، وعدم الفصْل بينهما، والتأكيد على أن حلَّ مشكلات الفقر المدقع والتوسُّع في مشروعات التنمية، لا ينبغي أن ينفصل عن البيئة، بل هو جزءٌ منها، حتى لا تكون أضرار هذه التنمية أكبر من مكاسبها.

هناك إشكاليات كبرى أخرى، ستؤثِّر أيضًا على قضايا المناخ، وهي خاصة بالحرب الباردة الجديدة المتصاعدة بين بكين وواشنطن، وستنعكس بالطبع على الجهود الرامية لمعالجة آثار تغيُّر المناخ، رغم تأكيد مبعوث الصين لشؤون تغيُّر المناخ شيه تشن هوا “أن الولايات المتحدة والصين أجريا محادثات بناءة في قضية تغير المناخ ومن المقرر أن يستمر تبادل الحوار بين البلدين”[29]. إلى أن تصاعد حدة الخلافات الصينية الأمريكية، ستلقي بظلالها بقوة على ملف المناخ، لاسيما أن المتضرر الأكبر من الوضع المناخي ليست الدول المتقدمة، ولكن الدول الفقيرة.

ناهيك عن إشكالية الشركات متعددة الجنسيات التي بنت امبراطورياتها وفقًا للأوضاع القائمة، والتي لن تتنازل بسهولة، وستعمل بقوة على الاستمرار في عمليات التضليل الإعلامي، وهنا يأتي بقوة أهمية الجهود الفردية ومنظمات العمل الأهلي غير الرسمي، على ضرورة التوعية بمخاطر تغير المناخ القادرة على إنهاء الحياة على كوكب الأرض وليست إنهاء الوجود البشري فقط، ومن المهم هنا عقد شراكات مع شركات التكنولوجيا الرقمية التي ستحتاج إلى عقد مثل تلك الصفقات لتحسين صورتها أمام الجمهور، لاسيما في ظل انتقادات انتهاك خصوصية مستخدمي العالم الرقمي، وبالتالي ستكون بحاجة للمساعدة في هذا الملف.

خلاصة القول، انتهى مؤتمر كوب 27 بخيبة أمل عند الدول الأوروبية وفرحة أمل عند الدول الفقيرة ظهرت في التصفيق الحار لوفودها عقب نهاية المؤتمر، رغم أن الخبرة التاريخية تشير إلى عدم تحقيق أغلب وعود المؤتمرات السابقة، إلا أنها شعرت أن انجاز تأسيس صندوق الأضرار والخسائر يمكن أن يكون بداية صحوة تلك الدول للمطالبة بحقوقها وعدم التنازل عنها، رغم أن خبرات العالم في السنوات الماضية لا تعني بالضرورة أن هذا سيحدث، فقد وافقت الدول الغنية في عام 2009 على المساهمة ب100 مليار دولار سنويا بحلول عام 2020 لمساعدة الدول الفقيرة ودعم جهود التكيف، ولكن هذا لم يتحقق بعد حتى الآن، وفي ظل الظروف الحالية تضاءلت احتمالات تحقيق الأهداف الخاصة باتفاق باريس، والذي يهدف لحصر الاحتباس الحراري عند 1.5 درجة مئوية، وحتى بفرض احترام الدول الموقعة على الاتفاقيات السابقة بتعهداتها الحالية، فإن النتيجة المتوقعة في نهاية المطاف ستكون ارتفاع الانبعاثات بنسبة تتراوح بين 5 و10٪، الأمر الذي يضع العالم على مسار تصاعدي في درجة الحرارة قدره 2,4 درجة مئوية في أفضل الحالات بحلول نهاية القرن الحالي[30].

وكي نكون منصفين، فإن مؤتمر شرم الشيخ لم يكن سلبيًّا وعديم الجدوى، لكن كان هناك طموح لحلِّ كلِّ مشاكل المناخ، واصطدم ببعض الصعوبات، وعلى رأسها التعامل مع عشرات الأطراف المتصارعة وغير المتَّفقة، نظرًا لحدَّة الاستقطاب الدولي، والأهم من كلِّ ذلك، هو أن هناك شركات متعدِّدة الجنسيَّات ترغب في حماية مصالحها من استمرار العمل بالوقود الأحفوري، وهذه الشركات تضغط بقوة لإفشال كافة مؤتمرات المناخ، ناهيك عن أن التحوُّل من الوقود الأحفوري إلى الطاقة النظيفة سيؤثِّر بقوة على السِّلم الاجتماعي والاستقرار الاقتصادي في معظم دول العالم، لذلك فهو بحاجة إلى التأنِّي، ولكن شريطة الصدق والإخلاص والجدِّيَّة في ضرورة البدء في إجراءات الإنقاذ.

____________________

الهوامش

[1] مؤتمر الأمم المتحدة للتغير المناخي، مؤتمرات سنوية تعقد في إطار اتفاقية الأمم المتحدة الإطارية بشأن التغير المناخي (UNFCCC). تعدُّ بمثابة الاجتماع الرسمي للأطراف في اتفاقية الأمم المتحدة الإطارية بشأن التغيُّر المناخي (مؤتمر الأطراف، كوب) لتقييم التقدُّم المحرَز في التعامل مع التغير المناخي -بدءًا من منتصف التسعينيات- للتفاوض لوضع التزامات ملزمة قانونًا للدول المتقدِّمة للحدِّ من انبعاثات غازات الاحتباس الحراري.

[2] عبد الرحمن أبو طالب، مؤتمر المناخ 2022: ماذا ينبغي أن تعرف عن قمة شرم الشيخ للمناخ؟، بي بي سي عربي، 1 أكتوبر 2022، تاريخ الاطلاع: 3 فبراير 2023، متاح عبر الرابط التالي: https://cutt.us/R4UvK

[3] أنس ذكي، كوب 27.. دليلك لفهم مصطلحات قمة المناخ، الجزيرة.نت، 7 نوفمبر  2022، تاريخ الاطلاع: 7 فبراير، 2023، متاح عبر الرابط التالي: https://cutt.us/qCDaK

[4] عبد الرحمن أبو طالب، مؤتمر المناخ 2022، مرجع سابق.

[5] جورجينا رانارد، قمة المناخ: قادة العالم يتعهدون بوقف إزالة الغابات بحلول 2030، بي بي سي عربي، 2 نوفمبر 2022، تاريخ الاطلاع: 15 فبراير 2023، متاح عبر الرابط التالي: https://cutt.ly/e4bM9QT

[6] قمة المناخ في غلاسكو.. معايير دقيقة للحكم على النجاح والفشل، سكاي نيوز عربية، 30 أكتوبر 2021، تاريخ الاطلاع: 28 مارس 2023، متاح عبر الرابط التالي: https://cutt.us/1bcJS

[7] عمار ديوب،  في تحديد المسؤولية عن التغيُّر المناخي، العربي الجديد، 13 نوفمبر 2023، تاريخ الاطلاع: 25 فبراير 2023، متاح عبر الرابط التالي: https://cutt.ly/I4b1bj1

[8]  المرجع السابق.

[9] أنس ذكي، على شفير الهاوية.. الشرق الأوسط في قلب مخاطر التغير المناخي، الجزيرة.نت، 12 نوفمبر 2022، تاريخ الاطلاع: 13 فبراير 2023، متاح عبر الرابط التالي: https://cutt.us/XezID

[10] للمزيد انظر:

– مؤتمر الأطراف لاتفاقية الأمم المتحدة لتغير المناخ، الهيئة العامة للاستعلامات، 12 مايو 2022، (COP 27) مصر 2022، تاريخ الاطلاع: 9 مارس 2023، متاح عبر الرابط التالي: http://bit.ly/3yYPfVM

الطريق إلى الدورة السابعة والعشرين لمؤتمر الدول الأطراف لتغير المناخ كوب 27، مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية، 6 أبريل 2022، تاريخ الاطلاع: 4 مارس 2023، متاح عبر الرابط التالي: https://cutt.us/RGfqF

[11] محمود محيي الدين: أفريقيا تسعى لتطوير وتعميم استخدام تكنولوجيات التكيف مع التغير المناخي، الهيئة العامة للاستعلامات، 20 يونيو 2022، تاريخ الاطلاع: 20 فبراير 2023، متاح عبر الرابط التالي: http://bit.ly/3Z4TXvM

[12] محمود سامي، بعد انتهاء قمة المناخ.. هذه أبرز مكاسب مصر وخسائرها، الجزيرة.نت، 22 نوفمبر 2022، تاريخ الاطلاع: 1 مارس 2023، متاح عبر الرابط التالي: https://cutt.us/8aUwK

[13] داليا عطية، بعد توجيهات الرئيس.. بدء معركة التصدي لملوثات صناعة الأسمنت.. وخبراء: أغلب المصانع تهدد صحة المصريين، بوابة الأهرام، 15 أغسطس 2018، تاريخ الاطلاع: 28 مارس 2023، متاح عبر الرابط التالي: https://cutt.us/mU2Mz

[14] “كوب 27”.. الخسائر والأضرار تعرقل اتفاق الأطراف، العربي الجديد، 17 نوفمبر 2022، تاريخ الاطلاع: 25 فبراير 2023، متاح عبر الرابط التالي: https://cutt.us/q8gZ6

[15] من سيمول صندوق “الخسائر والأضرار” المناخية؟، يورونيوز، 21 نوفمبر 2022، تاريخ الاطلاع: 27 فبراير 2023، متاح عبر الرابط التالي: http://bit.ly/3luX0zp

[16] “كوب 27”.. الخسائر والأضرار تعرقل اتفاق الأطراف، مرجع سابق.

[17] مؤتمر المناخ بمصر يقر اتفاقا لتمويل الخسائر والأضرار.. والمبعوث الصيني يصف المحادثات مع نظيره الأميركي بأنها “بناءة جدا، الجزيرة.نت، 20 نوفمبر 2022، تاريخ الاطلاع: 23 فبراير 2023، متاح عبر الرابط التالي: http://bit.ly/42zq8Xc

[18] مؤتمر المناخ 2022: إقرار إنشاء صندوق لتعويض “الخسائر والأضرار” التي تتكبدها الدول النامية، بي بي سي عربي، 20 نوفمبر 2022، تاريخ الاطلاع: 26 فبراير 2023، متاح عبر الرابط التالي: https://cutt.us/iJnV6

[19] كوب 27: اتفاق على صندوق لمساعدة الدول المتضررة من الكوارث المناخية، العربي الجديد، 20 نوفمبر 2022، تاريخ الاطلاع: 12 مارس 2023، متاح عبر الرابط التالي: https://cutt.us/V6SMi

[20] مؤتمر المناخ 2022: نتائج المؤتمر “إنجاز حقيقي لكنها غير كافية”- الغارديان، بي بي سي عربي، 21 نوفمبر 2022، تاريخ الاطلاع: 25 فبراير 2023، متاح عبر الرابط التالي: https://cutt.us/TfFUY

[21] كوب 27 في يومه الختامي: مقترح جديد حول “الخسائر والأضرار” المناخية، العربي الجديد، 19 نوفمبر 2022، تاريخ الاطلاع: 4 مارس 2023، متاح عبر الرابط التالي: http://bit.ly/3JXqGPf

[22] قمة عالمية في شرم الشيخ.. مصر تتسلم رئاسة مؤتمر المناخ كوب 27، دويتشه فيله، 6 نوفمبر 2022، تاريخ الاطلاع: 3 مارس 2023، متاح عبر الرابط التالي: http://bit.ly/40t02Dl

[23] بايدن يعتذر عن الانسحاب من اتفاقية باريس للمناخ: حياة الكوكب في خطر، العربي الجديد، 11 نوفمبر 2022، تاريخ الاطلاع: 26 فبراير 2023، متاح عبر الرابط التالي: http://bit.ly/3Z0tGP6

[24] أحمد ذكر الله، تحديات مقلقة أمام قمة المناخ، العربي الجديد، 13 نوفمبر 2022، تاريخ الاطلاع: 1 مارس 2023، متاح عبر الرابط التالي: http://bit.ly/3TGnZF2

[25] “كوب 27”.. الخسائر والأضرار تعرقل اتفاق الأطراف، مرجع سابق.

[26] “كوب 27”: اتفاق على صندوق لمساعدة الدول المتضررة من الكوارث المناخية، مرجع سابق.

[27] ناشطون يحثون قادة كوب 27 على مكافحة التضليل الإعلامي حول تغير المناخ، العربي الجديد، 16 نوفمبر 2022، تاريخ الاطلاع: 8 مارس 2023، متاح عبر الرابط التالي: https://cutt.us/2EWAq

[28] خمسة إجراءات حاسمة الأهمية لبدء التحول إلى استخدام الطاقة المتجددة الآن، الأمم المتحدة، تاريخ الاطلاع: 3 مارس 2023، متاح عبر الرابط التالي: https://cutt.us/d5zZu

[29] مبعوث الصين للمناخ: أجرينا محادثات بناءة مع الولايات المتحدة على هامش (Cop27)، الأهرام، 20 نوفمبر 2022، متاح عبر الرابط التالي: http://bit.ly/3Mx7Jom

[30] أحمد ذكر الله، تحديات مقلقة أمام قمة المناخ، مرجع سابق.

 

فصلية قضايا ونظرات – العدد التاسع والعشرون – أبريل 2023

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى