التحول في مواقف السعودية والإمارات تجاه إسرائيل: المواقف والعلاقات والدلالات

مقدمة

إذا كان ثمة ما تفصح عنه تطورات الربيع العربي الذي اندلع في 2011م وما صحبه من حراك في دول عربية عدَّة من تونس إلى مصر وليبيا واليمن والمغرب والبحرين وسوريا، فإنها أفصحت عن انفصال تام بين تطلُّعات الشعوب ومصالحها من جهة وتطلُّعات الحكَّام ومصالحهم من جهة أخرى، وليس بعيدًا عن هذا الانفصال رؤية هذه النُّظم للقضية الفلسطينية وعلاقة ذلك بالموقف من إسرائيل والولايات المتحدة، ومن ثم كان حضور القضية الفلسطينية في تطوُّرات هذا الحراك في بدايته منذ 2011 – 2013م وانتكاساته بدءًا من 2013 أمرًا ملحوظًا، كما كانت بوصلة علاقات الأنظمة بدولة الكيان الصهيوني أو الولايات المتحدة معيارًا لقياس مدى وطنية هذه النُّظم قبل الثورات وبعدها.
ولعل هذا ما جعل القلق يلازم إسرائيل والنُّظم العربية -التي لم تشهد حراكًا- في آنٍ واحد معًا من إمكانية نجاح هذا الربيع العربي سواء بالتأسيس لنُظم ديمقراطية تعبِّر عن تطلُّعات الشعوب التي هي في معظمها ضدَّ الوجود الإسرائيلي، وذلك عقب الانتصار المحدود للثورات المضادَّة وحلفائها الإقليميِّين وبالذات السعودية والإمارات، حيث بدا أن دوائر التأثير والنفوذ الإماراتية السعودية البحرينية أصبحت تعمل ضدَّ القضية الفلسطينية وضدَّ مصالح الأمة علنًا فيما يعرف مؤخرًا بـ”صفقة القرن”، أو باستبدال العدو الإسرائيلي بعدو متخيَّل قديم هو إيران التي أعطت لها تطورات المنطقة زخمًا قويًّا في كلٍّ من العراق واليمن وسوريا ولبنان والبحرين، وأصبحت معه تبريرات المواجهة الجماعية لنفوذها أقرب للموضوعية.

أولًا- الإمارات وإسرائيل: خطوات متسارعة نحو التطبيع

في عام 2010م استقبلت الإمارات فريق الجودو الإسرائيلي بالتزامن مع اغتيال القيادي في حركة المقاومة الإسلامية “حماس” محمود المبحوح في دبي بالتعاون مع جهاز الاستخبارات الإسرائيلي “الموساد”، حيث لم يعُد مستغربًا حينها منعُ رفع العلم الفلسطيني في الإمارات.
وبرغم أن الامارات لا تعترف بإسرائيل ولا تقيم علاقات دبلوماسية أو اقتصادية رسمية معلنة مع الدولة العبرية، فإن العديد من الشركات الإماراتية تتعاون مع نظيرتها الإسرائيلية، بل إن صحيفة “إسرائيل تايمز” نشرت في أواخر 2016م تقريرًا مفاده أن تحالفًا إماراتيًّا لبنانيًّا يقوم بتصنيع سفن حربية لصالح إسرائيل، وتثار شكوك قوية حول أن هذه الصفقة للسفن البحرية للدفاع عن حقول الغاز في البحر الأبيض المتوسط(1)؛ وهو ما يمكن اعتباره إضرارًا مباشرًا من قبل شركات إماراتية بمصالح فلسطين ومصر ولبنان المتعلقة باكتشافات الغاز في شرق المتوسط والتي لا تزال من القضايا العالقة الرئيسية مع الكيان الصهيوني.
لم تعد الإمارات تمثل نفسها، بل تحاول أن تقود مسارًا خليجيًّا وعربيًّا نحو التطبيع، ليس آخره تطوُّر الموقف البحريني الذي أرسل وفدًا شعبيًّا من جمعية “هذه هي البحرين” يتألف من 24 شخصًا في زيارة لإسرائيل لمدَّة أربعة أيام بدعوى إرسال رسالة للتسامح الديني والتعايش(2)، رغم اندلاع موجات احتجاج عربية وعالمية عارمة رفضًا لقرار الرئيس الأمريكي دونالد ترامب بالاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل.
كما أظهرت وثائق ويكليكس الدور الكبير الذي يقوم به سفير الإمارات لدى الولايات المتحدة “يوسف العتيبة” في الدفع بالتطبيع بين بلاده وإسرائيل في اتجاه مراحل غير مسبوقة، مشيرة إلى أن أبو ظبي لم تتحوَّل إلى مرتع للمصالح الأمنية والاقتصادية الإسرائيلية فحسب، بل أصبحت قاطرة تحاول جذب العالم العربي إلى السَّيْر في ركاب المنظور الإسرائيلي للمنطقة وقضاياها، وفي صدارتها القضية الفلسطينية(3).
وكشفت التسريبات عن مراسلات بين السفير الإماراتي المذكور والجنرال الإسرائيلي عوزي روبين -وهو عميد سابق وقائد نظام القبة الحديدية الإسرائيلية خلال الحرب على غزة- مما يوضِّح متانة العلاقة بين الإمارات وإسرائيل، كما كشفت التسريبات أيضًا عن مراسلات سابقة بين العتيبة وروبرت ساتلوف المدير التنفيذي لمعهد واشنطن لدراسات الشرق الأدنى المؤيِّد لإسرائيل، وفيها يقترح الأخير عقد لقاء بين العتيبة وعوزي روبين فيما يبدو أنه لقاء ترويجي لمنظومة القبة الحديدية التي استخدمت لصدِّ صواريخ المقاومة الفلسطينية في حرب غزة 2012م بغرض بيع إسرائيل لمنظومة مشابهة لبعض دول الخليج لمواجهة الصواريخ الإيرانية(4).
كما تحاول الإمارات لعب دور أكبر في الداخل الفلسطيني؛ خاصةً عبر محاولاتها الضاغطة باتجاه تصعيد محمد دحلان -المعروف بمواقفه الساعية لمزيد من الانسحاق والتطبيع أمام العدو الصهيوني- لرأس السلطة الفلسطينية خلفًا لمحمود عباس ضدَّ إرادة غالبية الشعب الفلسطيني. والإمارات هنا لا تلعب هذا الدور منفردة، بل عبر تنسيق (إماراتي مصري إسرائيلي) لتصعيد دحلان باعتبار ذلك يحقق معادلة الأمن لإسرائيل ومصر ويقود تطبيعا سلسًا(5).
لكن التحوُّل الأخطر في الموقف الإماراتي -بجانب ما تحاول أن تقوم به من دور وسيط في عملية التطبيع بين العرب والكيان الصهيوني- يتمثَّل في أنَّ ما كانت تقوم به سرًّا في السابق أصبحت تقوم به علنًا، بل إنها وبعض القوى الإقليمية الأخرى أصبحت -في إطار انتشار تعظيم الخوف من إيران ونفوذها المتزايد في المنطقة- تعتبِر إسرائيل جزءًا من تحالف سُنِّيٍّ ضدَّ إيران، فبات يُنظر إماراتيًّا وبحرينيًّا وسعوديًّا -إلى حد كبير- إلى إيران باعتبارها العدو الأكبر والأخطر.

ثانيًا- العلاقات السعودية-الإسرائيلية: سياسة خلق العدو المشترك لتبرير التحالفات

رغم تزايد الحديث حول طبيعة العلاقات السعودية-الإسرائيلية مع تبلور عملية تصعيد الأمير محمد بن سلمان ولي العهد السعودي في سُلَّمِ السلطة السعودي، فقد ثارت عدَّة تساؤلات حول مدى تاريخية العلاقات أو حداثتها، ومدى ارتباطها بشخص ابن سلمان أو بشخوص سعودية سابقة من الأسرة المالكة في المملكة العربية السعودية، ومدى تبلورها بأدوات سياسية واقتصادية وعسكرية، أم إنها مجرد أفكار لتحالفات أَمنية ضدَّ أعداء مشتركين.
فصحيح أن السعودية وإسرائيل تشاركتا الشعور بالخطر والتهديد من قبل حركات التحرُّر الوطني في الخمسينيات والستينيات وبالذات في دول الجوار كمصر وسوريا والعراق، وتشاركتا التخوُّف من القوى التي قادت هذه الحركات ووصلت للسلطة بعد حراك جماهيري أو انقلابات عسكرية في تلك المرحلة، سواء كان عبد الناصر في مصر أو البعثيِّين في سوريا والعراق أو حتى الثورة على النظام الإمامي في اليمن، وصولًا لموجة التهديد المشترك الأكبر، وهو الثورة الإيرانية على نظام الشَّاه الذي كان حليفًا للولايات المتحدة وراعيًا إقليميًّا لمصالحها. لكن هذا قد لا يعني بالضرورة أنهما اتَّبعتا نفس السياسة أو نسَّقَتَا سياستيْهما في مواجهة هذه الأخطار المشتركة بشكل مباشر، إلا أن هذا لا ينفي بعضًا من مراحل التنسيق أو الاستعانة السعودية بالقدرات الإسرائيلية في مواجهة أعداء إقليميِّين، كما يثار حول تنسيق سعودي-إسرائيلي في مواجهة مصر الناصرية في اليمن، وتنسيق آخر لمواجهة حزب البعث في كلٍّ من سوريا والعراق في السبعينيات والثمانينيات، ثم رفع حظر التعامل مع شركات مرتبطة بإسرائيل في التسعينيات وفقًا لقرار مجلس الوزراء السعودي رقم (5) المؤرَّخ في 13 يونيو 1995 الخاص بإيقاف مقاطعة إسرائيل من الدرجة الثانية والثالثة، والاكتفاء فقط بالدرجة الأولى التي بموجبها تقاطع المملكة الشركات الإسرائيلية بالكامل وليس التي تملك فيها إسرائيل أو أشخاص يحملون الجنسية الإسرائيلية حصَّة معيَّنة، أو الأجنبية التي تتعامل مع الشركات الإسرائيلية طبقًا للدرجة الأولى، وصولا للتواصل المباشر والمعلن حول مبادرة السلام العربية في 2002م، ثم مشاركة طلاب سعوديِّين في فعاليات تقيمها السفارة الإسرائيلية في واشنطن 2008م، ثم محاولات توثيق العلاقات منذ الربيع العربي، إذ تتصاعد أصوات أكاديميِّين وقيادات أمنية سعودية مدحًا بإسرائيل واعتبارها ليست عدوًّا(6).
إلا أن الثورات العربية شكَّلت أيضًا تهديدًا مشتركًا لكلا الطرفين الإسرائيلي والسعودي وبعض القوى الخليجية المتخوِّفة من صعود ممثِّلين عن الشعوب إلى سُدَّةِ السلطة وما قد يجره هذا من تصعيد ضدَّ إسرائيل بغطاء شعبي أو قد يهدِّد عقودَ واتفاقاتِ الإذعان التي تمَّ ترتيبها تحت اسم مسار السلام مع إسرائيل. فتحقُّق هذا يعني إحراجًا مباشرًا للنُّظم الخليجية الساعية للتطبيع مع إسرائيل أو حتى مجرد عدم التصعيد معها والتي كانت السعودية إحداها، إذ إنها كانت دومًا ما تُحَمِّل الأطراف المقاوِمة مسؤولية أيَّة تصعيدات كما بدا في عدواني إسرائيل (2006م) على جنوب لبنان وحزب الله، و(2008 – 2009م) على حركات المقاومة الفلسطينية.
مضى ذلك المسار وصولا إلى المحطة الأكثر أهمية في تطوُّر الموقف السعودي تجاه الثورات العربية وصعود حركات الإسلام السياسي بشكل عام وسياسته تجاه حركات المقاومة بشكل خاص، إذ يرى البعض أن الملك عبد الله -إلى جانب الموقف السلبي الثابت للسعودية من حزب الله- اتَّخذ في آخر ثلاث سنوات من حكمه سياساتٍ صارمة ضدَّ الثورات العربية والحركات السياسية الإسلامية، بما فيها حركة المقاومة الإسلامية الفلسطينية “حماس”، وحزب التجمُّع اليمني للإصلاح، ما أدَّى إلى أزمة في السياسة الخارجية السعودية أفْضَتْ في المحصِّلة إلى وقوع الرياض في دائرة الابتعاد عن دعم القضايا العربية، وفي مقدِّمتها قضية فلسطين، وخذلان تطلُّعات الشعوب العربية إلى العيش الكريم والحرية والعدالة، التي جرى التعبير عنها في بداية الثورات العربية أواخر عام 2010(7).

ثالثًا- انتقال السياسة السعودية من البرجماتية والواقعية إلى التطبيع

وإذ كان ينظر إلى المرحلة الأولى من حكم الملك سلمان التي سبقت تصعيدَه لابنه وليًّا للعهد باعتبارها مرحلة تحوُّلات تدريجية داخلية ومرحلة انتقال نحو مزيد من البرجماتية خارجيًّا نظرًا لتفاقم الأزمات في كلٍّ من اليمن ومصر وسوريا، فإن المرحلة الثانية التي تَلَتْ تصعيد محمد بن سلمان في سلَّم السلطة السعودية شكَّلت تغيُّرًا مهمًّا في خريطة تحالفات وتوجُّهات المملكة، إذ سارعت السعودية بتشكيل التحالف الإسلامي السُّنِّي الذي يستبطن عدوًّا ذا أولوية بالنسبة للنظام السعودي هو إيران، باعتبارها هي والمليشيات التابعة لها الخطر الأكبر الذي يتهدَّد المملكة والمنطقة بالإضافة إلى خطر جماعة الإخوان المسلمين وتحالفاتهم مع قطر وتركيا، وهو التطوُّر الذي استغلَّته الإمارات للترويج لتحالف (سعودي إماراتي مصري إسرائيلي) للحدِّ من نفوذ إيران إقليميًّا ولمواجهة قائمة إرهاب موسَّعة، جاء هذا التغيُّر كنوع من التوافق أو إعادة التموضع الإقليمي في ظلِّ خطة الإدارة الأمريكية الجديدة بقيادة دونالد ترامب لتحجيم نفوذ إيران في المنطقة(8)، وهو التحجيم الذي لن يخدم إلا مصالح إسرائيل حال حدوثه.
ويبدو أن هاجس التهديد الإيراني كان حاضرًا في كلِّ تحرُّكات السعودية تجاه الولايات المتحدة وإسرائيل، إذ تحرص السعودية على التحوُّل إلى دور الوسيط في عملية السلام، وهو الدور الذي تلعبه السعودية بديلا عن مصر أو بالتنسيق معها، باعتبار أن السعودية أصبحت مركز الثقل الجديد للنظام الإقليمي العربي المتهاوِي، فحتى في الوقت الذي تغيَّر فيه موقف الإدارة الأمريكية من قضية القدس التي كانت تُعتبر من قضايا الحلِّ النهائي وأصبحت عاصمة لإسرائيل في المنظور الأمريكي، فإن السعودية تلقي بثقتِها الكاملة في خطة أمريكية للسلام، وبينما ينفى وزير الخارجية السعودي عادل الجبير وجود أي علاقات للمملكة مع إسرائيل رغم أنها تشاركها القلق من نفوذ إيران بالمنطقة، يحرص دائمًا على تأكيد أن لدى الرياض “خارطة طريق” لإقامة علاقات دبلوماسية كاملة مع إسرائيل بعد اتفاق سلام مع الفلسطينيِّين(9).
هذا التحوُّل في الموقف السعودي الذي كان يقدِّم نفسَه باعتباره راعيًا لتثبيت المواقف ولعدم المُضِيِّ قُدُمًا في أية علاقات مع إسرائيل من دون سلام، أصبح اليوم وبمشورة إماراتية يتحوَّل نحو الثِّقة في إسرائيل ومِن ورائها الولايات المتحدة في حلف ضدَّ إيران. لكن تطوُّرًا جديدًا طرأ، إذ إنه بالرغم من إنكار وجود علاقات مباشرة فإن ثمَّة علاقات مباشرة -وإن بدت بوساطة أمريكية- بين العديد من المسؤولين السعوديِّين رفيعي المستوى ونظرائهم الإسرائيليِّين في واشنطن، عبر وجود فاعليات علنية، إضافة للسِّرِّيَّة، تجمع مسؤولين إسرائيليِّين بنظرائهم السعوديِّين في أروقة العاصمة الأمريكية، إذ تُعَدُّ مراكز الأبحاث الأمريكية منصَّات مثاليَّة لاستضافة هذه الفاعليات تحت دعاوى ندوات ومؤتمرات وحلقات نقاشية، حيث شهد مجلس العلاقات الخارجية في يونيو عام 2015 اجتماعًا بين اللواء السعودي أنور عشقي، الذى يرأس حاليًّا مركز الشرق الأوسط للدراسات الاستراتيجية والقانونية بمدينة جدَّة، والمدير العام لوزارة الخارجية الإسرائيلية دور جولد. بعد ذلك شهد معهد واشنطن لسياسات الشرق الأدنى، والمعروف بقُربه الشديد من دوائر اللوبي اليهودي، جلسة علنية جمعت بين الأمير تركي الفيصل، رئيس المخابرات السعودي الأسبق، ويعقوب عميدور مستشار الأمن القومي الإسرائيلي الأسبق. وتحدَّث السعوديون عن مشكلات الشرق الأوسط وعن ضرورة دمج إسرائيل في منظومة مواجهة التحديات المشتركة مثل خطر الإرهاب والخطر الإيراني(10).
هذه العلاقات المباشرة أيضًا تؤكِّدها الصحافة الإسرائيلية ويبرِّرها المسؤولون السعوديون، إذ قالت صحيفة “هآرتس” الإسرائيلية في 22 يوليو 2016 إن ضابط المخابرات السعودي السابق اللواء أنور عشقي، عقد عدَّة اجتماعات مع مسؤولين إسرائيليِّين، حيث التقى بممثِّلين عن الأحزاب الإسرائيلية الذين بدورهم عرضوا على الجنرال السعودي السابق استقبالهم في السعودية لتطوير العلاقات بين الجانبين من أجل دفع العملية السلمية في المنطقة وإكمال ما بدأ به الرئيس المصري الراحل أنور السادات(11). ولم ينكر عشقي هذه الزيارة بل برَّرها باعتبارها زيارة لفلسطين وليس إسرائيل(12)، لكن تأكيده السابق للزيارة بشهر واحد على أن إسرائيل والسعودية لديهما مصالح مشتركة(13)، يدحض ذلك.

خاتمة

تُظهر تحوُّلات الموقفين الإماراتي والسعودي أن هناك عملية إزاحة للقضية الفلسطينية من على الأجندة العربية كأولوية لصالح مواجهة النُّفوذ الإيراني ولصالح تحالفات مزعومة ضدَّ الإرهاب وتمويله، وهي الخطَّة التي يتمُّ في إطارها تبرير الحصار على قطر وشيطنة الدور التركي والتضييق على حركة الإخوان المسلمين في المنطقة وترسيخ النظام في مصر على حساب أية محاولات للتغيير.
وفيما يبدو التحوُّل الإماراتي-السعودي نحو تمتين العلاقات بإسرائيل في مواجهة إيران، فإن هبَّات الشارع العربي والإسلامي، بل والهبَّات العابرة للأديان عبر العالم، تُنبِئنا بأن مساحة التناقض بين مواقف حكومات المنطقة وشعوبها تتَّسع، وأن هذه التناقضات تصبُّ في صالح إيران، إذ تبدو أكثر دعمًا لحركات المقاومة ولو على مستوى الخطاب فحسب، فيما تقدِّم الدول العربية مواقف هشَّة وكلامية سواء في عملية السلام بشكل عام أو في قضية القدس.
إن التحوُّل في الموقف السعودي-الإماراتي الذي يُعَدُّ دورًا قياديًّا في النظام الإقليمي العربي الحالي من مرحلة السعي للتطبيع بلا مقابل إلى مرحلة استجداء التطبيع كهدف في حدِّ ذاته أو كبوابة لنيل الرضاء الأمريكي، يعبر عن رؤية قاصرة وغاية في الضيق سواء للتطوُّرات الداخلية في العالم العربي أو حتى لما يحدث من انسحاب أمريكي وتراجع في العديد من الملفات، وسلوك القيادات السياسية في الإمارات والسعودية يعبر عن تضحية مجانية بحقوق الفلسطينيِّين الطبيعية والمقبولة عالميًّا.
ثمَّة انتقال عربي عام في لغة الخطاب السياسي السائد بنزع “عربية” الصراع مع إسرائيل، وتحويله لمجرَّد نزاع فلسطيني-إسرائيلي تُراد تسويتُه بأيَّة طريقة، ويتم استغلال هذا الانتقال الرسمي من قبل بعض الأطراف الساعية للعب دور الوسيط في هذا النزاع لمجرَّد إثبات الجدارة لدى واشنطن وإثبات الحضور إقليميًّا، وهو بالضرورة على حساب الأمن القومي العربي والقضية الفلسطينية في موضع رئيسي منه، إذ إن أيَّة عملية سلام لا تشمل حقَّ العودة للاجئين الفلسطينيِّين، ووضعًا نهائيًّا للحدود، واعترافًا بالقدس عاصمة لفلسطين، فإنها تهدِّد الأمن القومي العربي وترحِّل مشاكل اللاجئين إلى أمدٍ غير منظور وتترك فجوةً بين الشارع العربي والحكومات العربية قد تهدِّد بقاء الأخيرة في أيِّ وقت.
وليس بعيدًا عن هذه التسوية وهذه الوساطات الإماراتية-السعودية الإصرار على تحويل دفَّة الصراع في المنطقة لصراع سُنِّيٍّ-شيعيٍّ على عدَّة جبهات، سواء في العراق أو اليمن، أو سوريا ولبنان بدرجة رئيسية، والأخيرتين على حدود إسرائيل التي تتشارك مع السعودية العداء لـ”حزب الله” ومؤخَّرًا تصنيفه كمنظَّمة إرهابية من قبل السعودية وحلفائها، وهو موقف ضارٌّ بالتأكيد بالقضية الفلسطينية وبالصراع العربي-الإسرائيلي رغم تورُّط “حزب الله” في مساعدة النظام السوري على قمع الثورة السورية، وهو تحوُّل يَصُبُّ في مصلحة إسرائيل بالضرورة، إذ أصبحت تتشارك مع عدد أكبر من الأنظمة العربية مسألة التأكيد على نزع سلاح المقاومة سواء في فلسطين أو لبنان، وهو مطلب بدأ يجد له بعضًا من أرضية شعبية جرَّاء تورُّط “حزب الله” في سوريا، وجرَّاء معاناة بعض الفلسطينيِّين من الصراع بين الفصائل، وهو تطوُّر خطير في الوعي العربي، فبعد أن حوَّلت “أوسلو” القوى المقاوِمة لقوى سياسية تتفاوض وتخسر الوقت والجهد ولها مقرَّات يسهُل استهدافها، أصبحت عملية التسوية الحالية تهدف لجعل غاية المقاومة التظاهر.
*****

الهوامش:

(*) باحث في العلوم السياسية.
(1) Stuart Winer, Lebanese, Abu Dhabi-owned yards said building Israel Navy ships, The Times of Israel, 4 December 2016, https://goo.gl/1CTJUs
(2) في أول زيارة من نوعها.. وفد بحريني يزور إسرائيل بـ«رسالة سلام»، بوابة الشروق، 10 ديسمبر 2017، متاح عبر الرابط التالي: https://goo.gl/cX21kH
(3) ويكيليكس يكشف تطبيعا متسارعا بين الإمارات وإسرائيل، موقع الجزيرة.نت، 10 سبتمبر 2017، متاح عبر الرابط التالي: https://goo.gl/Fx7xps
(4) تسريب للعتيبة يكشف قوة العلاقة بين الإمارات وإسرائيل، موقع الجزيرة.نت، بتاريخ 17 أغسطس 2017، متاح عبر الرابط التالي: https://goo.gl/gA4Yg2
(5) فريق عمل موقع “ساسة بوست”، محمد دحلان.. ذراع الإمارات الإقليمي الذي اغتال خصومه وراوغ حلفاءه، موقع ساسة بوست، 10 يوليو 2017، متاح عبر الرابط التالي: https://goo.gl/q4auJs
(6) إسلام أبو العز، ويكيليكس تكشف المزيد عن العلاقة بين السعودية وإسرائيل، موقع البديل، بتاريخ 22 يونيو 2015، متاح عبر الرابط التالي: https://goo.gl/qZMtPk
(7) أمجد أحمد جبريل، ماذا يحدث في السعودية: السياسة الخارجية بين الاستمرار والتغيير، موقع مركز إدراك للدراسات والاستشارات، أكتوبر 2017، ص 5، متاح عبر الرابط التالي: https://goo.gl/juEVD3
(8) أمجد أحمد جبريل، مرجع سابق ص ص 7 – 9.
(9) الجبير: إدارة ترامب جادة بإحلال السلام بين إسرائيل والعرب، موقع روسيا اليوم، 14 ديسمبر 2017، متاح عبر الرابط التالي: https://goo.gl/SGtFXf
(10) محمد المنشاوي، واشنطن.. بوابة المطبعين الجدد، بوابة الشروق، 14 ديسمبر 2017، متاح عبر الرابط التالي: https://goo.gl/QReMsf
(11) جنرال سعودي يلتقي مسؤولين إسرائيليين في تل أبيب!، موقع روسيا اليوم، 22 يوليو 2016، متاح عبر الرابط التالي: https://goo.gl/kaCFRd
(12) اللواء السعودي عشقي يبرر زيارته لإسرائيل، موقع روسيا اليوم، 24 يوليو 2016، متاح عبر الرابط التالي: https://goo.gl/rUzFRt
(13) أحلام القاسمي، «أنور عشقي» لـ«يديعوت أحرونوت»: السعودية و(إسرائيل) لديهما مصالح مشتركة، موقع الخليج الجديد، 4 يونيو 2016، متاح عبر الرابط التالي: http://bit.ly/2u9sRIc

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى